تحصيل المرام - ج ١-٢

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]

تحصيل المرام - ج ١-٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٠٧٤

وفي درر الفرائد (١) : أن السلطان سليمان العثماني غيّر الأساطين [التي](٢) حول المطاف وكانت من حجارة بأعمدة من نحاس في سنة تسعمائة [واثنتين](٣) وثلاثين [وبينها](٤) أخشاب ممدودة لتعلق فيها القناديل حول المطاف ، وعدة النحاس ثلاثون ، وفي جهة زمزم في آخر الأساطين [عمود رخام](٥) ، وفي آخر الأساطين من الجهة الأخرى من جهة المنبر عمود رخام. انتهى من منائح [الكرم](٦).

أقول : وقد جدد محمد عزت باشا في زمن السلطان عبد المجيد خان عمودين من رخام من جهة باب بني شيبة على حافة الصحن ، عليها أعمدة من حديد ، منقور لها بين الأساطين ، متصلة تلك الأعمدة بالأساطين القديمة. انتهى.

وقد غيّرت أيضا الأخشاب [التي](٧) بين الأساطين [التي](٨) حول المطاف بأعمدة [من](٩) حديد تعلّق فيها القناديل ، وبين كل عمودين سبع قناديل. انتهى.

وفي مختصر روضة ربيع الأبرار (١٠) قال معاذ رضي‌الله‌عنه ، رفعه : من علق قنديلا في المسجد صلّى عليه سبعون ألف ملك حتى ينكسر ذلك

__________________

(١) درر الفرائد (١ / ٥٠).

(٢) في الأصل : الذي.

(٣) في الأصل : واثنين.

(٤) في الأصل : وبينهما.

(٥) في الأصل : عمودا رخاما ، وكذا وردت في الموضع التالي.

(٦) في الأصل : الكرام.

(٧) في الأصل : الذي.

(٨) مثل السابق.

(٩) زيادة من الغازي (١ / ٦٩٠).

(١٠) روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار (ص : ٦٧).

٢٨١

القنديل ، ومن بسط فيه حصيرا صلّى عليه سبعون ألف ملك حتى يتقطع ذلك الحصير. ذكره في الروضة الثالثة عشر.

فائدة : قال الشبرخيتي على شرح خليل : قال بعضهم : إن الأساطين التي حول المطاف هي حد الحرم الذي كان في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر رضي‌الله‌عنه ، وما وراء ذلك فهو الزيادة. انتهى. والله أعلم.

ومما أحدث في الحرم من الأعمدة النحاس ستة أعمدة ، أرسلتها والدة السلطان عبد المجيد خان في رأسها صورة نخلة من صفر ، طول كل عمود نحو خمسة أذرع مفرقة بالمسجد الحرام ، فأربعة في مقابلة أركان المسجد وواحد خلف المقام الحنفي ، والآخر مقابله في جهة باب الصفا ، وركب كل عمود على قاعدة من حجر طولها نحو ذراع ، ويعلّق في رأس كل عمود ستة قناديل. انتهى.

وذلك في سنة ألف ومائتين ونيف وخمسين كما أخبر بذلك الوالد المرحوم رحمة الله عليه.

وللأديب إبراهيم المهتار المكي (١) :

تراءت قناديل المطاف لناظري

عن البعد والظلماء ذات تناهي

كدائرة من خالص التبر وسطها

فتّيت مسك وهي بيت إلهي

__________________

(١) انظر : خلاصة الأثر (١ / ٥٧).

٢٨٢

الباب الثاني : في إخراج زمزم

وفيه ثلاثة فصول :

الفصل الأول : في ذكر إخراج زمزم لإسماعيل عليه الصلاة والسلام

ذكر القرشي (١) : لما كان بين هاجر أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام وبين سارة امرأة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما كان ـ وقصتهما مشهورة ـ أقبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهاجر وابنها إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو صغير يرضع حتى قدم مكة ، ومع أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام شنّة فيها ماء ، تشرب وتدرّ على ابنها ، وليس معها زاد.

وفي رواية : [ومعها](٢) جراب فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، وليس بمكة أحد ، وليس فيها ماء ، فعمد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى دوحة فوق زمزم ـ أي بجنبها ـ ، وفي رواية : في الحجر ـ أي محله ـ ذكرها الأزرقي (٣) ، فوضعهما عندها.

