تحصيل المرام - ج ١-٢

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]

تحصيل المرام - ج ١-٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٠٧٤

وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، وكونها لا تدخل إلا بإحرام ، وثناء الله تعالى على البيت بقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ ...) إلخ [آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧] ، وفضائل مكة لا تعدّ ولا تحصى ، ولو لم يكن فيها سوى أنها مهبط الوحي ، وأنها مسقط رأس سيد الأنام ، ومنزل القرآن ، ومظهر الإيمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنشأ الخلفاء الراشدين لكفى ذلك شرفا. ذكره القرشي (١).

وقال مالك ـ أي في رواية أشهب ـ عنه : المدينة أفضل من مكة ، وكذا عمر بن الخطاب وأكثر المدنيين ، واستدلّوا بما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين خرج من مكة إلى المدينة : «اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني في أحب البلاد إليك» (٢). رواه الحاكم في المستدرك.

وما هو أحب البقاع إلى الله يكون أفضل ، والظاهر استجابة دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أسكنه المدينة ، فتكون أفضل البقاع.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المدينة خير من مكة» وهو نص في الباب.

ودعا لها ـ أي : للمدينة ـ بمثل ما دعا سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمكة ومثله معه ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصبر على لأوائها أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» (٣) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الإيمان ليأرز إلى ـ المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» (٤).

__________________

(١) البحر العميق (١ / ١٥).

(٢) أخرجه الحاكم (٣ / ٤ ح ٤٢٦١).

(٣) أخرجه مسلم (٢ / ١٠٠٢ ح ١٣٧٤).

(٤) أخرجه البخاري (٢ / ٦٦٣ ح ١٧٧٧) ، ومسلم (١ / ١٣١ ح ١٤٧).

وفي هامش الأصل : قوله : «إن الإيمان ليأرز» هو بتقديم الراء على الزاي ، وهذه الرواية هي رواية الجامع الصغير. وفي صحاح الجوهري : «إن الإسلام ليأرز إلى المدينة

٥٨١

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المدينة تنفي الخبث» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» (٢).

ولأنها مهاجر سيد المرسلين ومواطن استقرار الدين. ذكره القرشي في البحر العميق ، ثم قال : وهذا لفظه. أجاب عن الأول الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في الاستذكار (٣) : أنه لا يصح هذا الحديث الذي هو قوله : «كما أخرجتني إلى أحب البقاع إليّ فأسكني ... إلخ» ولا يختلف أهل العلم في نكارته ووضعه ، وبأنه محمول على أنه أراد أحب البقاع إليك بعد مكة ، على أن الحديث نفسه لا دلالة فيه ؛ لأن قوله : «فأسكني في أحب البقاع» هذا السياق يدل في العرف على أن المراد به بعد مكة ، فإن الإنسان لا يسأل ما أخرج منه ، فإنه قال : «فأخرجتني فأسكني» فدلّ على إيراد غير المخرج منه ، وتكون مكة مسكوت عنها في الحديث. هكذا ذكره القرشي (٤).

وقوله في نكارته ووضعه أي : بهذا اللفظ ، ففي المواهب اللدنية (٥) : وكان قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين خرج من مكة لما وقف على الحزورة نظر إلى البيت فقال : «والله إنك لأحب أرض الله إليّ وإنك لأحب أرض الله إلى الله ، ولولا (٦) أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».

__________________

كما تأرز الحية إلى جحرها» ، أي : ينضمّ إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها (الصحاح ٣ / ٨٦٤).

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٦٦٥ ح ١٧٨٤) ، ومسلم (٢ / ١٠٠٦ ح ١٣٨٤).

(٢) أخرجه البخاري (١ / ٣٩٩ ح ١١٣٧) ، ومسلم (٢ / ١٠١٠ ح ١٣٩٠).

(٣) الاستذكار (٧ / ٢٣٧).

(٤) البحر العميق (١ / ١٦).

(٥) المواهب اللدنية (١ / ٢٩٠ ـ ٢٩١).

(٦) في الأصل : لولا. والتصويب من المواهب ، الموضع السابق.

٥٨٢

قال العلامة القسطلاني : وهذا أصح ما يحتج به على فضل مكة. انتهى.

وفي الخفاجي على الشفاء : «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ ، ولو لا أني أخرجت منها ما خرجت» (١). رواه الترمذي والنسائي وقال : إنه صحيح.

فهو دليل على فضل مكة ، وعن الثاني بأنه ضعيف لا يحتج به ، وقيل : إنه موضوع ، وبأنه وإن كان نصا في التفضيل غير أنه مطلق ، فيحتمل أنه خير من جهة سعة الرزق والمتاجر ، فلم يبق محل للنزاع ، وعن الثالث بأنه مطلق في المدعو به ، فيحمل على زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكون معه النصر ، ويعضده خروج الصحابة رضي‌الله‌عنهم إلى العراق وغيره وهم أهل الإيمان ، وخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق ، فيحمل على زمان يكون الواقع فيه تحقيقا لصدقه ، وكذا الجواب عن السادس والجواب عن السابع أنه يدل على فضل ذلك الموضع لا المدينة ، والله أعلم. انتهى من البحر العميق للقرشي (٢).

