الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

اختلفوا ولم يتفقوا ، فبعث النبيين ليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق ، وأن الذين آمنوا هداهم للحق من ذلك الاختلاف.

وفي الحديث الصحيح : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، هذا يومهم الذي فرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، فاليهود غدا والنصارى بعد غد» (١).

وخرّج ابن وهب عن زيد بن أسلم في قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) فهذا يوم أخذ ميثاقهم لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ، (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) (٢).

واختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت واتخذ النصارى يوم الأحد فهدى الله أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليوم الجمعة.

واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق ، واستقبلت اليهود بيت المقدس ، وهدى الله امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقبلة.

واختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي ولا يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، وهدى الله أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحق من ذلك.

واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعض النهار ، ومنهم من يصوم من بعض الطعام ، وهدى الله أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحق من ذلك.

واختلفوا في إبراهيم عليه‌السلام ، فقالت اليهود كان يهوديّا ، وقالت النصارى نصرانيّا ، وجعله الله حنيفا مسلما ، فهدى الله أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحق من ذلك.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الجمعة ، باب : فرض الجمعة ، وباب : هل على من يشهد الجمعة غسل ، وأخرجه في كتاب : أحاديث الأنبياء ، باب : ما ذكر على بني إسرائيل (الأحاديث : ٢ / ٢٩٢ ، ٢٩٤). وأخرجه مسلم في كتاب : الجمعة ، باب : هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (الحديث : ٨٥٥). وأخرجه النسائي في كتاب : الجمعة ، باب : إيجاب الجمعة (الأحاديث : ٣ / ٨٥ ، ٨٧).

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٢١٣.

٤٤١

واختلفوا في عيسى عليه‌السلام فكفرت به اليهود وقالوا لأمه بهتانا عظيما وجعلته النصارى إلها وولدا ، وجعله الله روحه وكلمته ، فهدى الله أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحق من ذلك.

ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثاني لا القصد الأول ، فإن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالا للظنون ، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف ، لكن في الفروع دون الأصول وفي الجزئيات دون الكليات ، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف.

وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال : أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافا يضرهم ، يعني : لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نصّ فيها بقطع العذر ، بل لهم فيه أعظم العذر ، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع ، أتى فيه بأصل يرجع إليه ، وهو قول الله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١) الآية ، فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله ، وذلك رده إلى كتابه ، وإلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك رده إليه إذا كان حيّا وإلى سنته بعد موته ، وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم.

إلا أن لقائل أن يقول : هل هم داخلون تحت قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (٢) أم لا؟

والجواب : أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه :

أحدها : أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة لقوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (٣) فإنها اقتضت قسمين : أهل الاختلاف ، والمرحومين ، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف وإلّا كان قسم الشيء قسيما له ، ولم يستقم معنى الاستثناء.

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٥٩.

(٢) سورة : هود ، الآية : ١١٨.

(٣) سورة : هود ، الآيتان : ١١٨ ـ ١١٩.

٤٤٢

والثاني : أنه قال فيها : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت ، وأهل الرحمة مبرءون من ذلك ، لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة ، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريا لقصد الشارع فيها ، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره ، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول ، فلم يكن وصف الاختلاف لازما ولا ثابتا ، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع.

والثالث : أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة ، وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم ، بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه ، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودا من أهل الاختلاف ـ ولو بوجه ما ـ لم يصح إطلاق القول في حقه : إنه من أهل الرحمة ، وذلك باطل بإجماع أهل السنة.

والرابع : أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربا من ضروب الرحمة ، وإذ كان من جملة الرحمة ، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحمة.

وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روي عن القاسم بن محمد قال : لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العمل ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة. وعن ضمرة بن رجاء قال : اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحديث ـ قال ـ : فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم ـ قال ـ : وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى يتبين ذلك فيه فقال له عمر : لا تفعل! فما يسرني باختلافهم حمر النعم. وروى ابن وهب عن القاسم أيضا قال : لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يختلفون ، لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم ، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنّة.

ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه ، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق ، لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم ، وهو

٤٤٣

نوع من تكليف ما لا يطاق ، وذلك من أعظم الضيق ، فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم ، فكان فتح باب للأمة ، للدخول في هذه الرحمة ، فكيف لا يدخلون في قسم من رحم ربّك؟! فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها ، والحمد لله.

وبين هذين الطريقين واسطة أدنى من الرتبة الأولى وأعلى من الرتبة الثانية ، وهي أن يقع الاتفاق في أصل الدين ، ويقع الاختلاف في بعض قواعده الكلية ، وهو المؤدي إلى التفرق شيعا.

