الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

المحدثات ، كسائر ما أحدثوا في البيوع الجارية بينهم المبنية على الخطر والغرر.

وكانت الجاهلية قد شرعت أيضا أشياء في الأموال كالحظوظ التي كانوا يخرجونها للأمير من الغنيمة ، حتى قال شاعرهم :

لك المرباع فيها والصفايا

وحكمك والنشيطة والفضول

فالمرباع : ربع المغنم يأخذه الرئيس. والصفايا : جمع صفي. وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه من المغنم. والنشيطة : ما يغنمه الغزاة في الطريق ، قبل بلوغهم إلى الموضع الذي قصدوه ، فكان يختص به الرئيس دون غيره. والفضول : ما يفضل من الغنيمة عند القسمة.

وكانت تتخذ الأرضين تحميها عن الناس أن لا يدخلوها ولا يرعوها ، فلما نزل القرآن بقسمة الغنيمة في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) (١) الآية ، ارتفع حكم هذه البدعة إلا بعض من جرى في الإسلام على حكم الجاهلية ، فعمل بأحكام الشيطان ، ولم يستقم على العمل بأحكام الله تعالى.

وكذلك جاء في الحديث : «لا حمى إلا حمى الله ورسوله» (٢) ثم جرى بعض الناس ممن آثر الدنيا على طاعة الله ، على سبيل حكم الجاهلية (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٣) ولكن الآية والحديث وما كان في معناهما أثبت أصلا في الشريعة مطردا لا ينخرم ، وعامّا لا يتخصص ، ومطلقا لا يتقيد ، وهو أن الصغير من المكلفين والكبير ، والشريف والدنيء ، والرفيع والوضيع في أحكام الشريعة سواء ، فكل من خرج عن مقتضى هذا الأصل خرج من السنّة إلى البدعة ، ومن الاستقامة إلى الاعوجاج.

__________________

(١) سورة : الأنفال ، الآية : ٤١.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الحرث والمزارعة ، باب : لا حمى إلا لله تعالى ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرجه في كتاب : الجهاد ، باب : أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري (الأحاديث : ٥ / ٣٤ ، ٣٥). وأخرجه أبو داود في كتاب : الخراج والإمارة ، باب : في الأرض يحميها الإمام أو الرجل (الأحاديث : ٣٠٨٣ ، ٣٠٨٤).

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٥٠.

٣٤١

وتحت هذا الرمز تفاصيل عظيمة الموقع ، لعلها تذكر فيما بعد إن شاء الله ، وقد أشير إلى جملة منها.

فصل

إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهي على رتبة واحدة ، وأن منها ما هو مكروه ، كما أن منها ما هو محرم ، فوصف الضلالة لازم لها وشامل لأنواعها لما ثبت من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل بدعة ضلالة» (١).

لكن يبقى هاهنا إشكال ، وهو أن الضلالة ضد الهدى لقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) (٢) ، وقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣) (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) (٤) وأشباه ذلك مما قوبل فيه بين الهدى والضلال ، فإنه يقتضي أنهما ضدان وليس بينهما واسطة تعتبر في الشرع ، فدل على أن البدع المكروهة خروج عن الهدى.

ونظيره في المخالفات التي ليست ببدع ، المكروهة من الأفعال ، كالالتفات اليسير في الصلاة من غير حاجة ، والصلاة وهو يدافعه الأخبثان وما أشبه ذلك.

ونظيره في الحديث : «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يحرم علينا» (٥) فالمرتكب للمكروه لا يصح أن يقال فيه مخالف ولا عاص ، مع أن الطاعة ضدها المعصية ، وفاعل المندوب مطيع لأنه فاعل ما أمر به ، فإذا اعتبرت الضد لزم أن يكون فاعل المكروه عاصيا لأنه فاعل ما نهي عنه ، لكن ذلك غير صحيح ، إذ لا يطلق عليه عاص ، فكذلك لا يكون فاعل البدعة

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٣١ ، الحاشية : ١.

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ١٧٥.

(٣) سورة : الزمر ، الآية : ٢٣.

(٤) سورة : الزمر ، الآية : ٣٧.

(٥) أخرجه البخاري في كتاب : الجنائز ، باب : اتباع النساء الجنازة (الحديث : ٣ / ١١٥). وأخرجه أبو داود في كتاب : الجنائز ، باب : اتباع النساء الجنائز (الحديث : ٣١٦٧).

٣٤٢

المكروهة ضالا ، وإلّا فلا فرق بين اعتبار الضد في الطاعة واعتباره في الهدى ، فكما يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة فكذلك يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية ، وإلّا فلا يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة ، كما لا يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية.

إلا أنه قد تقدم عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ، فليعم لفظ المعصية لكل فعل مكروه ، لكن هذا باطل ، فلما لزم عنه كذلك.

والجواب : أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ثابت ـ كما تقدم بسطه ـ وما التزمتم في الفعل المكروه غير لازم ، فإنه لا يلزم في الأفعال أن تجري على الضدية المذكورة إلا بعد استقراء الشرع ، ولما استقرينا موارد الأحكام الشرعية وجدنا للطاعة والمعصية واسطة متفقا عليها أم كالمتفق عليها وهي المباح ، وحقيقته أنه ليس بطاعة من حيث هو مباح.

