تحصيل المرام - ج ١-٢

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]

تحصيل المرام - ج ١-٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٠٧٤

آخر.

قال [أبو عمرو الزجاجي](١) : من جاور بمكة وقلبه متعلق بشيء سوى الله تعالى فقد ظهر خسرانه.

[الثالث : الخوف من ارتكاب الخطايا بها ؛ فإن ذلك محظور كبير ، ومع ذلك فلا يظن أحد أن كراهة المقام بمكة يناقض فضل الكعبة لأن هذه كراهة سببها ضعف الخلق عن القيام بحقوق الله تعالى ، كذا قاله الغزالي](٢)

وقال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما حين اختار الطائف : لأن أذنب سبعين ذنبا [بركبة](٣) أحب إليّ من أن أذنب ذنبا واحدا بمكة. وركبة : موضع بقرب الطائف.

وقال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : خطيئة أخطئها بمكة أثقل من سبعين خطيئة في غيرها.

وقال ابن مسعود : ما من بلد [يؤاخذ](٤) العبد بالهم قبل العمل إلا مكة ، وتلا قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج : ٢٥].

ولخوف ذلك ينتهي بعض الصالحين إلى أنه لم [يقض](٥) حاجة في

__________________

(١) في الأصل : أبو عمر الزجاج. وانظر المراجع السابقة.

(٢) لم يذكر المصنف المعنى الثالث ، وقد استدرك من الجامع اللطيف (ص : ١٦٤).

(٣) في الأصل : ببركية. وكذا وردت في المكان التالي. وركبة : موضع بالحجاز بين غمرة وذات عرق ، لسان العرب (١ / ٤٣٤). وقد ذكر ياقوت فيها أقوالا ، مدارها على أنها أرض بعد مكة على يومين منها ، وحددها الأستاذ ملحس ب (١٦٠) كم عن مكة و (٦٥) عن الطائف. وهي أرض سهلة فسيحة يحدها من الشرق جبل حضن ، ومن الغرب سلسلة جبال الحجاز العليا ، ومن الجنوب جبال عشيرة ، والعرجية والطائف. (انظر معجم البلدان لياقوت ٣ / ٦٣ ، ومعجم معالم الحجاز للبلادي ٤ / ٦٨ ـ ٧١).

(٤) في الأصل : يؤخذ ، والتصويب من البحر العميق (١ / ١٦).

(٥) في الأصل : يقضي.

٦٠١

الحرم ، بل كان يخرج إلى الحل عند قضاء الحاجة ، وبقي على هذا أبو [عمرو](١) الزجاجي الصوفي أربعين سنة.

وعن إبراهيم قال : كان الاختلاف إلى مكة أحبّ إليهم من المجاورة.

وقال الشعبي : لم يكن أحد من المهاجرين والأنصار يقيم بمكة. ذكرها سعيد.

وسئل مالك رضي‌الله‌عنه عن الحج والجوار أحبّ إليك أم الحج والرجوع؟ فقال : ما كان الناس إلا على الحج والرجوع وهو أحب إليه ، وفهم ابن راشد من هذا اقتصار الكراهة على المجاورة بها ، وذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي وأحمد رضي‌الله‌عنهم إلى استحباب المجاورة بها.

وفي الملتقطات في المبسوط في باب الاعتكاف : وإن المجاورة في قولهم الأفضل ، قال : وعليه عمل الناس.

حكى الفاسي في منسكه عن المبسوط أن الفتوى عليه.

وفي الحديث : «المقام بمكة سعادة والخروج منها شقاوة».

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه «من صبر على حرّ مكة ولو ساعة من النهار تباعدت عنه النار مسيرة مائة عام» (٢).

وعن سعيد بن جبير : من مرض بمكة يوما كتب الله له من العمل الصالح الذي كان يعمله في سبع سنين (٣). رواه الفاكهي.

وقيل لأحمد بن حنبل في رواية : أتكره المجاورة بمكة؟ قال : قد جاور بها

__________________

(١) في الأصل : عمر. وقد سبق قريبا. وانظر : البحر العميق (١ / ١٦) ، وحلية الأولياء (١٠ / ٣٧٦).

(٢) ذكره العلجوني في كشف الخفاء (٢ / ٣٣٦).

(٣) أخرجه الفاكهي (٢ / ٣١٢).

٦٠٢

جابر وابن عمر رضي‌الله‌عنهما ، وليتني الآن [مجاور](١) بها.

وأجاب القائلون بالاستحباب عما ذهب إليه أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه بأن من يخاف من ذنب فيقابله بما [يرجى](٢) لمن أحسن من تضعيف الثواب.

والحاصل : أن علة كراهية من كره المجاورة بمكة من العلماء ليس إلا مراعاة الخلق والخوف من قصورهم عن القيام بحق الموضع ، فمن أمكنه الاحتراز عن ذلك وقدر على الوفاء بحقه وتعظيمه وتوقيره على وجه يقي منه حرمة البيت وجلالته ومهابته في عينه كما دخل مكة ، فالمقام بها حينئذ هو الفوز العظيم [والفضل](٣) الكبير العميم.

