الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

كما فعل ابن زهير رضي الله عنه ؛ وأخت النضر بن الحارث ، مثل ما يفعل الشعراء مع الكبراء ، هذا لا حرج فيه ما لم يكن في الشعر ذكر ما لا يجوز ، ونظيره في سائر الأزمنة تقديم الشعر للخلفاء والملوك ومن أشبههم قطعا من أشعارهم بين يدي حاجاتهم ، كما يفعله أهل الوقت المجردون للسعاية على الناس ، مع القدرة على الاكتساب. وفي الحديث : «لا تصح الصدقة لغنيّ ، ولا لذي مرّة سويّ» (١) فإنهم ينشدون الأشعار التي فيها ذكر الله وذكر رسوله ، وكثيرا ما يكون ما لا يجوز شرعا ، ويتمندلون بذكر الله ورسوله في الأسواق والمواضع القذرة ، ويجعلون ذلك آلة لأخذ ما في أيدي الناس ، لكن بأصوات مطربة يخاف بسببها على النساء ومن لا عقل له من الرجال.

ومنها : أنهم ربما أنشدوا الشعر في الأسفار الجهادية تنشيطا لكلال النفوس ، وتنبيها للرواحل أن تنهض في أثقالها ، وهذا حسن ، لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم ، بل كانوا ينشدون الشعر مطلقا من غير أن يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم ، بل كانوا يرققون الصوت ويمططونه على وجه لا يليق بأمية العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى ، فلم يكن فيه إلذاذ ولا إطراب يلهي ، وإنما كان لهم شيء من النشاط كما كان الحبشة وعبد الله بن رواحة يحدوان بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق :

نحن الذون بايعوا محمدا

على الجهاد ما حيينا أبدا

فيجيبهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «اللهم لا خير إلا خير الآخرة ، فاغفر للأنصار والمهاجرة» (٢).

ومنها : أن يتمثل الرجل بالبيت أو الأبيات من الحكمة في نفسه ليعظ نفسه أو ينشطها أو يحركها لمقتضى معنى الشعر ، أو يذكرها ذكرا مطلقا ، كما حكى أبو الحسن القرافي

__________________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب : الزكاة ، باب : من يعطى من الصدقة (الحديث : ٦٥٢). وأخرجه أبو داود في كتاب : الزكاة ، باب : من يعطى من الصدقة وحد الغنى (الحديث : ١٦٣٤).

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : المغازي ، باب : غزوة الخندق ، وفي كتاب : الجهاد ، باب : التحريض على القتال (الحديث : ٧ / ٣٠٣). وأخرجه مسلم في كتاب : الجهاد ، باب : غزوة الأحزاب وهي غزوة الخندق (الحديث : ١٨٠٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : المناقب ، باب : مناقب أبي موسى الأشعري (الحديث : ٣٨٥٦).

٢٢١

الصوفي عن الحسن أن قوما أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا : يا أمير المؤمنين! إن لنا إماما إذا فرغ من صلاته تغنّى. فقال عمر : من هو؟ فذكر الرجل. فقال : قوموا بنا إليه فإنا إن وجهنا إليه يظن أنا تجسسنا عليه أمره. قال : فقام عمر مع جماعة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أتوا الرجل وهو في المسجد ، فلما أن نظر إلى عمر قام فاستقبله فقال : يا أمير المؤمنين ما حاجتك؟ وما جاء بك؟ إن كانت الحاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك ، وإن كانت الحاجة لك فأحق من عظمناه خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال له عمر : ويحك! بلغني عنك أمر ساءني. قال : وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال : أتتمجّن في عبادتك؟ قال : لا يا أمير المؤمنين ، لكنها عظة أعظ بها نفسي. قال عمر : قلها ، فإن كان كلاما حسنا قلته معك وإن كان قبيحا نهيتك عنه. فقال :

وفؤاد كلما عاتبته

في مدى الهجران يبغي تعبي

لا أراه الدهر إلا لاهيا

في تماديه فقد برّح بي

يا قرين السوء ما هذا الصبا

فني العمر كذا في اللعب

وشباب بان عنّي فمضى

قبل أن أقضي منه أربي

ما أرجي بعده إلا الفنا

ضيّق الشيب عليّ مطلبي

ويح نفسي لا أراها أبدا

في جميل لا ولا في أدب

نفس لا كنت ولا كان الهوى

راقبي المولى وخافي وارهبي

قال : فقال عمر رضي الله عنه :

نفس لا كنت ولا كان الهوى

راقبي المولى وخافي وارهبي

ثم قال عمر : على هذا فليغن من غنى.

فتأملوا قوله : بلغني عنك أمر ساءني ، مع قوله : أتتمجن في عبادتك ، فهو من أشد ما يكون في الإنكار ، حتى أعلمه أنه يردد لسانه أبيات حكمة فيها موعظة ، فحينئذ أقره وسلم له.

هذا وما أشبه كان فعل القوم ، وهم مع ذلك لم يقتصروا في التنشيط للنفوس ولا الوعظ على مجرد الشعر ، بل وعظوا أنفسهم بكل موعظة ، ولا كانوا يستحضرون لذكر

٢٢٢

الأشعار المغنين ، إذ لم يكن ذلك من طلباتهم ، ولا كان عندهم من الغناء المستعمل في أزماننا شيء ، وإنما دخل في الإسلام بعدهم حين خالط العجم المسلمين.