فالأمر والنهي ضدان بينهما واسطة لا يتعلق بها أمر ولا نهي ، وإنما يتعلق بها التخيير.

وإذا تأملنا المكروه ـ حسبما قرره الأصوليون ـ وجدناه ذا طرفين :

طرف من حيث هو منهيّ عنه : فيستوي مع المحرم في مطلق النهي ، فربما يتوهم أن مخالفة نهى الكراهية معصية من حيث اشترك مع المحرم في مطلق المخالفة.

غير أنه يصد عن هذا الإطلاق الطرف الآخر ، وهو أن يعتبر من حيث لا يترتب على فاعله ذم شرعي ولا إثم ولا عقاب ، فخالف المحرم من هذا الوجه وشارك المباح فيه ، لأن المباح لا ذم على فاعله ولا إثم ولا عقاب ، فتحاموا أن يطلقوا على ما هذا شأنه عبارة المعصية.

وإذا ثبت هذا ووجدنا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أن ينسب إليها المكروه من البدع ، وقد قال الله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) (١) فليس إلا حقّ ، وهو الهدى ، وضلال وهو الباطل ، فالبدع المكروهة ضلال.

__________________

(١) سورة : يونس ، الآية : ٣٢.

٣٤٣

وأما ثانيا : فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه ، فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض البدع ، وإنما حقيقة المسألة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة ، فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص.

أما الشرع ، ففيه ما يدل على خلاف ذلك ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ على من قال : أما أنا فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا فلا أنكح النساء إلى آخر ما قالوا ، فردّ عليهم ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «من رغب عن سنتي فليس مني» (١).

وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار ، ولم يكن ما التزموا إلّا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر ، وكذلك ما في الحديث أنه عليه‌السلام رأى رجلا قائما في الشمس فقال : «ما بال هذا؟» قالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مره فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صومه» (٢) قال مالك : أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة ، ويترك ما كان عليه فيه معصية.

ويعضد هذا الذي قاله مالك ما في البخاري عن قيس بن أبي حازم ، قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على امرأة من قيس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم ، فقال : «ما لها؟» فقال حجة مصمتة قال لها : «تكلمي ، فإن هذا لا يحل ، هذا من عمل الجاهلية» (٣) فتكلمت الحديث الخ.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : النكاح ، باب : الترغيب في النكاح (الحديث : ١١ / ٤). وأخرجه مسلم في كتاب : النكاح ، باب : استحباب النكاح (الحديث : ١٤٠١). وأخرجه النسائي في كتاب : النكاح ، باب : النهي عن التبتل (الحديث : ٦ / ٦٠).

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : النذر فيما لا يملك وفي معصية (الحديث : ١١ / ٥١٢). وأخرجه في الموطأ في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : ما لا يجوز من النذور في معصية الله (الحديث : ٢ / ٤٧٥). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : ما جاء في النذر في المعصية (الحديث : ٣٣٠٥).

(٣) ذكر نحوه في جمع الفوائد قال : حديث صالح سكت عنه أبو داود وابن حجر ، وهو من طريق عمرو بن شعيب ، ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب فهو منقطع ، كذا في نيل الأوطار (٨ / ٢٥٢).

٣٤٤

وقال مالك أيضا في قوله عليه الصلاة والسلام : «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (١) إن ذلك أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام وإلى مصر وأشباه ذلك مما ليس فيه طاعة ، أو أن لا أكلم فلانا ، فليس عليه في ذلك شيء إن هو كلمه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة ، وإنما يوفي لله بكل نذر فيه طاعة من مشي إلى بيت الله أو صيام أو صدقة أو صلاة ، فكل ما لله فيه طاعة فهو واجب على من نذره.

فتأمل كيف جعل القيام في الشمس وترك الكلام ونذر المشي إلى الشام أو مصر معاصي ، حتى فسر فيها الحديث المشهور ، مع أنها في أنفسها أشياء مباحات ، لكنه لما أجراها مجرى ما يتشرع به ويدان لله به صارت عند مالك معاصي لله ، وكلّيّة قوله : «كل بدعة ضلالة» (٢) شاهدة لهذا المعنى ، والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد ، وهي خاصية المحرم.

وقد مرّ ما روى الزبير بن بكار وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله! من أين أحرم؟ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد ، فقال : لا تفعل ، قال : إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر ، قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة ، قال : وأي فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها ، قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ إني سمعت الله تعالى يقول : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣).

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : النذر في المعصية (الحديث : ١١ / ٥٠٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : من نذر أن يطيع الله فليطعه (الحديث : ٣٢٨٩). وأخرجه الترمذي في كتاب : النذور ، باب : من نذر أن يطيع الله فليطعه (الحديث : ١٥٢٦). وأخرجه النسائي في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : النذر في المعصية (الحديث : ٧ / ١٧).

(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٣١ ، الحاشية : ١.

(٣) سورة : النور ، الآية : ٦٣.