وفي منائح [الكرم](٤) : أن محل الدوحة هي الخلوة التي قدام مقام الحنبلي لاصقة بزمزم ، أي [التي](٥) فيها الأغوات التي فيها السبيل. انتهى.

وهذا المحل هو الذي كان يجلس فيه سيدنا عبد الله بن العباس رضي‌الله‌عنهما.

__________________

(١) البحر العميق (٣ / ٢٧٢).

(٢) في الأصل : ومعاها. والتصويب من البحر العميق ، الموضع السابق.

(٣) انظر : (الأزرقي ٢ / ٣١).

(٤) في الأصل : الكرام.

(٥) في الأصل : الذي ، وكذا وردت في الموضع التالي.

٢٨٣

ثم توجه إبراهيم عليه الصلاة والسلام خارجا على دابته ، فتبعته هاجر حتى وافى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بكداء ، فقالت له هاجر : إلى من تركتنا؟ قال : إلى الله عزوجل ، فقالت : رضيت بالله.

وفي رواية : قالت له : إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ وقالت له ذلك مرارا فلم يلتفت إليها. فقالت : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم. فقالت : إذا لا يضيعنا الله ، ثم رجعت تحمل ابنها ، فانطلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم رفع يديه وقال : اللهم (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ...) ـ إلى قوله ـ : (يَشْكُرُونَ) [إبراهيم : ٣٧] ، وجعلت هاجر ترضع ولدها حتى فني ماء [شنّتها](١) فانقطع درّها ، فجاع ابنها فاشتد جوعه ، حتى نظرت إليه أمه يتشحط (٢) ، فخشيت أمه [أن](٣) يموت عليه الصلاة والسلام ، فقالت أمه : لو تغيبت [عنه](٤) حتى يموت ولا أدري بموته ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا وقالت : لو مشيت بين هذين الجبلين تعللت حتى يموت الصبي ولا أراه ، [فمشت](٥) بينهما حتى إذا وصلت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، فقامت عليها فنظرت فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات.

__________________

(١) في الأصل : شنها.

(٢) يتشحط : يتخبط ويضطرب ويتمرغ (اللسان ، مادة شحط).

(٣) في الأصل : أنه. والتصويب من البحر العميق (٣ / ٢٧٣).

(٤) في الأصل : فيه.

(٥) في الأصل : فمشيت.

٢٨٤

وفي كتاب الأزرقي (١) عن ابن عباس : [ثلاث](٢) أو أربع ولا تجيز بطن الوادي في ذلك إلا رملا. يقول ابن عباس : ثم رجعت أم إسماعيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى ابنها فوجدته ينشغ (٣) كما تركته فأحزنها ، فعادت إلى الصفا تتعلل حتى يموت ، فمشت بين الصفا والمروة كما مشت أول مرة.

يقول ابن عباس : حتى كان مشيها بينهما سبع مرات.

قال ابن عباس : قال أبو القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلذلك طاف الناس بين الصفا والمروة». انتهى.

وذكر القرشي (٤) : فلما رجعت إلى المروة سمعت صوتا فقالت : صه ـ تريد نفسها ـ ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غوث ، فخرج لها جبريل عليه‌السلام فاتبعته حتى وصل عند زمزم (٥) ، فبحث بعقبه ـ أو بجناحه ـ حتى ظهر الماء وهي تقول بيدها هكذا ، وتفرغ من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف ، فشربت وأرضعت ولدها. وقال لها جبريل عليه‌السلام : لا تخافي الضيعة ، فإن هاهنا بيت الله عزوجل ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله تعالى لا يضيع أهله.

زاد البخاري (٦) عن ابن عباس : وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ... ثم ساق القصة.

__________________

(١) الأزرقي (٢ / ٤٠).

(٢) في الأصل : ثلاثة.

(٣) النّشغ : الشّهيق حتى يكاد يبلغ به الغشي (لسان العرب ، مادة : نشغ).

(٤) البحر العميق (٣ / ٢٧٣).

(٥) في الأصل زيادة : فاتبعته.

(٦) أخرجه البخاري (٣ / ١٢٢٨ / ح ٣١٨٤).

٢٨٥

وذكر الفاكهي (١) : أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حفر زمزم بعد جبريل عليه‌السلام ثم عقب عليه ذو القرنين.

وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم» ، أو قال : «لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا» (٢).