وعن سهل بن عبد الله قال : كان عبد الله بن صالح رجل له سابقة جليلة ، وكان يفرّ من الناس من بلد إلى بلد حتى أتى مكة فطال مقامه بها ، فقلت له : لقد طال مقامك بها ، فقال لي : لم لا أقيم بها وما أرى بلدة تنزل فيها الرحمة والبركة أكثر من مكة ، والملائكة تغدوا فيها وتروح ، وإني أرى فيها عجائب كثيرة ، والملائكة يطوفون على صور شتى ما يقطعون ذلك ، ولو قلت لك كما رأيت لصغرت عنه عقول قوم ليسوا بمؤمنين. فقلت له : أسألك بالله! إلا أخبرتني بشيء ، فقال : ما من ولي لله عزوجل صحّت ولايته إلا وهو يحضر هذه البلد كل جمعة فلا متأخر عنه ، [فمقامي هاهنا لأجل من أراه](٤) منهم ، ولقد رأيت رجلا منهم يقال له : مالك بن القاسم

__________________

(١) في الأصل : مجاورا.

(٢) في الأصل : يرضى. والتصويب من البحر العميق (١ / ١٧).

(٣) زيادة من البحر العميق (١ / ١٧).

(٤) في الأصل : فمقامه هاهنا لأجل ما رأى. والتصويب من البحر العميق (١ / ١٧).

٦٠٣

جاء وقد جاور مدة عمره ، فقلت له : إنك قريب عهد بالأكل ، فقال لي : استغفر الله ، فإني منذ [أسبوع](١) لم آكل ، ولكن أطعمت والديّ [وأسرعت](٢) لألحق صلاة الفجر ، ومسيرة الموضع الذي جاء منه مسيرة سبعين فرسخا (٣). أخرجه أبو الفرج.

وعن [عبد العزيز بن أبي رواد](٤) قال : الخضر وإلياس عليهما‌السلام يصومان رمضان ببيت المقدس [ويوافيان](٥) الموسم في كل عام بمكة (٦).

ورأى شخص إلياس عليه‌السلام بالأردن فقال له : كم الأبدال؟ قال : [هم ستون رجلا](٧) ، خمسون رجلا ما بين عريش مصر إلى شاطئ الفرات ، [ورجلان](٨) بالمصّيصة (٩) ، ورجل بأنطاكية (١٠) ، وسبعة في سائر الأقطار ، بهم يغاثون وينصرون على الأعداء ، وبهم يقيم الله أمر الدنيا ،

__________________

(١) في الأصل : أسبوعا ، والتصويب من البحر العميق (١ / ١٧).

(٢) في الأصل : وأسرعني. والتصويب من البحر العميق ، الموضع السابق.

(٣) الفرسخ : ثلاثة أميال هاشمية ، وقيل : اثنا عشر ألف ذراع ، وهو معرّب (فرسنك).

(معجم الكلمات الأعجمية والغريبة للبلادي ص : ٧٨).

(٤) في الأصل : عبد الله بن داود. والتصويب من البحر العميق (١ / ١٧).

(٥) في الأصل : ويوفيان. والتصويب من البحر العميق ، الموضع السابق.

(٦) ذكره ابن أبي عاصم في الزهد (١ / ٢٣٠) ، وابن حجر في الإصابة (٢ / ٣١٠) ، والقرطبي في تفسيره (١٥ / ١١٦).

(٧) قوله : هم ستون رجلا ، زيادة من مثير الغرام (ص : ١٩٦) ، والإصابة (٢ / ٣١٢). وانظر : البحر العميق (١ / ١٧).

(٨) في الأصل : رجلان. والتصويب من مثير الغرام والبحر العميق ، الموضعين السابقين.

(٩) المصيصة : بلد في الشام. (انظر : معجم ما استعجم ٤ / ١٢٣٥ ، ومعجم البلدان ٥ / ١٤٤).

(١٠) في الأصل والبحر العميق (١ / ١٧) زيادة : ورجل بعسقلان ، ولم تثبت مصادر التخريج هذه الزيادة.

وأنطاكية : هي قصبة العواصم من الثغور الشامية ، بينها وبين حلب يوم وليلة (المراصد : ١٢٤).

٦٠٤

حتى إذا أراد الله أن يهلك ـ يعني : الدنيا ـ أماتهم جميعا. كذا في المثير (١).

ورد في الحديث : أنهم ثلاثمائة وسبعة وأربعون وقطب ، فإذا مات القطب [أبدل](٢) من السبعة ، فإذا مات من السبعة أبدل من الأربعين ، فإذا مات من الأربعين أبدل من الثلاثمائة ، فإذا مات من الثلاثمائة أبدل من صلحاء المسلمين.

وعن الحارث قال : سمعت عليا رضي‌الله‌عنه يقول : الأبدال بالشام ، والنجباء بمصر ، والعصابة بالعراق ، والنقباء بخراسان ، والأوتاد بسائر الأرض ، والخضر سيد القوم.

وقد تقدم أن الخضر لم يخرج من مكة الآن.

وحكي أن الثوري قال : ما أدري أيّ البلاد أسكن؟ فقيل له : خراسان ، فقال : مذاهب مختلفة وآراء فاسدة. قيل له : فالشام قال : يشار إليك بالأصابع ، أراد الشهرة. قيل : فالعراق ، قال : بلد الجبابرة؟ قيل : فمكة ، قال : تذيب الكيس والبدن (٣).

وقال له رجل : عزمت على المجاورة بمكة فأوصني ، قال : أوصيك بثلاثة : لا تصلين في الصف الأول ، ولا تصحبن قرشيا ، ولا تظهرن صدقة (٤).