وقد بيّن ذلك أبو الحسن القرافي فقال : أي الماضين من الصدر الأول حجة على من بعدهم ، ولم يكونوا يلحنون الأشعار ولا ينغمونها بأحسن ما يكون من النغم إلا من وجه إرسال الشعر واتصال القوافي ، فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه كان ذلك مردودا إلى أصل الخلقة لا يتصنعون ولا يتكلفون ، هذا ما قال ، فلذلك نص العلماء على كراهية ذلك المحدث. وحتى سئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الغناء الذي يستعمله أهل المدينة ، فقال : إنما يفعله الفساق ولكن المتقدمون أيضا يعدون الغناء جزءا من أجزاء طريقة التعبد ، وطلب رقة النفوس ، وخشوع القلوب ، حتى يقصدونه قصدا ، ويتعمدون الليالي الفاضلة ، فيجتمعون لأجل الذكر الجهري ، والشطح ، والرقص ، والتغاشي والصياح ، وضرب الأقدام على وزن إيقاع الكف أو الآلات ، وموافقة النغمات.

هل في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمله المنقول في الصحاح أو عمل السلف الصالح أو أحد من العلماء أثر؟ أو في كلام المجيب ما يصرح بكلام مثل هذا؟

بل سئل عن إنشاد الأشعار بالصوامع كما يفعله المؤذنون اليوم في الدعاء بالأسحار؟ فأجاب بأن ذلك بدعة مضافة إلى بدعة ، لأن الدعاء بالصوامع بدعة وإنشاد الشعر والقصائد بدعة أخرى ، إذ لم يكن ذلك في زمن السلف المقتدى بهم.

كما أنه سئل عن الذكر الجهري أمام الجنازة ، فأجاب بأن السنّة في اتباع الجنائز الصمت والتفكر والاعتبار ، وأن ذلك فعل السلف ، واتباعهم سنّة ومخالفتهم بدعة وقد قال مالك : لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها.

وأما ما ذكره المجيب في التواجد عند السماع من أنه أثر رقة النفس واضطراب القلب ، فإنه لم يبين ذلك الأثر ما هو ، كما أنه لم يبين معنى الرقة ، ولا عرج عليها بتفسير يرشد إلى فهم التواجد عند الصوفية ، وإنما في كلامه أن ثم أثرا ظاهرا يظهر على جسم المتواجد ، وذلك الأثر يحتاج إلى تفسير ، ثم التواجد يحتاج إلى شرح بحسب ما يظهر من كلامه.

٢٢٣

والذي يظهر في التواجد ما كان يبدو على جملة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو البكاء واقشعرار الجلد التابع للخوف الآخذ بجامع القلوب ، وبذلك وصف الله عباده في كلامه حيث قال : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (١) وقال تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) (٢) وقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) (٣).

وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال : انتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل ـ يعني من البكاء ـ والأزيز صوت يشبه صوت غليان القدر. وعن الحسن قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) (٤) فربى لها ربوة (٥) ، عيد منها عشرين يوما. وعن عبيد الله بن عمر ، قال : صلى بنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة الفجر ، فافتتح سورة يوسف فقرأها حتى إذا بلغ : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (٦) بكى حتى انقطع. وفي رواية لما انتهى إلى قوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) (٧) بكى حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف. وعن أبي صالح قال : لما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر رضي الله عنه سمعوا القرآن فجعلوا يبكون ، فقال أبو بكر : هكذا كنا حتى قست قلوبنا. وعن ابن أبي ليلى أنه قرأ سورة مريم حتى انتهى إلى السجدة (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٨) فسجد بها ، فلما رفع رأسه قال : هذه السجدة قد سجدناها فأين البكاء؟ إلى غير ذلك من الآثار الدالة على أن أثر

__________________

(١) سورة : الزمر ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٨٣.

(٣) سورة : الأنفال ، الآيات : ٢ ـ ٤.

(٤) سورة : الطور ، الآيتان : ٧ ـ ٨.

(٥) ربا الجرح : ورم ، والربوة : الشدة الزائدة.

(٦) سورة : يوسف ، الآية : ٨٤.

(٧) سورة : يوسف ، الآية : ٨٦.

(٨) سورة : مريم ، الآية : ٥٨.

٢٢٤

الموعظة الذي يكون بغير تصنّع إنما هو على هذه الوجوه وما أشبهها.

ومثله ما استدل به بعض الناس من قوله تعالى : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) ، ذكره بعض المفسرين ، وذلك أنه لما ألقى الله الإيمان في قلوبهم حضروا عند ملكهم دقيانوس الكافر ، فتحركت فأرة أو هرة خاف لأجلها الملك ، فنظر الفتية بعضهم إلى بعض ، ولم يتمالكوا أن قاموا مصرحين بالتوحيد ، معلنين بالدليل والبرهان ، منكرين على الملك نحلة الكفر ، باذلين أنفسهم في ذات الله ، فأوعدهم ثم أخلفهم ، فتواعدوا الخروج إلى الغار ، إلى أن كان منهم ما حكى الله تعالى في كتابه ، فليس في ذلك صعق ولا صياح ، ولا شطح ، ولا تغاش مستعمل ، ولا شيء من ذلك ، وهو شأن فقرائنا اليوم.

وخرّج سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الله بن عروة بن الزبير ، قال : قلت لجدّتي أسماء : كيف كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرءوا القرآن؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله ، تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قلت : إن ناسا هاهنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية. فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

وخرّج أبو عبيد من أحاديث أبي حازم. قال : مرّ ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : إذا قرئ عليه القرآن ، أو سمع الله يذكر خرّ من خشية الله. قال ابن عمر : والله إنا لنخشى الله ولا نسقط. وهذا إنكار.

وقيل لعائشة رضي الله عنها : إن قوما إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم. فقالت : إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال ، ولكنه كما قال الله تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٢) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن القوم يقرأ عليهم القرآن فيصعقون فقال : ذلك فعل الخوارج.

وخرّج أبو نعيم على جابر بن عبد الله أن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه قال : جئت أبي ، فقال : أين كنت؟ فقلت : وجدت أقواما يذكرون الله فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من

__________________

(١) سورة : الكهف ، الآية : ١٤.

(٢) سورة : الزمر ، الآية : ٢٣.