وفي الخفاجي وملا علي قاري على الشفاء : وحاصل ما فيهما كما في حاشية توضيح المناسك لشيخنا المشهور من مذهب مالك : أن المدينة أفضل من مكة ، كما رواه أشهب عن الإمام ؛ لحديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان (٣) وهو : «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٧٢٢) ، والنسائي (٢ / ٤٧٩).

(٢) البحر العميق (١ / ١٦).

(٣) البخاري (١ / ٣٩٨) ، ومسلم (٢ / ١٠١٣).

٥٨٣

قال ابن نافع وجماعة من أصحاب مالك : معنى هذا الحديث أن الصلاة في مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام ، فإن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون ألف ـ أي : أقل من الألف ـ.

واحتج المالكية أيضا لتفضيل المدينة بما روي عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه». فيأتي فضيلة مسجد الرسول على المسجد الحرام بتسعمائة ، وعلى غيره بألف.

وتفضيل المدينة على مكة هو قول عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وقول أكثر علماء المدينة.

وذهب ابن وهب وعطاء وابن حبيب من أصحاب مالك في رواية عنه إلى تفضيل مكة ، وهو ما ذهب إليه أهل مكة وعلماء الكوفة ، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وسفيان الثوري ، وحماد ، وعلقمة ، وأصحاب الشافعي وغيرهم ، وحكاه الساجي عن الشافعي ، وحمل هؤلاء المفضلون لمكة الاستثناء في حديث أبي هريرة المتقدم على ظاهره ـ أي : للزيادة ـ وعلى أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل ، واحتجوا لما قالوه بحديث عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنه بمثل حديث أبي هريرة المتقدم وزيد في حديث ابن الزبير : «وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة» ، فهذا منطوق وقع صريحا فلا يعارضه مفهوم ولو كان صحيحا ، وهذا الحديث مما ثبت في مسند الإمام أحمد (١)

__________________

(١) مسند أحمد (٤ / ٥).

٥٨٤

وغيره من حديث عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنه (١).

وقال النووي في شرح مسلم (٢) : هذا حديث حسن. رواه أحمد بن حنبل في مسنده والبيهقي (٣) وغيرهما بإسناد حسن. انتهى.

وقد رواه ابن حبان في صحيحه (٤).

وقد قال الدلجي في قوله : «بمائة صلاة» سقط منه المضاف إلى صلاة ، أي : بمائة ألف صلاة ، إذ قد ورد كذلك عن أحمد ، وابن ماجه ، عن جابر بإسنادين صحيحين بلفظ : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» (٥).

وروى قتادة مثل حديث ابن الزبير ، وحديث ابن الزبير هذا روى صدره أبو هريرة ، وعجزه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنهما.

ومما احتجوا به أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على راحلته بمكة يقول : «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولو لا أني أخرجت منك ما خرجت» (٦). رواه الترمذي والنسائي وقال : [حديث حسن غريب صحيح](٧).

قال الباجي : الذي يقتضيه الحديث ، أي : الوارد في فضل المسجدين

__________________

(١) بهجة النفوس (١ / ١٨٢).

(٢) شرح النووي على صحيح مسلم (٩ / ١٦٤).

(٣) سبق تخريجهما.

(٤) صحيح ابن حبان (٤ / ٤٩٩).

(٥) أخرجه ابن ماجه (١ / ٤٥١) ، وأحمد (٣ / ٣٩٧).

(٦) أخرجه الترمذي (٥ / ٧٢٢) ، والنسائي (٢ / ٤٧٩).

(٧) في الأصل : إنه صحيح حسن. والتصويب من سنن الترمذي (٥ / ٧٢٢).

٥٨٥

مخالفة حكم مسجد مكة لسائر المساجد حتى مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يعلم من الحديث الذي استدلوا به حكم مكة في التفاضل مع المدينة ، إلا أن حديث : «حسنات الحرم بمائة ألف» إن ثبت صريح في أن نفس مكة أفضل من نفس المدينة ، ولا خلاف أن موضع قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من سائر بقاع الأرض ، بل هي أفضل من السموات والعرش والكعبة ، وهاهنا بحث وهو أن البقعة التي ضمت الجسد الشريف العظيم إذا كانت أفضل من سائر البقاع يلزم أن تكون المدينة أفضل من مكة بلا نزاع ؛ لأن المدينة هي تلك البقعة مع زيادة وزيادة الخير ، فكيف يتصور الخلاف بين العلماء على هذا؟ بل نقول : المدينة بعد هجرته إليها وإقامته بها تفضل مكة ؛ لأن شرف المكان بالمكين ، بل في كلام ابن القاسم ما يقتضي أن فضل البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة ثابت قبل دفنه فيها وقبل موته ، بل وقبل هجرته. انظر الخفاجي وملا علي القاري على الشفا. انتهى ما في حاشية توضيح المناسك. والله أعلم.

