الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

والثوبانية (١) ، والتومنية (٢).

وأما النجارية (٣) : فثلاث فرق وهم : البرغوثية (٤) ، والزعفرانية (٥) ، والمستدركة (٦).

وأما الجبرية (٧) : ففرقة واحدة ، وكذلك المشبهة (٨).

فالجميع اثنتان وسبعون فرقة ، فإذا أضيفت الفرقة الناجية إلى عدد الفرق صار الجميع ثلاثا وسبعين فرقة.

وهذا التعديد بحسب ما أعطته المنة في تكلف المطابقة للحديث الصحيح ، لا على القطع بأنه المراد ، إذ ليس على ذلك دليل شرعي ، ولا دل العقل أيضا على انحصار ما ذكر في تلك العدة من غير زيادة ولا نقصان ، كما أنه لا دليل على اختصاص تلك البدع بالعقائد.

__________________

(١) الثوبانية : أصحاب أبي ثوبان المرجئ. زعموا أن الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله وبرسله عليهم الصلاة والسلام وبكل ما يجوز في العقل أن يفعله وما جاز في العقل تركه فليس من الإيمان وأخر العمل كله عن الإيمان.

(٢) التومنية : أصحاب أبي معاذ التومني زعم أن الإيمان هو ما عصم من الكفر وهو اسم لخصال إذا تركها التارك كفر. وقال : من ترك الصلاة والصيام مستحلّا كفر ومن تركهما على نية القضاء لم يكفر.

(٣) النجارية : أصحاب الحسين بن محمد النجار وافق المعتزلة في نفي الصفات ووافق الصفاتية في خلق الأعمال.

(٤) البرغوثية : أصحاب محمد بن عيسى الملقب بالبرغوث أثبت أن الله كونه مريدا لم يزل لكل ما علم أنه سيحدث من خير وشر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية.

(٥) الزعفرانية : أتباع الزعفراني الذي كان يناقض بآخر كلامه أوله فيقول : إن كلام الله تعالى غيره وكل ما هو غير الله مخلوق ثم يقول : الكلب خير ممن يقول كلام الله مخلوق. وهو يقول كلام الله غيره.

(٦) المستدركة : زعموا أنهم استدركوا ما خفي على أسلافهم لأن أسلافهم منعوا إطلاق القول بأن القرآن مخلوق.

(٧) الجبرية : يرون أن العباد مجبورون على أفعالهم لا اختيار لهم فيه.

(٨) المشبهة : هم الذين تكلموا بالآيات والأحاديث التي فيها وصف للحق ، فشبهوا معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض إما روحانية أو جسمانية وجوّزوا عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن.

٤٨١

وقال جماعة من العلماء : أصول البدع أربعة ، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا ، وهم : الخوارج ، والروافض ، والقدرية ، والمرجئة.

قال يوسف بن أسباط : ثم تشعبت كل فرقة ثمان عشرة فرقة : فتلك اثنتان وسبعون فرقة ، والثالثة والسبعون هي الناجية.

وهذا التقدير نحو من الأول ، ويرد عليه من الإشكال ما ورد على الأول.

فشرح ذلك الشيخ أبو بكر الطرطوشي رحمه‌الله شرحا يقرب الأمر ، فقال : لم يرد علماؤنا بهذا التقدير أن أصل كل بدعة من هذه الأربع تفرقت وتشعبت على مقتضى أصل البدع حتى تحملت تلك العدة ، لأن ذلك لعله لم يدخل في الوجود إلى الآن. قال : وإنما أرادوا أن كل بدعة ضلالة لا تكاد توجد إلا في هذه الفرق الأربع ، وإن لم تكن البدعة الثانية فرعا للأولى ولا شعبة من شعبها ، بل هي بدعة مستقلة بنفسها ليست من الأولى بسبيل.

ثم بيّن ذلك بالمثال بأن القدر أصل من أصول البدع ، ثم اختلف أهله في مسائل من شعب القدر ، وفي مسائل لا تعلق لها بالقدر ، فجميعهم متفقون على أن أفعال العباد مخلوقة لهم من دون الله تعالى.

ثم اختلفوا في فرع من فروع القدر. فقال أكثرهم : لا يكون فعل بين فاعلين مخلوقين على التولد ، أحال مثله بين القديم والمحدث.

ثم اختلفوا فيما لا يعود إلى القدر في مسائل كثيرة ، كاختلافهم في الصلاح والأصلح : فقال البغداديون منهم : يجب على الله تعالى فعل الصلاح لعباده في دينهم ، ويجب عليه ابتداء الخلق الذين علم أنه يكلفهم ، ويجب عليه إكمال عقولهم وإقدارهم وإزاحة عللهم.

وقال البصريون منهم : لا يجب على الله إكمال عقولهم ولا أن يؤتيهم أسباب التكليف.

وقال البغداديون منهم : يجب على الله ـ تعالى عن قولهم ـ عقاب العصاة إذا لم يتوبوا. والمغفرة من غير توبة سفه من الغافر.

وأما المضريون منهم ذلك.