٣٤٥

فأنت ترى أنه خشي عليه الفتنة في الإحرام من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه ، وهو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموضع قبره ، لكنه أبعد من الميقات فهو زيادة في التعب قصدا لرضا الله ورسوله ، فبين أن ما استسهله من ذلك الأمر اليسير في بادئ الرأي يخاف على صاحبه الفتنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ، واستدل بالآية. فكل ما كان مثل ذلك داخل ـ عند مالك ـ في معنى الآية ؛ فأين كراهية التنزيه في هذه الأمور التي يظهر بأول النظر أنها سهلة ويسيرة؟

وقال ابن حبيب : أخبرني ابن الماجشون أنه سمع مالكا يقول : التثويب ضلال. قال مالك : ومن أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خان الدين ، لأن الله تعالى يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) فما لم يكن يومئذ دينا ، لا يكون اليوم دينا.

وإنما التثويب الذي كرهه أن المؤذن كان إذا أذّن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، وهو قول إسحاق بن راهويه أنه التثويب المحدث.

قال الترمذي لما نقل عن سحنون : وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي قد كرهه أهل العلم ، والذي أحدثوه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا اعتبر هذا اللفظ في نفسه فكل أحد يستسهله في بادئ الرأي إذ ليس فيه زيادة على التذكير بالصلاة.

وقصة صبيغ العراقي ظاهرة في هذا المعنى ، فحكى ابن وهب قال : حدثنا مالك بن أنس قال : جعل صبيغ يطوف بكتاب الله معه ، ويقول : من يتفقه يفقهه الله ، من يتعلم يعلمه الله ؛ فأخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فضربه بالجريد الرطب ، ثم سجنه حتى إذا خف الذي به أخرجه فضربه ، فقال : يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فأجهز عليّ ، وإلّا فقد شفيتني شفاك الله فخلّاه عمر.

قال ابن وهب : قال مالك ، وقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغا حين بلغه ما يسأل عنه من القرآن وغير ذلك اه.

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣.

٣٤٦

وهذا الضرب إنما كان لسؤاله عن أمور من القرآن لا ينبني عليها عمل وربما نقل عنه أنه كان يسأل عن السابحات سبحا ، والمرسلات عرفا وأشباه ذلك ، والضرب إنما يكون لجناية أربت على كراهية التنزيه ، إذ لا يستباح دم امرئ مسلم ، ولا عرضه بمكروه كراهية تنزيه ، ضربه إياه خوف الابتداع في الدين أن يشتغل منه بما لا ينبني عليه عمل ، وأن يكون ذلك ذريعة ، لئلا يبحث عن المتشابهات القرآنية ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) (١) قال : هذه الفاكهة ، فما الأبّ! ثم قال : ما أمرنا بهذا.

وفي رواية : نهينا عن التكلف.

وجاء في قصة صبيغ من رواية ابن وهب عن الليث أنه ضربه مرتين ثم أراد أن يضربه الثالثة فقال له صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا ، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت ، فأذن له إلى أرضه ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن لا يجالسه أحد من المسلمين ، فاشتد ذلك على الرجل ، فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت سيئته ، فكتب إليه عمر أن يأذن للناس بمجالسته ، والشواهد في هذا المعنى كثيرة ، وهي تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) (٢).

وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط ، وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبلتين ، فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط ، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع ، وأشباه ذلك.

وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحا أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام ، ويتحامون هذه العبارة خوفا مما في الآية من قوله : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (٣) وحكى

__________________

(١) سورة : عبس ، الآية : ٣١.

(٢) سورة : النور ، الآية : ١٥.

(٣) سورة : النحل ، الآية : ١١٦.

٣٤٧

مالك عمن تقدمه هذا المعنى ، فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها : أكره هذا ، ولا أحب هذا ، وهذا مكروه ، وما أشبه ذلك ، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط ، فإنه إذا دلّ الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه؟ اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل في الشرع ، ولكن يعارضه أمر آخر معتبر في الشرع فيكره لأجله ، لا لأنه بدعة مكروهة ، على تفصيل يذكر في موضعه.

وأما ثالثا : فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة ـ دقت أو جلت ـ وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة ، وبيان ذلك من أوجه.

أحدها : أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلا على العفو اللازم فيه ، ورفع الحرج الثابت في الشريعة ، فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب ، وأيضا فليس عقده الإيماني بمتزحزح ، لأنه يعتقد المكروه مكروها كما يعتقد الحرام حراما وإن ارتكبه ، فهو يخاف الله ويرجوه ، والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان.

فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل ، وأن نفسه الأمارة زيّنت له الدخول فيه ويود لو لم يفعل ، وأيضا فلا يزال ـ إذا تذكر ـ منكسر القلب طامعا في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا.

ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال ، فإنه يعد ما دخل فيه حسنا ، بل يراه أولى بما حدّ له الشارع ، فأين مع هذا خوفه أو رجاؤه؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلا ، ونحلته أولى بالاتباع ، هذا وإن كان زعمه شبهة عرضت فقد شهد الشرع بالآيات والأحاديث أنه متبع للهوى ، وسيأتي لذلك تقرير إن شاء الله.