فيمكن أن تكون الآية تنتظم هذا القسم من الاختلاف ، ولذلك صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أمته تفترق على بضع وسبعين فرقة ، وأخبر أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع ، وشمل ذلك الاختلاف الواقع في الأمم قبلنا ، ويرشحه وصف أهل البدع بالضلالة وإيعادهم بالنار ، وذلك بعيد من تمام الرحمة.

ولقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على ألفتنا وهدايتنا ، حتى ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما حضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ـ قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ـ فقال : «هلمّ أكتب لكم كتبا لن تضلوا بعده» فقال عمر : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلبه الوجع ، وعندكم القرآن فحسبنا الله ، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول كما قال عمر ، فلما كثر اللغط والاختلاف عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قوموا عني» (٢) فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

فكان ذلك ـ والله أعلم ـ وحيا أوحى الله إليه أنه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا

__________________

(١) لما حضرته الوفاة.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : المغازي ، باب : مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووفاته ، وأخرجه في كتاب : العلم ، باب : كتابة العمل ، وأخرجه في كتاب : الجهاد ، باب : هل يستشفع إلى أهل الذمة ، وباب : إخراج اليهود من جزيرة العرب ، وباب : قول المريض : قوموا عني ، وأخرجه في كتاب : الاعتصام ، باب : كراهية الخلاف (الحديث : ٨ / ١٠٣). وأخرجه مسلم في كتاب : الوصية ، باب : ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيع (الحديث : ١٦٣٧).

٤٤٤

بعده البتة ، فتخرج الأمة عن مقتضى قوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١) بدخولها تحت قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (٢) فأبى الله إلا ما سبق به علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم ، رضينا بقضاء الله وقدره ، ونسأله أن يثبتنا على الكتاب والسنّة ، ويميتنا على ذلك بفضله.

وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين في الآية أهل البدع ، وأن من رحم ربك أهل السنة ، ولكن لهذا الكتاب أصل يرجع إلى سابق القدر لا مطلقا ، بل مع إنزال القرآن محتمل العبارة للتأويل ، وهذا لا بدّ من بسطه.

فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العاديات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى ، العالمين بمواردها ومصادرها.

والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك ، وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفا ، بل كل خلاف على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق :

أحدها : أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ـ ولم يبلغ تلك الدرجة ـ فيعمل على ذلك ، ويعد رأيه رأيا وخلافه خلافا ، ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع ، وتارة يكون في كل أصل من أصول الدين ـ كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية ـ فتراه آخذا ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها ، حتى يصير منها ما ظهر له بادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها ، وهذا هو المبتدع ، وعليه نبّه الحديث الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقبض الله العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يسبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» (٣).

__________________

(١) سورة : هود ، الآية : ١١٨.

(٢) سورة : هود ، الآية : ١١٩.

(٣) تقدم تخريجه ص : ٣٧٠ ، الحاشية : ١.

٤٤٥

قال بعض أهل العلم : تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم ، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم ، فيؤتى الناس من قبله ، وقد صرّف هذا المعنى تصريفا ، فقيل : ما خان أمين قط ولكنه ائتمن غير أمين فخان ، قال : ونحن نقول : ما ابتدع عالم قط ، ولكنه استفتى من ليس بعالم.

قال مالك بن أنس : بكى ربيعة يوما بكاء شديدا ، فقيل له : مصيبة نزلت بك؟ فقال : لا! ولكن استفتى من لا علم عنده.

وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قبل الساعة سنون خداعا ، يصدق فيهن الكاذب ، ويكذب فيهن الصادق ، ويخون فيهن الأمين ، ويؤتمن الخائن ، وينطق فيهن الرويبضة» (١) قالوا : هو الرجل التافه الحقير ينطق في أمور العامة ، كأنه ليس بأهل أن يتكلم في أمور العامة فيتكلم.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قد علمت من يهلك الناس! إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير ، وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم ، فإذا اخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا.

واختلف العلماء فيما أراد عمر بالصغار ؛ فقال ابن المبارك : هم أهل البدع ، وهو موافق ، لأن أهل البدع أصاغر في العلم ، ولأجل ذلك صاروا أهل بدع.

وقال الباجي : يحتمل أن يكون الأصاغر من لا علم عنده. «قال» : وقد كان عمر يستشير الصغار ، وكان القراء أهل مشاورته كهولا وشبانا. «قال» : ويحتمل أن يريد بالأصاغر من لا قدر له ولا حال ، ولا يكون ذلك إلا بنبذ الدين والمروءة ، فأما من التزمهما فلا بد أن يسمو أمره ، ويعظم قدره.