٤٨٢

وابتدع جعفر بن مبشر من استصر امرأة (؟) ليتزوجها فوثب عليها فوطئها بلا ولي ولا شهود ولا رضى ولا عقد حل له ذلك ، وخالفه في ذلك سلفه.

وقال ثمامة بن أشرس : إن الله يصير الكفار والملحدين وأطفال المشركين والمؤمنين والمجانين ترابا يوم القيامة لا يعذبهم ولا يعرضهم.

وهكذا ابتدعت كل فرقة من هذه الفرقة بدعا تتعلق بأصل بدعتها التي هي معروفة بها ، وبدعا لا تعلق لها بها.

فإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد بتفرق أمته أصول البدع التي تجري مجرى الأجناس للأنواع ، والمعاقد للفروع لعلهم ـ والعلم عند الله ـ ما بلغن هذا العدد إلى الآن ، غير أن الزمان باق والتكليف قائم والخطرات متوقعة ، وهل قرن أو عصر يخلو إلا وتحدث فيه البدع؟

وإن كان أراد بالتفرق كل بدعة حدثت في دين الإسلام مما لا يلائم أصول الإسلام ولا تقبلها قواعده من غير التفات إلى التقسيم الذي ذكرنا كانت البدع أنواعا لأجناس ، أو كانت متغايرة الأصول والمباني.

فهذا هو الذي أراده عليه الصلاة والسلام ـ والعلم عند الله ـ فقد وجد من ذلك عدد أكثر من اثنتين وسبعين.

ووجه تصحيح الحديث على هذا ، أن تخرج من الحساب غلاة أهل البدع ، ولا يعدون من الأمة ولا في أهل القبلة ، كنفاة الأعراض من القدرية لأنه لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض ، وكالحلولية والنصيرية وأشباههم من الغلاة.

هذا ما قال الطرطوشي رحمه‌الله تعالى ، وهو حسن من التقرير. غير أنه يبقى للنظر في كلامه مجالان.

أحدهما : أن ما اختار من أنه ليس المراد الأجناس فإن كان مراده أعيان البدع وقد ارتضى اعتبار البدع القولية والعملية فمشكل ، لأنا إذا اعتبرنا كل بدعة دقت أو جلت فكل من ابتدع بدعة كيف كانت لزم أن يكون ومن تابعه عليها فرقة ، فلا تقف في مائة ولا مائتين ،

٤٨٣

فضلا عن وقوعها في اثنتين وسبعين ، وأن البدع ـ كما قال ـ لا تزال تحدث مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة.

وقد مرّ من النقل ما يشعر بهذا المعنى ، وهو قول ابن عباس : ما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنّة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن. وهذا موجود في الواقع ، فإن البدع قد نشأت إلى الآن ولا تزال تكثر ، وإن فرضنا إزالة بدع الزائغين في العقائد كلها ، لكان الذي يبقى أكثر من اثنتين وسبعين فما قاله ـ والله أعلم ـ غير مخلص.

والثاني : إن حاصل كلامه أن هذه الفرق لم تتعين بعد ، بخلاف القول المتقدم ، وهو أصح في النظر ، لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل ، والعقل لا يقتضيه ، وأيضا فالمنازع له أن يتكلف من مسائل الخلاف التي بين الأشعرية في قواعد العقائد فرقا يسميها ويبرئ نفسه وفرقته عن ذلك المحظور ، فالأولى ما قاله من عدم التعيين ، وإن سلمنا أن الدليل قام له على ذلك فلا ينبغي التعيين.

أما أولا : فإن الشريعة قد فهمنا منها أنها تشير إلى أوصافهم من غير تصريح ليحذر منها ، ويبقى الأمر في تعيين الداخلين في مقتضى الحديث مرجى ، وإنما ورد التعيين في النادر كما قال عليه الصلاة والسلام في الخوارج : «إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم» (١) الحديث ، مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يعرف أنهم ممن شملهم حديث الفرق ، وهذا الفصل مبسوط في كتاب (الموافقات) والحمد لله.

وأما ثانيا : فلأن عدم التعيين هو الذي ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا في الدنيا في الغالب ، وأمرنا بالستر على المؤمنين ما لم تبدلنا صفحة الخلاف ، ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ليلا أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة ، وكذلك في شأن قربانهم : فإنهم كانوا إذا قربوا لله قربانا فإن كان مقبولا

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢٧٨ ، الحاشية : ١.

٤٨٤

عند الله نزلت نار من السماء فأكلته ، وإن لم يكن مقبولا لم تأكله النار ، وفي ذلك افتضاح المذنب ، ومثل ذلك في الغنائم أيضا ، فكثير من هذه الأشياء خصت هذه الأمة بالستر فيها.

وأيضا ، فللستر حكمة أخرى ، وهي أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التي أمر الله ورسوله بها ، حيث قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (١) وقال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) (٢) وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (٣) وفي الحديث : «لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا» (٤) ، وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين ، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين.

فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة ، لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه ، إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج ، وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا ، ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد ، وما عدا ذلك فالسكوت عنه أولى.

وخرّج أبو داود عن عمر بن أبي مرة قال : كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأناس من أصحابه في الغضب ، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٣.