__________________

(١) مثير الغرام (ص : ١٩٦). وانظر : محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار (١ / ١٨١). وقد عزاه ابن حجر في الزهر النضر إلى إسحاق بن إبراهيم الحنبلي في كتاب الرماح ثم قال : في إسناده جهالة ومتروكون.

(٢) في الأصل : بدل. والتصويب من البحر العميق (١ / ١٧). وكذا وردت في الأمكنة التالية.

(٣) انظر : إحياء علوم الدين (١ / ٢٤٥) ، والبحر العميق (١ / ١٧) ، وفيض القدير (٣ / ٢٢٣).

(٤) انظر : إحياء علوم الدين ، الموضع السابق.

٦٠٥

قال الغزالي في الإحياء : كره الصف الأول ؛ لأنه [يشتهر](١) ، فيفتقد إذا غاب ، فيختلط بعمله التزين والتصنع. انتهى (٢).

وقد جاور بها خلق كثيرون ، وسكنها من المعوّل عليهم بشر كثيرون ، واستوطن بها من الصحابة أربعة وخمسون رجلا. ذكرهم أبو الفرج في مثير الغرام (٣).

ومات بها أيضا من الصحابة ومن كبار التابعين ومن بعدهم جم غفير. ذكره المحب الطبري في القرى (٤) ؛ فمن أراد ذلك فلينظره ثمة. انتهى من البحر العميق للقرشي (٥).

ثم قال : فينبغي لكل من هو بمكة من أهلها والمجاورين بها من الحجاج والزوار أن يقدروا قدرها ويعظموا حرمتها وحرمة البيت ، ويلاحظ سرّها ويتأمل فضيلتها ، ويستقيم ما أصبح به من نعمة جوار هذا البيت ، ويشكر القيام بحقه ، ويجتنب كثيرا من المباحات التي لا يليق عن حل لقطها ، وينزه عن اللهو واللعب والترفهات التي لا خير فيها ، فإنها بلد عبادة لا بلد رفاهة ، ومكان اجتهاد لا مكان راحة ، ومحل [تيقظ وفكرة](٦) لا محل سهو وغفلة.

وقد روي : أن المهدي لما ولي الخلافة أمر بنفي نفر من المغنيين ، ومنع ما

__________________

(١) في الأصل : شهير. والتصويب من إحياء علوم الدين (١ / ٢٤٥) ، والبحر العميق (١ / ١٧).

(٢) إحياء علوم الدين (١ / ٢٤٥).

(٣) مثير الغرام (ص : ٤٣٤) في باب ذكر المجاورة بمكة.

(٤) القرى (ص : ٦٦٢).

(٥) البحر العميق (١ / ١٦ ـ ١٧).

(٦) في الأصل : يتعضل فكره ، والمثبت من البحر العميق (١ / ١٧).

٦٠٦

فيها من المغنين ، وأخرج ما فيها من الشبهات من الرجال المتشبهين بالنساء والنساء المتشبهين بالرجال ، ومنع [فيها](١) لعب الشطرنج وغيره من الأمور الملاهي التي تجرّ إلى اللهو والطرب ، وطهّرها من المباحات الملهية عن الصلوات ، [المشغلة](٢) عن اغتنام القرب ، وألزم الحجبة ـ أي : حجبة الكعبة ـ إجلالها وتوقيرها وتطهيرها للزائرين ، وفتح بابها بالسكينة والخشوع ، والإنصات عند دخولها بحال الهيبة ، وزجر النساء [عن الخروج إلى المسجد](٣) متعطرات ، وكف الكافة عن الإلمام بها عن ارتكاب مكروه أو ترك مندوبات ، فما ظنك بعد ذلك بما يكون من صريح الحرام وظلمات الأنام ، وأنواع الغيبة والبهتان ، [وتطفيف](٤) المكيال وبخس الميزان ، وفشيان الزنا وشرب الخمور ، والإقدام على الربا وارتكاب الفجور.

وبالجملة : فاعلم أن الذنب بمكة عظيم ، والتجرؤ عليه يورث مقت الله تعالى ، فإن المعصية وإن كانت فاحشة في أيّ موضع لكنها في مكة أعظم ، وفناء بيته ومحل اختصاصه أفحش.

وكما أن المعصية تضاعف عقوبتها بالعلم ، إذ ليس عقاب من يعلم كمن لا يعلم.

وبشرف الشخص في نفسه كما قال تعالى في حق أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠].

__________________

(١) في الأصل : منها ، والمثبت من البحر العميق (١ / ١٧).

(٢) في الأصل : المثقلة ، والمثبت من البحر العميق (١ / ١٧).

(٣) في الأصل : عند الخروج من المسجد ، والمثبت من البحر العميق (١ / ١٧).

(٤) في الأصل : وتطفيق.

٦٠٧

وبشرف الزمان ؛ كالمعصية في شهر رمضان ، والرفث في مدة الإحرام ، فلذلك لا يبعد أيضا أن يضاعف عقوبة المعصية ليثبت بيان شرف مكان الخير وعظيم حرمته.

وأيّ شيء أعظم من مبارزة الملك الجليل في حرمه ومخالفته في محل حرمته. والله أعلم. انتهى من البحر العميق للقرشي (١).

__________________

(١) البحر العميق (١ / ١٧ ـ ١٨).

٦٠٨

الباب السادس : في ذكر عيون مكة

والبرك والآبار والسقايات مما هو بها وبالحرم وما قاربه ، وذكر مياضها

ـ أي : مطاهرها ـ

وفيه ثلاثة فصول :

الفصل الأول : في العيون والبرك

أما عيون مكة ؛ قال الحافظ في [الإصابة](١) في ترجمة عبد الله بن عامر بن كريز ابن خال عثمان : أنه أول من اتخذ الحياض بعرفة ، وأجرى إليها العيون.