وفي السيرة الحلبية (٣) ولفظه : ففي ربيع الأبرار : أن جبريل عليه‌السلام أخرج زمزم مرتين ، مرة لآدم عليه‌السلام ، ومرة لإسماعيل عليهما الصلاة والسلام. اه.

والذي في ربيع الأبرار (٤) ولفظه : زمزم هزمة (٥) جبريل أنبطها مرتين ، مرة لآدم عليه الصلاة والسلام فلم تزل كذلك حتى انقطعت عند الطوفان ، ومرة لإسماعيل. ذكره في باب العيون والآبار. انتهى.

وعلى باب بئر زمزم مكتوب (٦) أبيات أولها (٧) :

سرور لسلطان البرية والورى (٨)

إلى أن قال :

حفيرة إسماعيل أعني ابن هاجر (٩)

وركضة جبريل على عهد آدم

تأمل. والله أعلم.

__________________

(١) الفاكهي (٢ / ٩).

(٢) أخرجه البخاري من حديث ابن عباس (٢ / ٨٣٤ ح ٢٢٣٩).

(٣) السيرة الحلبية (١ / ٥١).

(٤) ربيع الأبرار (١ / ٢٤٥).

(٥) الهزمة : النقرة في الصخرة ونحوه ، وما تطامن من الأرض (اللسان ، مادة : هزم).

(٦) في الأصل زيادة كلمة : رد ، فوق الكلمة السابقة.

(٧) انظر هذه الأبيات في : التاريخ القويم (٣ / ٨٢).

(٨) في الأصل : سرور لملك للبسيطة والورى. والمثبت من التاريخ القويم ، الموضع السابق.

(٩) في الأصل : حفيرة إبراهيم يوم ابن آجر. والمثبت من التاريخ القويم ، الموضع السابق.

٢٨٦

وذكر الأزرقي (١) عن ابن جريج : أن جبريل عليه‌السلام حين هزم بعقبه في موضع زمزم فقال لأم إسماعيل ـ وأشار إليها إلى موضع البيت ـ : هذا أول بيت وضع للناس ، وهو بيت الله العتيق ، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام يرفعاه للناس ويعمرونه ، ولا يزال معمورا محرما إلى يوم القيامة ـ أي : قربها ـ. قال ابن جريج : فماتت أم إسماعيل قبل أن يرفعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ودفنت في موضع الحجر. انتهى.

فبينما هاجر وابنها كذلك إذ مرّ ركب من جرهم قافلين من الشام في الطريق السفلي ، فرأى الركب الطير على الماء ، فقال بعضهم : ما كان بهذا الوادي من ماء ولا أنيس ، فأرسلوا جاريتين لهم حتى أتيا أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام فكلّماها ، ثم رجعا إلى الرّكب فأخبروهم [بمكانها](٢) ، فرجع الركب كله حتى حيّوها ، فردّت عليهم ، وقالوا : لمن هذا الماء؟ قالت أم إسماعيل : هو لي. قالوا : [أتأذنين](٣) لنا أن نسكن معك؟ قالت : نعم. ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألفت ذلك أم إسماعيل وقد أحبت الأنس» ، فنزلوا وبعثوا إلى أهلهم فقدموا ، وسكنوا تحت الدوح وأعرشوا عليها العريش ، فكانت معهم هي وابنها.

قال بعض أهل العلم : وكانت جرهم تشرب من ماء زمزم ، فمكثت بذلك ما شاء الله أن تمكث ، فلما استخفت جرهم وتهاونوا بحرمة البيت ، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدي إليها ، وارتكبوا مع ذلك أمورا عظاما نضب

__________________

(١) أخرجه الأزرقي (١ / ٥٦).

(٢) في الأصل : بمائها. والتصويب من البحر العميق (٣ / ٢٧٣).

(٣) في الأصل : أتأذني.

٢٨٧

ماء زمزم وانقطع ، فلم يزل موضعه يدرس ويتقادم وتمر عليه السيول عصرا بعد عصر حتى غبي مكانه ، وسلط الله خزاعة على جرهم فأخرجتهم من الحرم ، ووليت خزاعة الكعبة والحكم بمكة ، وموضع زمزم في ذلك داثر لا يعرف لتقادم الزمن ، حتى بوّأه الله لعبد المطلب بن هاشم لما أراد الله من ذلك ، فخصّه به من بين قريش ، وقيل : إن جرهم دفنت زمزم. ذكره القرشي (١).