(٢) سورة : الأنفال ، الآية : ١.

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.

(٤) أخرجه البخاري في كتاب : النكاح ، باب : لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع ، وأخرجه في كتاب : الأدب ، باب : ما ينهى عن التحاسد والتدابر ، وباب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) ، وأخرجه في كتاب : الفرائض ، باب : تعليم الفرائض (الحديث : ٩ / ١٧١). وأخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة ، باب : تحريم الظن والتجسس والتنافس (الحديث : ٢٥٦٣). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : حسن الخلق ، باب : ما جاء في المهاجرة (الأحاديث : ٢ / ٩٠٧ ، ٩٠٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأدب ، باب : في الغيبة ، وباب : في الظن (الأحاديث : ٤٨٨٢ ، ٤٩١٧). وأخرجه الترمذي في كتاب : البر والصلة ، باب : ما جاء في شفقة المسلم على المسلم (الحديث : ١٩٢١).

٤٨٥

فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون إلى حذيفة فيقولون : قد ذكرنا قولك إلى سلمان فما صدقك ولا كذبك ، فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال : يا سلمان! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى : أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال ، وحتى توقع اختلافا وفرقة؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب فقال : «أيما رجل سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة» (١) ، فو الله لتنتهين أو اكتبن إلى عمر.

فتأملوا ما أحسن هذا الفقه من سلمان رضي الله عنه! وهو جار في مسألتنا ، فمن هنا لا ينبغي للراسخ في العلم أن يقول : هؤلاء الفرق هم بنو فلان وبنو فلان! وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب اجتهاده ، اللهم إلا في موطنين.

أحدهما : حيث نبه الشرع على تعيينهم كالخوارج ، فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق ، ويجري مجراهم من سلك سبيلهم ، فإن أقرب الناس إليهم شيعة المهدي المغربي ، فإنه ظهر فيهم الأمران اللذان عرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهما في الخوارج من أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، فإنهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه حتى ابتدعوا فيه ثم لم يتفقهوا فيه ، ولا عرفوا مقاصده ، ولذلك طرحوا كتب العلماء وسموها كتب الرأي وخرقوها ومزقوا أدمها ، مع أن الفقهاء هم الذين بينوا في كتبهم معاني الكتاب والسنّة على الوجه الذي ينبغي ، وأخذوا في قتال أهل الإسلام بتأويل فاسد ، زعموا عليهم أنهم مجسمون وأنهم غير موحدين ، وتركوا الانفراد بقتال أهل الكفر من النصارى والمجاورين لهم وغيرهم.

فقد اشتهر في الأخبار والآثار ما كان من خروجهم على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وعلى من بعده كعمر بن عبد العزيز رحمه‌الله وغيره ، حتى لقد روي في حديث خرّجه

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الدعوات ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آذيته فاجعله زكاة ورحمة» (الحديث : ١١ / ١٤٧). وأخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة ، باب : من لعنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو سبه أو دعا عليه (الحديث : ٢٦٠١).

٤٨٦

البغوي في معجمه عن حميد بن هلال أن عبادة بن قرط غزا فمكث في غزاته تلك ما شاء الله ، ثم رجع مع المسلمين منذ زمان فقصد نحو الأذان يريد الصلاة فإذا هو بالأزارقة ـ صنف من الخوارج ـ فلما رأوه قالوا : ما جاء بك يا عدو الله؟ قال : ما أنتم يا إخوتي؟ قالوا : أنت أخو الشيطان ، لنقتلنك ، قال : ما ترضون مني بما رضي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالوا : وأي شيء رضي به منك؟ قال : أتيته وأنا كافر فشهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، فخلى عني ـ قال ـ : فأخذوه فقتلوه.

وأما عدم فهمهم للقرآن فقد تقدم بيانه ، وقد جاء في القدرية حديث خرّجه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» (١).

وعن حذيفة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازتهم ومن مرض منهم فلا تعودوه ، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال» (٢) ، هذا الحديث غير صحيح عند أهل النقل ، قال صاحب المغني : لم يصح في ذلك شيء ، نعم قول ابن عمر ليحيى بن يعمر حين أخبره أن القول بالقدر قد ظهر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني ، ثم استدل بحديث جبريل ـ صحيح لا إشكال في صحته.

وخرّج أبو داود أيضا من حديث عمر رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم» (٣) ولم يصح أيضا.

وخرّج ابن وهب عن زيد بن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صنفان من أمتي لا سهم لهم في الإسلام يوم القيامة : المرجئة والقدرية» (٤) ، وعن معاذ بن جبل وغيره يرفعه قال :

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في القدر (الحديث : ٤٦٩١).

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في القدر (الحديث : ٤٦٩٢). وأخرجه أحمد في المسند (٢ / ٨٦ ، ٥ / ٤٠٦ ، ٤٠٧).

(٣) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في القدر (الحديث : ٤٧٢٠).

(٤) أخرجه الترمذي في كتاب : القدر ، باب : ما جاء في القدرية (الحديث : ٢١٥٠).