قال الأزرقي (٢) : كان معاوية رضي‌الله‌عنه قد أجرى في الحرم عيونا واتخذ لها [أخيافا](٣) فكانت حوائط فيها نخل وزرع ، ثم سردها الأزرقي وذكر أنها [عشر](٤) عيون ثم قال : وقد كانت عيون مكة التي أجراها معاوية رضي‌الله‌عنه قد انقطعت ، ثم أمر هارون الرشيد بإصلاح عيون منها فأصلحت [وأحييت](٥) وصرفت في عين واحدة ، فكان الناس بعد قطعها في شدة من قلة الماء ، وكان أهل مكة والحجاج يرون من ذلك مشقة حتى أن البدرة ـ وهي القربة الصغيرة ـ تبلغ عشرة دراهم أو أكثر. ذكره

__________________

(١) الإصابة في تمييز الصحابة (٥ / ١٦ ـ ١٧). وفي الأصل : الإنابة. وهو خطأ.

(٢) الأزرقي (٢ / ٢٢٧ ـ ٢٣٠) ، والفاكهي (٤ / ١٢١) ، وشفاء الغرام (١ / ٦٣١).

(٣) في الأصل : أقنية. والتصويب من : الأزرقي والفاكهي وشفاء الغرام ، المواضع السابقة ، والبحر العميق (٣ / ٢٩٨).

(٤) في الأصل : عشرة.

(٥) في الأصل : فجيئت. والتصويب من الأزرقي والبحر العميق ، وانظر الموضعين السابقين.

٦٠٩

القرشي (١).

وقال القطبي (٢) : فلما بلغ ذلك أم جعفر زبيدة زوجة هارون الرشيد ، وكانت من أهل الخير وكان لها مآثر عظيمة ، منها : إجراء عين حنين إلى مكة ، وصرفت عليها خزائن أموال إلى أن جرت إلى مكة وهي في واد قليل الأمطار ، فنقبت زبيدة الجبال إلى أن أوصلت الماء من الحلّ إلى الحرم ، وأنفقت عليها ألف ألف وسبعمائة ألف مثقال ذهبا ، فلما أخرج المباشرون (٣) دفاترهم لأجل الحساب ، وكانت في قصر عال على الدجلة ، فأخذت الدفاتر ورمتها في الدجلة ، وقالت : تركنا الحساب ليوم الحساب ، وكانت هذه العين ترد مكة وينتفع الناس بها ، ومنبع هذه العين في ذيل جبل شامخ يقال له : طاد ـ بالطاء المهملة وألف بعدها دال مهملة ـ من جبال الثنية من طريق الطائف ، وكان الماء يجري إلى أرض يقال لها : حنينا ـ وفي المشارق للقاضي عياض (٤) : حنين : واد قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا. انتهى ـ يسقى بها نخل ومزارع مملوكة للناس ، وإليها ينتهي جريان الماء ، فاشترت زبيدة هذه المواضع ، وأبطلت تلك المزارع

__________________

(١) البحر العميق (٣ / ٢٩٨).

(٢) الإعلام (ص : ٣٣٤ ـ ٣٣٦).

(٣) المباشر : هو الموظف الذي يكلف بإدارة العمل والإشراف على تنفيذه ، وإجراء المبيعات والمشتروات المتعلقة به ، وكذلك استخدام عماله ، وربما أطلق على الموظفين بالدواوين اسم مباشرين ، وبطبيعة الحال كانت تختلف أعمال المباشرين باختلاف الدواوين والنظار التي يعملون فيها. عرفت هذه الوظيفة في الدولة العبيدية ثم في الدولة الأيوبية ، وشاعت في الدولة المملوكية ، فعرف مباشر وجهات المكوس ، ومباشروا الاصطبلات ، وغيرها.

ولم تقتصر هذه الوظيفة في الديار المصرية ، بل وجدت في الشام ، فكان يضم إلى كل نظر من أنظار دمشق مباشرون (انظر : الفنون الإسلامية ٣ / ٩٨٢ ـ ٩٨٩).

(٤) مشارق الأنوار (١ / ٢٢١).

٦١٠

والنخيل ، وشقت لها قناة في الجبال ، وجعلت لها الشحاحذ (١) في كل جبل يكون ذيله مظنة لاجتماع الماء عند الأمطار ، وجعلت فيه قناة متصلة إلى مجرى هذه العين في محاذاتها يحصل منه المدد إلى هذه العين ، فصار كل شحاذة عينا مساعدة إلى عين حنين ، منها : عين مشاش (٢) ، وعين ميمونة ، وعين الزعفرانة ، وعين البرود ، وعين الطرفا ، وعين ثقبة ، والخريبان ، وكل مياه هذه العيون تنصب في [دبل عين](٣) حنين ، ويبطل بعضها ، ويزيد بعضها وينقص بحسب الأمطار إلى أن وصلت على هذه الصورة إلى مكة.