٢٢٥

خشية الله فقعدت معهم ، فقال : لا تقعد بعدها ، فرآني كأنه لم يأخذ ذلك فيّ فقال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو القرآن ، ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن ، فلا يصيبهم هذا ، أفتراهم أخشع لله من أبي بكر وعمر؟ فرأيت ذلك كذلك فتركتهم ، وهذا بأن ذلك كله تعمّل وتكلف لا يرضى به أهل الدين.

وسئل محمد بن سيرين ، عن الرجل يقرأ عنده فيصعق ، فقال : ميعاد ما بيننا وبينه أن يجلس على حائط ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره ، فإن وقع فهو كما قال.

وهذا الكلام حسن في المحق والمبطل ، لأنه إنما كان عند الخوارج نوعا من القحة في النفوس المائلة عن الصواب ، وقد تغالط النفس فيه فتظنه انفعالا صحيحا وليس كذلك ، والدليل عليه أنه لم يظهر على أحد من الصحابة لا هو ولا ما يشبهه ، فإن مبناهم كان على الحق ، فلم يكونوا يستعملون في دين الله هذه اللعب القبيحة المسقطة للأدب والمروءة.

نعم قد لا ينكر اتفاق الغشي ونحوه أو الموت لمن سمع الموعظة بحق فضعف عن مصابرة الرقة الحاصلة بسببها ، فجعل ابن سيرين ذلك الضابط ميزانا للمحق والمبطل وهو ظاهر ، فإن القحة لا تبقى مع خوف السقوط من الحائط ، فقد اتفق من ذلك بعض النوادر وظهر فيها عذر التواجد.

فحكي عن أبي وائل ، قال : خرجنا مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ومعنا الربيع ابن خيثمة فمررنا على حداد ، فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار ، فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط ، ثم إن عبد الله مضى كما هو حتى أتينا على شاطئ الفرات على أتون فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) إلى قوله : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) (١) فصعق الربيع ، يعني : غشي عليه. فاحتملناه فأتينا به أهله ـ قال ـ ورابطه عبد الله إلى الظهر فلم يفق ، فرابطه إلى المغرب فأفاق ، ورجع عبد الله إلى أهله.

فهذه حالات طرأت لواحد من أفاضل التابعين بمحضر صحابي ، ولم ينكر عليه لعلمه أن ذلك خارج عن طاقته ، فصار بتلك الموعظة الحسنة كالمغمى عليه ، فلا حرج إذا.

__________________

(١) سورة : الفرقان ، الآيتان : ١٢ ـ ١٣.

٢٢٦

وحكي أن شابا كان يصحب الجنيد رضي الله عنه ـ وهو إمام الصوفية إذ ذاك ـ فكان الشاب إذا سمع شيئا من الذكر يزعق ، فقال له الجنيد يوما : إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني ، فكان إذا سمع شيئا يتغير ، ويضبط نفسه حتى كان يقطر العرق منه بكل شعرة من بدنه قطرة ، فيوما من الأيام صاح صيحة تلفت نفسه ، فهذا الشاب قد ظهر فيه مصداق ما قاله السلف ، لأنه لو كانت صيحته الأولى غلبته ، لم يقدر على ضبط نفسه ، وإن كان بشدة ، كما لم يقدر على ضبط نفسه الربيع بن خيثمة ، وعليه أدبه الشيخ حين أنكر عليه ووعده بالفرقة ، إذ فهم منه أن تلك الزعقة من بقايا رعونة النفس ، فلما خرج الأمر عن كسبه ـ بدليل موته ـ كانت صيحته عفوا لا حرج عليه فيها إن شاء الله.

بخلاف هؤلاء القوم الذين لم يشموا من أوصاف الفضلاء رائحة ، فأخذوا بالتشبه بهم ، فأبرز لهم هواهم التشبه بالخوارج ، ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد المذموم ، ولكن زادوا على ذلك الرقص والزمر والدوران والضرب على الصدور ، وبعضهم يضرب على رأسه ، وما أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى ، لكونه من أعمال الصبيان والمجانين ، المبكي للعقلاء ، رحمة لهم ، إذ لم يتّخذ مثل هذا طريقا إلى الله وتشبها بالصالحين.

وقد صح من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : «وعظنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب» (١) الحديث ، فقال الإمام الآجري العالم السني أبو بكر رضي الله عنه : ميزوا هذا الكلام ، فإنه لم يقل : صرخنا من موعظة ، ولا طرقنا على رءوسنا ، ولا ضربنا على صدورنا ، ولا زفنّا ولا رقصنا ، كما يفعل كثير من الجهال يصرخون عند المواعظ ويزعقون ، ويتناشون ، قال : وهذا كله من الشيطان يلعب بهم ، وهذا كله بدعة وضلالة ، ويقال لمن فعل هذا : اعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصدق الناس موعظة ، وأنصح الناس لأمته ، وأرق الناس قلبا ، وخير الناس من جاء بعده ـ لا يشك في ذلك عاقل ـ ما صرخوا عند موعظته ولا زعقوا ولا رقصوا ولا زفنوا ، ولو كان هذا صحيحا لكانوا أحق الناس به أن يفعلوه بين يدي رسول

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٣ ، الحاشية : ٢.

٢٢٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه بدعة وباطل ومنكر فاعلم ذلك. انتهى كلامه. وهو واضح فيما نحن فيه.