٤٨٧

«لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيّا آخرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١). وعن مجاهد بن جبير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سيكون من أمتي قدرية وزنديقية أولئك مجوس» (٢).

وعن نافع قال : بينما نحن عند عبد الله بن عمر نعوده إذ جاء رجل فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام ـ لرجل من أهل الشام ـ فقال عبد الله : بلغني أنه قد أحدث حدثا ، فإن كان كذلك فلا تقرأنّ عليه‌السلام ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سيكون في أمتي مسخ وخسف وهو في الزنديقية» (٣).

وعن ابن الديلمي قال : أتينا أبيّ بن كعب فقلت له : وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله يذهبه من قلبي فقال : لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لدخلت النار ، قال : ثم أتيت عبد الله ابن مسعود فقال لي مثل ذلك ، قال : ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك (٤). وفي بعض الحديث : «لا تكلموا في القدر فإنه سر الله» (٥) وهذا كله أيضا غير صحيح.

وجاء في المرجئة والجهمية شيء لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا تعويل عليه. نعم نقل المفسرون أن قوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٦) نزل في أهل القدر فروى عبد بن حميد عن أبي هريرة

__________________

(١) أخرجه في كنز العمال (الحديث : ٦٣٥) فرع ذم القدرية والمرجئة. ورواه ابن عساكر.

(٢) أخرجه أحمد في المسند (٢ / ١٣٦).

(٣) أخرج نحوه في أهل القدر الترمذي في كتاب : القدر ، باب : ١٦ (الأحاديث : ٢١٥٣ ، ٢١٥٤). وأبو داود في كتاب : السنة ، باب : لزوم السنة (الحديث : ٤٦١٣). وأحمد في المسند (الحديث : ٥٦٣٩). والحاكم (١ / ٨٤).

(٤) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : القدر (الحديث : ٤٦٩٩).

(٥) أخرج نحوه الترمذي في كتاب : (٣٠) ، باب : (١). وأحمد في المسند (٢ / ١٩٦). وأخرجه في الجامع الصغير فصل : المحلى بأل من حرف القاف (الحديث : ٦١٧٩). وأخرج نحوه في كنز العمال (الحديث : ١٥٦٧).

(٦) سورة : القمر ، الآيتان : ٤٨ ـ ٤٩.

٤٨٨

رضي الله عنه قال : أتى مشركو قريش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمون في القدر فنزلت الآية (١). وروى مجاهد وغيره أنها نزلت في المكذبين بالقدر ، ولكن إن صح ففيه دليل ، وإلا فليس في الآية ما يعين أنهم من الفرق ، وكلامنا فيه.

والثاني : حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام ومن لا علم عنده ، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس ، وهم من شياطين الإنس ، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة ، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم ، كما اشتهر عن عمرو بن عبيد وغيره ، فروى عاصم الأحول قال : جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه ونال فيه ، فقلت : أبا الخطاب! ألا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض؟ فقال : يا أحول أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تحذر؟ فجئت من عند قتادة وأنا مغتم بما سمعت من قتادة في عمرو بن عبيد ، وما رأيت من نسكه وهديه ، فوضعت رأسي نصف النهار وإذا عمرو بن عبيد والمصحف في حجره وهو يحك آية من كتاب الله ، فقلت : سبحان الله! تحك آية من كتاب الله؟ قال : إني سأعيدها ، قال : فتركته حتى حكها ، فقلت له : أعدها ، فقال : لا أستطيع.

فمثل هؤلاء لا بدّ من ذكرهم والتشريد بهم ، لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تركوا ، أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير عنهم إذا كان سبب ترك التعيين الخوف من التفرق والعداوة. ولا شك أن التفرق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة وحدهم ـ إذا أقيم ـ عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم ، وإذا تعارض الضرران يرتكب أخفهما وأسهلهما ، وبعض الشر أهون من جميعه ، كقطع اليد المتأكلة ، إتلافها أسهل من إتلاف النفس ، وهذا شأن الشرع أبدا : يطرح حكم الأخف وقاية من الأثقل.

فإذا فقد الأمران فلا ينبغي أن يذكروا لأن يعينوا وإن وجدوا ، لأن ذلك أول مثير للشر وإلقاء العداوة ، والبغضاء ، ومتى حصل باليد منهم أحد ذاكره برفق ، ولم يره أنه خارج من السنّة ، بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعي ، وأن الصواب الموافق للسنة كذا وكذا ، فإن فعل

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب : القدر ، باب : كل شيء بقدر (الحديث : ٢٦٥٦). وأخرجه الترمذي في كتاب : التفسير ، باب : ومن سورة النجم (الحديث : ٣٢٨٦).

٤٨٩

ذلك من غير تعصب ولا إظهار غلبة فهو الحج ، وبهذه الطريقة دعي الخلق أولا إلى الله تعالى ، حتى إذا عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك.

قال الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهل أهل الحق ، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء ، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة ، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة. ولو لا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء ، لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستفزا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل.

هذا ما قال : وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية ، فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك. والله أعلم.

المسألة الثامنة :

إنه لما تبين أنهم لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها ، وهي على قسمين : علامات إجمالية ، وعلامات تفصيلية.