وأمر صالح بن العباس في سنة مائتين وعشرة : أن يتخذ لهذه العين ـ أي : عين حنين ـ خمسة برك في السوق ؛ لئلا [يتعنّى](٤) أهل أسفل مكة والثنية وأهل أجياد ، وأن يوصلها إلى بركة أم جعفر بالمعلا ، وأجرى عينا من بركة أم جعفر من فضل مائها في عين تسكب في بركة البطحاء عند شعب علي أمام المولد النبوي ، ثم تمضي إلى بركة عملها عند الصفا وهو بازان ، ثم تمضي إلى بركة عند الحناطين ـ أي : عند باب الوداع ـ ثم تمضي

__________________

(١) الشحاحذ : هي عبارة عن برك في كل جبل يكون ذيله مظنة لاجتماع الماء عند هطول الأمطار جعلت فيها قنوات متصلة إلى مجرى العين الأصلية بحيث يصبح كل شحاذ عينا يساعد العين الرئيسية (انظر : الأعلام ص : ٣٣٥ ، ومرآة الحرمين ١ / ٢١٠).

(٢) عين المشاش : تسمى اليوم (عين الشرائع) أو (عين حنين). وهي اليوم لا تسير إلى مكة ، بل يزرع الناس عليها هناك ، وتبعد عين حنين (٣٦) كلم عن المسجد الحرام إلى الشرق (معالم مكة للبلادي ص : ٨٨).

وقال ياقوت : ويتصل بجبال عرفات جبال الطائف ، وفيها مياه كثيرة أو شال وعظائم قنيّ ، منها المشاش ، وهو الذي يجري بعرفات ويتصل إلى مكة (معجم البلدان ٥ / ١٣١).

(٣) في الأصل : عين دبل. والتصويب من الإعلام (ص : ٣٣٥).

(٤) في الأصل : يتعب. والتصويب من الأزرقي (٢ / ٢٣٢) ، والبحر العميق (٣ / ٢٩٨).

٦١١

إلى بركة عند سكة الثنية دون دار [أوس](١) ، ثم تمضي إلى بركة عند سوق الحطب بأسفل مكة ، ثم تمضي بسرب ذلك إلى بركة ماجن بأسفل مكة. ذكره الأزرقي (٢). انتهى.

قال القطبي (٣) : ثم أمرت زبيدة أيضا بإجراء عين نعمان إلى عرفات ومنبعها ذيل جبل كرا ، فعملت القناة إلى أن جرت ماء عين نعمان إلى أرض عرفة ، ثم أديرت القناة بجبل الرحمة محل الموقف الشريف ، وجعل منها الطرق إلى البرك التي بأرض عرفة ، ثم استمر عمل القناة إلى أن خرجت من أرض عرفة إلى خلف جبل وراء المأزمين على يسار الراجع من عرفات ، ويقال له : طريق ضب ـ بالضاد المعجمة ـ ، ثم تصل منها إلى المزدلفة ، ثم تصل إلى جبل خلف منى في [قبليّها](٤) ، ثم تنصب في بئر عظيمة مطوية بأحجار كبار جدا تسمى هذه البئر : بئر زبيدة (٥) ، وإليه ينتهي عمل هذه القناة ، وهي من الأبنية المهيلة مما يتوهم أنها من بناء الجن ، وحدّ عمل زبيدة إلى هذه البئر ثم تركتها ، ثم صارت عين حنين وعين عرفات تنقطع بسبب قلة الأمطار وتنهدم قنواتها ، وتخربها السيول بطول الأيام.

وكانت الخلفاء والسلاطين إذا بلغهم ذلك أرسلوا وعمّروها عند انتظام سلطنتهم على هذا المنوال ؛ فممن عمّرها : صاحب إربل في سنة

__________________

(١) في الأصل : أويس. والتصويب من الأزرقي ، الموضع السابق. وأوس التي نسبت إليه الدار رجل خزاعي. (الفاكهي ٣ / ٢٨٨).

(٢) الأزرقي (٢ / ٢٣٢) ، والبحر العميق (٣ / ٢٩٨).

(٣) الإعلام (ص : ٣٣٦ ـ ٣٣٨).

(٤) في الأصل : قبيلها. والتصويب من الإعلام.

(٥) بئر زبيدة : هي بئر عظيمة طويت بأحجار كبيرة جدا ، بينها وبين المنبع ٣٣٠٠٠ م ، وبينها وبين منى مسيرة ساعة ركوبا (مرآة الحرمين ١ / ٢١٢).

٦١٢

خمسمائة [وأربع](١) وستين ، ثم عمّرها صاحب إربل مظفر الدين سنة ستمائة [وخمس](٢) وخمسين ، ثم عمّرهما المنتصر العباسي في سنة ستمائة وخمس وعشرين ، ثم في سنة ستمائة [وثلاث](٣) وثلاثين ، ثم عمّرت في سنة سبعمائة وست (٤) وعشرين عمّرها أمير العراق ، ثم عمّر عين حنين شريف مكة حسن في سنة ثمانمائة وإحدى [عشرة](٥) ، ثم انقطعت إلى أن لقي الناس شدة عظيمة إلى أن عمّرها صاحب مصر من الجراكسة المؤيد أبو النصر في سنة ثمانمائة وإحدى وعشرين ، ثم عمّرها وعمّر عين عرفات أيضا من ملوك الجراكسة قايتباي ، عمّر عين عرفات وأجراها إلى عرفات ، وعمّر عين حنين إلى أن أجراها إلى مكة في سنة ثمانمائة [وخمس](٦) وسبعين ، ثم عمّر عين حنين من الجراكسة السلطان قانصوه الغوري في سنة تسعمائة [وسبع](٧) وعشرين إلى أن جرت وملأت برك الحجّاج في المعلا إلى بازان إلى بركة ماجن في درب اليمن ، ثم انقطعت في أول دولة آل عثمان بهذه الأقطار الحجازية ، وبطلت العيون لقلة الأمطار ، وتهدمت قنواتها ، وانقطعت عين حنين عن مكة المشرفة ، وصار أهل مكة يستقون من الآبار التي حول مكة ، وانقطعت أيضا عين عرفات ، وكان الحجّاج يحملون الماء إلى عرفات من أماكن بعيدة حتى أن الفقراء لم يطلبوا في ذلك

__________________

(١) في الأصل : وأربعة.