الفصل الثالث : في الأماكن التي يستجاب فيها الدعاء بمكة المشرفة

وحرمها وما قاربهما

قال الحسن البصري رضي‌الله‌عنه في رسالته (١) : إن الدعاء يستجاب هنالك في خمسة عشر موضعا : في الطواف ، وعند الملتزم ، وتحت الميزاب ، وداخل الكعبة ، وعند زمزم ، وخلف المقام ، وعلى الصفا ، وعلى المروة ، وفي المسعى ، وفي عرفات ، وفي المزدلفة ، وفي منى ، وعند الجمرات الثلاثة.

__________________

(١) فضائل مكة والسكن فيها (ص : ٢٤ ـ ٢٥).

٥٨٦

قال المحب الطبري (١) : إنه يستجاب الدعاء عند الحجر الأسود ، [فتصير](٢) المواضع ستة عشر ، وزاد غيره : عند رؤية البيت ، وفي الحطيم ، وعند المتعوذ ـ وهو المستجار ـ وفي ظهر الكعبة.

وذكروا : أنه يستجاب بين الركن والمقام ، وفي موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفات ، وفي الموقف عند المشعر الحرام.

وحكي في بعض الأجزاء عن [أبي](٣) سهل النيسابوري : أن المواضع التي يستجاب فيها الدعاء بالمسجد الحرام خمسة عشر موضعا ، وعدّ منها : باب بني شيبة ، وباب إبراهيم ، وباب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وباب الصفا ، وبجوار المنبر. انتهى.

وذكر القاضي مجد الدين الشيرازي في كتابه الوصل والمنى مواضع أخر بمكة وحرمها يستجاب الدعاء فيها ؛ لأنه نقل عن النقاش المفسر أنه قال في منسكه : ويستجاب الدعاء على ثبير ، وفي مسجد الكبش. زاد غيره : وفي مسجد الخيف. وزاد غيره : وفي مسجد المنحر ببطن منى. وزاد ابن الجوزي : وفي مسجد البيعة وهو قرب منى ، وفي غار المرسلات ومغارة الفتح ؛ لأنها من ثبير.

قال : وقال النقاش : يستجاب الدعاء إذا دخل من باب بني شيبة ، وفي دار خديجة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجمعة ، وفي مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين عند الزوال ، وفي دار الخيزران عند المختبأ بعد العشائين ، وتحت السدرة بعرفة وقت الزوال ، وفي مسجد الشجرة يوم الأربعاء ، وفي المتكأ غداة الأحد ،

__________________

(١) القرى (ص : ٣١٧).

(٢) في الأصل : فتسير.

(٣) في الأصل : ابن. والمثبت من البحر العميق.

٥٨٧

وفي جبل ثور عند الظهر ، وفي أحد وثبير مطلقا. قيل : وفي مسجد النحل انتهى من البحر العميق للقرشي (١).

ثم قال : مسجد الشجرة بأعلى مكة مقابل مسجد الجن ، ثم قال : وأما مسجد النحل فلم يعرف اليوم ، وكذا المتكأ لم يعرف ، وأنكرها الأزرقي (٢).

قلت : كذلك لم يعرف اليوم مسجد النحل ولا المتكأ ، وكذا تحت السدرة التي بعرفات لم تعرف اليوم.

ثم ذكر القرشي أيضا أن النقاش ذكر في مناسكه : أن الدعاء يستجاب في أربعين موضعا ، وعدّ البعض منها ولم يأت بها كلها ، ووقت كل بقعة بوقت معين ، قال : منها خلف المقام ، وتحت الميزاب وقت السحر ، وعند الركن اليماني مع الفجر ، وعند الحجر الأسود نصف النهار ، وعند الملتزم نصف الليل ، وداخل زمزم عند غيبوبة الشمس ، وداخل البيت عند الزوال ، وعلى الصفا والمروة عند العصر ، وفي دار خديجة رضي‌الله‌عنها ليلة الجمعة ، وفي مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين عند الزوال ، وفي دار الخيزران عند المختبأ بين العشائين ، وبمنى ليلة البدر شطر الليل ، وبالمزدلفة عند طلوع الشمس ، وبعرفة عند وقت الزوال ، وعلى الموقف عند غيبوبة الشمس ، وفي ثور عند الظهر. انتهى كلامه ، هكذا ذكره النقاش (٣).

ثم قال القرشي : ومن المواضع [التي](٤) يستجاب فيها الدعاء : رباط الموقف ، أي. وهو رباط ابن عفان ، وتقدم تعريفه.

__________________

(١) البحر العميق (٢ / ١١٥ ـ ١١٦).

(٢) الأزرقي (٢ / ٢٠٢).

(٣) لقد كثرت هذه الأقوال في الكتاب ولا يصح الأخذ بها.

(٤) في الأصل : الذي.

٥٨٨

ثم قال : ومنها جبل أبي قبيس على ما قيل ، وذكر الفاكهي (١) خبرا في قدوم وفد عاد إلى مكة للاستسقاء ، وتقدم ذلك عند ذكر جبل أبي قبيس.

ثم قال : وعند قبر خديجة الكبرى رضي‌الله‌عنها ، وعند قبر سفيان بن عيينة ، وعند قبر الفضيل بن عياض ، والإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري بمقبرة المعلا.