ومما يوضح هذا التأويل ما خرّجه ابن وهب بسند مقطوع عن الحسن قال : العامل

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند (٢ / ٣٣٨) وأخرجه ابن ماجه في كتاب : الفتن ، باب : شدة الزمان (الحديث : ٤٠٣٦).

٤٤٦

على غير علم كالسائر على غير طريق ، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح ، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بترك العبادة ، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بترك العلم ، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا ـ يعني : الخوارج ـ والله أعلم ، لأنهم قرءوا القرآن ولم يتفقهوا فيه حسبما أشار إليه الحديث : «يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم» (١).

وروي عن مكحول أنه قال : تفقّه الرعاع فساد الدين والدنيا ، وتفقّه السفلة فساد الدين.

وقال الفريابي : كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلاء النبط يكتبون العلم تغيّر وجهه ، فقلت : يا أبا عبد الله! أراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتد عليك ، قال : كان العلم في العرب وفي سادات الناس ، وإذا خرج عنهم وصار إلى هؤلاء النبط والسفلة غيّر الدين.

وهذه الآثار أيضا إذا حملت على التأويل المتقدم استدت واستقامت ، لأن ظواهرها مشكلة ، ولعلك إذا استقريت أهل البدع المتكلمين ، أو أكثرهم وجدتهم من أبناء سبايا الأمم ، ومن ليس له أصالة في اللسان العربي ، فعما قريب يفهم كتاب الله على غير وجهه ، كما أن من لم يتفقه في مقاصد الشريعة فهمها على غير وجهها.

والثاني : من أسباب الخلاف اتباع الهوى :

ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها ، والتعويل عليها ، حتى يصدروا عنها ، بل قدموا أهواءهم ، واعتمدوا على آرائهم ، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك ، وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ، ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم ، ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم ، أو طلبا للرئاسة ، فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم ، ويتأول عليهم فيما أرادوا ، حسبما ذكره العلماء ونقله من مصاحبي السلاطين.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٦٥ ، الحاشية : ٢.

٤٤٧

فالأولون ردوا كثيرا من الأحاديث الصحيحة بعقولهم ، وأساءوا الظن بما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة ، حتى ردوا كثيرا من أمور الآخرة وأحوالها من الصراط والميزان ، وحشر الأجساد ، والنعيم والعذاب الجسمي ، وأنكروا رؤية الباري ، وأشباه ذلك ، بل صيروا العقل شارعا جاء الشرع أو لا ، بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل ، إلى غير ذلك من الشناعات.

والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البنيات ، وإن كانت مخالفة لطلب الشريعة ، حرصا على أن يغلب عدوه ، أو يفيد وليه ، أو يجر إلى نفسه نفعا ، كما ذكروا عن محمد بن يحيى بن لبابة أخي الشيخ ابن لبابة المشهور ، فإنه عزل عن قضاء البيرة ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه ، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد ، وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته ، وأن لا يفتي أحدا.

ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر ، فشكا إلى القاضي ابن تقي ضرورته إليه لمقابلته منزهه ، وتأذيه برؤيتهم ، أوان تطلعه من علاليه ، فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه ، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له : تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي ، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه ، فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة ، فتكلم ابن بقي معهم فلم يجدوا إليه سبيلا ، فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إلى القصر ، وتوبيخهم ، فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمة ، ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده.

وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فدفع إلى الناصر بعضا من أصحابه الفقهاء ، ويقول : إنهم حجروا عليه واسعا ، ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة ، وتقلد حقّا وناظر أصحابه فيها ، فوقع الأمر بنفس الناصر ، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة ، فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم. وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم من أجلها وغبطة المعاوضة ، فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ـ وابن لبابة ساكت ـ فقال له القاضي : ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال : أما قول إمامنا

٤٤٨

مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء ، وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا ، وهم علماء أعلام يقتدي بهم أكثر الأمة ، وإذ بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به ، فما ينبغي أن يرد عنه ، وله في السنة فسحة ، وأنا أقول بقول أهل العراق ، وأتقلد ذلك رأيا.