(٢) في الأصل : وخمسة ، وكذا وردت في الموضع التالي.

(٣) في الأصل : وثلاثة.

(٤) في الأصل : وستة.

(٥) في الأصل : عشر.

(٦) في الأصل : خمسة.

(٧) في الأصل : وسبعة.

٦١٣

اليوم إلا الماء.

قال القطبي (١) : وقد غلا الماء جدا في يوم عرفة ، وأنا إذ ذاك مراهق ، فاشتريت قربة صغيرة يحملها الرجل بدينار ذهب ، فشربنا جانبا وتصدقنا جانبا والناس في كرب من العطش ، ففرج الله على الناس بمطر حتى صاروا يشربون من تحت أرجلهم ، فسبحانه ما أوسع رحمته. انتهى باختصار.

ثم قال (٢) : ومن جملة خيرات السلطان سليمان ومن أعظمها : إجراء عين عرفات إلى مكة المشرفة ، وسبب ذلك : أن العين التي كانت جارية بمكة وهي عين حنين قد انقطعت ، وكان إذ ذاك عين عرفات لم [تصل](٣) إلى مكة ، وإنما كان حدّها إلى البئر الذي خلف منى على ما يأتي بيانه ، فبرزت الأوامر السلطانية بإصلاح عين حنين وعين عرفات ، وعيّن لها ناظرا اسمه مصلح الدين مصطفى من المجاورين بمكة ، فبذل جهده في عمارتها وإصلاح قناتها إلى أن جرت عين حنين إلى أسفل مكة تصب في بركة ماجن ، وأجرى عين عرفات إلى أن صارت تملأ البرك بعرفات ، وذلك في سنة تسعمائة وإحدى وثلاثين ، وصار الحجّاج يشربون من ذلك الماء العذب ، ثم اشترى ناظر العين عبيدا سودا من مال السلطنة وجعل لهم جرايات وعلوفات من مال السلطنة برسم خدمة العين لإخراج ترابها من الدبول ، وهذه خدمتهم دائما.

__________________

(١) الإعلام (ص : ٣٣٨ ـ ٣٣٩).

(٢) الإعلام (ص : ٣٣٩).

(٣) في الأصل : تتصل. والصواب ما أثبتناه.

٦١٤

قال القطبي (١) : وهم باقون إلى الآن طبقة بعد طبقة ، واستمرت عين حنين جارية إلى مكة ، لكنها تقلّ تارة وتكثر أخرى بحسب الأمطار ، وعين عرفات تجري من نعمان إلى عرفة إلى أن صارت عرفات فيها بساتين وصار بها الغرس ، ثم قلّت الأمطار إلى أن يبست العيون ونزحت الآبار في سنين عديدة إلى سنة تسعمائة [وتسع](٢) وستين وما بعدها ، وكانت سنوات ليس فيها مطر ، وانقطعت العيون إلا عين عرفات فإنها لم تنقطع إلا أنها قلّ جريانها في تلك السنوات. ولما أن عرضت العيون على الأبواب السلطانية فبرز الأمر بإجرائها بأيّ وجه كان ، وأمر بالفحص على أحوال العيون وكيف يكون جريانها إلى بلد الله الأمين ، فاجتمع المرحوم عبد الباقي بن علي قاضي مكة والأمير [خير الدين](٣) صنجقدار جدة وغيرهم من الأعيان ، وتفحصوا وداروا واشتوروا ، فأجمع رأيهم على أن أقوى العيون عين عرفات ، وطريقها ظاهر ، ودبلها مبني إلى بئر زبيدة ، وهو خلف منى ، وأن الذي يغلب على الظن أن دبلها من بئر زبيدة إلى مكة مبني ، وأنه مخفي تحت الأرض ولكن يحتاج إلى [الكشف](٤) عنه والحفر إلى أن يظهر ؛ لأن زبيدة لما بنت الدبول من عرفات إلى بئرها المشهور الذي خلف منى الذي جميعه ظاهر على وجه الأرض ، فالباقي من ذلك المحل إلى مكة أيضا مبني إلا أنه خفي تحت الأرض ، واستغنت عن عين عرفات بعين حنين ، وتركت هذه وصارت نسيا منسيا. هكذا ظنّوا ، ثم إنهم إن تتبعوها

__________________

(١) الإعلام (ص : ٣٣٩ ـ ٣٥٠).

(٢) في الأصل : وتسعة.

(٣) في الأصل : خيار الدين. والتصويب من الإعلام (ص : ٣٤٠).

(٤) في الأصل : كشف.