ولا بدّ من النظر في الأمر كله الموجب للتأثر الظاهر في السلف الأولين مع هؤلاء المدعين ، فوجدنا الأولين يظهر عليهم ذلك الأثر بسبب ذكر الله ؛ أو بسماع آية من كتاب الله ، وبسبب رؤية اعتبارية ـ كما في قصة الربيع عند رؤيته للحداد والأتون وهو موقد النار ـ ولسبب قراءة في صلاة أو غيرها ، ولم نجد أحدا منهم ـ فيما نقل العلماء ـ يستعملون الترنم بالأشعار لترق نفوسهم ، فتتأثر ظواهرهم وطائفة الفقراء على الضد منهم ، فإنهم يستعملون القرآن والحديث والوعظ والتذكير فلا تتأثر ظواهرهم ، فإذا قام المزمر تسابقوا إلى حركاتهم المعروفة لهم ، فبالحريّ ألا يتأثروا على تلك الوجوه المكروهة المبتدعة. لأن الحق لا ينتج إلا حقّا كما أن الباطل لا ينتج إلا باطلا.

وعلى هذا التقرير ينبني النظر في حقيقة الرقة المذكورة ، وهي المحركة للظاهر ، وذلك أن الرقة ضد الغلظ ، فنقول : هذا رقيق ليس بغليظ ، ومكان رقيق إذا كان لين التراب ، ومثله الغليظ ، فإذا وصف بذلك فهو راجع إلى لينه وتأثره ضد القسوة ، ويشعر بذلك قوله تعالى : (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (١) لأن القلب الرقيق إذا أوردت عليه الموعظة خضع لها ولان وانقاد ، ولذلك قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (٢) ؛ فإن الوجل تأثر ولين يحصل في القلب بسبب الموعظة ، فترى الجلد من أجل ذلك يقشعر ، والعين تدمع ، واللين إذا حلّ بالقلب ـ وهو باطن الإنسان ـ حل بالجلد بشهادة الله ـ وهو ظاهر الإنسان ـ فقد حل الانفعال بمجموع الإنسان ، وذلك يقتضي السكون لا الحركة ، والانزعاج والسكون لا الصياح ، وهي حالة السلف الأولين ـ كما تقدم ـ فإذا رأيت أحدا سمع موعظة أيّ موعظة كانت فيظهر عليه من الأثر ما ظهر على السلف الصالح ، علمت أنها رقة هي أول الوجد ، وأنها صحيحة لا اعتراض فيها.

__________________

(١) سورة : الزمر ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة : الأنفال ، الآية : ٢.

٢٢٨

وإذا رأيت أحدا سمع موعظة قرآنية أو سنية أو حكمية ولم يظهر عليه من ذلك الآثار شيء ، حتى يسمع شعرا مرقما أو غناء مطربا فتأثر ، فإنه لا يظهر عليه في الغالب من تلك الآثار شيء ، وإنما يظهر عليه انزعاج بقيام ، أو دوران ، أو شطح ، أو صياح ، أو ما يناسب ذلك ، وسببه أن الذي حلّ بباطنه ليس بالرقة المذكورة أولا ، بل هو الطرب الذي يناسب الغناء ، لأن الرقة ضد القسوة ـ كما تقدم ـ والطرب ضد الخشوع ـ كما يقوله الصوفية ـ والطرب مناسب للحركة ، لأنه ثوران الطباع ، ولذلك اشترك فيه مع الإنسان الحيوان ، كالإبل والنحل ، ومن لا عقل له من الأطفال ، وغير ذلك ، والخشوع ضده ، لأنه راجع إلى السكون ، وقد فسر به لغة ، كما فسر الطرب بأنه خفة تصحب الإنسان من حزن أو سرور.

قال الشاعر :

طرب الواله أو كالمختبل

والتطريب مدّ الصوت وتحسينه.

وبيان أن الشعر المغنى به قد اشتمل على أمرين :

أحدهما : ما فيه من الحكمة والموعظة ، وهذا مختص بالقلوب ، ففيها تعمل بها تنفعل ، ومن هذه الجهة ينسب السماع إلى الأرواح.

والثاني : ما فيه من النغمات المرتبة على النسب التلحينية ، وهو المؤثر في الطبائع ، فيهيجها إلى ما يناسبها ، وهي الحركات على اختلافها ، فكل تأثر في القلب من جهة السماع تحصل عنه آثار الكون والخضوع فهو رقة ، وهو التواجد الذي أشار إليه كلام المجيب ـ ولا شك أنه محمود ـ وكل تأثر يحصل عنه ضد السكون ، فهو طرب لا رقة فيه ولا تواجد ، ولا هو عند شيوخ الصوفية محمود ، لكن هؤلاء الفقراء ليس لهم من التواجد ـ في الغالب ـ إلا الثاني المذموم ، فهو إذا متواجدون بالنغم واللحون ، لا يدركون من معاني الحكمة شيئا ، فقد باءوا إذا بأخسر الصفقتين ، نعوذ بالله ، وإنما جاءهم الغلط من جهة اختلاط المناطين عليهم ، ومن جهة أنهم استدلوا بغيره ، فقوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) (١) وقوله : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ

__________________

(١) سورة : الذاريات ، الآية : ٥٠.

٢٢٩

الْفِرارُ) (١) لا دليل فيه على هذا المعنى ، وكذلك قوله تعالى : (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا) (٢) أين فيه أنهم قاموا يرقصون ، أو يزفنون ، أو يدورون على أقدامهم؟ ونحو ذلك ، فهو من الاستدلال الداخل تحت هذا الجواب.

ووقع في كلام المجيب لفظ السماع غير مفسر ، ففهم منه المحتج أنه الغناء الذي تستعمله شيعته ، وهو فهم عموم الناس ، لا فهم الصوفية ، فإنه عندهم يطلق على كل صوت أفاد حكمة يخضع لها القلب ، ويلين لها الجلد ، وهو الذي يتواجدون عنده التواجد المحمود ، فسماع القرآن عندهم سماع ، وكذلك سماع السنّة وكلام الحكماء والفضلاء حتى أصوات الطير وخرير الماء ، وصرير الباب ، ومنه سماع المنظوم أيضا إذا أعطى حكمة ، ولا يستمعون هذا الأخير إلا في الفرط ، وعلى غير استعداد وعلى غير وجه الالتذاذ والإطراب ، ولا هم ممن يداوم عليه أو يتخذه عادة ، لأن ذلك كله قادح في مقاصدهم التي بنوا عليها.

