تحصيل المرام - ج ١-٢

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]

تحصيل المرام - ج ١-٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٠٧٤

يأخذونها كل سنة لما كانت تكسى من بيت المال فيجوز لهم ذلك ، كما ذكره العلاء وجرى عليه ، واستظهره الشهاب ابن حجر في الحاشية. انتهى.

قال ابن عباس وعائشة : لا بأس أن تكسى من كسوتها الحيّض والنفساء ونحوهما.

قال ابن الجمال : هذا في غير كسوتها في زماننا ، فأما الآن فمكتوب عليها قرآن فلتصن عن اللبس مطلقا إحتراما لها.

وأما الطراز المدور حول البيت وهي الكتابة التي بالفضة المذهبة والبردة [فإنه يأخذها](١) أمراء مكة من السادة الأشراف فيبقون على عادتهم قياسا على الثوب. والله أعلم.

قال التقي الفاسي (٢) : وكان أمراء مكة يأخذون من السدنة ستارة باب الكعبة في كل سنة ، وجانبا من الكسوة ، أو ستة آلاف درهم ، فسمح لهم بذلك الشريف عنان بن مغامس في آخر سنة [ثمان](٣) وثمانين ، ثم إن السيد حسن بن عجلان بعد ولايته بسنتين لمكة صار يأخذ منهم ستارة باب الكعبة وكسوة المقام. انتهى.

تنبيه : لا يجوز بيع ما يهدى إلى الكعبة من الشمع والبخور. ذكره ملا علي القارئ في مناسكه.

وسألت شيخنا العلامة حسين مفتي المالكية عن بيع ما يهدى إلى الكعبة والحرم من الشمع والنّد والزيت الذي يهدى ؛ فأجاب : بأنه لا يجوز ؛ لأنه حبس عليهما. انتهى والله أعلم.

__________________

(١) في الأصل : فإنهم يأخذونها.

(٢) شفاء الغرام (١ / ٢٤١).

(٣) في الأصل : ثمانية.

١٦١

وقال ابن الجمال على الإيضاح : لا يجوز عند الشافعي أخذ شيء من طيب الكعبة لا لتبرك ولا لغيره ، ومن أخذ شيئا من ذلك لزمه رده إليها.

فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده فمسحها به ثم أخذه. انتهى (١).

قال عبد الرؤوف الزمزمي : والظاهر أن [الحجر](٢) كالكعبة في ذلك كله.

الفصل السابع : في بعض فضائل الكعبة المشرفة

وفضل النظر إليها

اعلم أن الله جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنا ، قال تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٥].

في روح البيان (٣) : (مَثابَةً لِلنَّاسِ) مباءة ومرجعا للحجّاج والمعتمرين ، يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه أي : يرجع إليه أعيان الذين يزورونه [بأن](٤) يحجوه مرة بعد أخرى ، أو يرجع أمثالهم وأشباههم ، وكونهم وفد الله وزوار بيته فإنهم لما كانوا أشباها للزائرين أولا كان ما وقع منهم من الزيارة ابتداء بمنزلة عود الأولين فتعريف الناس للعهد الذكري (٥).

وقوله : (وَأَمْناً) موضع أمن ، فإن المشركين كانوا لا يتعرضون لساكن الحرم ويقولون : البيت بيت الله ، وسكانه أهل الله ، بمعنى : أهل بيته.

__________________

(١) صلة الناسك في صفة المناسك للإمام ابن الصلاح رحمه‌الله (ص : ٢١٨) ، وعزا هذا القول هناك لعطاء بن أبي رباح ، ولم أقف على نص في هذا الشأن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) في الأصل : الحجرة.

(٣) روح البيان (١ / ٢٢٥).

(٤) في الأصل : أي : والتصويب من روح البيان.

(٥) في روح البيان : الذهني.

١٦٢

وكان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له. [ويتعرضون](١) لمن حوله ، وهذا شيء توارثوه من دين إسماعيل فبقوا عليه إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو يأمن حاجه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجبّ ما قبله أي : يقطع ويمحو ما قبله من حقوق الله تعالى الغير مالية مثل : كفارة اليمين. وأما [حقوق](٢) العباد فلا يجبّها الحج. كذا في حواشي ابن الشيخ.

ولكن روي أن الله تعالى استجاب دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المزدلفة في الدماء والمظالم (٣). كذا في الكافي ، وتفسير الفاتحة للفناري ، وغيرهما. انتهى.

وأمر الخليل عليه الصلاة والسلام بتطهيره للطائفين والعاكفين ، وعرفه بإضافته إلى جلاله فقال : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) [البقرة : ١٢٥].

شعر :

كفى [شرفا](٤) أنّي مضاف إليكم

وأنّي بكم أدعى وأرعى وأعرف

فنبه قلبك عن سنة الغفلة ، وأيقظ بصر بصيرتك بكحل سراج العرفان ، وتشاهد في مرآة [المظهرية](٥) الربانية ، وتأمل في سر أسرار هذه

__________________

(١) في الأصل : ويتعرض. والتصويب من روح البيان.

(٢) في الأصل : وحقوق. والتصويب من روح البيان.