وذكر الشيخ خليل المالكي : أن الدعاء يستجاب عند قبر الشيخ أبي الحسن الشولي ، وعند قبور سماسرة الخير ، وعند قبر عبد المحسن ، وعند قبر الدلاصي بالقرب من الجبل. انتهى (٢). ذكره القرشي في البحر العميق (٣).

الفصل الرابع : في فضل أهالي مكة المشرفة

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعمل عتّاب رضي‌الله‌عنه قال له : «أتدري على من استعملتك؟! استعملتك على أهل الله فاستوص بهم خيرا ـ يقولها ثلاثا ـ» (٤). ذكره القرشي.

وقال ابن أبي مليكة : كان فيما مضى يلقبون بأهل الله ، فيقال لهم : يا أهل الله ، وهذا من أهل الله (٥).

وروى [الثعالبي](٦) في ثمار القلوب في المضاف والمنسوب : كانوا يقولون لقريش في الجاهلية : أهل الله ، لما تميزوا به ـ أي : بالحرم والبيت ـ

__________________

(١) أخبار مكة للفاكهي (٥ / ١٣٦ ـ ١٣٧).

(٢) لا يجوز الدعاء ولا التبرك عند القبور ، ولا يشفع من في القبور لأحد.

(٣) البحر العميق (٢ / ١١٦).

(٤) أخرجه الأزرقي (٢ / ١٥١). وانظر : البحر العميق (١ / ١٤).

(٥) الأزرقي (٢ / ١٥١) ، والفاكهي (٣ / ٦٨).

(٦) في الأصل : الشبلي. والتصويب من كشف الظنون (١ / ٥٢٣).

٥٨٩

عن سائر العرب في المحاسن والفضائل والمكارم ، فلما جاء الإسلام تظاهر شرفهم وساروا على الحقيقة يدعو أهل الله واستمر عليهم. انتهى.

وروى الأزرقي (١) عن وهب بن منبه أن الله تعالى يقول : من آمن أهل الحرم استوجب بذلك أماني ، ومن أخافهم فقد أخفرني في ذمتي ، ولكل ملك حيازة ، وبعض مكة حوزي.

وفي لفظ : وبطن مكة حوزي التي اخترت لنفسي ، أنا الله ذو بكة ، أهلها جيراني ، وعمّارها وفدي وأضيافي ، وفي كنفي وأماني ، ضامنون عليّ وفي ذمتي وجواري. ذكر جميع ذلك أبو الفرج في مثير الغرام (٢).

[وعن](٣) عبد الملك بن عباد أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أول من أشفع له من أمتي : أهل المدينة وأهل مكة وأهل الطائف» ... الحديث بسنده في أسد الغابة في ترجمة عبد الملك (٤).

وفي الجامع الصغير : «أول من أشفع له من أمتي : أهل المدينة وأهل مكة وأهل الطائف» (٥). أخرجه الطبراني (٦) عن عبد الله بن جعفر. قال شارح الجامع (٧) : حديث صحيح.

وفي المقاصد الحسنة للحافظ السخاوي : سفهاء مكة حشو الجنة. قال الحافظ : حديث تنازع فيه عالمان في الحرم ، فأصبح الطاعن فيه وقد اعوج

__________________

(١) أخرجه الأزرقي (٢ / ١٥٣).

(٢) البحر العميق (١ / ١٤) ، ومثير الغرام (ص : ٢٣٨). وهو جزء من حديث طويل أخرجه البيهقي في الشعب (٣٩٨٥).

(٣) في الأصل : عن.

(٤) الإصابة (٤ / ٣٨٢).

(٥) أخرجه المقدسي في الأحاديث المختارة (٩ / ١٨٧ ح ١٦٧).

(٦) المعجم الأوسط (٢ / ٢٣٠).

(٧) فيض القدير (٣ / ٩١).

٥٩٠

أنفه ورأى قائلا يقول : سفهاء مكة حشو الجنة ـ ثلاثا ـ فاعترف [بالكلام](١) فيما لا يعنيه ، ويقال : إنه ابن أبي الصيف اليمني فإنه كان يقول : إن شئت فإنما هو أسفاء مكة تصحيف على الراوي ، ومعناه : المحزنون. انتهى (٢).

وفي منائح [الكرم](٣) قال : ورأيت في هامش نسخة من الخصائص عند قوله : وبلدة المدينة أفضل البلاد ما عدا مكة ، وبعدها في الفضيلة المدينة ، ثم بيت المقدس بعد مكة والمدينة ، وهذه الثلاث أفضل الأرض ما عدا البقعة التي ضمت أعضاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : وأهلها أفضل الناس. انتهى من التحفة لابن حجر.

ومقتضى هذا : أن أهل مكة أفضل مطلقا من أهل المدينة ، وأهل المدينة مطلقا أفضل من أهل بيت المقدس ، وأهل بيت المقدس مطلقا أفضل من أهل الأرض. انتهى.

وفي الجواهر واليواقيت للقطب الشعراني نقلا عن ابن العربي ـ قدّس سره ـ بعد كلام : إن أسعد الناس بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل حرم مكة. انتهى.