قال الجنيد : إذا رأيت المريد يحب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة ، وإنما لهم من سماعه إذا اتفق وجه الحكمة إن كان فيه حكمة ، فاستوى عندهم النظم والنثر ، وإن أطلق أحد منهم السماع ، فمن حيث فهم الحكمة لا من حيث يلائم الطباع لأن من سمعه من حيث يستحسنه فهو متعرض للفتنة فيصير إلى ما صار إليه السماع الملذ المطرب.

ومن الدليل على أن السماع عندهم ما تقدم ، ما ذكر عن أبي عثمان المغربي أنه قال : من ادعى السماع ولم يسمع صوت الطير وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مفتر مبتدع. وقال الحصري : أيش أعمل بسماع ينقطع ممن يسمع منه؟ وينبغي أن يكون سماعك سماعا متصلا غير منقطع. وعن أحمد بن سالم قال : خدمت سهل بن عبد الله التستري سنين ، فما رأيته تغير عند سماع شيء يسمعه من الذكر أو القرآن أو غيره ، فلما كان في آخر عمره قرئ بين يديه : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) (٣) تغير وارتعد وكاد يسقط ، فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك فقال : يا حبيبي ضعفنا. وقال السلمي : دخلت على أبي عثمان المغربي وواحد يستقي الماء من البئر على بكرة ، فقال لي : يا أبا عبد الرحمن!

__________________

(١) سورة : الكهف ، الآية : ١٨.

(٢) سورة : الكهف ، الآية : ١٤.

(٣) سورة : الحديد ، الآية : ١٥.

٢٣٠

تدري إيش تقول هذه البكرة؟ فقلت : لا ، فقال : تقول الله.

فهذه الحكايات وأشباهها تدل على أن السماع عندهم كما تقدم ، وأنهم لا يؤثرون سماع الأشعار على غيرها فضلا على أن يتصنعوا فيها بالأغاني المطربة ، ولما طال الزمان وبعدوا عن أحوال السلف الصالح ، أخذ الهوى في التفريع في السماع حتى صار يستعمل منه المصنوع على قانون الألحان ، فتعشقت به الطباع ، وكثر العمل به ودام ـ وإن كان قصدهم به الراحة فقط ـ فصار قذى في طريق سلوكهم فرجعوا به القهقرى ، ثم طال الأمد حتى اعتقده الجهال في هذا الزمان وما قاربه أنه قربة ، وجزء أجزاء طريقة التصوف ، وهو الأدهى.

وقول المجيب : وأما من دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته وله في دعوته قصد مطابق حسب ما ذكر أولا ، بأن من دعا قوما إلى منزله لتعلم آية أو سورة من كتاب الله ، أو سنّة من سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو مذاكرة في علم أو في نعم الله ، أو مؤانسة في شعر فيه حكمة ليس فيه غناء مكروه ولا صحبه شطح ولا زفن ولا صياح ، وغير ذلك من المنكرات ، ثم ألقى إليهم شيئا من الطعام على غير وجه التكلف والمباهاة ، ولم يقصد بذلك بدعة ، ولا امتيازا لفرقة تخرج بأفعالها وأقوالها عن السنة فلا شك في استحسان ذلك ، لأنه داخل في حكم المأدبة المقصود بها حسن العشرة بين الجيران والإخوان ، والتودد بين الأصحاب ، وهي في حكم الاستحباب ، فإن كان فيها تذاكر في علم أو نحوه ، فهي من باب التعاون على الخير.

ومثاله ما يحكى عن محمد بن حنيف ، قال : دخلت يوما على القاضي علي بن أحمد ، فقال لي : يا أبا عبد الله! قلت : لبيك أيها القاضي ، قال : هاهنا أحكي لكم حكاية تحتاج أن تكتبها بماء الذهب ، فقلت : أيها القاضي! أما الذهب فلا أجده ، ولكني أكتبها بالحبر الجيد ، فقال : بلغني أنه قيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : أن الحارث المحاسبي يتكلم في علوم الصوفية ويحتج عليه بالآي ، فقال أحمد : أحب أن أسمع كلامه من حيث لا يعلم ، فقال أنا أجمعك معه ، فاتخذ دعوة ودعا الحارث وأصحابه ، ودعا أحمد ، فجلس بحيث يرى الحارث ، فحضرت الصلاة ، فتقدم وصلى بهم المغرب ، وأحضر الطعام ، فجعل يأكل ويتحدث معهم ، فقال أحمد : هذا من السنّة.

فلما فرغوا من الطعام وغسلوا أيديهم جلس الحارث وجلس أصحابه ، فقال : من أراد

٢٣١

منكم أن يسأل شيئا فليسأل ، فسئل عن الإخلاص ، وعن الرياء ، ومسائل كثيرة ، فاستشهد بالآي والحديث ، وأحمد يسمع لا ينكر شيئا من ذلك فلما مضى هديّ من الليل أمر الحارث قارئا يقرأ شيئا من القرآن على الحدو فقرأ ، فبكى بعضهم وانتحب آخرون ، ثم سكت القارئ ، فدعا الحارث بدعوات خفاف ، ثم قام إلى الصلاة ، فلما أصبحوا قال أحمد : قد كان بلغني أن هاهنا مجالس للذكر يجتمعون عليها ، فإن كان هذا من تلك المجالس فلا أنكر منها شيئا.

ففي هذه الحكاية أن أحوال الصوفية توزن بميزان الشرع ، وأن مجالس الذكر ليست ما زعم هؤلاء ، بل ما تقدم لنا ذكره ، وأما ما سوى ذلك مما اعتادوه فهو مما ينكر.