(٣) حديث استجابة الله للحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه ابن ماجة في كتاب المناسك (٢ / ١٠٠٢) وهو :

عن عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي أن أباه أخبره عن أبيه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة. فأجيب : إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم فإني آخذ للمظلوم منه. قال : أي رب! إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم فلم يجب عشيّته. فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء. فأجيب إلى ما سأل. قال : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قال : تبسم. فقال له أبو بكر وعمر : بأبي أنت وأمي! إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها فما الذي أضحكك؟ أضحك الله سنك! قال : إن عدو الله إبليس ، لما علم أن الله عزوجل قد استجاب دعائي ، وغفر لأمتي ، أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور. فأضحكني ما رأيت من جزعه».

(٤) في الأصل : شرفي. والتصويب من زبدة الأعمال (ص : ٦٦).

(٥) في الأصل : المطهرة. والتصويب من المرجع السابق.

١٦٣

النسبة الإلهية ، وإضافة البيتية واللطيفة السرية والحكمة الغيبية ، وإظهار سر الحقيقة الموجب للشوق في شأن الكعبة المشرفة العلية ، شرفها الله تعالى وفضلها.

وقيل في انجذاب القلوب وميل النفوس أن سبب ذلك : دعاء الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم : ٣٧] : تحجّه. قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما في تفسير معناه : يحبّبن إليه ، ولو قال : «فاجعل أفئدة الناس تهوي إليه» لحجّته اليهود والنصارى.

وجاء في الحديث : أن الله تعالى ينظر إلى الكعبة ليلة النصف من شعبان فتحنّ إليها القلوب من أجل ذلك.

وورد أيضا : أنه ورد أن الله تعالى أوحى إلى الكعبة عند بنائها : إني منزل نورا وخالق بشرا يحنون إليك حنين الحمام إلى بيضه ويدورون إليك.

فانظر [يا أخ الصفا](١) بالوفا ، إلى ما تضمنته هذه الكلمات من فضل الحسن ، وفوائد المنح ، وقلائد المنن بدأ الخلق من العدم ، ثم ابتدأهم بسوابغ النعم ، ونصب خيمة القرى في أم القرى ، ونادى : هلموا ، فيا هنيئا لمن اختير إلى تلك الحضرة وارتضى بمقعد الجلال ، ويا قرة عين من حظي بمشاهدة ذلك الجمال. ذكره الشيخ سعد الدين الإسفرائيني في زبدة الأعمال (٢).

وفيها أوجه أخر في معنى الانجذاب فراجعه إن شئت. انتهى.

ثم قال : وفي قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ٩٦] فضائل كثيرة ودلائل وآيات باهرة.

__________________

(١) في الأصل : يا أخي إلى الصفا ، والمثبت من زبدة الأعمال (ص : ٦٦).

(٢) زبدة الأعمال (ص : ٦٦ ـ ٦٨).

١٦٤

فمن آياتها : ما روي أن الحجّاج الثقفي لما نصب المنجنيق على أبي قبيس بالحجارة والنار فاشتعلت في أستار الكعبة بالنهار ، فأرسل الله سحابة من نحو جدة ، وسمع منها الرعد والبرق فمطرت فما جاوز المطر الكعبة والمطاف فأطفأت النار ، وأرسل الله تعالى عليهم صاعقة فأحرقت منجنيقهم فتداركوه فاحترق تحته أربعة رجال ، فقال الحجاج : لا يهولنكم ذلك فإنها أرض صواعق ، فأرسل الله صاعقة أخرى فاحترق المنجنيق واحترق معه أربعون رجلا (١).

ومنها : ما يوقع هيبته في القلوب والخشوع عنده ، وجريان الدموع لديه ، وامتناع الطير من علوه والجلوس عليه ، إلا أن يكون مريضا فيستشفي ، ولو لا ذلك لكان الساتر مملوءا من قذرها.

ومنها : الحجر الأسود وحفظه.

ومنها : إيلاف السباع [والظباء](٢) في الحرم ويجتمع الكلب والغزال في الحرم ، فإذا جاز من الحرم خطوة سعى الغزال وسعى الكلب [في طلبه](٣) ، فإن لحقه عقره ، وإن عاد إلى الحرم لم يكن له عليه [سلطان](٤) ، وكذا الطيور والصيد لا ينفر من الحرم ولا يتوحش.

ومن الآيات : أن حلّت العقوبة في قوم أساؤوا الأدب عند هذه الحضرة.

روي أن رجلا كان يطوف بالبيت فلصق ساعده على ساعد امرأة ،

__________________

(١) انظر : الجامع اللطيف (ص : ٣٣).

(٢) في الأصل : والضباء. والتصويب من زبدة الأعمال (ص : ٥١).

(٣) زيادة من زبدة الأعمال ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : سلطانا.

١٦٥

فتلذذ بذلك ، فلصق ساعدهما ، فقال له بعض الصالحين : ارجع إلى المكان الذي فعلت فيه فعاهد ربك أن لا تعود ، ففعلا فخلا عنهما (١).

وعن ابن نجيح : أن إساف ونائلة رجل وامرأة حجّا من الشام ، فقبّل أحدهما الآخر في البيت ، فمسخا حجرين ، ثم لم يزالا في المسجد حتى جاء الإسلام فأخرجا.