فأما العلامات الإجمالية فثلاث.

إحداها : الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (١) وقوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (٢) روى ابن وهب عن إبراهيم النخعي أنه قال : هي الجدال والخصومات في الدين ، وقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (٣) وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وإن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وصدق الحديث» (٤).

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٦٤.

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٣.

(٤) أخرجه مالك في الموطأ (الحديث : ٦١٢). والبخاري في كتاب : الأدب المفرد (الحديث : ـ

٤٩٠

وهذا التفريق ـ كما تقدم ـ إنما هو الذي يصير الفرقة الواحدة فرقا والشيعة الواحدة شيعا.

قال بعض العلماء : صاروا فرقا لاتباع أهوائهم ، وبمفارقة الدين تشتتت أهواؤهم فافترقوا ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) ثم برأه الله منهم بقوله : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (١) وهم أصحاب البدع وأصحاب الضلالات ، والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله.

قال : ووجدنا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يتفرقوا ، ولا صاروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين ، وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد إلى الرأي ، والاستنباط من الكتاب والسنّة فيما لم يجدوا فيه نصّا ، واختلف في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين ، لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلاف أبي بكر وعمر وعلي وزيد في الجد مع الأم ، وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد ، وخلافهم في الفريضة المشتركة ، وخلافهم في الطلاق قبل النكاح ، وفي البيوع وغير ذلك فقد اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح ، وإخوة الإسلام فيما بينهم قائمة ، فلما حدثت الأهواء المردية ، التي حذر منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا ، دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه.

قال : كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة ، علمنا أنها من مسائل الإسلام ، وكل مسألة حدثت وطرأت فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة ، علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء ، وأنها التي عنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتفسير الآية.

وذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) (٢) من هم؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : هم أصحاب

__________________

ـ ٤٤٢). وأخرجه مسلم (٥ / ١٣٠). وأخرجه أحمد في المسند (٢ / ٣٢٧ ، ٣٦٠ ، ٣٦٧).

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

٤٩١

الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة» (١) الحديث الذي تقدم ذكره.

قال : فيجب على ذي عقل ودين أن يجتنبها ، ودليل ذلك قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) (٢) فإذا اختلفوا وتعاطوا ذلك ، كان لحدث أحدثوه من اتباع الهوى.

هذا ما قاله ، وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحابّ والتراحم والتعاطف ، فكل رأي أدّى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين ، وهذه الخاصية قد دلّ عليها الحديث المتكلّم عليه ، وهي موجودة في كل فرقة من الفرق المتضمنة في الحديث.

ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» (٣) وأي فرقة توازي هذه الفرقة التي بين أهل السلام وأهل الكفر؟ وهي موجودة في سائر من عرف من الفرق أو ادّعي ذلك فيهم ، إلا أن الفرقة لا تعتبر على أي وجه كانت ، لأنها تختلف بالقوة والضعف.

وحيث ثبت أن مخالفة هذه الفرق من الفروع الجزئية باب الفرقة ، فلا بدّ يجب النظر في هذا كله.

والخاصية الثانية : هي التي نبه عليها قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) (٤) الآية ، فبينت الآية أن أهل الزيغ يتبعون متشابهات القرآن ، وجعلوا ممن شأنه أن يتبع المتشابه لا المحكم.

__________________

(١) عزاه في مجمع الزوائد للطبراني في الصغير. وأخرجه في مجمع الزوائد (٧ / ٢٢).

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٣.

(٣) تقدم تخريجه ص : ٣٧٨ ، الحاشية : ١.

(٤) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

٤٩٢

ومعنى المتشابه : ما أشكل معناه ، ولم يبين مغزاه ، سواء كان من المتشابه الحقيقي ـ كالمجمل من الألفاظ وما يظهر من التشبيه ـ أو من المتشابه الإضافي ، وهو ما يحتاج في بيان معناه الحقيقي إلى دليل خارجي ، وإن كان في نفسه ظاهر المعنى لبادي الرأي ، كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (١) فإن ظاهر الآية صحيح على الجملة.

وأما على التفصيل فمحتاج إلى البيان ، وهو ما تقدم ذكره لابن عباس رضي الله عنهما ، لأنه بين أن الحكم لله تارة بغير تحكيم لأنه إذا أمرنا بالتحكيم فالحكم به حكم الله.

وكذلك قولهم : قاتل ولم يسب ، فإنهم حصروا التحكيم في القسمين وتركوا قسما ثالثا وهو الذي نبه قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) (٢) الآية ، فهذا قتال من غير سبي ، لكن ابن عباس نبههم على وجه أظهر وهو أن السباء إذا حصل فلا بد من وقوع بعض المقاتلين على أم المؤمنين ، وعند ذلك يكون حكمها حكم السبايا في الانتفاع بها كالسبايا ، فيخالفون القرآن الذي ادّعوا التمسك به.

وكذلك في محو الاسم من إمارة المؤمنين ، اقتضى عندهم أنه إثبات لإمارة الكافرين ، وذلك غير صحيح لأن نفي الاسم منها لا يقتضي نفي المسمى.