والحارث المحاسبي من كبار الصوفية المقتدى بهم فإذا ليس في كلام المجيب ما يتعلق به هؤلاء المتأخرون ، إذا باينوا المتقدمين من كل وجه ، وبالله التوفيق.

والأمثلة في الباب كثيرة لو تتبعت لخرجنا عن المقصود ، وإنما ذكرنا أمثلة تبين من استدلالاتهم الواهية ما يضاهيها ، وحاصلها الخروج في الاستدلال عن الطريق الذي أوضحه العلماء ، وبينه الأئمة ، وحصر أنواعه الراسخون في العلم.

ومن نظر إلى طريق أهل البدع في الاستدلالات عرف أنها لا تنضبط ، لأنها سيالة لا تقف عند حدّ ، وعلى كل وجه يصح لكل زائغ وكافر أن يستدل على زيغه وكفره حتى ينسب النحلة التي التزمها إلى الشريعة.

فقد رأينا وسمعنا عن بعض الكفار أنه استدل على كفره بآيات القرآن ، كما استدل بعض النصارى على تشريك عيسى بقوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (١) ، واستدل على أن الكفار من أهل الجنة بإطلاق قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٢) واستدل بعض اليهود على تفضيلهم علينا بقوله سبحانه : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ، وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ١٧١.

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٦٢.

٢٣٢

الْعالَمِينَ) (١) وبعض الحلولية استدل على قوله بقوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٢). والتناسخي استدل بقوله : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٣).

وكذلك كل من اتبع المتشابهات ، أو حرف المناطات ، أو حمّل الآيات ، ما لا تحمله عند السلف الصالح ، أو تمسك بالأحاديث الواهية ، أو أخذ الأدلة ببادئ الرأي ، له أن يستدل على كل فعل أو قول أو اعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث لا يفوز بذلك أصلا ، والدليل عليه استدلال كل فرقة شهرت بالبدعة على بدعتها بآية أو حديث من غير توقف ـ حسبما تقدم ذكره ـ وسيأتي له نظائر أيضا إن شاء الله.

فمن طلب خلاص نفسه تثبّت حتى يتضح له الطريق ، ومن تساهل رمته أيدي الهوى في معاطب لا مخلص له منها إلا ما شاء الله.

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٤٧.

(٢) سورة : ص ، الآية : ٧٢.

(٣) سورة : الانفطار ، الآية : ٨.

٢٣٣

٥ ـ باب : في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما

ولا بدّ قبل النظر في ذلك من تفسير البدعة الحقيقية والإضافية فنقول وبالله التوفيق :

إن البدعة الحقيقية : هي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنّة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل ، ولذلك سميت بدعة ـ كما تقدم ذكره ـ لأنها شيء مخترع على غير مثال سباق ، وإن كان المبتدع يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع ، إذ هو مدّع أنه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلة ، لكن تلك الدعوى غير صحيحة لا في نفس الأمر ولا بحسب الظاهر. أما بحسب نفس الأمر فبالعرض ، وأما بحسب الظاهر فإن أدلته شبه ليست بأدلّة إن ثبت أنه استدل ، وإلا فالأمر واضح.

وأما البدعة الإضافية : فهي التي لها شائبتان : إحداهما لها من الأدلة متعلق ، فلا تكون من تلك الجهة بدعة ، والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية ، فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية وهي «البدعة الإضافية» أي : أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنّة لأنها مستندة إلى دليل ، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل ، أو غير مستندة إلى شيء.

والفرق بينهما من جهة المعنى : أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم ، ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها ، مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة ، كما سنذكره إن شاء الله.

ثم نقول بعد هذا : إن الحقيقة لما كانت أكثر وأعم وأشهر في الناس ذكرا ، وافترقت الفرق وكان الناس شيعا ، وجرى من أمثلتها ما فيه الكفاية وهي أسبق في فهم العلماء ـ تركنا الكلام فيما يتعلق بها من الأحكام ، ومع ذلك فقلما تختص بحكم دون الإضافية ، بل هما معا

٢٣٤

يشتركان في أكثر الأحكام التي هي مقصود هذا الكتاب أن تشرح فيه ، بخلاف الإضافية ، فإن لها أحكاما خاصة وشرحا خاصا ـ وهو المقصود في هذا الباب إلا أن الإضافية أولا على ضربين : أحدهما يقرب من الحقيقية حتى تكاد البدعة تعد حقيقية ، والآخر يبعد منها حتى يكاد يعد سنّة محضة.

ولما انقسمت هذا الانقسام صار من الأكيد الكلام على كل قسم على حدته ، فلنعقد في كل واحد منهما فصولا بحسب ما يقتضيه الوقت ، وبالله التوفيق.

فصل

قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه‌السلام ومن اتبعه : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (١).

فخرّج عبد الله بن حميد وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل تدري أي الناس أعلم؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس ، وإن كان مقصرا في العمل ، وإن كان يزحف على أليتيه ، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرها ، فرقة آذت الملوك وقاتلتهم على دين الله ـ ودين عيسى ابن مريم عليهما‌السلام ـ فساحوا في الجبال وترهبوا فيها ، هم الذين قال الله عزوجل فيهم : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) ، فالمؤمنون الذين آمنوا بي وصدقوا بي والفاسقون الذين كذبوا وجحدوا» (٢) ، وهذا الحديث من أحاديث الكوفيين ، والرهبانية فيه بمعنى اعتزال الخلق في السياحة واطّراح الدنيا ولذاتها من النساء وغير ذلك ، ومنه لزوم الصوامع والديارة ـ على ما كان عليه أمر النصارى قبل الإسلام ـ

__________________

(١) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.

(٢) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (الحديث : ٩٥١٠).

٢٣٥

مع التزام العبادة ، وعلى هذا التفسير جماعة من المفسرين.