فقال له الفقهاء : سبحان الله! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنهم بوجه ، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه؟ فقال لهم محمد بن يحيى : ناشدتكم الله العظيم! ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول مالك في خاصة أنفسكم ، وأ رخصتم لأنفسكم في ذلك؟ قالوا : بلى! قال : فأمير المؤمنين أولى بذلك ، فخذوا به مأخذكم ، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة ، فسكتوا ، فقال للقاضي : أنه إلى أمير المؤمنين فتياي ، فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس ، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يؤخذ له بفتيا محمد بن لبابة ، وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاك ثمينة عجيبة ، وكانت عظيمة القدر جدّا ، تزيد أضعافا على المجشر ، ثم جيء بكتاب من عند أمير المؤمنين منه إلى ابن لبابة بولاية خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة ، فهنئ بالولاية ، وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا ، فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ٣٣٦ ست وثلاثين وثلاثمائة.

قال القاضي عياض : ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر ، فقال : ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة ، فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه ـ أو كما قال.

فتأملوا كيف اتباع الهوى ، وأولى أن ينتهي بصاحبه فشأن مثل هذا لا يحل أصلا من وجهين :

أحدهما : أنه لم يتحقق المذهب الذي حكم به ، لأن أهل العراق لا يبطلون الإحباس هكذا على الإطلاق ، ومن حكى عنهم ذلك ، فإما على غير تثبيت ، وإما أنه كان قولا لهم رجعوا عنه ، بل مذهبهم يقرب من مذهب مالك حسبما هو مذكور في كتب الحنفية.

والثاني : أنه إن سلمنا فلا يصح للحاكم أن يرجع في حكمه في أحد القولين بالمحبة

٤٤٩

والإمارة أو قضاء الحاجة ، إنما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعا ، وهذا متفق عليه بين العلماء ، فكل من اعتمد على تقليد غير محقق ، أو رجح بغير معنى معتبر فقد خلع الربقة واستند إلى غير شرع ، عافانا الله من ذلك بفضله.

فهذه الطريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى ، كما أن تحكيم العقل على الدين مطلقا محدث ، وسيأتي بيان ذلك بعد إن شاء الله.

وقد ثبت بهذا وجه اتباع الهوى ، وهو أصل الزيغ عن الصراط المستقيم. قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي : ميل الحقّ (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (١) وقد تقدم معنى الآية ، فمن شأنهم أن يتركوا الواضح ويتبعوا المتشابه ، عكس ما عليه الحق في نفسه.

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ـ وذكرت الخوارج وما يلقون في القرآن ـ فقال : يؤمنون بمحكمه ، ويهلكون عند متشابهه ، وقرأ ابن عباس الآية. خرّجه ابن وهب.

وقد دلّ على ذمه القرآن في قوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (٢) الآية ، ولم يأت في القرآن ذكر الهوى إلا في معرض الذم. حكى ابن وهب عن طاوس أنه قال : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه ، وقال : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات. وحكي أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي أن رجلا سأل إبراهيم النخعي عن الأهواء : أيها خير؟ فقال : ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير وما هي إلا زينة الشيطان وما الأمر إلا الأمر الأول ، يعني : ما كان عليه السلف الصالح.

وخرّج عن الثوري أن رجلا أتى ابن عباس رضي الله عنهما ، فقال : أنا على هواك ، فقال له ابن عباس : الهوى كله ضلالة ، أي شيء أنا على هواك؟

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

(٢) سورة : الجاثية ، الآية : ٢٣.

(٣) سورة : القصص ، الآية : ٥٠.

٤٥٠

والثالث من أسباب الخلاف التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق :

وهو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ ، وأشباه ذلك ، وهو التقليد المذموم ، فإن الله ذم بذلك في كتابه بقوله : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (١) الآية ، ثم قال : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٢) وقوله : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) (٣) فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء ، فقالوا : (بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٤) وهو مقتضى الحديث المتقدم أيضا في قوله : «اتخذ الناس رؤساء جهالا» (٥) إلى آخره ، فإنه يشير إلى الاستنان بالرجال كيف كان.

وفيما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إياكم والاستنان بالرجال ، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة ، فإن كنتم لا بدّ فاعلين ، فبالأموات لا بالأحياء. فهو إشارة إلى الأخذ بالاحتياط في الدين ، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة ، حتى يتثبت فيه ويسأل عن حكمه ، إذ لعل المعتمد على عمله يعمل على خلاف السنّة ، ولذلك قيل : لا تنظر إلى عمل العالم ، ولكن سله يصدقك. وقالوا : ضعف الروية أن يكون رأى فلانا يعمل فيعمل مثله ، ولعله فعله ساهيا ، وليس من هذا القبيل عمل أهل المدينة ، وما أشبه ذلك ، لأنه دليل ثابت عند جماعة من العلماء على وجه ليس مما نحن فيه.

وقول عليّ رضي الله عنه : فإن كنتم لا بدّ فاعلين فبالأموات ، نكتة في الموضع ، يعني :

__________________

(١) سورة : الزخرف ، الآية : ٢٢.