ويروى أن امرأة عاذت [بهذا](٢) البيت ـ أي : رب هذا البيت ـ عند البيت من رجل ظالم ، فمدّ يده إليها فيبست يده وصار أشلّ (٣).

وروي عن بعض الصالحين أنه قال : رأيت رجلا أعمى يطوف وهو يقول : أعوذ بك منك. فقلت له : ما هذا الدعاء؟ فقال : اعلم أني كنت مجاورا بمكة منذ خمسين سنة ، فنظرت إلى شخص يوما فاستحسنته فسالت عيني ، فقلت : أه ، فوقعت الأخرى ، وسمعت قائلا يقول : لو ازددت لزدناك. اللهم نبّهنا عن سنة الغفلة (٤). انتهى.

وفي حسن المسامرة لابن العربي ولفظه : حج رجل أعجمي ، فبينما هو في الطواف عند الركن اليماني سمع صوت خلخال من قدم بعض الحسان الطائفات ، فلما وقع ذلك الصوت في أذنه أثّر في قلبه ، فالتفت إلى الشخص ، فخرجت يد من ركن البيت فضربته على عينه التي التفت بها فألقتها على خده ، وسمع عند الضربة صوتا من جدار البيت قائلا يقول : تطوف إلى بيتنا وتنظر إلى غيرنا ، هذه نظرة بلطمة أفقدناك فيها عينك وإن

__________________

(١) انظر : (شفاء الغرام ١ / ٣٦١ ، والقرى ص : ٢٧٢ ، ومثير الغرام ص : ٢٩١).

(٢) في الأصل : هذا.

(٣) انظر : (شفاء الغرام ١ / ٣٦٠).

(٤) زبدة الأعمال (ص : ٥١ ـ ٥٣).

١٦٦

زدت زدناك ، وكانت له امرأة يحبها فتوفيت في تلك الساعة التي نظر فيها. انتهى.

وعن عياش بن [أبي](١) ربيعة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا [تزال](٢) أمتي بخير ما عظموا هذا البيت والحرم فإذا ضيعوه هلكوا». رواه أبو داود (٣).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد وعد الله هذا البيت أن يحجه كل سنة ستمائة ألف ، فإن نقصوا كلمهم الله تعالى بالملائكة ، وأن الكعبة تحشر كالعروس ، من حجها تعلق بأستارها حتى تدخلهم الجنة». انتهى زبدة الأعمال (٤).

وقال شيخنا السيد الشريف سيدي عبد الله الدراجي في تقريره على البخاري عند قوله : باب في فضل استقبال القبلة ثم ذكر فضائلها ، ومما ذكر : أنه ورد أن الكعبة المشرفة تأتي إلى المحشر ولها أجنحة وفيها حلق بعدد من طاف بها فيتعلقون بها ، فيسقط بعض الناس من أهل المعاصي من أجل بعض حقوق عليهم لبعض ، فترجع إليهم وتقول لهم : إما أن تسامحوا أهل التبعات ونحملكم معهم وإلا فنقاصص عليهم. انتهى بالمعنى.

ثم قال أيضا : وورد أن الكعبة المشرفة تخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقول له : تكفّل لي بمن لم يحجني ، وأما من حجّني فأنا أتكفل به. والله أعلم.

وذكر اليافعي (٥) قال : أخبرني بعضهم أنه يرى حول الكعبة الملائكة

__________________

(١) قوله : أبي ، زيادة على الأصل. وانظر : (تقريب التهذيب ص : ٤٣٦).

(٢) في الأصل : تزالوا.

(٣) لم أقف عليه في سنن أبي داود.

(٤) زبدة الأعمال (ص : ٧٠).

(٥) هو عفيف الدين عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي ، نسبة إلى يافع من حمير اليمني ، ثم المكي. جاور بمكة وتوفي سنة ٧٦٨ ه‍. له تصانيف كثيرة منها : كتاب مرآة الجنان وعبرة ـ ـ اليقظان في معرفة حوادث الزمان انظر : (الدرر الكامنة ٢ / ٢٤٧ ـ ٢٤٩ ، والنجوم الزاهرة ١١ / ٩٣ ـ ٩٤ ، والبدر الطالع ١ / ٣٧٨ ، والأعلام ٤ / ٧٢).

١٦٧

والأنبياء والصالحين والأولياء عليهم الصلاة والسلام ، وأكثر ما يراهم ليلة الجمعة وكذا ليلة الاثنين وليلة الخميس ، وعدّ لي جماعة كثيرة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وذكر أنه يرى كل واحد منهم في موضع معين يجلس فيه حول الكعبة ويجلس معه أتباعه من أهل بيته وقرابته وأصحابه.

وذكر أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتمع عليه من الأولياء ـ أي : أولياء أمته ـ خلق كثير لا يحصي عددهم إلا الله تعالى ، ولم يجتمع على سائر الأنبياء خلق مثله.

وذكر أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأولاده يجلسون بقرب باب الكعبة بحذاء مقامه المعروف ، وعيسى عليه الصلاة والسلام وجماعته عند الحجر ، وجماعة من الملائكة عليهم‌السلام عند الحجر الأسود ، ورأى سيد الخلق أجمعين المرسل رحمة للعالمين تاج الأصفياء وخاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا عند الركن اليماني مع أهل بيته وأصحابه وأولياء أمته.