وقد مرّ في أول الباب الثاني تقرير لجملة من المعاني التي تعظم أمر البدع على الإطلاق ، وكذلك مرّ في آخر الباب أيضا أمور ظاهرة في بعد ما بينهما وبين كراهية التنزيه فراجعها هنالك يتبين لك مصداق من أشير إليه هاهنا ، وبالله التوفيق.

والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس.

فصل

إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر : وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو

٣٤٨

صغيرة وإلى ما هو كبيرة ـ حسبما تبين في علم الأصول الدينية ـ فكذلك يقال في البدع المحرمة : إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتبارا بتفاوت درجاتها ـ كما تقدم ـ وهذا على القول بأن المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة. ولقد اختلفوا في الفرق بينهما على أوجه وجميع ما قالوه لعله لا يوفي بذلك المقصود على الكمال فلنترك التفريع عليه.

وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر في كتاب (الموافقات) أن الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة ، وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال ، وكل ما نص عليه راجع إليها ، وما لم ينص عليه جرت في الاعتبار والنظر مجراها ، وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو في معناه.

فكذلك نقول في كبائر البدع : ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة ، وما لا ، فهي صغيرة ، وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب. فكما انحصرت كبائر المعاصي أحسن انحصار ـ حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب ـ كذلك تنحصر كبائر البدع أيضا ، وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلص عنه في إثبات الصغائر فيها ، وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما أصلا وإما فرعا ، لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو نقصانا منه أو تغييرا لقوا فيه ، أو ما يرجع إلى ذلك وليس ذلك بمختص بالعبادات دون العادات ، إن قلنا بدخولها في العادات ، بل تمنع في الجميع ، وإذا كانت بكليتها إخلالا بالدين فهي إذا إخلال بأول الضروريات وهو الدين ، وقد أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة ، وقال في الفرق : «كلها في النار إلا واحدة» (١) وهذا وعيد أيضا للجميع على التفصيل.

هذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر ، كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب ، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة ، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة ، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان ، وكذلك سائرها مع الإخلال ؛ فكل منها كبيرة ، فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب : الإيمان ، باب : ما جاء في افتراق هذه الأمة (الحديث : ٢٦٤٣).

٣٤٩

ويجاب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكر ، ففي النظر ما يدل من جهة أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه :

أحدها : إنا نقول : الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال ، ولكنها على مراتب أدناها لا يسمى كبيرة ، فالقتل كبيرة ، وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة دونها ، وقطع عضو واحد كبيرة دونها ، وهلم جرا إلى أن تنتهي إلى اللطمة ، ثم إلى أقل خدش يتصور ، فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة ، كما قال العلماء في السرقة : إنها كبيرة لأنها إخلال بضرورة المال ، فإن كانت السرقة في لقمة أو تطفيف بحبة فقد عدوه من الصغائر ، وهذا في ضرورة الدين أيضا.

فقد جاء في بعض الأحاديث عن حذيفة رضي الله عنه قال : «أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ، ولتنقضن عرى الإيمان عروة عروة ، وليصلين نساؤهن حيض ـ ثم قال ـ حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس؟ لقد ضلّ من كان قبلنا ، إنما قال الله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) (١) لا تصلّنّ إلا ثلاثا ، وتقول أخرى : إنا لنؤمن بالله إيمان الملائكة ، ما فينا كافر ، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال» فهذا الأثر ـ وإن لم تلتزم عهدة صحته ـ مثال من أمثلة المسألة.

فقد نبه على أن في آخر الزمان من يرى أن الصلوات المفروضة ثلاث لا خمس ، وبيّن أن من النساء من يصلين وهن حيّض كأنه يعني بسبب التعمق وطلب الاحتياط بالوساوس الخارج عن السنّة ، فهذه مرتبة دون الأولى.

وحكى ابن حزم أن بعض الناس زعم أن الظهر خمس ركعات لا أربع ركعات ، ثم وقع في العتبية. قال ابن القاسم : وسمعت مالكا يقول : أول من أحدث الاعتماد في الصلاة ـ حتى لا يحرك رجليه ـ رجل قد عرف وسمّي إلّا أني لا أحب أن أذكره ، وقد كان مساء (أي : يساء الثناء عليه) قال : قد عيب ذلك عليه ، وهذا مكروه من الفعل ، قالوا : ومساء أي : يساء الثناء عليه.

__________________

(١) سورة : هود ، الآية : ١١٤.

٣٥٠

قال ابن رشد : جائز عند مالك أن يروّح الرجل قدميه في الصلاة ، قاله في (المدونة) وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى ، لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين ، وهو من محدثات الأمور. انتهى.

فمثل هذا ـ إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر ـ فيقال في مثله : إنه من كبار البدع. كما يقال : ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها ، بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنزيه ، وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين ، فمثله يتصور في سائر البدع المختلفة المراتب ، فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة.