٦١٥

من أولها من [الأوجر](١) إلى نعمان ، ثم إلى عرفة ، ثم إلى المزدلفة ، ثم إلى بئر زبيدة ، وأصلحوا هذا الدبل من عرفات إلى بئرها المشهور ، وأصلحوا الدبل الظاهر وكشفوا عن الباقي وبنوا ما وجدوا منه منهدما ورمموا الباقي ، واحتاجوا إلى ثلاثين ألف دينار ، وقاسوا وذرعوا ، فكان من الأوجر إلى بطن مكة خمسا وأربعين ألف ذراع بذراع البنّائين ، وهو أكبر من الذراع الشرعي بقدر ربعه ، وهذا الذي خمنوا عليه من وجود بقية الدبل من بئر زبيدة الذي خلف منى لم يجدوه في كتب التواريخ ، وإنما [أدّاهم](٢) إلى ذلك مجرّد الظن بحسب القرائن ، وعرضوا ذلك على أبواب السلطنة في سنة تسعمائة [وتسع](٣) وستين ، فلما وصل إلى الأبواب السلطانية التزمت هذا الأمر كريمة مولانا السلطان ـ أي : أخت السلطان ـ سليمان خان ، وطلبت أن يأذن لها في عمل هذه الخيرات حيث كان أول الأمر من عمل المرحومة زبيدة بنت جعفر العباسي ، ويكون الحمالة على يدي كل راجي الثواب من الله ، فأذن لها أخوها حضرة السلطان سليمان خان ، فاستشارته فيمن تقدمه على هذه الخدمة ، فاتفق رأيه على الأمير إبراهيم دفتدار مصر ، وأرسل إليه السلطان خمسين ألف دينار ذهبا زيادة على ما خمنوه ، وتوجه الأمير إبراهيم فكان وصوله إلى جدة سنة تسعمائة [وتسع](٤) وستين ، فلما

__________________

(١) في الأصل : الأواجر. وكذا وردت في المواضع التالية ، والتصويب من الإعلام (ص : ٣٤١).

والأوجر : شعب يصب في نخلة الشامية من الضفة اليمنى (معجم معالم الحجاز ١٠ / ٦٩).

(٢) في الأصل : أوهم. والتصويب من الإعلام ، الموضع السابق.

(٣) في الأصل : وتسعة.

(٤) مثل السابق.

٦١٦

أن وصل إلى مكة فأول ما بدأ بتنظيف الآبار التي تستقي منها الناس وإخراج ترابها ، ثم بعد الفراغ توجه إلى الكشف على العين ، وكثر تردده والفحص عن أحوال عين عرفات وعن أحوالها ، ثم بعد الكشف شرع الأمير في حفر دبولها ، وضرب وطاقه (١) بالأوجر من وادي نعمان (٢) في علو عرفات ، وشرع في حفر قعرها وتنظيف دبولها ، وكانت مماليكه هم القائمون بهذه الخدمة ، وهم نحو الأربعمائة ، وأقام بهذا العمل من الأوجر إلى المزدلفة ، وكتب نحو ألف نفر من العمّال والبنائين والمهندسين ، وجلب من مصر والشام والروم مهندسين طوائف طوائف ، وكذا جلب من خدام العيون والآبار والحجّارين والحدادين إلى ما يحتاج من العمارة من مصر ، وعيّن لكل طائفة قطعة من الأرض لحفرها وتنظيفها ، وكان يظن أنه يخلص من هذا العمل فيما قبل السنة ، واتصل على هذا العمل إلى أن وصل إلى بئر زبيدة البئر الذي انتهى إليه عملها الذي هو خلف منى. فلما وصل إلى هذا البئر لم يجد بعده دبلا ولا أثر شيء ، فضاق صدره وعلم أن القدر الباقي إلى مكة ما تركته زبيدة اختيارا وإنما تركته اضطرارا وعدلت عنه إلى عين حنين ، وتركت العمل عند البئر لصلابة الحجر ، وصعوبة قطعه ، وطول مسافته ، فإنه يحتاج من بئر زبيدة إلى دبل منقور في الحجر الصوان طوله ألفا ذراع حتى يصل إلى دبل عين حنين وينصب فيه ويصل إلى مكة ، ولا يمكن نقب ذلك الحجر فإنه يحتاج إلى النزول في الأرض قدر

__________________

(١) الوطاق : أوطاق كلمة محرفة عن أوتاق ، وتعني : المخيم والأثاث والمحطة (انظر مقدمة حمد الجاسر في تحقيقه للبرق اليماني ص : ٧٥ ، ٨٠) فهي كلمة غير عربية ، وتعني هنا حافته.

(٢) وادي نعمان : واد بين مكة والطائف ، يسكنه بنو عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل (معجم البلدان ٥ / ٢٩٣).