وذكر أنه رأى إبراهيم وعيسى عليهم الصلاة والسلام أكثر محبة لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكثر فرحا لفضلهم ، وذكر أسرارا كثيرة منها ما ذكره يطول ، ومنها ما لا تحمله العقول. انتهى كلامه.

[وفي](١) منائح الكرم (٢) قال : وعن بعضهم نقلا عن اليافعي أيضا رحمه‌الله : أن روح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تزل على باب الكعبة لا تفارقه ، وأن روح سيدنا إبراهيم بين الركن اليماني والعراقي لا تفارقه ، وأن روح سيدنا موسى جهة الميزاب ، وروح سيدنا عيسى بين اليمانيين صلى الله عليهم

__________________

(١) قوله : وفي ، زيادة على الأصل.

(٢) منائح الكرم (٤ / ١٢٣).

١٦٨

وسلم ، وأن هذه الأرواح ملازمة لهذه الأماكن الشريفة.

وذكر أن بعض الأكابر حقق ذلك بطريق الكشف ، وأنه كان إذا ابتدأ طوافه يسلم على هذه الأرواح الشريفة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويلاحظها في حال طوافه. انتهى كلامه.

ومن كشف الله عنه الحجاب رأى كل شيء ، والله أعلم.

وفي الفوائح المسكية للشيخ البسطامي قال : اعلم أن الأوتاد الذي يحفظ الله تعالى بهم العالم أربعة ، ولكل واحد منهم ركن من أركان البيت. انتهى كلامه.

وذكر القرشي (١) نقلا عن الجاحظ : أنه لا يرى البيت أحد ممن لم يكن رآه إلا ضحك أو بكى ووقعت هيبته في قلبه. انتهى.

ومن الآيات : كف الجبابرة عنها مدى الدهر مثل أصحاب الفيل ، وتبّع حين قصدها فابتلاه الله بداء حتى تاب ورجع ثم شفاه الله. انظر البحر العميق (٢).

ومن هذا المعنى قول سبيعة (٣) لابنها على ما ذكره ابن العربي قدّس سره :

أبنيّ لا تظلم بمكّ

ة لا الصغير ولا الكبير

واحفظ محارمها [بنيّ](٤)

ولا يغرّنك (٥) الغرور

أبنيّ من يظلم بمكة

يلق أطراف الشّرور

__________________

(١) البحر العميق (٣ / ٢٨٢). وانظر : الجامع اللطيف (ص : ٣٤).

(٢) البحر العميق ، الموضع السابق.

(٣) هي : سبيعة بنت الأحب بن زبينة ، وكانت عند عبد مناف بن كعب بن سعد.

(٤) قوله : بني ، زيادة من مصادر الأبيات.

(٥) في الأصل زيادة لفظ الجلالة : الله.

١٦٩

أبنيّ يضرب وجهه

ويلح بخدّيه السّعير

أبنيّ قد جرّبتها

فوجدت ظالمها يبور

الله أمّنها وما

بنيت بعرصتها قصور

والله أمّن طيرها

والعصم (١) تأمن في ثبير

ولقد غزاها تبّع

وكسا لبنيتها الحرير

وأذلّ ربّي ملكه

فيها فأوفى بالنّذور

يمشي إليها حافيا

بفنائها ألفا بعير

ويظلّ يطعم أهلها

لحم المهاري (٢) والجزور

يسقيهم العسل المصفّ

ى والرّحيض (٣) من الشّعير

والفيل أهلك جيشه

يرمون فيها بالصّخور

والملك في أقصى البلا

د وفي الأعاجم والجزير

فاسمع [إذا](٤) حدّثت واف

هم [كيف](٥) عاقبة الأمور

انتهى من كتاب المسامرة لابن العربي (٦).

وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة ، وتوقيرهم هذه البقعة دون غيرها. ذكره ابن عطية.

حكى النقاش رحمه‌الله قال : كنت أطوف حول الكعبة ليلا فقلت : يا رب! إنك قلت : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] فمن ماذا هو آمن يا رب؟ فسمعت من يكلمني وهو يقول : من النار ، ونظرت فتأملت فما

__________________

(١) العصم : الوعول ، لأنها تعتصم بالجبال.

(٢) المهاري : الإبل العراب النجيبة.

(٣) الرحيض : المنقى ، والمصطفى.

(٤) في الأصل : إذ. والتصويب من المسامرة.

(٥) في الأصل : كل. والتصويب من مصادر الأبيات.

(٦) المسامرة (١ / ١٢٤) ، وانظر : (سيرة ابن هشام ١ / ٢٥ ـ ٢٦ ، والاكتفاء ١ / ١١٠ ، والبداية والنهاية ٢ / ١٦٥).

١٧٠

كان في المكان أحد. انتهى.

وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن هذا البيت دعامة الإسلام ، ومن خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر كان مضمونا على الله إن قبضه أن يدخله الجنة ، وإن ردّه يرده بأجر وغنيمة. أخرجه الأزرقي بسنده. انتهى فاسي في شفاء الغرام (١).