والثاني : أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية ، ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليّا في الشريعة ، كبدعة التحسين والتقبيح العقليين ، وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارا على القرآن ، وبدعة الخوارج في قولهم : لا حكم إلا لله ، وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعا من فروع الشريعة دون فرع ، بل ستجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية ، أو يكون الخلل الواقع جزئيا إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك : التثوب ضلال وبدعة الأذان والإقامة في العيدين ، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين ، وما أشبه ذلك ، فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها ، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلا لها.

فالقسم الأول إذا عدّ من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن أن يكون منحصرا داخلا تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة ، ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنّة مخصوصا به لا عامّا فيه وفي غيره ، ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد ، فلا قطع على أن جميعها من واحد ، وقد ظهر وجه انقسامها.

والثالث : أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر ، ولا شك أن البدع من جملة المعاصي ـ على مقتضى الأدلة المتقدمة ـ ونوع من أنواعها ، فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضا ، ولا يخصص وجوها معتبرا لاستثني من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم ، قسم البدع ، فكانوا ينصون على أن المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر

٣٥١

والكبائر ، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء وأطلقوا القول بالانقسام ، فظهر أنه شامل لجميع أنواعها.

فإن قيل : إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقا ، وإنما يدل ذلك على أنها تتفاضل ، فمنها ثقيل وأثقل ومنها خفيف وأخف ، والخفة هل تنتهي إلى حد تعدّ البدعة فيه من قبيل اللمم؟ هذا فيه نظر ، وقد ظهر معنى الكبيرة والصغيرة في المعاصي غير البدع.

وأما في البدع فثبت لها أمران :

أحدهما : إنها مضادة للشارع ومراغمة له ، حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة ، لا نصب المكتفي بما حدّ له.

والثاني : إن كل بدعة ـ وإن قلّت ـ تشريع زائد أو ناقص ، أو تغيير للأصل الصحيح ، وكل ذلك قد يكون على الانفراد ، وقد يكون ملحقا بما هو مشروع ، فيكون قادحا في المشروع ، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدا لكفر ، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير ـ قلّ أو كثر ـ كفر ، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر ، فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالظ رآه ، أو ألحقه بالمشروع إذ لم تكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر ، لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل ولا بكثير.

ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء ، فالفرق بين بدعة جزئية وبدعة كلية ، وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثاني.

وأما الثالث : فلا حجة فيه لأن قوله عليه الصلاة والسلام : «كل بدعة ضلالة» (١) وما تقدم من كلام السلف يدل على عموم الذم فيها ، وظهر أنها مع المعاصي لا تنقسم ذلك الانقسام ، بل إنما ينقسم ما سواها من المعاصي. واعتبر بما تقدم ذكره في الباب الثاني يتبين لك عدم الفرق فيها ، وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير أن يقال : كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع ، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه ، فإذا نسب بعضها

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٣١ ، الحاشية : ١.

٣٥٢

إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار وكبار ، إما باعتبار أن بعضها أشد عقابا من بعض ، فالأشد عقابا أكبر مما دونه ، وإما باعتبار فوت المطلوب في المفسدة ، فكما انقسمت الطاعة باتباع السنّة إلى الفاضل والأفضل ، لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل ، انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل ، والصغر والكبر ، من باب النسب والإضافات ، فقد يكون الشيء كبيرا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه.

وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين لكن في انقسام المعاصي إلى الكبائر والصغائر فقال : المرضي عندنا أن كل ذنب كبير وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله ، ولذلك يقال : معصية الله أكبر من معصية العباد ، قولا مطلقا ، إلا وإن عظمت لما ذكرناه ، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها. ثم ذكر معنى ما تقدم ، ولم يوافقه غيره على ما قال وإن كان له وجه في النظر وقعت الإشارة إليه في كتاب (الموافقات). ولكن الظاهر يأبى ذلك ـ حسبما ذكره غيره من العلماء ـ والظواهر في البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها ـ حسبما تقدم ـ فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات ، كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من الواضحات.

فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه ، ولا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت ، بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدراك ، وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها ، بخلاف سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها ، بل صاحب المعصية متنصل منها ، مقر لله بمخالفته لحكمها.

وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة ، والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة ، ولذلك قال مالك بن أنس : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خان الرسالة ، لأن الله يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) إلى آخر الحكاية ، وقد تقدمت.

ومثلها جوابه لمن أراد أن يحرم من المدينة وقال : أي فتنة فيها؟ إنما هي أميال أزيدها ،

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣.

٣٥٣

فقال : وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلا قصر عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى آخر الحكاية ، وقد تقدمت أيضا ، فإذا يصح أن يكون في البدع ما هو صغيرة.

فالجواب : أن ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق في تشقيق هذه المسألة.

وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالما بكونها بدعة وأن يكون غير عالم بذلك ، وغير العالم بكونها بدعة على ضربين ، وهما المجتهد في استنباطها وتشريعها والمقلد له فيها ، وعلى كل تقدير فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه إذا حكمنا له بحكم أهل الإسلام ، لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو النقصان منه أو التحريف له ، فلا بد له من تأويل كقوله : «هي بدعة ولكنها مستحسنة» أو يقول : «إنها بدعة ولكني رأيت فلانا الفاضل يعمل بها» أو يقرّ بها ولكنه يفعلها لحظ عاجل ، كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفا على حظه ، أو فرارا من خوف على حظه ، أو فرارا من الاعتراض عليه في اتباع السنّة ، كما هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه ، وما أشبه ذلك.