(٢) سورة : الزخرف ، الآية : ٢٤.

(٣) سورة : الشعراء ، الآيتان : ٧٢ ـ ٧٣.

(٤) سورة : الشعراء ، الآية : ٧٤.

(٥) تقدم تخريجه ص : ٣٧٠ ، الحاشية : ١.

٤٥١

الصحابة ، ومن جرى مجراهم ممن يؤخذ بقوله ويعتمد على فتواه : وأما غيرهم ممن لم يحل ذلك المحل فلا ، كأن يرى الإنسان رجلا يحسن اعتقاده فيه فيفعل فعلا محتملا أن يكون مشروعا أو غير مشروع فيقتدي به على الإطلاق ويعتمد عليه في التعبد ، ويجعله حجة في دين الله ، فهذا هو الضلال بعينه ، وما لم يثبت بالسؤال والبحث عن حكم الفعل ممن هو أهل الفتوى.

وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة ، إذا اتفق أن ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء ؛ فيراه يعمل عملا فيظنه عبادة فيقتدي به ، كائنا ما كان ذلك العمل ، موافقا للشرع أو مخالفا ، ويحتج به على من يرشده ويقول : كان الشيخ فلان من الأولياء وكان يفعله وهو أولى أن يقتدى به من علماء الظاهر ، فهو في الحقيقة راجع إلى تقليد من حسن ظنه فيه أخطأ أو أصاب ، كالذين قلدوا آباءهم سواء ، وإنما قصارى هؤلاء أن يقولوا : إن آباءنا أو شيوخنا لم يكونوا ينتحلون مثل هذا الأمور سدى ، وما هي إلا مقصودة بالدلائل والبراهين مع أنهم يرون أن لا دليل عليها ، ولا برهان يقود إلى القول بها.

فصل

هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد ، وهو الجهل بمقاصد الشريعة ، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت ، أو الأخذ فيها بالنظر الأول ، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم ، ألا ترى إلى أن الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي؟ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفهم «بأنهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم» (١) يعني ـ والله أعلم ـ : أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم لأن الفهم راجع إلى القلب ، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال ، وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف فقط ، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم ، وما تقدم أيضا من قوله عليه الصلاة والسلام : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا» (٢) إلى آخره.

وقد وقع لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه ، فخرّج أبو عبيد في فضائل

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٦٥ ، الحاشية : ٢.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٧٠ ، الحاشية : ١.

٤٥٢

القرآن ، وسعيد بن منصور في تفسيره عن إبراهيم التيمي قال : خلا عمر رضي الله عنه ذات يوم ، فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحدا؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابها واحد ـ قال : فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين! إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما أنزل ، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيما نزل ، فيكون لكل قوم فيه رأي فإذا كان كذلك اختلفوا ، وقال سعيد : فيكون لكل قوم فيه رأي ، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا ، قال : فزجره عمر وانتهره عليّ فانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال فعرفه ، فأرسل إليه وقال : أعد عليّ ما قلته ، فأعاد عليه ، فعرف عمر قوله وأعجبه.

وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق ، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها ، فلم يتعد ذلك فيها ، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها. فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إلي الآخر ، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يديهم إلى الصواب ، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات ، فلم يكن بد من الأخذ ببادئ الرأي ، أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا ، إذ لا دليل عليه من الشريعة ، فضلوا وأضلوا.

ومما يوضح ذلك ما خرّجه ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا : كيف رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال : يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. فسر سعيد بن جبير من ذلك ، فقال : مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١) ويقرنون معها : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (٢) فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا : قد كفر ، ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك ، فهؤلاء مشركون خرجوا على الأمة يقتلون ما يرونه مخالفا لهم لأنهم يتأولون هذه الآية ، فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٤٤.

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١.

٤٥٣

وقال نافع : إن ابن عمر كان إذا سئل عن الحرورية قال : يكفّرون المسلمين ، ويستحلون دماءهم وأموالهم ، وينكحون النساء في عدتهن ، وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج ، فلا أعلم أحدا أحق بالقتال منهم.

فإن قيل : فرضت الاختلاف المتكلم عنه في واسطة بين طرفين ، فكان من الواجب أن تردد النظر فيه عليهما ، فلم تفعل ، بل رددته إلى الطرف الأول في الذم والضلال ، ولم تعتبره بجانب الاختلاف الذي لا يضير ، وهو الاختلاف في الفروع.