وأما ما جاء في مشاهدة البيت ؛ قال بعض العلماء رحمهم‌الله : من الأدب اللائق بذلك الحضرة الشريفة أنه إن وقع نظره على البيت فليكن ذلك مقرونا بالتعظيم والإجلال ، وأن يحضر في نفسه عند مشاهدة البيت ما خصّ به من تشريف النسبة وأوصاف الجلال من قال :

أبطحاء مكة هذا الذي

أراه [عيانا](٢) وهذا أنا

وقال آخر :

هذه دارهم وأنت محبّ

[ما](٣) بقاء الدّموع في الآماق

روي : أن الشبلي لما حج البيت ، فعندما وصل إليه ورآه عظم عنده ذلك ، فأنشد البيت الأول طربا مستعظما حاله في قوله : أبطحاء مكة ... إلى آخر البيت ، وصار يكرره حتى غشي عليه.

وقد كان العارفون بالله وأرباب القلوب ينزعجون إذا دخلوا مكة ولاحت لهم أنوار الكعبة ، فيهيمون عند مشاهدة الجمال وبلوغ الرتبة ؛ لأن رؤية المنزل تذكر بصاحب المنزل.

وحجت امرأة عابدة ، فلما دخلت مكة جعلت تقول : أين بيت ربي

__________________

(١) شفاء الغرام (١ / ٣١٤) ، وانظر : (أخبار مكة للأزرقي ٢ / ٣).

(٢) في الأصل : عينا. والتصويب من زبدة الأعمال (ص : ٨٥).

(٣) في الأصل : فما. والتصويب من الموضع السابق.

١٧١

ـ وجعلت تكررها ـ؟ فقيل لها : الآن ترينه ، فلما لاح لها البيت قالوا لها : هذا بيت ربك ، فاشتدت نحوه تسعى حتى ألصقت جبينها بحائط البيت ، فما رفعت إلا ميتة. انتهى من زبدة الأعمال (١).

وعن الحسن البصري رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جلس مستقبل الكعبة ساعة واحدة محتسبا لله تعالى ورسوله وتعظيما للبيت كان له كأجر الحاج والمعتمر والمرابط القائم ، وأول ما ينظر الله تعالى إلى أهل الحرم ، فمن رآه مصليا غفر له ، ومن رآه قائما غفر له ، ومن رآه ساجدا غفر له ، ومن رآه مستقبل القبلة غفر له».

وعن يونس [بن خبّاب](٢) : قال : النظر إلى الكعبة عبادة [تعدل](٣) فيما سواها من الأرض عبادة الصائم القائم الدائم القانت (٤).

وعن حماد بن سلمة قال : الناظر إلى الكعبة كالمجتهد في العبادة في غيرها من البلاد (٥).

وعن ابن المسيب : من نظر إلى الكعبة إيمانا واحتسابا خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه (٦).

وعن [أبي السائب](٧) المدني رحمه‌الله قال : من نظر إلى الكعبة إيمانا

__________________

(١) زبدة الأعمال (ص : ٨٥) مخطوط.

(٢) في الأصل : وابن حبان. والتصويب من تقريب التهذيب (ص : ٦١٣).

(٣) زيادة من زبدة الأعمال (ص : ٨٨).

(٤) أخرجه الأزرقي (٢ / ٨). وذكره الفاسي في شفاء الغرام (١ / ٣٤٧).

(٥) أخرجه الأزرقي (٢ / ٨). وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ٣٢٨) وعزاه إلى الأزرقي.

(٦) أخرجه الأزرقي (٢ / ٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ٣٢٨) وعزاه إلى الأزرقي ، والجندي. وذكره الفاسي في شفاء الغرام (١ / ٣٤٧).

(٧) في الأصل : ابن المسيب. والتصويب من تقريب التهذيب (ص : ٦٤٣) ، وانظر : (زبدة الأعمال ص : ٨٩).

١٧٢

واحتسابا وتصديقا تحات عنه الذنوب كما يتحات الورق عن الشجر (١).

قال زهير بن محمد (٢) : الجالس في المسجد ينظر إلى البيت لا يطوف ولا يصلي أفضل من المصلي في بيته لا ينظر إلى الكعبة (٣).

وعن عطاء قال : النظر إلى البيت عبادة ، والدعاء عند رؤية البيت مستجاب ، والناظر إلى البيت بمنزلة الصائم القائم المجاهد في سبيل الله (٤).

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ينزل كل ليلة على هذا البيت مائة [وعشرين](٥) رحمة ، ستون منها للطائفين ، وأربعون للمصلين ، وعشرون للناظرين».

رواه البيهقي والطبراني في المعجم بإسناد حسن (٦). انتهى من زبدة الأعمال (٧).

__________________

(١) أخرجه الأزرقي (٢ / ٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ٣٢٨) وعزاه إلى الأزرقي ، والجندي. وذكره الفاسي في شفاء الغرام (١ / ٣٤٧).

(٢) في الأصل زيادة : قال.

(٣) أخرجه الأزرقي (٢ / ٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ٣٢٨) وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، والأزرقي ، والجندي ، والبيهقي في شعب الإيمان. وذكره الفاسي في شفاء الغرام (١ / ٣٤٧).

(٤) أخرجه الأزرقي (٢ / ٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ٣٢٨) وعزاه إلى الأزرقي.