وأما غير العالم وهو الواضع لها ، فإنه لا يمكن أن يعتقدها بدعة ، بل هي عنده مما يلحق بالمشروعات ، كقول من جعل يوم الاثنين يصام لأنه يوم مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل الثاني عشر من ربيع الأول ملحقا بأيام الأعياد لأنه عليه الصلاة والسلام ولد فيه ، وكمن عدّ السماع والغناء مما يتقرب به إلى الله بناء على أنه يجلب الأحوال السنية ، أو رغب في الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات دائما بناء على ما جاء في ذلك حالة الواحدة ، أو زاد في الشريعة أحاديث مكذوبة لينصر في زعمه سنّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما قيل له : إنك تكذب عليه وقد قال : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (١) قال : لم أكذب عليه وإنما كذبت له. أو نقص منها تأويلا عليها لقوله تعالى في ذم الكفار : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢) فأسقط اعتبار الأحاديث المنقولة بالآحاد لذلك ولما أشبه ، لأن خبر الواحد ظني ، فهذه كلها من قبل التأويل.

وأما المقلد فكذلك أيضا لأنه يقول : فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل ويثني عليه ،

__________________

(١) أخرجه مسلم في المقدمة ، باب : ٢ (الحديث : ٣).

(٢) سورة : النجم ، الآية : ٢٨.

٣٥٤

كاتخاذ الغناء جزءا من أجزاء طريقة التصوف بناء منهم على أن شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه ، ومنهم من مات بسببه ، وكتمزيق الثياب عند التواجد بالرقص وسواه لأنهم قد فعلوه ، وأكثر ما يقع مثل هذا في هؤلاء المنتمين إلى التصوف.

وربما احتجوا على بدعتهم بالجنيد والبسطامي والشبلي وغيرهم فيما صح عندهم أو لم يصح ، ويتركون أن يحتجوا بسنّة الله ورسوله وهي التي لا شائبة فيها إذا نقلها العدول وفسرها أهلها المكبون على فهمها وتعلمها ، ولكنهم مع ذلك لا يقرون بالخلاف للسنّة بحثا ، بل يدخلون تحت أذيال التأويل ، إذ لا يرضى منتم إلى الإسلام بإبداء صفحة الخلاف للسنّة أصلا.

وإذا كان كذلك فقول مالك : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خان الرسالة. وقوله لمن أراد أن يحرم من المدينة : أي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ إلى آخر الحكاية ، إنها إلزام للخصم على عادة أهل النظر ، كأنه يقول : يلزمك في هذا القول كذا ، لأنه يقول : قصدت إليه قصدا ، لأنه لا يقصد إلى ذلك مسلم ، ولازم المذهب ، هل هو مذهب أم لا؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول ، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضا : أن لازم المذهب ليس بمذهب ، فلذلك إذا قرر على الخصم أنكره غاية الإنكار ، فإذا اعتبار ذلك المعنى على التحقيق لا ينهض ، وعند ذلك تستوي البدعة مع المعصية صغائر وكبائر ، فكذلك البدع.

ثم إن البدع على ضربين : كلية وجزئية.

فأما الكلية : فهي السارية فيما لا ينحصر من فروع الشريعة ، ومثالها بدع الفرق الثلاث والسبعين ، فإنها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات ، حسبما يتبين بعد إن شاء الله.

وأما الجزئية : فهي الواقعة في الفروع الجزئية ، ولا يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تحت الوعيد بالنار ، وإن دخلت تحت الوصف بالضلال ، كما لا يتحقق ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبة ، وإن كان داخلا تحت وصف السرقة ، بل المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في السرقة ، فلا تكون تلك الأدلة واضحة الشمول لها ، ألا ترى أن خواص البدع غير ظاهرة في أهل البدع الجزئية غالبا؟ كالفرقة والخروج عن الجماعة ، وإنما تقع

٣٥٥

الجزئيات في الغالب كالزلة والفلتة ، ولذلك لا يكون اتباع الهوى فيها مع حصول التأويل في فرد من أفراد الفروع ، ولا المفسدة الحاصلة بالجزئية كالمفسدة الحاصلة بالكلية ، فعلى هذا إذا اجتمع في البدعة وصفان : كونها جزئية وكونها بالتأويل ، صح أن تكون صغيرة والله أعلم.

ومثاله مسألة من نذر أن يصوم قائما لا يجلس ، وضاحيا لا يستظل ، ومن حرّم على نفسه شيئا مما أحل الله من النوم أو لذيذ الطعام ، أو النساء أو الأكل بالنهار ، وما أشبه ذلك مما تقدم ذكره أو يأتي ، غير أن الكلية والجزئية قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية ، كما أن التأويل قد يقرب مأخذه وقد يبعد ، فيقع الإشكال في كثير من أمثلة هذا الفصل ، فيعد كبيرة ما هو من الصغائر وبالعكس ، فيوكل النظر فيه إلى الاجتهاد ا ه.