قال السيد تقي الدين الفاسي في شفاء الغرام (٤) : وجد بخط بعض أصحابنا فيما نقله من خط الشيخ أبي العباس الميورقي ورد : سفهاء مكة حشو الجنة ... إلخ.

قال الفاسي : وما ذكر من التفضيل فهو على عمومه للصالح

__________________

(١) في الأصل : في الكلام. وانظر : المقاصد الحسنة (ص : ٢٤١).

(٢) المقاصد الحسنة (ص : ٢٤١ ـ ٢٤٢).

(٣) في الأصل : الكرام.

وانظر الخبر في : منائح الكرم (١ / ٢٥٠).

(٤) شفاء الغرام (١ / ١٦٤).

٥٩١

والطالح ، كما يدل عليه سياق الكلام الذي هو في معرض الامتنان. وهذا الفضل لا يشاركهم فيه أحد ، وهم يشاركون الناس في أعظم الأمور ، مثل الإسلام والحج ، فالواحد منهم عند مسقط رأسه بالأرض إلى حين وفاته يحج البيت إذا كان مقيما ، وفي حال صغره يحرم عنه وليه ، وهذا لا يتأتّى غالبا إلا للمكي ، خصوصا إذا خص أحدهم بزيادة فضيلة نحو العلم والورع والزهد فبخ بخ ، فإن كان قرشيا واجتمعت فيه هذه الفضائل فلا كلام في زيادة فضله. انتهى.

في خلاصة الأثر : أنه لما تزايد ظلم الأروام (١) بمكة ، فكتب في ذلك وسافر بها الشيخ أحمد الرهمتوشي ، فلما وصل إلى حلب سمع هاتفا يقول : إذا نحن شئنا ... إلخ الأبيات الآتية.

وعن بعض السلف : أنه رأى بمكة ما لا يرضيه من سفهائها ، فأنكر ذلك واضطراب فيه فكره ، فلما كان الليل رأى بمكة قائلا ينشد هذه الأبيات :

إذا نحن شئنا [لا](٢) يدبر ملكنا

سوانا ولم نحتج مشيرا يدبّر

فقل للذي قد [رام ما لا نريده](٣)

وأتعب نفسا بالذي يتعذّر

لعمرك ما التصريف إلا لواحد

ولو شاء لم يظهر بمكة منكر

انتهى منائح الكرم (٤).

وجاء في الأثر : إن الله تعالى ينظر كل ليلة إلى أهل الأرض ، فأول ما ينظر إلى أهل الحرم ، وأول ما ينظر إلى أهل المسجد الحرام ؛ فمن رآه طائفا

__________________

(١) المقصود : الأتراك الموجودون بمكة المكرمة.

(٢) في الأصل : فلا ، وقد صوّبناه ليستقيم الوزن الشعري.

(٣) في الأصل : رأى ما لا يريده. والتصويب من منائح الكرم (٢ / ١٨٩).

(٤) في الأصل : الكرام. وانظر الخبر في : منائح الكرم (٢ / ١٨٩).

٥٩٢

غفر له ، ومن رآه مصليا غفر له ، ومن رآه مستقبل القبلة غفر له. ذكره الغزالي في الإحياء (١).

لطيفة : ذكر الشيخ محيي الدين ابن العربي ـ قدس‌سره ورضي‌الله‌عنه ـ في الفتوحات المكية : حدثنا محمد بن إسماعيل ابن أبي الصيف اليمني نزيل مكة ، قال : حدثنا حسين بن علي ، حدثنا الحسن بن خلف بن هبة الله بن قاسم الشامي ، حدثنا الحسن بن أحمد بن فراس ، حدثني أبي [عن أبيه](٢) إبراهيم بن فراس ، عن أبي محمد (٣) إسحاق [بن](٤) نافع الخزاعي ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن المكي ، عن محمد بن العباس المكي ، قال : أخبرني بعض المشايخ المكيين ، أن داود بن عيسى بن موسى لما ولي على مكة والمدينة أقام بمكة وأرسل ولده سليمان إلى المدينة نائبا عنه ، فبعد أن أقام داود بمكة عشرين شهرا كتب إليه أهل المدينة.

وقال الزبير بن أبي بكر : كتب إليه يحيى بن مسكين بن قيس بن أيوب بن مخراق يسأله التحوّل إلى المدينة ، ويعلمه أن مقامه بالمدينة أفضل من مقامه بمكة وذلك في قصيدة وهي هذه القصيدة كما تراها ، غفر الله لنا وله ، آمين :

أداود قد فزت بالمكرمات

وبالعدل في بلد المصطفى

وصرت ثمالا لأهل الحجاز

وسرت بسيرة أهل التقى

وأنت المهذّب من هاشم

وفي منصب العز والمرتجى

__________________

(١) إحياء علوم الدين (١ / ٢٤٢).

(٢) قوله : عن أبيه ، زيادة من الفتوحات المكية.

(٣) في الأصل زيادة : بن. والتصويب من الفتوحات المكية (١ / ٧٥٩).

(٤) في الأصل : عن. والتصويب من الفتوحات المكية ، الموضع السابق.