وذكره الفاسي في شفاء الغرام (١ / ٣٤٧).

(٥) في الأصل : وعشرون.

(٦) أخرجه الأزرقي (٢ / ٨) ، والفاكهي (١ / ١٩٩ ح ٣٢٥) نحوه ، والطبراني في المعجم الكبير (١١ / ١٩٥) ، والبيهقي في الشعب (٣ / ٤٥٥ ح ٤٠٥١). وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ٣٢٨) وعزاه إلى الأزرقي ، والجندي ، وابن عدي ، والبيهقي في شعب الإيمان ، والمنذري في الترغيب. وذكره الفاسي في شفاء الغرام (١ / ٣١٤ ـ ٣١٥ ، ٣٣٦).

(٧) زبدة الأعمال (ص : ٨٨ ـ ٨٩).

١٧٣

الفصل الثامن : فيما يتعلق بالحجر الأسود

وأنه من الجنة ، وفي سبب نزوله ، وما قيل فيه ، وأخذ القرامطة له ، ورده إلى

محله ، وأول من حلّاه ، إلى آخر ما سيأتي إن شاء الله

قد تقدم أن آدم عليه‌السلام لما قدم مكة فإذا خيمة في موضع الكعبة ، وتلك الخيمة ياقوتة حمراء ، ونزل مع الخيمة الركن ، وهو الحجر الأسود وهو ياقوتة بيضاء من أرض الجنة.

وفي مثير الغرام (١) : أنزل الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء ، فأخذه آدم عليه الصلاة والسلام فضمه إليه استئناسا به.

وفي رواية : أنزل الركن مع آدم عليه الصلاة والسلام ليلة نزل آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة ، فلما أصبح رأى الركن والمقام فعرفهما فضمهما إليه واستأنس بهما (٢).

وجاء : أن آدم عليه الصلاة والسلام نزل من الجنة ومعه الحجر الأسود متأبطه ـ أي : تحت إبطه ـ وهو ياقوتة من يواقيت الجنة ، ولو لا أن الله طمس ضوءه ما استطاع أحد أن ينظر إليه (٣).

وعن وهب بن منبه : أن آدم عليه الصلاة والسلام لما أمره الله بالخروج من الجنة أخذ جوهرة من الجنة ـ أي : التي هي من الحجر الأسود ـ مسح دموعه بتلك الجوهرة حتى اسودّت من دموعه ، ثم لما بنى البيت أمره

__________________

(١) مثير الغرام (ص : ٣٧٣).

(٢) أخرجه الأزرقي من حديث ابن عباس (١ / ٣٢٥). وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ٣٢٥) وعزاه إلى الأزرقي. وذكره الفاسي في شفاء الغرام (١ / ٣٦٣).

(٣) أخرجه الأزرقي من حديث ابن عباس (١ / ٣٢٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ٣٢٥) وعزاه إلى الأزرقي.

١٧٤

جبريل عليه‌السلام أن يجعل تلك الجوهرة في الركن ففعل (١).

وفي بهجة الأنوار : أن الحجر الأسود كان في ابتدائه ملكا صالحا ، ولما خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام [أباح](٢) له الجنة كلها إلا الشجرة التي نهاه عنها ، ثم جعل ذلك الملك موكّلا على آدم عليه الصلاة والسلام أن لا يأكل من تلك الشجرة ، فلما قدّر الله أن آدم عليه الصلاة والسلام يأكل من تلك الشجرة غاب عنه ذلك الملك فنظر الله إلى ذلك الملك بالهيبة فصار جوهرة ، ألا ترى أنه جاء في الأحاديث : الحجر الأسود يأتي يوم القيامة وله يد ولسان وأذن وعين ؛ لأنه كان في الإبتداء [ملكا](٣). انتهى. ذكره الحلبي (٤).

ثم قال : ورأيت في ترجمة الشيخ كمال الدين الإخميمي : أنه لما جاور بمكة رأى الحجر الأسود وقد خرج من مكانه فصار له يدان ورجلان ووجه ومشى ساعة ثم رجع إلى مكانه. انتهى (٥).

وقد جاء : أكثروا من استلام الحجر فإنكم توشكون أن تفقدوه ، بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذ أصبحوا وقد فقدوه ، إن الله عزوجل لا يترك شيئا في الأرض من الجنة إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة (٦).

أي فقد جاء : «ليس في الأرض من الجنة إلا الحجر الأسود والمقام ،

__________________

(١) ذكره الحلبي في سيرته (١ / ٢٤٥).

(٢) في الأصل : وأباح. والتصويب من السيرة الحلبية (١ / ٢٤٥).

(٣) قوله : ملكا ، زيادة من السيرة الحلبية ، الموضع السابق.

(٤) السيرة الحلبية (١ / ٢٤٥).

(٥) السيرة الحلبية ، الموضع السابق.

(٦) أخرجه الأزرقي من حديث عائشة رضي‌الله‌عنها (١ / ٣٤٢). والديلمي في الفردوس (١ / ٧٣ ح ٢١٦). وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ٣٢٥) وعزاه إلى الأزرقي. وذكره الفاسي في شفاء الغرام (١ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣).

١٧٥

فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة ، ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله عزوجل» (١). انتهى. ذكره الحلبي (٢).