فصل

وإذا قلنا : إن من البدع ما يكون صغيرة فذلك بشروط :

أحدها : أن لا يداوم عليها ، فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه ، لأن ذلك ناشئ عن الإصرار عليها ، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ، ولذلك قالوا : لا صغيرة مع إصرار ، ولا كبيرة مع استغفار فكذلك البدعة من غير فرق ، إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قصد يصر عليها ، وقد لا يصر عليها ، وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة وسخطة الشاهد بها أو عدمه ، بخلاف البدعة فإن شأنها في المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها وأن تقوم على تاركها القيامة ، وتنطلق عليه ألسنة الملامة ، ويرمى بالتسفية والتجهيل ، وينبز بالتبديع والتضليل ، ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة ، والمقتدى بهم من الأئمة ، والدليل على ذلك الاعتبار والنقل ، فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنّة إن كان لهم عصبة ، أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ أوامره في الأقطار ، ومن طالع سير المتقدمين ، وجد من ذلك ما لا يخفى.

وأما النقل ، فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت لا تزيد إلا مضيّا ، وليست كذلك المعاصي ، فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله ، بل قد جاء ما يشد ذلك في حديث الفرق ، حيث جاء في بعض الروايات : «تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب

٣٥٦

بصاحبه» (١) ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له منها حسبما تقدم.

والشرط الثاني : أن لا يدعو إليها ، فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة ، ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه ، فإنه الذي أثارها ، وسبب كثرة وقوعها والعمل بها ؛ فإن الحديث الصحيح قد أثبت أن كل من سنّ سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، والصغيرة مع الكبيرة إنما تفاوتها بحسب كثرة الإثم وقلته ، فربما تساوي الصغيرة ـ من هذا الوجه ـ الكبيرة أو تربى عليها.

فمن حق المبتدع إذا ابتلي بالبدعة أن يقتصر على نفسه ، ولا يحمل مع وزره وزر غيره.

وفي هذا الوجه قد يتعذر الخروج ؛ فإن المعصية فيما بين العبد وربه يرجو فيها من التوبة والغفران ما يتعذر عليه مع الدعاء إليها ، وقد مرّ في باب ذم البدع وباقي الكلام في المسألة سيأتي إن شاء الله.

والشرط الثالث : أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس ، أو المواضع التي تقام فيها السنن ، وتظهر فيها أعلام الشريعة ؛ فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدى به أو بمن يحسن به الظن فذلك من أضر الأشياء على سنّة الإسلام ، فإنها لا تعدو أمرين : إما أن يقتدى بصاحبها فيها ، فإن العوام أتباع كل ناعق ؛ لا سيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس ، والتي للنفوس في تحسينها هوى ، وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه ، لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ، فعلى حسب كثرة الأتباع يعظم عليه الوزر.

وهذا بعينه موجود في صغائر المعاصي ، فإن العالم مثلا إذا أظهر المعصية ـ وإن صغرت ـ سهل على الناس ارتكابها ، فإن الجاهل يقول : لو كان هذا الفعل كما قال من أنه ذنب ، لم يرتكبه ، وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا ، فكذلك البدعة إذا أظهرها العالم المقتدى

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : شرح السنة (الحديث : ٤٥٩٧). وأخرجه أحمد في المسند (الحديث : ٤ / ١٠٢).

٣٥٧

فيها ، لا محالة ؛ فإنها في مظنة التقرب في ظن الجاهل ، لأن العالم يفعلها على ذلك الوجه ، بل البدعة أشد في هذا المعنى ، إذ الذنب قد لا يتبع عليه ، بخلاف البدعة فلا يتحاشى أحد عن اتباعه إلا من كان عالما بأنها بدعة مذمومة ، فحينئذ يصير في درجة الذنب ، فإذا كانت كذلك صارت كبيرة بلا شك ، فإن كان داعيا إليها فهو أشد ، وإن كان الإظهار باعثا على الاتباع ، فبالدعاء يصير ادعى إليه.

وقد روي عن الحسن أن رجلا من بني إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها فاتّبع ، وأنه لما عرف ذنبه عمد إلى ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ثم جعل فيها سلسلة ثم أوثقها في شجرة فجعل يبكي ويعج إلى ربه ، فأوحى الله إلى نبي تلك الأمة أن لا توبة له قد غفر له الذي أصاب ، فكيف بمن ضل فصار من أهل النار؟

وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح ، لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر ، فكأن المظهر لها يقول : هذه سنّة فاتبعوها.

قال أبو مصعب : قدم علينا ابن مهدي فصلّى ووضع رداءه بين يدي الصف ، فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا ـ وكان قد صلى خلف الإمام ـ فلما سلم قال : من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ، فحبس ، فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه وقال له : ما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف ؛ وشغلت المصلين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه؟ وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (١) فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا في غيره.