ويحتمل أن يكون الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) متصلا ومنفصلا فإذا بنينا على الاتصال فكأنه يقول : ما كتبناها عليهم إلا على هذا الوجه الذي هو العمل ابتغاء رضوان الله ، فالمعنى أنها مما كتبت عليهم ـ أي : مما شرعت لهم ـ لكن بشرط قصد الرضوان ، فما رعوها حق رعايتها ، بدليل أنهم تركوا رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول طائفة من المفسرين لأن قصد الرضوان إذا كان شرطا في العمل بما شرع لهم ، فمن حقهم أن يتبعوا ذلك القصد فإلى أين سار بهم ساروا ، وإنما شرع لهم على شرط أنه إذا نسخ بغيره رجعوا إلى ما أحكم وتركوا ما نسخ ، وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة ، فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول كان ذلك اتّباعا للهوى لا اتباعا للمشروع ، واتباع المشروع هو الذي يحصل به الرضوان ، وقصد الرضوان بذلك.

قال تعالى : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (١) ، فالذين آمنوا هم الذين اتبعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله ، والفاسقون هم الخارجون عن الدخول فيها بشرطها إذ لم يؤمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إلا أن هذا التقرير يقتضي أن المشروع لهم يسمى ابتداعا ، وهو خلاف ما دلّ عليه حد البدعة.

والجواب : أنه يسمى بدعة من حيث أخلوا بشرط المشروع ، إذ شرط عليهم فلم يقوموا به ، وإذا كانت العبادة مشروطة بشرط فيعمل بها دون شرطها لم تكن عبادة على وجهها وصارت بدعة ، كالمخل قصدا بشرط من شروط الصلاة ، مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيرها ، فحيث عرف بذلك وعلمه فلم يلتزمه ودأب على الصلاة دون شرطها فذلك العمل من قبيل البدع ، فيكون ترهب النصارى صحيحا قبل بعث محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بعث وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته ، فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع ، وهو عين البدعة.

__________________

(١) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.

٢٣٦

وإذا بنينا على أن الاستثناء منقطع ـ وهو قول فريق من المفسرين ـ فالمعنى : ما كتبناها عليهم أصلا ، ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، فلم يعملوا بها بشرطها ، وهو الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ بعث إلى الناس كافة.

وإنما سميت بدعة على هذا الوجه لأمرين :

أحدهما : يرجع إلى أنها بدعة حقيقية ـ كما تقدم ـ لأنها داخلة تحت حد البدعة.

والثاني : يرجع إلى أنها بدعة إضافية ، لأن ظاهر القرآن دلّ على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق ، بل لأنهم أخلوا بشرطها ، فمن لم يخل منهم بشرطها وعمل بها قبل بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصل له فيها أجر ، حسبما دلّ عليه قوله : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) (١) ، أي : أن من عمل بها في وقتها ثم آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بعثه وفّيناه أجره.

وإنما قلنا : إنها في هذا الوجه إضافية ، لأنها لو كانت حقيقية لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه ، لأن هذا حقيقة البدعة ، فلم يكن لهم بها أجر ، بل كانوا يستحقون العقاب لمخالفتهم لأوامر الله ونواهيه ، فدل على أنهم فعلوا ما كان جائزا لهم فعله ، فلا تكون بدعتهم حقيقية ، ولكنه ينظر على أي معنى أطلق عليها لفظ البدعة وسيأتي بعد بحول الله.

وعلى كل تقدير فهذا القول لا يتعلق بهذه الأمة منه حكم ، لأنه نسخ في شريعتنا فلا رهبانية في الإسلام ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رغب عن سنتي فليس مني» (٢).

على أن ابن العربي نقل في الآية أربعة أقوال : الأول ما تقدم ، والثاني أن الرهبانية رفض النساء ، وهو المنسوخ في شرعنا ، والثالث اتخاذ الصوامع للعزلة ، والرابع السياحة ، قال : وهو مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان.

وظاهره يقتضي أنها بدعة ، لأن الذين ترهبوا قبل الإسلام إنما فعلوا ذلك فرارا منهم

__________________

(١) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٢٩ ، الحاشية : ٢.

٢٣٧

بدينهم ، وسميت بدعة. والندب إليها يقتضي أن لا ابتداع فيها ، فكيف يجتمعان؟ ولكن للمسألة بيان فقد يذكر بحول الله.

وقيل : إن معنى قوله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) إنهم تركوا الحق ، وأكلوا لحوم الخنازير ، وشربوا الخمر ، ولم يغتسلوا من جنابة ، وتركوا الختان (فَما رَعَوْها) يعني : الطاعة والملة (حَقَّ رِعايَتِها) فالهاء راجعة إلى غير مذكور ، وهو الملة المفهوم معناها من قوله : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (١) ، لأنه يفهم منه أن ثم ملة متبعة ، كما دل قوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِ) (٢) ، على الشمس حتى عاد عليها الضمير في قوله تعالى : (تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (٣) ، وكان المعنى على هذا القول : ما كتبناها عليهم على هذا الوجه الذي فعلوه ، وإنما أمرناهم بالحق ، فالبدعة فيه إذا حقيقية لا إضافية ، وعلى كل تقدير ، فهذا الوجه هو الذي قال به أكثر العلماء ، فلا نظر فيه بالنسبة إلى هذه الأمة.

وخرّج سعيد بن منصور وإسماعيل القاضي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال : أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فإن أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) الآية.

وفي رواية : فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة ابتغاء رضوان الله ، فلم يرعوها حق رعايتها ، فعاتبهم الله بتركها ، وتلا هذه الآية : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) الآية.

وهذا القول يقرب من قول بعض المفسرين في قوله : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (٤) ، يريد أنهم قصروا فيها ولم يدوموا عليها.

قال بعض نقلة التفسير : وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل ، وأن يرعوه حق رعايته.

__________________

(١) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.

(٢) سورة : ص ، الآية : ٣١.