وذكر الحلبي (٢) : أن جرهم لما استخفت بأمر البيت وارتكبوا الأمور العظام قام فيهم رئيسهم مضاض ـ وفي كتاب مكة للأزرقي (٣) : إن مضاض هذا جدّ [نابت](٤) بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن ، أي : أبو أمه ـ ومضاض ـ بكسر الميم ، وحكي : ضمها ـ [خطيبا ووعظهم ، فلم يرعووا](٥) ، فلما رأى ذلك منهم عمد إلى [غزالتين](٦) من ذهب كانتا في الكعبة وما وجد فيها من الأموال ـ أي : السيوف والدروع ـ التي كانت تهدى إلى الكعبة ودفنها في بئر زمزم.

وفي مرآة الزمان : أن هاتين الغزالتين أهداهما إلى الكعبة ساسان أول ملوك الفرس الثانية ، ورد بأن الفرس لم يحكموا البيت ولا حجوا. هذا كلامه. وفيه : أن هذا لا ينافي ذلك ، تأمل. وكانت بئر زمزم نضب ماؤها ـ أي : ذهب ـ فحفر مضاض بالليل وأعمق الحفر ودفن بها ذلك ـ أي :

__________________

(١) البحر العميق (٣ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣).

(٢) السيرة الحلبية (١ / ٥١).

(٣) الأزرقي (١ / ٨١).

(٤) في الأصل : ثابن. والتصويب من الأزرقي ، الموضع السابق.

(٥) ما بين المعكوفين زيادة من السيرة الحلبية (١ / ٥١).

(٦) في الأصل : غزالين.

٢٨٨

ودفن الحجر الأسود أيضا كما قيل ـ وطمّ البئر ، واعتزل قومه ، فسلط الله عليهم خزاعة فأخرجتهم من الحرم وتفرقوا وهلكوا. ثم لا زالت زمزم مطمومة لا يعرف محلها مدة خزاعة ومدة قصي ومن بعدهم إلى زمن عبد المطلب ورؤياه التي أمر بحفرها ، قيل : وتلك المدة خمسمائة سنة ، أي : وكان قصي احتفر بئرا في الدار التي يقال لها : دار أم هانئ ، وهي أول سقاية احتفرت بمكة. انتهى ما ذكره الحلبي (١).

الفصل الثاني : في ذكر حفر عبد المطلب جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمزم

بعدما اندرست كما تقدم

ذكر القرشي في البحر العميق (٢) : عن الزهري قال : أول ما ذكر من أمر عبد المطلب جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قريشا خرجت فارّة من أصحاب الفيل ، وهو غلام شاب فقال : والله لا أخرج من الحرم أبتغي العز في غيره ، فجلس عند البيت وأخلت عنه قريش ، فلم يزل ثابتا في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه ، وكون عبد المطلب خرج إلى أصحاب الفيل وقال لهم : أنا رب إبلي ، ورب البيت يحميها ، فلا يخالف أنه ثبت في الحرم ولم يخرج ؛ لأن المحسر من الحرم ، تأمل. ورجعت قريش وقد عظم فيها بصره وتعظيمه محارم الله ، فبينما هو كذلك وقد ولد له أكبر بنيه وهو الحارث بن عبد المطلب فأدرك.

وعن عليّ رضي‌الله‌عنه ، قال عبد المطلب : إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال : احفر طيبة. قال : قلت : وما طيبة؟ قال : ثم ذهب عني ،

__________________

(١) السيرة الحلبية (١ / ٥٢).

(٢) الأزرقي (٢ / ٤٢ ـ ٤٤) ، والبحر العميق (٣ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤).

٢٨٩

فرجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال : احفر برّة. قال : قلت : وما برّة؟ قال : ثم ذهب عني ، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال : احفر زمزم قلت : وما زمزم؟ قال : لا تزف ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم ، وهي بين الفرث والدم ، عند نقرة الغراب الأعصم ، عند قرية النمل. ذكره الحلبي (١).