وفي رواية عن ابن مهدي قال : فقلت للحرسيين : تذهبان بي إلى أبي عبد الله؟ قالا : إن شئت ، فذهبنا إليه ، فقال : يا عبد الرحمن! تصلي مستلبا؟ فقلت : يا أبا عبد الله ، إنه كان

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : فضائل المدينة ، باب : حرم المدينة (الحديث : ١٨٦٧) ، وأخرجه في كتاب : الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب : إثم من آوى محدثا (الحديث : ٧٣٠٦). وأخرجه مسلم في كتاب : الحج ، باب : فضل المدينة ودعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها.

٣٥٨

يوما حارّا ـ كما رأيت ـ فثقل ردائي عليّ ، فقال : الله ما أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليه؟ قلت : الله ، قال : خلياه.

وحكى ابن وضاح قال : ثوّب المؤذّن بالمدينة في زمان مالك ، فأرسل إليه مالك فجاءه ، فقال له مالك : ما هذا الذي تفعل؟ فقال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا ، فقال له مالك : لا تفعل ، لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه ، قد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا ، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه ، فكف المؤذن عن ذلك وأقام زمانا ، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر ، فأرسل إليه مالك فقال له : ما الذي تفعل؟ قال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر ، فقال له : ألم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن؟ فقال : إنما نهيتني عن التثويب ، فقال له : لا تفعل ، فكف زمانا ، ثم جعل يضرب الأبواب ، فأرسل إليه مالك فقال : ما هذا الذي تفعل ، فقال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر ، فقال له مالك : لا تفعل ، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه.

قال ابن وضاح : وكان مالك يكره التثويب ـ قال ـ وإنما أحدث هذا بالعراق ، قيل لابن وضاح : فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة أو مصر أو غيرها من الأمصار؟ فقال : ما سمعته إلا عند بعض الكوفيين والأباضيين.

فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادئ الرأي وجعله أمرا محدثا ، وقد قال في التثويب : إنه ضلال ، وهو بيّن ، لأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب ، لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنّة ، كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوف أن يكون حدثا أحدثه.

وقد أحدث بالمغرب المتسمى بالمهدي تثويبا عند طلوع الفجر وهو قولهم : أصبح ولله الحمد إشعارا بأن الفجر قد طلع ، لإلزام الطاعة ، ولحضور الجماعة ، وللغد ولكل ما يؤمرون به ، فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويبا بالصلاة كالأذان ، ونقل أيضا إلى أهل المغرب الحزب المحدث بالإسكندرية ، وهو المعتاد في جوامع الأندلس وغيرها ، فصار ذلك كله سنّة في المساجد إلى الآن ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد فسّر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذّن فأبطأ الناس قال بين

٣٥٩

الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح. وهذا نظير قولهم عندنا : الصلاة ـ رحمكم الله.

وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه دخل مسجدا أراد أن يصلي فيه ، فثوّب المؤذن ، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد ، وقال : اخرج بنا من عند هذا المبتدع ولم يصل فيه. قال ابن رشد : وهذا نحو مما كان يفعل عندنا بجامع قرطبة من أن يفرد المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله : حي على الصلاة. ثم ترك ـ قال ـ وقيل : إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه : حي على خير العمل ، لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنّة من الشيعة. ووقع في المجموعة : أن من سمع التثويب وهو في المسجد خرج عنه ، كفعل ابن عمر رضي الله عنهما.

وفي المسألة كلام ، المقصود منه التثويب المكروه الذي قال فيه مالك : إنه ضلال ، والكلام يدل على التشديد في الأمور المحدثة أن تكون في مواضع الجماعة ، أو في المواطن التي تقام فيها السنن ، والمحافظة على المشروعات أشد المحافظة ، لأنها إذا أقيمت هنالك أخذها الناس وعملوا بها ، فكان وزر ذلك عائدا على الفاعل أولا ، فيكثر وزره ويعظم خطر بدعته.

والشرط الرابع : أن لا يستصغرها ولا يستحقرها ـ وإن فرضناها صغيرة ـ فإن ذلك استهانة بها ، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب ، فكان ذلك سببا لعظم ما هو صغير ، وذلك أن الذنب له نظران : نظر من جهة رتبته في الشرط ، ونظر من جهة مخالفة الرب العظيم به ، فأما النظر الأول فمن ذلك الوجه يعد صغيرا إذا فهمنا من الشرع أنه صغير ، لأنا نضعه حيث وضعه الشرع ، وأما الآخر فهو راجع إلى اعتقادنا في العمل به حيث نستحرم جهة الرب سبحانه بالمخالفة ، والذي كان يجب في حقنا أن نستعظم ذلك جدّا ، إذ لا فرق في التحقيق بين المواجهتين ـ المواجهة بالكبيرة ، والمواجهة بالصغيرة.

والمعصية من حيث هي معصية لا يفارقها النظران في الواقع أصلا ، لأن تصورها موقوف عليهما ، فالاستعظام لوقوعها مع كونها يعتقد فيها أنها صغيرة لا يتنافيان ، لأنهما اعتباران من جهتين : فالعاصي وإن كان يعمل المعصية لم يقصد بتعمده الاستهانة بالجانب العليّ الربانيّ ، وإنما قصد اتباع شهوته مثلا فيما جعله الشارع صغيرا أو كبيرا ، فيقع الإثم

٣٦٠