وأيضا ، فإن فرضنا أنه يقتضي نفي المسمى لم يقتض إثبات إمارة أخرى ، فعارضهم ابن عباس بمحو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسم الرسالة من الصحيفة ، معارضة لا قبل لهم بها ، ولذلك رجع منهم ألفان ـ أو من رجع منهم ـ.

فتأملوا وجه اتباع المتشابهات ، وكيف أدّى إلى الضلال والخروج عن الجماعة ،

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ٥٧.

(٢) سورة : الحجرات ، الآية : ٩.

٤٩٣

ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله ، فاحذروهم» (١).

والخاصية الثالثة : اتباع الهوى ، الذي نبه عليه قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) (٢) والزيغ هو الميل عن الحق اتباعا للهوى ، وكذلك قوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) (٣) وقوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) (٤).

وليس في حديث الفرق مما يدل على هذه الخاصية ولا على التي قبلها ، إلا أن هذه الخاصية راجعة في المعرفة بها إلى كل أحد في خاصة نفسه ، لأن اتباع الهوى أمر باطني فلا يعرفه غير صاحبه إذا لم يغالط نفسه ، إلا أن يكون عليها دليل خارجي.

وقد مرّ أن أصل حدوث الفرق إنما هو الجهل بمواقع السنّة ، وهو الذي نبه عليه الحديث بقوله : «اتخذ الناس رؤساء جهالا» (٥) ، فكل أحد عالم بنفسه هل بلغ في العلم مبلغ المفتين أم لا؟ وعالم إذا راجع النظر فيما سئل عنه : هل هو قائل بعلم واضح من غير إشكال أم بغير علم؟ أم هو على شك فيه؟ والعالم إذا لم يشهد له العلماء فهو في الحكم باق على الأصل من عدم العلم حتى يشهد فيه غيره ويعلم هو من نفسه ما شهد له به ، وإلّا فهو على يقين من عدم العلم أو على شك ، فاختيار الإقدام في هاتين الحالتين على الإحجام لا يكون إلا باتباع الهوى ، إذ كان ينبغي له أن يستفتي في نفسه غيره ولم يفعل ، وكل من حقه أن لا يقدم إلا أن يقدمه غيره ، ولم يفعل هذا.

قال العقلاء : إن رأي المستشار أنفع لأنه بريء من الهوى ، بخلاف من لم يستشر

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٨٠ ، الحاشية : ٢.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

(٣) سورة : القصص ، الآية : ٥٠.

(٤) سورة : الجاثية ، الآية : ٢٣.

(٥) تقدم تخريجه ص : ٣٧٠ ، الحاشية : ١.

٤٩٤

فإنه غير بريء ، ولا سيما في الدخول في المناصب العلية والرتب الشرعية كرتب العلم.

فهذا أنموذج ينبه صاحب الهوى في هواه ويضبطه إلى أصل يعرف به ، هل هو في تصدره إلى فتوى الناس متبع للهوى ، أم هو متبع للشرع؟

وأما الخاصية الثانية : فراجعة إلى العلماء الراسخين في العلم ، لأن معرفة المحكم والمتشابه راجع إليهم فهم يعرفونها ويعرفون أهلها ، فهم المرجوع إليهم في بيان من هو متبع للمحكم فيقلد في الدين ، ومن هو المتبع للمتشابه فلا يقلد أصلا.

ولكن له علامة ظاهرة أيضا نبه عليها الحديث الذي فسرت الآية به ، قال فيه : «فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله فاحذروهم» (١) خرّجه القاضي إسماعيل بن إسحاق ، وقد تقدم أول الكتاب ، فجعل من شأن المتبع للمتشابه أنه يجادل فيه ويقيم النزاع على الإيمان.

وسبب ذلك أن الزائغ المتبع لما تشابه من الدليل لا يزال في ريب وشك ، إذ المتشابه لا يعطي بيانا شافيا ، ولا يقف منه متبعه على حقيقة ، فاتباع الهوى يلجئه إلى التمسك به ، والنظر فيه لا يتخلص له ، فهو على شك أبدا ، وبذلك يفارق الراسخ في العلم ، لأن جداله إن افتقر إليه فهو في مواقع الإشكال العارض طلبا لإزالته ، فسرعان ما يزول إذا بين له موضع النظر.

وأما ذو الزيغ فإن هواه لا يخليه إلى طرح المتشابه ، فلا يزال في جدال عليه وطلب لتأويله.

ويدل على ذلك أن الآية نزلت في شأن نصارى نجران ، وقصدهم أن يناظروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عيسى ابن مريم عليهما‌السلام ، وأنه الله ، أو أنه ثالث ثلاثة ، مستدلين بأمور متشابهات من قوله : فعلنا وخلقنا وهذا كلام جماعة. ومن أنه يبرئ الأكمه

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٨٠ ، الحاشية : ٢.

٤٩٥

والأبرص ويحيي الموتى وهو كلام طائفة أخرى ، ولم ينظروا إلى أصله ونشأته بعد أن لم يكن ، وكونه كسائر بني آدم يأكل ويشرب وتلحقه الآفات والأمراض ، والخبر مذكور في السير.