٥٩٣

وأنت الرّضا للذي نابهم

وفي كل حال ونجل الرضا

وبالفيء أغنيت أهل الخصاص

فعدلك فينا هو المنتهى

ومكة ليست بدار المقام

فهاجر كهجرة (١) من قد مضى

مقامك عشرون شهرا بها

كثير لهم عند أهل الحجا

فضم بلاد الرسول التي

بها الله خص نبي الهدى

ولا ينفينك عن قربه

مشير مشورته بالهوى

فقبر النبي وآثاره

أحق بقربك من ذي طوى

قال : فلما ورد الكتاب والأبيات على داود بن عيسى أرسل إلى رجال من أهل مكة فقرأ عليهم الكتاب ، فأجابه رجل منهم يقال له : عيسى بن عبد العزيز [السعلبوسي](٢) بقصيدة يرد عليه ويذكر فيها فضل مكة وما خصها الله تعالى به من الكرامة والفضيلة ، ويذكر المشاعر والمناقب فقال غفر الله له :

أداود أنت الإمام الرّضا

وأنت ابن عمّ نبيّ الهدى

وأنت المهذّب من كل عيب

[كبيرا](٣) ومن قبله في زمن الصبا

وأنت المؤمّل من هاشم

وأنت ابن قوم كرام تقى

وأنت غياث لأهل الخصاص

تسدّ خصاصتهم بالغنى

أتاك كتاب حسود جحود

أسا في مقالته واعتدى

يخيّر يثرب في شعره

على حرم الله حيث ابتنى

فإن كان يصدق فيما يقول

فلا يسجدنّ إلى ما هنا

وأيّ بلاد تفوق أمّها

ومكة مكة أمّ القرى

وربي دحا الأرض من تحتها

ويثرب لا شكّ فيما دحا

__________________

(١) في الأصل : بهجرة. وانظر الفتوحات المكية ، وأخبار مكة للفاكهي.

(٢) في الأصل : السلعوسي. والتصويب من الفاكهي (٢ / ٢٩٤).

(٣) في الأصل : وكبر. والتصويب من الفتوحات المكية ، والفاكهي.

٥٩٤

وبيت المهيمن فينا مقيم

نصلّي إليه برغم العدا

ومسجدنا بيّن فضله

على غيره ليس في ذا مرا

صلاة المصلّي تعد له

مئين [ألوف](١) صلاة وفا

كذاك أتى في حديث النّبي

وما قال حقّ به يقتدى

وأعمالكم كلّ يوم وفود

إلينا شوارع مثل القطا

فيرفع منها إلهي الذي

يشاء ويترك ما لا يشا

ونحن تحجّ إلينا العباد

فيرمون شعثا بوتر الحصا

ويأتون من كلّ فج عميق

على أينق ضمّر كالقنا

ليقضوا مناسكهم عندنا

فمنهم سعاة ومنهم معا

فكم من ملبّ بصوت حزين

يرى صوته في الهوى قد علا

وآخر يذكر ربّ العباد

ويثني عليه بحسن الثّنا

فكلهم أشعث أغبر

يؤم المعرّف أقصى المدى

فظلّوا به يومهم كلّه

وقوفا يضجون [حتى](٢) المسا

حفاة [ضحاة](٣) قياما لهم

[عجيج](٤) ينادون ربّ السما

رجاء وخوفا لما قدّموا

وكل يسائل دفع البلا

يقولون : يا ربّنا اغفر لنا

بعفوك واصفح عمّن أسا

فلما دنا الليل من يومهم

وولّى النهار أجدّوا البكا

وسار الحجيج إليهم دجى

فحلّوا بجمع بعيد العشا

فباتوا جميعا فلمّا بدا

عمود الصّباح وولّى الدّجى

دعوا ساعة ثم شدّوا الشّسوع

على قلص ثم [أمّوا](٥) منى

__________________

(١) في الأصل : ألوفا. والتصويب من الفاكهي (٢ / ٢٩٥).

(٢) في الأصل : عند. والمثبت من الفتوحات المكية.

(٣) في الأصل : عراة. والمثبت من الفاكهي (٢ / ٢٩٥).

(٤) في الأصل : عجيب. والمثبت من الفتوحات المكية.

(٥) في الأصل : أمسوا. والمثبت من الفاكهي (٢ / ٢٩٥).