فالجواب عن ذلك : أن كون ذلك القسم واسطة بين الطرفين لا يحتاج إلى بيانه إلا من الجهة التي ذكرنا. أما الجهة الأخرى ، فإن عدم ذكرهم في هذه الأمة وإدخالهم فيها أوضح أن هذا الاختلاف لم يلحقهم بالقسم الأول ، وإلّا فلو كان ملحقا لهم به لم يقع في الأمة اختلاف ولا فرقة ، ولا أخبر الشارع به ، ولا نبه السلف الصالح عليه فكما أنه لو فرضنا اتفاق الخلق على الملة بعد كانوا مفارقين لها لم نقل : اتفقت الأمة بعد اختلافها. كذلك لا نقول : اختلفت الأمة ، وافترقت الأمة بعد اتفاقها ، أو خرج بعضهم إلى الكفر بعد الإسلام ، وإنما يقال : افترقت وتفترق الأمة ، إذا كان الافتراق واقعا فيها مع بقاء اسم الأمة هذا هو الحقيقة.

ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخوارج : «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة» (١) ثم قال : «وتتمارى في الفوق ـ وفي رواية ـ فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة ، هل علق بها من الدم شيء» ، والتماري في الفوق فيه هل فيه فرث ودم أم لا؟ شك بحسب التمثيل : هل خرجوا من الإسلام حقيقة؟ وهذه العبارة لا يعبر بها عمن خرج من الإسلام بالارتداد مثلا.

وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى. ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم ، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ، ألا

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٧٠ ، الحاشية : ١.

٤٥٤

ترى إلى صنع علي رضي الله عنه في الخوارج؟ وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام على مقتضى قول الله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) (١) ، الآية ، فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة لم يهيجهم عليّ ولا قاتلهم ، ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «من بدّل دينه فاقتلوه» (٢) ولأن أبا بكر رضي الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم ، فدلّ ذلك على اختلاف ما بين المسألتين.

وأيضا ، فحين ظهر معبد الجهني وغيره من أهل القدر لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران ، ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين ، وعمر بن عبد العزيز أيضا لم خرج في زمانه الحرورية بالموصل أمر بالكف عنهم على ما أمر به علي رضي الله عنه ، ولم يعاملهم معاملة المرتدين.

ومن جهة المعنى! إنا وإن قلنا : إنهم متبعون الهوى ، ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق ، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه ، ولو فرضنا أنهم كذلك لكانوا كفارا ، إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادا ، وهو كفر. وأمّا من صدق الشريعة ومن جاء بها ، وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه متبع للدليل بمثله ، لا يقال : إنه صاحب هوى بإطلاق ، بل هو متبع للشرع في نظره ، لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات ، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته ، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دلّ عليه الدليل على الجملة.

وأيضا ، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجماعة من مطلب واحد ، وهو الانتساب إلى الشريعة. ومن أشد مسائل الخلاف ـ مثلا ـ مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها ، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائما حول حمى

__________________

(١) سورة : الحجرات ، الآية : ٩.

(٢) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الأقضية ، باب : القضاء فيمن ارتد (الحديث : ٢ / ٧٣٦) ولفظه : «من غيّر دينه فاضربوا عنقه» ، وقد وصله البخاري عن طريق أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس.

٤٥٥

التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث ، وهو مطلوب الأدلة ، وإنما وقع اختلافهم في الطريق ، وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا ، فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع.

وأيضا ، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده ، كما رجع من الحرورية الخارجين على عليّ رضي الله عنه ألفان ، وإن كان الغالب عدم الرجوع ، كما تقدم في أن المبتدع ليس له توبة.

حكى ابن عبد البرّ بسند يرفعه إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما اجتمعت الحرورية يخرجون على عليّ ، جعل يأتيه الرجل فيقول : يا أمير المؤمنين! إن القوم خارجون عليك ، قال : دعهم حتى يخرجوا ، فلما كان ذات يوم قلت : يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم ـ قال ـ : فدخلت عليهم وهم قائلون ، فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر ، قد أثر السجود في جباههم ، كأن أيديهم ثفن (١) الإبل عليهم قمص مرحضة (٢) فقالوا : ما جاء بك يا ابن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ ـ قال ـ : قلت : ما تعيبون من ذلك؟ فلقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمنية ـ قال ـ : ثم قرأت هذه الآية : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) (٣) فقالوا : ما جاء بك؟ قال : جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس فيكم منهم أحد ، ومن عند ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله ، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم ، فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشا فإن الله يقول : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٤) فقال بعضهم : بلى! فلنكلمه ـ قال ـ : فكلمني منهم رجلان ، أو ثلاثة ـ قال ـ : قلت : ما ذا نقمتم عليه؟ قالوا : ثلاثا ، فقلت : ما هنّ؟ قالوا : حكّم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٥) ـ قال ـ هذه واحدة ، وما ذا أيضا؟ قالوا : فإنه قاتل فلم يسب ولم يغنم ، فلئن كانوا مؤمنين ما

__________________

(١) الثفن : جمع ثفنة وهي الجزء من جسم الدابة تلقى به الأرض فيغلظ ويجمد.