والحاصل : أنهم إنما أتوا لمناظرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومجادلته لا يقصدون اتباع الحق. والجدال على هذا الوجه لا ينقطع ، ولذلك لما بين لهم الحق ولم يرجعوا عنه دعوا إلى أمر آخر خافوا منه الهلكة فكفوا عنه ، وهو المباهلة ، وهو قوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (١) الآية ، وشأن هذا الجدال أنه شاغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، كالنرد ، والشطرنج وغيرهما.

وقد نقل عن حماد بن زيد أنه قال : جلس عمرو بن عبيد وشبيب بن شيبة ليلة يخاصمان إلى طلوع الفجر ، قال : فلما وصلوا جعل عمرو يقول : هيه أبا معمر! هيه أبا معمر! فإذا رأيتم أحدا شأنه أبدا الجدال في المسائل مع كل أحد من أهل العلم ، ثم لا يرجع ولا يرعوي ، فاعلموا أنه زائغ القلب متبع للمتشابه فاحذروه.

وأما ما يرجع للأول فعامة لجميع العقلاء من الإسلام ، لأن التواصل والتقاطع معروف عند الناس كلهم ، وبمعرفته يعرف أهله ، وهو الذي نبه عليه حديث الفرق إذ أشار إلى الافتراق شيعا بقوله : «وستفترق هذه الأمة على كذا» (٢) ولكن هذا الافتراق إنما يعرف بعد الملابسة والمداخلة ، وأما قبل ذلك فلا يعرفه كل أحد ، فله علامات تتضمن الدلالة على التفرق. أولها : مفاتحة الكلام ، وذلك إلقاء المخالف لمن لقيه ذم المتقدمين ممن اشتهر علمهم وصلاحهم واقتداء الخلف بهم ، ويختص بالمدح من لم يثبت له ذلك من شاذ مخالف لهم ، وما أشبه ذلك.

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٦١.

وذكر الخبر ياقوت الحموي في كتابه : معجم البلدان (٥ / ٢٦٩).

(٢) تقدم تخريجه ص : ٤٥٨ ، الحاشية : ١.

٤٩٦

وأصل هذه العلامة في الاعتبار تكفير الخوارج ـ لعنهم الله ـ الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، فإنهم ذموا من مدحه الله ورسوله واتفق السلف الصالح على مدحهم والثناء عليهم ، ومدحوا من اتفق السلف الصالح على ذمه كعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عنه ، وصوّبوا قتله إياه.

وقالوا : إن في شأنه نزل قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (١) وأما التي قبلها وهي قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) الآية ، فإنها نزلت في شأن عليّ رضي الله عنه ، وكذبوا ـ قاتلهم الله ـ وقال عمران بن حطان في مدحه لابن ملجم :

يا ضربة من تقي ما أراد بها

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه

أوفى البرية عند الله ميزانا

وكذب ـ لعنه الله ـ فإذا رأيت من يجري على هذا الطريق ، فهو من الفرق المخالفة ، وبالله التوفيق.

وروي عن إسماعيل بن علية ، قال : حدثني اليسع ، قال : تكلم واصل بن عطاء يوما ـ يعني : المعتزلي ـ فقال عمرو بن عبيد : ألا تسمعون؟ ما كلام الحسن وابن سيرين ـ عند ما تسمعون ـ إلا خرقة حيض ملقاة.

روي أن زعيما من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام على الفقه ، فكان يقول : إن علم الشافعي وأبي حنيفة ، جملته لا يخرج من سراويل امرأة.

هذا كلام هؤلاء الزائغين ، قاتلهم الله.

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٠٧.

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٢٠٤.

٤٩٧

وأما العلامة التفصيلية في كل فرقة فقد نبه عليها وأشير إلى جملة منها في الكتاب والسنّة ، وفي ظني أن من تأملها في كتاب الله وجدها منبها عليها ومشارا إليها ، ولو لا أنا فهمنا من الشرع الستر عليها لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعي ، وقد كنا هممنا بذلك في ماضي الزمان ، فغلبنا عليه ما دلنا على أن الأولى خلاف ذلك.

فأنت ترى أن الحديث الذي تعرضنا لشرحه لم يعين في الرواية الصحيحة واحدة منها ، لهذا المعنى المذكور ـ والله أعلم ـ وإنما نبه عليه في الجملة لتحذر مظانها ، وعين في الحديث المحتاج إليه منها وهي الفرقة الناجية ليتحراها المكلف ، وسكت عن ذلك في الرواية الصحيحة ، لأن ذكرها في الجملة يفيد الأمة الخوف من الوقوع فيها ، وذكر في الرواية الأخرى فرقة من الفرق الهالكة لأنها ـ كما قال ـ أشد الفرق فتنة على الأمة ، وبيان كونها أشد فتنة من غيرها سيأتي آخرا إن شاء الله.