٥٩٥

فمن بين من قد قضى نسكه

وآخر يبدأ بسفك الدّما

وآخر يهوي إلى مكة

ليسعى ويدعوه فيمن دعا

وآخر يرمل حول الطّواف

وآخر ماض يؤم الصّفا

فآبوا بأفضل مما رجوا

وما طلبوا من جزيل العطا

وحجّ الملائكة المكرمون

إلى أرضنا قبل فيما مضى

وآدم قد حجّ من بعدهم

ومن بعده أحمد المصطفى

وحجّ إلينا خليل الإله

وهجّر بالرّمي فيمن رمى

فهذا لعمري لنا رفعة

حبانا بهذا شديد القوى

ومنا النبي نبيّ الهدى

وفينا تنبّا ومنّا ابتدى

ومنا أبو بكر ابن الكرام

ومنا أبو حفص المرتجى

وعثمان منّا فمن مثله

إذا عدّد الناس أهل التّقى

ومنّا عليّ ومنّا الزبير

وطلحة منّا وفينا انتشا

ومنا ابن عباس [ذو](١) المكرمات

نسيب النبي وحلف النّدى

ومنّا قريش وآباؤها

ونحن إلى فخرنا المنتهى

ومنّا الذين بهم تفخرون

فلا تفخرون علينا بنا؟

ففخر أولاء لنا رفعة

وفينا من الفخر ما قد كفى

وزمزم والحجر فينا فهل

لكم مكرمات كما قد لنا؟

وزمزم طعم وشرب لمن

أراد الطعام وفيه الشّفا

وزمزم [تنفي](٢) هموم الصدور

وزمزم من كل سقم دوا

[وكم](٣) جاء زمزم من جائع

إذا ما تضلّع منها اكتفى

وليست كزمزم في أرضكم

كما ليس نحن وأنتم سوا

وفينا سقاية عمّ الرسول

ومنها النبي امتلا وارتوى

__________________

(١) في الأصل : ذي. والمثبت من الفتوحات المكية. (٢) في الأصل : ينفي. والمثبت من الفتوحات المكية.

(٣) في الأصل : ومن. والتصويب من إفادة الأنام (مخطوط ج ٦ ص : ٣٤).

٥٩٦

وفينا المقام فأكرم به

وفينا المحصّب والمنحنى (١)

وفينا الحجون ففاخر به

وفينا كدي وفينا كدا

وفينا الأباطح [والمروتان](٢)

فثج وعج فمن مثلنا

وفينا المشاعر منشا النبي

وأجياد والرّكن والمتّكا

وثور فهل عندكم مثل ثو

ر وفينا ثبير وفينا حرا

[وفيه اختباء](٣) نبي الإله

ومعه أبو بكر المرتضى

فكم بين أحد [إذا جاء فخر](٤)

وبين القبيسيّ فيما ترى

وبلدتنا حرم لم تزل

محرمة الصّيد فيما خلا

ويثرب كانت حلالا فلا

تكذبن كم بين هذا وذا

فحرّمها بعد ذاك النبي

فمن أجل ذلك جاء (٥) كذا

فلو قتل الوحش في يثرب

لما فدي الوحش حتى اللقا

ولو قتلت عندنا نملة

أخذتم بها أو تؤدّوا الفدا

ولو لا زيارة قبر النبي

لكنتم كسائر من قد بدا

وليس النبيّ بها ثاويا

ولكنه في جنان العلا

فإن قلت قولا خلاف الذي

أقول فقد قلت قول الخطا

فلا تفحشنّ علينا المقال

ولا تنطقنّ بقول الخنا

ولا تفخرنّ بما لا يكون

ولا ما يشينك عند الملا

ولا تهج بالشّعر أرض الحرام

وكفّ لسانك عن ذي طوى

وإلا لجاءك ما لا تريد

من الشّتم في أرضكم والأذى

وقد يمكن القول في أرضكم

بسبّ [العقيق](٦) ووادي قبا

__________________

(١) في الفتوحات المكية والفاكهي : والمختبا.

(٢) في الأصل : والمروتين. والمثبت من الفتوحات المكية.

(٣) في الأصل : وفينا اجتبى. والمثبت من الفتوحات المكية.

(٤) في الأصل : دجى فاخر. والمثبت من الفتوحات المكية.

(٥) في الأصل : زيادة : ذا.

(٦) في الأصل : عقيق.

٥٩٧

فأجابهمارجل من بني عجل ناسك ،كان مقيما بجدة مرابطا هناك فحكم بينهما فقال :

إني قضيت على اللذين تماريا

في فضل مكة والمدينة فاسألوا

فلسوف أخبركم بحقّ فافهموا

فالحكم حينا قد يجور ويعدل

فأنا الفتى العجلي جدّة مسكني

وخزانة الحرم التي لا تجهل

وبها الجهاد مع الرّباط وإنها

لبها الوقيعة لا محالة تنزل

من آل حام في أواخر دهرها

وشهيدها بشهيد بدر يعدل

شهداؤنا قد فضّلوا بسعادة

وبها السرور لمن يموت ويقتل

يا أيها المدنيّ أرضك فضلها

فوق البلاد وفضل مكة أفضل

أرض بها البيت المحرّم قبلة

للعالمين له المساجد تعدل

حرم حرام أرضها وصيودها

والصيد في كلّ البلاد محلّل

وبها المشاعر والمناسك كلّها

وإلى فضيلتها البريّة ترحل

وبها المقام وحوض زمزم مترعا

والحجر والرّكن الذي لا يجهل

والمسجد العالي الممجّد والصفا

والمشعران ومن يطوف ويرمل

هل في البلاد محلّة معروفة

مثل المعرّف إذ يحل محلل

أو مثل جمع في المواطن كلّها

أو مثل خيف منى بأرض منزل

تلكم مواضع لا يرى [برحابها](١)

إلا الدماء ومحرم ومحلّل

شرفا لمن وافى المعرّف [ضيفه](٢)

شرفا له ولأرضه إذ ينزل

وبمكة الحسنات يضعف أجرها

وبها المسيء عن الخطيئة يسأل

يجزى المسيء على الخطيئة مثلها

وتضاعف الحسنات منه وتقبل

ما ينبغي لك أن تفاخر يا فتى

أرضا بها ولد النبي المرسل

بالشعب دون الردم مسقط رأسه

وبها نشا صلى عليه المرسل

__________________

(١) في الأصل : محرابها. والمثبت من الفاكهي (٢ / ٢٩٨).