ولما بنى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ كما تقدم ـ وإسماعيل معه أراد أن يجعل حجرا يجعله علما للناس ، أي : يبتدؤون الطواف منه ويختمون به ، ذهب إسماعيل عليه الصلاة والسلام إلى الوادي يطلب حجرا ، فنزل جبريل عليه‌السلام بالحجر الأسود يتلألأ منه نورا أي : فكان يضيء إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية (٣).

وفي الكشاف (٤) : [إنه اسودّ](٥) لما [مسته](٦) الحيّض في الجاهلية.

وتقدم أنه اسودّ من مسح آدم به دموعه.

وجاء : أنه اسودّ من خطايا بني آدم سودته.

وأما شدّة سواده فبسبب إصابة الحريق له أولا في زمن قريش ، وثانيا في زمن عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنه ، وقد كان رفع إلى السماء حين غرقت الأرض زمن نوح عليه الصلاة والسلام.

وفي رواية : أن إبراهيم لما قال لإسماعيل عليهما الصلاة والسلام : يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا قال : يا أبتي إني كسلان لغب ـ أي : تعب ـ قال : عليّ بذلك ، فانطلق وجاء جبريل عليه‌السلام بالحجر من

__________________

(١) أخرجه الأزرقي من حديث ابن عباس (٢ / ٢٩) ، والفاكهي (١ / ٤٤٣ ح ٩٦٨).

(٢) السيرة الحلبية (١ / ٢٤٦).

(٣) أخرجه الأزرقي من حديث محمد بن إسحاق (١ / ٦٥). وذكره ابن حجر في فتح الباري (٦ / ٤٠٦).

(٤) الكشاف (١ / ٩٤).

(٥) قوله : إنه اسودّ ، زيادة من السيرة الحلبية (١ / ٢٥٥).

(٦) في الأصل : مسه. والتصويب من المرجع السابق.

١٧٦

الهند ، وهو الحجر الذي خرج به آدم من الجنة ـ أي كما تقدم ـ فوضعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام موضعه.

وقيل : وضعه جبريل عليه‌السلام وبنى عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وجاء إسماعيل عليه الصلاة والسلام بحجر من الوادي فوجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد وضع الحجر ، أي : وبنى عليه فقال : من أين هذا الحجر ومن جاء به؟ فقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : من لا يكلني إليك ولا إلى حجرك (١).

وفي لفظ : جاءني به من هو أشد منك ، وفي لفظ : جاء إسماعيل عليه الصلاة والسلام بحجر من الجبل قال : غيّره مرارا لا يرضى ما يأتيه به.

وجاء : إن الله تعالى استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه الصلاة والسلام وقال له : إن رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له ، أي : فلما انتهى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمحل الحجر نادى أبو قبيس إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال : يا إبراهيم ، هذا الركن ، فجاء فحفر عنه فجعله في البيت ، وقيل : تمخض أبو قبيس فانشق عنه (٢).

وفي لفظ : قال : يا إبراهيم يا خليل الرحمن! إن لك عندي وديعة فخذها ، فإذا هو بحجر أبيض من يواقيت الجنة (٣).

ومن ثمّ كان يسمى أبا قبيس في الجاهلية : الأمين ؛ لحفظه ما استودع ، وسمي [أبا](٤) قبيس باسم رجل من جرهم اسمه : قبيس هلك فيه ، وقيل :

__________________

(١) ذكره الطبري في تفسيره (١ / ٥٥٠).

(٢) أخرجه الأزرقي من حديث محمد بن إسحاق (١ / ٦٥).

(٣) ذكره القرطبي في تفسيره (٢ / ١٢٢).

(٤) في الأصل : أبو.

١٧٧

لأنه اقتبس منه الحجر الأسود فسمي بذلك الحجر (١). انتهى (٢). والله أعلم.

ولما بنت قريش البيت وبلغ البناء موضع الحجر الأسود اختصموا (٣) القبائل من قريش ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى محله دون الأخرى حتى أعدوا للقتال ، حتى اختاروا أول داخل من باب السلام يحكم بينهم ، فكان أول داخل هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوضعه في رداء وأمر القبائل أن ترفعه ، ووضعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده الشريفة على ما تقدم. ذكره الحلبي (٤).

وذكر القرشي في البحر العميق (٥) : أن عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنه لما بنى الكعبة وارتفع البناء إلى موضع الركن ، وكان ابن الزبير حين هدم البيت جعل الركن في ديباجة وأدخله في تابوت وقفل عليه ووضعه عنده في دار الندوة ، ولما بلغ البناء إلى موضع الركن أمر ابن الزبير بموضعه ، فنقر في حجرين ، حجر من المدماك الذي تحته ، وحجر من المدماك الذي فوقه بقدر الركن وطوبق بينهما ، فلما فرغوا منه أمر ابن الزبير رضي‌الله‌عنهما ابنه عبّاد ابن الزبير وجبير بن شيبة بن عثمان أن يجعلوا الركن في ثوب ، وقال لهم ابن الزبير رضي‌الله‌عنه : إذا دخلت في صلاة الظهر فاحملوه واجعلوه في موضعه ، فأنا أطوّل الصلاة ، فإذا فرغتم فكبّروا حتى أخفف صلاتي ،

__________________

(١) ذكره الأزرقي (٢ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧).