المسألة التاسعة :

إن الرواية الصحيحة في الحديث أن افتراق اليهود كافتراق النصارى على إحدى وسبعين ، وهي رواية أبي داود على الشك! إحدى وسبعين؟ أو اثنتين وسبعين؟ وأثبت في الترمذي في الرواية الغريبة لبني إسرائيل الثنتين والسبعين لأنه لم يذكر في الحديث افتراق النصارى ، وذلك ـ والله أعلم ـ لأجل أنه إنما أجرى في الحديث ذكر بني إسرائيل فقط ، لأنه ذكر فيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك ، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي» (١) الحديث. وفي أبي داود ، اليهود والنصارى معا إثبات الثنتين والسبعين من غير شك. وخرّج الطبري وغيره الحديث على أن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين ملة ، وافترقت هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.

فإن بنينا على إثبات إحدى الروايتين فلا إشكال ، لكن في رواية الأحدى والسبعين

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٤٩ ، الحاشية : ١.

٤٩٨

تزيد هذه الأمة فرقتين ، وعلى رواية الثنتين والسبعين تزيد فرقة واحدة ، وثبت في بعض كتب الكلام في نقل الحديث أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين ، وإن النصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة ، ووافقت سائر الروايات في افتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، ولم أر هذه الرواية هكذا فيما رأيته من كتب الحديث ، إلا ما وقع في جامع ابن وهب من حديث عليّ رضي الله عنه ، وسيأتي.

وإن بنينا على إعمال الروايات ، فيمكن أن تكون رواية الإحدى والسبعين وقت أعلم بذلك ثم أعلم بزيادة فرقة ، أما أنها كانت فيهم ولم يعلم بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وقت آخر ، وإما أن تكون جملة الفرق في الملتين ذلك المقدار فأخبر به ، ثم حدثت الثانية والسبعون فيهما فأخبر ذلك عليه الصلاة والسلام. وعلى الجملة فيمكن أن يكون الاختلاف بحسب التعريف بها أو الحدوث ، والله أعلم بحقيقة الأمر.

المسألة العاشرة :

هذه الأمة ظهر أن فيها فرقة زائدة على الفرق الأخرى اليهود والنصارى ، فالثنتان والسبعون من الهالكين المتوعّدين بالنار ، والواحدة في الجنة. فإذا انقسمت هذه الأمة بحسب هذا الافتراق قسمين : قسم في النار ، وقسم في الجنة ، ولم يبين ذلك في فرق اليهود ولا في فرق النصارى ، إذ لم يبين الحديث أن لا تقسيم لهذه الأمة ، فيبقى النظر : هل في اليهود والنصارى فرقة ناجية أم لا؟ وينبني على ذلك نظران : هل زادت هذه الأمة فرقة هالكة أم لا؟ وهذا النظر وإن كان لا ينبني عليه ... لكنه من تمام الكلام في الحديث.

فظاهر النقل في مواضع من الشريعة أن كل طائفة من اليهود والنصارى لا بدّ أن يوجد فيها من آمن بكتابه وعمل بسنته ، كقوله تعالى : (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (١) ففيه إشارة إلى أن منهم من لم يفسق ، وقال تعالى : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢) ، وقال تعالى :

__________________

(١) سورة : الحديد ، الآية : ١٦.

(٢) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.

٤٩٩

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١) ، وقال تعالى : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) (٢) وهذا كالنص.

وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران» (٣) فهذا يدل بإشارته على العمل بما جاء به نبيه. وخرّج عبد الله بن عمر ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عبد الله بن مسعود» ، قلت : لبيك رسول الله ، قال : «أتدري أي عرى الإيمان أوثق؟» ـ قال ـ : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «الولاية في الله والحي في الله ، والبغض فيه» ـ ثم قال : «يا عبد الله بن مسعود!» ـ قلت : لبيك رسول الله! ثلاث مرات ، قال : «أتدري أي الناس أفضل؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال ـ : «فإن أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم» ـ ثم قال ـ : «يا عبد الله بن مسعود!» ـ قلت : لبيك يا رسول الله! ثلاث مرات ، قال ـ : «هل تدري أي الناس أعلم؟» ـ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «أعلم الناس أبصرهم للحق إذا اختلف الناس ، وإن كان مقصرا في العمل ، وإن كان يزحف على استه ، واختلف من قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرها ، فرقة آذت الملوك وقاتلتهم على دين عيسى ابن مريم حتى قتلوا ، وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤاذاة الملوك ، فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فأخذتهم الملوك وقطعتهم بالمناشير ، وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤاذاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فساحوا في الجبال وهربوا فيها ، فهم الذين قال الله عزوجل فيهم : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٤) ، فالمؤمنون الذين آمنوا بي وصدقوا بي ، والفاسقون الذين كذبوا بي وجحدوا بي» (٥) فأخبر

__________________

(١) سورة : الأعراف ، الآية : ١٥٩.

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٦٦.

(٣) أخرج نحوه في الجامع الصغير ، باب : حرف الثاء (الحديث : ٣٥٤٨). وأخرج نحوه في شرح رياض الصالحين لابن علان في الباب : ٢٣٨ ، فصل : المملوك الذي يؤدي حق الله تعالى وحق مواليه (الحديث : ١٣٦٢).

(٤) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.

(٥) أخرجه البخاري في كتاب : التوحيد ، باب : ما جاء في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك ـ

٥٠٠