(٢) في الأصل : ضيعة. والمثبت من الفتوحات المكية.

٥٩٨

وبها أقام وجاءه وحي السما

وسرى به الملك الرفيع المنزل

ونبوّة الرحمن فيها أنزلت

والدّين فيها قبل دينك أول

هل بالمدينة هاشميّ ساكن

أو من قريش ناشئ أو مكهل؟

إلا ومكة أرضه وقراره

لكنهم عنها نبوا فتحوّلوا

فكذاك هاجر نحوكم لما أتى

إنّ المدينة هجرة فتحمّلوا

فأجرتم وقريتم ونصرتم

خير البريّة حقّكم أن تفعلوا

فضل المدينة بيّن ولأهلها

فضل قديم نوره يتهلّل

من لم يقل إنّ الفضيلة فيكم

قلنا كذبت وقول ذلك أرذل

لا خير فيمن ليس يعرف فضلكم

من كان يجهله فلسنا نجهل

في أرضكم قبر النبي وبيته

والمنبر العالي الرفيع الأطول

وبها قبور السابقين بفضلهم

عمر وصاحبه الرفيق الأفضل

والعترة الميمونة اللّاتي بها

سبقت فضيلة كلّ من يتفضّل

آل النبي بنوا عليّ إنّهم

أمسوا ضياء للبريّة يشمل

يا من تبضّ (١) إلى المدينة عينه

فيك الصّغار وصعر خدّك أسفل

إنا لنهواها ونهوى أهلها

وودادها حقّ على من يعقل

قل للمديني الذي يزدار دا

ود الأمير ويستحث ويعجل

قد جاءكم داود بعد كتابكم

قد كان حبلك في أميرك يفتل

فاطلب أميرك واستزره ولا تقع

في بلدة عظمت فوعظك أفضل

ساق الإله لبطن مكة ديمة

تروى بها وعلى المدينة تسبل

انتهى من الفتوحات المكية (٢).

__________________

(١) العين تبضّ بضّا وبضيضا : دمعت. لسان العرب (٧ / ١١٨).

(٢) الفتوحات المكية (١ / ٧٥٩ ـ ٧٦٣). وانظر القصيدة في أخبار مكة للفاكهي (٢ / ٢٩٣ ـ ٢٩٩) ، وإتحاف الورى (٢ / ٢٥٠ ـ ٢٥٦).

٥٩٩

الفصل الخامس : في حكم المجاورة بمكة وفضلها

فذهب أبو حنيفة رحمه‌الله وبعض أصحاب الشافعي وجماعة من المحتاطين في دين الله إلى كراهية المقام بمكة.

قال صاحب المنظومة : ويكون ذلك إثما ، وذلك لمعان ثلاث (١) :

أحدها : الحدّ (٢) خوف التبرم والأنس بالبيت ، فإن ذلك ربما يؤثر في تسكين حرقة القلب في [الاحترام](٣) ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يدور على الحجّاج بعد قضاء حجّهم بالدرّة ، ويقول : يا أهل اليمن يمنكم ، ويا أهل الشام شامكم ، ويا أهل العراق عراقكم ، فإنه أبقى لحرمة بيت ربكم في قلوبكم. وكذا همّ عمر أن يمنع الناس من كثرة الطواف ؛ خشية أن يأنس الناس بهذا البيت فتزول هيبته من صدورهم.

الثاني : تهيّج الشوق بالمفارقة له ، [لتنبعث](٤) داعية العود ، فإن الله جعل البيت مثابة [للناس ، يثوبون إليه](٥) ، أي : يؤولون ويعودون إليه مرة بعد أخرى ، ولا يقضون منه [وطرا](٦).

وقال بعضهم : [لأن](٧) تكون في بلدك وقلبك مشتاق إلى مكة متعلق بهذا البيت خير لك من أن تكون فيه وأنت متبرم بالمقام وقلبك في بلد

__________________

(١) انظر : التشويق إلى البيت العتيق (ص : ٢٢٤) ، والبحر العميق (١ / ١٦) ، ومنائح الكرم (١ / ٢٣٥) ، وشفاء الغرام (١ / ١٥٩) ، والجامع اللطيف (ص : ١٦٤).

(٢) كذا في الأصل.

(٣) في الأصل : الإضرام. والتصويب من التشويق ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : لتبعث. والتصويب من التشويق ، الموضع السابق.

(٥) زيادة من التشويق ، الموضع السابق.

(٦) في الأصل : وترا. والتصويب من التشويق ، الموضع السابق ، والبحر العميق (١ / ١٦).

(٧) زيادة من التشويق (ص : ٢٢٤).

٦٠٠