٦١٧

خمسين ذراعا في العمق ، وصار لا يمكن ترك ذلك العمل بعد الشروع فيه حفظا لناموس السلطنة ، فما وجد الأمير حيلة غير أنه يحفر على وجه الأرض إلى أن يصل إلى الحجر الصوان ثم يوقد عليه بالنار مقدار مائة حمل من الحطب كل ليلة ، ويجعل ذلك الحطب على مقدار سبعة أذرع في عرض خمسة من وجه الأرض ، والنار لا تعمل إلا في العلو ، ولكن تعمل عملا يسيرا مقدار قيراطين ، وصار على ذلك العمل يوقد بالحطب ويكسر إلى أن خلا الحطب مما قرب منه ، وصار يجلب من بعيد إلى أن قطع من تلك المسافة قريبا من ألف ذراع في عمق خمسين ذراعا في عرض خمسة ، وصرف أموالا كثيرة ، وتوفي إبراهيم بيك المرحوم ناظر هذه العمارة في سنة تسعمائة [وأربع](١) وسبعين ، ثم أقيم بعده سنجقدار جدة الأمير قاسم في هذه الخدمة ومولانا القاضي حسين ، واستمر الأمير قاسم إلى أن توفي وما أراد الله بإكمال هذا العمل على يديه ، وكانت وفاته في سنة تسعمائة [وست](٢) وسبعين ، ثم توجه إلى ما بقي من عين عرفات باعتبار ما بيده من الأوامر السلطانية والنظر إلى هذه الخدمة الشريفة القاضي حسين ، فأفرغ همته في تلك الخدمة ، وكان من توفيق الله تعالى أن تم هذا العمل على يديه في أقل من خمسة أشهر بعد أن عجز عن الإتمام من قبله ممن ذكر رحمهم‌الله ، وقد عملوا قريبا من نحو عشرة أعوام وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وجرت عين عرفات إلى أن دخلت مكة لعشرين بقين من ذي القعدة الحرام سنة تسعمائة [وتسع](٣) وسبعين ـ بتقديم التاء على السين ـ.

__________________

(١) في الأصل : وأربعة.

(٢) في الأصل : وستة.

(٣) في الأصل : وتسعة.

٦١٨

تنبيه : أول من أمر بإجراء عين عرفة ـ أي : من بئر زبيدة التي خلف منى ـ إلى مكة السلطان سليمان خان سنة تسعمائة [وتسع](١) وستين ، وتوفي رحمه‌الله تعالى قبل أن يتم العمل ، وكانت وفاته رحمه‌الله سنة تسعمائة [وأربع](٢) وسبعين ، ثم تولى بعده ولده السلطان سليم خان ، وكان العمل في العين في مدة سلطنته كذلك إلى أن توفي رحمه‌الله تعالى ، ثم تولى بعده السلطان مراد خان ، وكان عمل الدبل من الأبطح إلى بركة ماجن في زمانه جزاهم الله خيرا. انتهى.

أي : فعندما تولى وردت الأوامر السلطانية إلى القاضي حسين أن يميز دبل عين عرفات بدبل غير دبل عين حنين ، فشرع في الدبل وبناه إلى أن أوصله المدعا ، ثم مرّ به في عرض إلى جهة السويقة ، ثم عطف إلى السوق الصغير وأكمله إلى منتهى بركة ماجن ، وجعل بالأبطح عند منتهى الفم بين عين عرفة وعين حنين قبة ، وركب في الدبل بزابيز ينتفع بمائها هناك. هذا ملخص ما ذكره الأزرقي والقرشي في البحر العميق في خبر العيون ، والقطبي الحنفي في الإعلام في أخبار العيون.

قلت : وماؤها إلى الآن جار ، غاية ما هناك أن في بعض الأوقات ينكسر في الدبل بعض محلات فتصلح ، وقد عيّنت السلطنة ناظر إلى إصلاح العين من ذلك الزمان إلى وقتنا هذا ، وهي رحمة عظيمة ، جزى الله هذه السلطنة خيرا وأدامها علينا ، وأقام بها الشرع الشريف. والله الموفق.

قلت : وقد حصلت في زماننا بناء بازانات عديدة بمكة. وسيأتي ذكرها في الجزء الثالث في الحوادث فانتظره.

__________________

(١) في الأصل : وتسعة.

(٢) في الأصل : وأربعة.

٦١٩

الفصل الثاني : في ذكر المدارس والأربطة والبرك بمكة

وحرمها مما قاربها

قال الفاسي (١) : أما المدارس الموقوفة بمكة [إحدى عشرة](٢) فيما علمت : منها بالجانب الشرقي من المسجد الحرام : مدرسة الملك الأفضل عباس بن الملك المجاهد صاحب اليمن ، أوقفها على الفقهاء الشافعية ، وتعرف الآن بابن عباد الله ، وهي على يمين الخارج من باب النبي ، أوقفها سنة سبعمائة وسبعين.

ومنها بالجانب الشامي : مدرسة العجلة على يمين الخارج من باب المسجد المعروف بباب العجلة ، وتعرف الآن مدرسة عبد الباسط ، أوقفها على أئمة مقام الحنفي. اه.

ومنها بالجانب الغربي ثلاث مدارس : مدرسة الأمير فخر الدين نائب عدن على باب العمرة ، وتعرف بدار السلسلة ، أوقفها على علماء الحنفية سنة خمسمائة [وتسع وسبعين](٣). ومدرسة طاب الزمان الحبشية عتيقة المستنصر العباسي ، وهو الموضع المعروف بدار زبيدة ، وقفتها في شعبان سنة خمسمائة وثمانين على عشرة من الفقهاء الشافعية (٤).

__________________

(١) شفاء الغرام (١ / ٦٠٣).

(٢) في الأصل : أحد عشر.

(٣) في الأصل : ثمانية وتسعين. والتصويب من شفاء الغرام (١ / ٦٠٣) ، وإتحاف الورى (٢ / ٥٤٩).

وانظر الخبر في : شفاء الغرام ، الموضع السابق ، وإتحاف الورى (٢ / ٥٤٩) ، والعقد الثمين (٦ / ٣٥) ، طبعة مصر ، ورحلة ابن جبير (ص : ١٤٦ ـ ١٤٩).

(٤) شفاء الغرام (١ / ٦٠٣) ، وانظر : إتحاف الورى (٢ / ٥٥٣) ، والعقد الثمين (٨ / ٢٦١) ، طبعة مصر.

٦٢٠