(٢) المرحضة : المغسولة.

(٣) سورة : الأعراف ، الآية : ٣٢.

(٤) سورة : الزخرف ، الآية : ٥٨.

(٥) سورة : الأنعام ، الآية : ٥٧.

٤٥٦

حلّ قتالهم ، ولئن كانوا كافرين لقد حلّ قتالهم وسبيهم ـ قال ـ : قلت : وما ذا أيضا؟ قالوا : ومحا نفسه من إمرة المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين ـ قال ـ : قلت : أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنّة رسوله بما ينقض قولكم هذا ، أترجعون؟ قالوا : وما لنا لا نرجع؟

قال ـ : قلت : أما قولكم حكم الرجال في أمر الله ، فإن الله قال في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (١) وقال في المرأة وزوجها : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) (٢) فصير الله ذلك إلى حكم الرجال ، فناشدتكم الله! أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم أفضل أو في دم أرنب ثمنه ربع درهم؟ وفي بضع امرأة؟ قالوا : بلى! هذا أفضل ، قال : أخرجتم من هذه؟ قالوا : نعم!

قال وأما قولكم : قاتل ولم يسب ولم يغنم أتسبون أمكم عائشة؟ فإن قلتم ، نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها ، فقد كفرتم ، وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم ، فأنتم ترددون بين ضلالتين ، أخرجتم من هذه؟ قالوا : بلى!

قال : وأما قولكم : محا نفسه من إمرة المؤمنين ، فأنا آتيكم بمن ترضون إن نبيّ الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب يا علي : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله» فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو : ما نعلم أنك رسول الله ، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ، قال رسول الله : «اللهم إنك تعلم أني رسولك ، يا علي اكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو» (٣) قال : فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعون.

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٩٥.

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٣٥.

(٣) أخرج نحوه البخاري في كتاب : الشروط ، باب : الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب ، وباب : ما يجوز من الشروط في الإسلام ، وأخرجه في كتاب : الحج ، باب : من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم ، وباب : النحر قبل الحلق في الحصر ، وأخرجه في كتاب : المغازي ، باب : غزوة الحديبية ، وأخرجه في كتاب : تفسير سورة الممتحنة (الأحاديث : ٥ / ٢٤١ ، ٢٦٠). وأخرجه أبو داود في كتاب : الجهاد ، باب : في صلح العدو (الأحاديث : ٢٧٦٥ ، ٢٧٦٦) ، وأخرجه في كتاب : السنة ، باب : في الخلفاء (الحديث : ٤٦٥٥).

٤٥٧

فصل

صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» وخرّجه الترمذي هكذا.

وفي رواية أبي داود قال : «افترق اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (١).

وفي الترمذي تفسير هذا ، ولكن بإسناد غريب عن غير أبي هرير رضي الله عنه ، فقال في حديث : «وإن بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا : ومن هي يا رسول الله؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي» (٢).

وفي سنن أبي داود : «وأن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ، اثنتان وسبعين في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» (٣) وهي بمعنى الرواية التي قبلها ، إلا أنا هنا زيادة في بعض الروايات : «وأنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» (٤).

وفي رواية عن ابن أبي غالب موقوفا عليه : «إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن هذه الأمة تزيد عليهم فرقة ، كلها في النار إلا السواد الأعظم» وفي رواية مرفوعا : «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال» (٥).

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : شرح السنة (الحديث : ٤٥٩٦). وأخرجه الترمذي في كتاب : الإيمان ، باب : ما جاء في افتراق هذه الأمة (الحديث : ٢٦٤٢).

(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٤٩ ، الحاشية : ١.

(٣) تقدم تخريجه ص : ٣٥٧ ، الحاشية : ١.

(٤) تقدم تخريجه ص : ٣٥٧ ، الحاشية : ١.