(٣) سورة : ص ، الآية : ٣٢.

(٤) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.

٢٣٨

قال ابن العربي ـ وقد زاغ عن منهج الصواب ـ من يظن أنها رهبانية كتبت عليهم بعد أن التزموها. قال : وليس يخرج هذا عن مضمون الكلام ، ولا يعطيه أسلوبه ولا معناه ، ولا يكتب على أحد شيء إلا بشرع أو نذر. قال : وليس في هذا اختلاف بين أهل الملل ، والله أعلم.

وهذا القول محتاج إلى النظر والتأمل إذا بنينا العمل على وفقه ، إذ أكثر العلماء على القول الأول ، فإن هذه الملة لا بدعة فيها ولا تحتمل القول بجواز الابتداع بحال للقطع بالدليل ؛ إذ كل بدعة ضلالة ـ حسبما تقدم ـ فالأصل أن يتبع الدليل ولا عمل على خلافه.

ومع ذلك فلا نخلي ـ بحول الله ـ قول أبي أمامة رضي الله عنه من نظر صحيح على وفق الدليل الشرعي ، وإن كان فيه بعد بالنسبة إلى ظاهر الأمر ، وذلك أنه عد عمل عمر رضي الله عنه في جمع الناس في المسجد على قارئ واحد في رمضان بدعة لقوله حين دخل المسجد وهم يصلون : نعمت البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل.

وقد مرّ أنه إنما سماها باعتبار ما ، وأن قيام الإمام بالناس في المسجد في رمضان سنّة ، عمل بها صاحب السنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما تركها خوفا من الافتراض ، فلما انقضى زمن الوحي زالت العلة فعاد العمل بها إلى نصابه إلا أن ذلك لم يتأتّ لأبي بكر رضي الله عنه زمان خلافته ، لمعارضة ما هو أولى بالنظر فيه ؛ وكذلك صدر خلافة عمر رضي الله عنه ، حتى تأتّى النظر فوقع منه ، لكنه صار في ظاهر الأمر كأنه أمر لم يجر به عمل من تقدمه دائما ، فسماه بذلك الاسم ، لا أنه أمر على خلاف ما ثبت من السنّة.

فكأن أبا أمامة رضي الله عنه ، اعتبر فيه نظر ذلك العمل به فسماه إحداثا ، موافقة لتسمية عمر رضي الله عنه ، ثم أمر بالمداومة عليه بناء على ما فهم من هذه الآية من أن ترك الرعاية هو ترك دوامهم على التزام عمل ليس بمكتوب بل هو مندوب ، فلم يوفوا بمقتضى ما التزموه ، لأن الأخذ في التطوعات غير اللازمة ، ولا السنن الراتبة ، يقع على وجهين :

أحدهما : أن تؤخذ على أصلها فيما استطاع الإنسان ، فتارة ينشط لها وتارة لا ينشط ، أو يمكنه تارة بحسب العادة ولا يمكنه أخرى لمزاحمة أشغال ونحوها ، وما أشبه ذلك ، كالرجل يكون له اليوم ما يتصدق به فيتصدق ولا يكون له ذلك غدا ، أو يكون له إلا أنه لا ينشط للعطاء ، أو يرى إمساكه أصلح في عادته الجارية له ، أو غير ذلك من الأمور الطارئة

٢٣٩

للإنسان. فهذا الوجه لا حرج على أحد ترك التطوعات كلها فيه ولا لوم عليه ، إذ لو كان ثمّ لوم أو عتب لم يكن تطوعا ، وهو خلاف الفرض.

والثاني : أن تؤخذ مأخذ الملتزمات ، كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبة من عمل صالح في وقت من الأوقات ، كالتزام قيام حظ من الليل مثلا ، وصيام يوم بعينه لفضل ثبت فيه على الخصوص ، كعاشوراء وعرفة ، أو يتخذ وظيفة من ذكر الله بالغداة والعشي ، وما أشبه ذلك. فهذا الوجه أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه ، لأنه لما نوى الدءوب عليها في الاستطاعة ، أشبهت الواجبات والسنن الراتبة ، كما أنه لو كان ذلك الإيجاب غير لازم بالشرع لم يصر واجبا إذ تركه أصلا لا حرج فيه في الجملة ، أعني : ترك الالتزام ، ونظيره عندنا النوافل الراتبة بعد الصلوات فإنها مستحبة في الأصل ، ومن حيث صارت رواتب أشبهت السنن والواجبات.

وهذا المعنى هو المفهوم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الركعتين بعد العصر حين صلاهما فسئل عنهما فقال : «يا ابنة أبي أمية! سألت عن الركعتين بعد العصر؟ أتى ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان» (١) لأنه سئل عن صلاته لهما بعد ما نهى عنهما ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة ، فلما فاتتاه صلاهما بعد وقتهما كالقضاء لهما حسبما يقضي الواجب.

فصار حينئذ لهذا النوع حالة من التطوع بين حالتين ، إلا أنه راجع إلى خيرة المكلف ، بحسب ما فهمنا من الشرع ، وإذا كان كذلك فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضا الأخذ بالرفق والتيسير ، وأن لا يلزم المكلف ما لعله يعجز عنه ، أو يحرج بالتزامه ، فإن ترك الالتزام إن لم يبلغ مبلغ القدر الذي يكره ابتداء ، فهو يقرب من العهد الذي يجعله الإنسان بينه وبين ربّه ، والوفاء بالعهد مطلوب في الجملة ، فصار الإخلال به مكروها.

والدليل على صحة الأخذ بالرفق ، وأنه الأولى والأحرى ـ وإن كان الدوام على العمل أيضا مطلوبا عتيدا ـ في الكتاب والسنّة (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ

__________________

(١) عزاه في جمع الفوائد (١ / ٢٩٩) للشيخين وأبي داود والنسائي.

٢٤٠