(٢) السيرة الحلبية (١ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦).

(٣) هي لغة نطقتها العرب وجاء بها القرآن كقوله تعالى : (عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) ، وقوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهي لغة مرجوحة وغيرها أولى منها ، وهي ما يعبر عنها النحويون بلغة : «أكلوني البراغيث» ، وعبر عنها ابن مالك بلغة : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة في النهار». (شرح ابن عقيل ٢ / ٧٩).

(٤) السيرة الحلبية (١ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦).

(٥) البحر العميق (٣ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦).

١٧٨

وكان ذلك في حرّ شديد ، فلما أقيمت الصلاة وكبّر ابن الزبير وصلى بهم ركعة ، خرج عبّاد بالركن من دار الندوة وهو يحمله ومعه جبير بن شيبة ، وقيل : الذي وضعه في موضعه الآن حمزة بن عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنهم. ذكره الزبير بن بكار.

فلما أقرّوه في موضعه وطوبق عليه الحجر كبّر ، فأخفّ ابن الزبير في صلاته ، وسمع الناس بذلك فغضب فيهم رجال قريش حين لم يحضرهم ابن الزبير وقالوا : والله لقد وضع في الجاهلية حين بنته قريش ، فحكموا فيه أول داخل من باب السلام فطلع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعله في ردائه ، ودعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كل قبيلة من قريش رجلا فأخذوا بأركان الثوب ثم وضعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده الشريفة في موضعه.

وفي رواية ذكرها الأزرقي (١) : أن ابن الزبير وضع الحجر الأسود بنفسه ، وكان الركن قد تصدع من الحريق ثلاث فرق ، فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك دهرا طويلا ، فشدّه ابن الزبير بالفضة (٢) ، إلا تلك الشظية من أعلاه ـ موضعها بيّن في أعلا الركن (٣) ـ.

وطول الركن [ذراعان](٤) ، قد أخذ عرض جدار الكعبة ، ومؤخر الركن داخله داخل في الجدار ، مضرّس على ثلاثة رؤوس.

وفي حاشية شيخنا ولفظه : قال القرافي : قال بعض المؤرخين : طول الحجر الأسود في الجدار [ذراع وشبر](٥) ، وعرضه ثمان وعشرون أصبعا ،

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقي (١ / ٢٠٨).

(٢) الفاكهي (٣ / ٢٣٣).

(٣) شفاء الغرام (١ / ٣٦٦).

(٤) في الأصل : ذراع. والتصويب من الأزرقي (١ / ٢٠٨) ، والبحر العميق (٣ / ٢٦٥).

(٥) في الأصل : ذراعا وشبرا.

١٧٩

وارتفاعه عن الأرض ثلاثة أذرع إلا سبع أصابع.

قال ابن جريج : وسمعت من يصف الحجر لون مؤخره الذي في الجدار ، قال بعضهم : هو مورد ، وقال بعضهم : هو أبيض كالفضة (١).

ويروى : أن الحجر الأسود كان لونه قبل الحريق مثل لون المقام فلما احترق اسودّ. انتهى.

وذكر شيخنا ولفظه : وقال محمد بن نافع الخزاعي : تأملت الحجر الأسود وهو مقلوع فإذا السواد في رأسه فقط ، وسائره أبيض ، وطوله قدر عظم الذراع ، وذلك لما اقتلعه أبو طاهر القرمطي على ما يأتي إن شاء الله. انتهى من حاشيته [على](٢) توضيح المناسك ، وعزاه للخفاجي شارح الشفاء.

وذكر الحلبي : كون الحجر وجد مصدوعا بسبب الحريق ، وكون ابن الزبير رضي‌الله‌عنه شدّه بالفضة لا ينافي ما وقع بعد ذلك من أن أبا سعيد كبير القرامطة ، وهم طائفة ملحدة ظهروا بالكوفة (٣) سنة [ثمان](٤) وسبعين ومائتين ، يزعمون أنه لا غسل من الجنابة ، وحل الخمر ، وأنه لا صوم في السنة إلا يوم النيروز والمهرجان (٥) ، ويزيدون في أذانهم أن محمد

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقي (١ / ٢٠٩).

(٢) قوله : على ، زيادة على الأصل.

(٣) الكوفة : ـ بالضم ـ المصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق ، ويسميها قوم : خد العذراء. قال أبو بكر محمد بن القاسم : سميت الكوفة لاستدارتها ، وقيل : سميت الكوفة كوفة ؛ لاجتماع الناس بها (معجم البلدان ٤ / ٤٩٠).

(٤) في الأصل : ثمانية. وفي السيرة الحلبية : سنة سبعين ومائتين.

(٥) يوم النيروز : هو أول السنة الشمسية يوم ١١ / ٩ من كل عام منذ الشعوب القديمة ، وقد أبطله في مصر السلطان برقوق عام ٧٨٧ ه‍ (ابن إياس ١ / ٣٦٣ ، ونظم دولة المماليك ٢ / ١٦٩).

ويوم المهرجان : من أعياد الفرس ، ويحتفلون به يوم ٢٦ / ٩ من كل عام.

١٨٠