(٥) عزاه في مجمع الزوائد (١ / ١٧٩) إلى الحاكم في المستدرك (٤ / ٤٣٠) وصححه على شرط الشيخين وفيه نعيم بن حماد ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (٢ / ١٦٣) ، والبيهقي في ـ

٤٥٨

وهذا الحديث بهذه الرواية الأخيرة قدح فيه ابن عبد البر لأن ابن معين قال : إنه حديث باطل لا أصل له ، شبه فيه على نعيم بن حماد ، قال بعض المتأخرين : إن الحديث قد روي عن جماعة من الثقات ، ثم تكلم في إسناده بما يقتضي أنه ليس كما قال ابن عبد البر ، ثم قال : وفي الجملة فإسناده في الظاهر جيد إلا أن يكون ـ يعني : ابن معين ـ قد اطلع منه على علة خفية.

وأغرب من هذا كله رواية رأيتها في جامع ابن وهب : «إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وثمانين ملة وستفترق أمتي على اثنتين وثمانين ملة ، كلها في النار إلا واحدة قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : الجماعة».

فإذا تقرر هذا ، تصدى النظر في الحديث في مسائل :

المسألة الأولى في حقيقة هذا الافتراق :

وهو يحتمل أن يكون افتراقا على ما يعطيه مقتضى اللفظ ، ويحتمل أن يكون مع زيادة قيد لا يقتضيه اللفظ بإطلاقه ولكن يحتمله ، كما كان لفظ الرقبة بمطلقها لا يشعر بكونها مؤمنة أو غير مؤمنة ، لكن اللفظ يقبله فلا يصح أن يراد مطلق الافتراق ، بحيث يطلق صور لفظ الاختلاف على معنى واحد ، لأنه يلزم أن يكون المختلفون في مسائل الفروع داخلين تحت إطلاق اللفظ ، وذلك باطل بالإجماع ، فإن الخلاف من زمان الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية ، وأول ما وقع الخلاف في زمان الخلفاء الراشدين المهديين ، ثم في سائر الصحابة ، ثم التابعين ولم يعب أحد ذلك منهم ، وبالصحابة اقتدى من بعدهم في توسيع الخلاف ، فكيف يمكن أن يكون الافتراق في المذاهب مما يقتضيه الحديث؟ وإنما يراد افتراق مقيد ، وإن لم يكن في الحديث نصّ عليه ، ففي الآيات مما يدل عليه قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (١) وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي

__________________

ـ المدخل (٣٤ ، ٣٥) ، وتاريخ بغداد (١٣ / ٣٠٧ ، ٣١١) ، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (١ / ١٧٩ ، ١٨٠) ولفظه في مجمع الزوائد : «تفترق أمتي على بضع ...».

(١) سورة : الروم ، الآيات : ٣١ ـ ٣٢.

٤٥٩

شَيْءٍ) (١) وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على التفرق الذي صاروا به شيعا ، ومعنى صاروا شيعا أي جماعات بعضهم قد فارق البعض ، ليسوا على تآلف ولا تعاضد ولا تناصر ، بل على ضد ذلك ، فإن الإسلام واحد وأمره واحد ، فاقتضى أن يكون حكمه على الائتلاف التام لا على الاختلاف.

وهذه الفرقة مشعرة بتفرق القلوب المشعر بالعداوة والبغضاء ، ولذلك قال : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (٢) فبين أن التأليف إنما يحصل عند الائتلاف على التعلق بمعنى واحد ، وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى فلا بد من التفرق ، وهو معنى قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٣) وإذا ثبت هذا نزل عليه لفظ الحديث واستقام معناه والله أعلم.

المسألة الثانية :

إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع في العداوة والبغضاء ، فإما أن يكون راجعا إلى أمر هو معصية غير بدعة ، ومثاله أن يقع بين أهل الإسلام افتراق بسبب دنياوي ، كما يختلف مثلا أهل قرية مع قرية أخرى بسبب تعدّ في مال أو دم ، حتى تقع بينهم العداوة فيصيروا حزبين ، أو يختلفون في تقديم وال أو غير ذلك فيفترقون ، ومثل هذا محتمل ، وقد يشعر به «من فارق الجماعة قيد شبر فميتته جاهلية» (٤) وفي مثل هذا جاء في الحديث : «إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما» (٥) وجاء في القرآن الكريم : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) (٦) إلى آخر القصة.

وإمّا أن يرجع إلى أمر هو بدعة ، كما افترق الخوارج من الأمة ببدعهم التي بنوا عليها

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٣.

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.

(٤) أخرج نحوه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في قتل الخوارج (الحديث : ٤٧٥٨). وأخرج نحوه أحمد في المسند (٥ / ١٨٠) ولفظه : «من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».

(٥) أخرجه مسلم في كتاب : الإمارة ، باب : إذا بويع لخليفتين (الحديث : ١٨٥٣).

(٦) سورة : الحجرات ، الآية : ٩.

٤٦٠