وفي رواية : فاستيقظ فقال : اللهم بيّن لي ، فأتي في المنام مرة أخرى ، فقيل له : احفر تكتم بين الفرث والدم في مبحث الغراب الأعصم في قرية النمل مستقبل الأنصاب الحمر ، فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما [سمّي](٢) له من الآيات ، [فنحرت](٣) بقرة بالحزورة (٤) فانفلتت من جزارها بحشاشة نفسها حتى غلبها الموت في المسجد في موضع زمزم ، فجزرت تلك البقرة في مكانها حتى احتمل لحمها ، فأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث ، فبحث عند قرية النمل ، فقام عبد المطلب فحفر هناك ، فجاءته قريش فقالت لعبد المطلب : ما هذا [الصنيع](٥)؟ إنا لم [نزنك](٦) بالجهل ، لم تحفر في مسجدنا؟ فقال عبد المطلب : إني لحافر هذا البئر ومجاهد من صدّني عنها ، فطفق يحفر هو وابنه الحارث ـ وليس له ولد يومئذ غيره ـ فسفه عليهما ناس من قريش

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) في الأصل : سمه.

(٣) في الأصل : فخرجت. والتصويب من الأزرقي (٢ / ٤٢ ـ ٤٤) ، والبحر العميق (٣ / ٢٧٤).

(٤) الحزورة : عند باب الوداع. وكانت الحزورة سوق مكة ، وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه (معجم البلدان ٢ / ٢٥٥).

(٥) في الأصل : تصنع. والتصويب من البحر العميق (٣ / ٢٧٤).

(٦) في الأصل : نتركك. والتصويب من الأزرقي.

٢٩٠

[فنازعوهما](١) وقاتلوهما ، وتناهى عنه أناس من قريش لما علموا من عتق نسبه وصدقه واجتهاده في دينهم. فلما اشتدّ عليهما الإيذاء نذر عبد المطلب إن رزقه الله عشرة من الأولاد [لينحرنّ](٢) واحدا منهم ، فتزوج عبد المطلب النساء فولد له عشرة أولاد فقال : اللهم إني كنت نذرت لك نحر أحدهم ، وإني أقرع بينهم فأصب بذلك من شئت ، فأقرع بينهم فطارت القرعة على عبد الله أبي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان أحب ولده إليه ـ فقال : اللهم عبد الله أحب إليك أم مائة من الإبل ، ثم أقرع بينه وبين المائة من الإبل ، فكانت القرعة على المائة ، فنحرها عبد المطلب. انتهى.

ثم حفر حتى أدرك الطيّ ، فكبّر ، فعرفت قريش أنه أدرك حاجته ، فقاموا إليه فقالوا : يا عبد المطلب إنها بئر إسماعيل وإن لنا فيها حق فأشركنا معك فيها ، فقال عبد المطلب : ما أنا بفاعل ، إن هذا الأمر خصصته من دونكم وأعطيته من بينكم ، قالوا له : فأنصفنا فإننا غير تاركوك حتى نحاكمك ، قال : فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه ، قالوا : كاهنة بني سعد بن هذيم ، قال : نعم ، وكانت بأطراف الشام ، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف ، وركب من كل قبيلة من قريش نفر ، قال : والأرض إذ ذاك مفاوز ، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه ، فعطشوا حتى أيقنوا بالهلاك ، فاستغاثوا [بمن](٣) معهم من قبائل قريش ، فأبوا عليهم وقالوا : إنا في مفازة نخشى منها على أنفسنا مثل ما أصابكم ، فلما رأى عبد المطلب ما صنع

__________________

(١) في الأصل : فنزعهما. والتصويب من البحر العميق (٣ / ٢٧٤).

(٢) في الأصل : لأنحرن.

(٣) في الأصل : من.

٢٩١

القوم تخوّف على نفسه وأصحابه. قال لأصحابه : ماذا ترون؟ قالوا : ما رأينا إلا [تبع لرأيك](١) فمرنا بما شئت. قال : فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه لما به الآن من القوة ، فكلما مات رجل دفعه صاحبه في حفرته ثم واراه ، حتى يكون آخركم رجل ، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا. قالوا : نعم ما أمرت به. فقام كل رجل منهم يحفر حفرة ، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا ، ثم قال عبد المطلب لأصحابه : إنا ألقينا بأيدينا للموت لعجز ، ألا نضرب في الأرض ، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ، وارتحلوا حتى إذا فرغوا من معهم من قريش ينظرون إليهم وما هم فاعلون ، فتقدم عبد المطلب لراحلته فركب ، فانبعث ـ أي : انفجر ـ الماء من تحت خفّ الناقة ماء عذب ، فكبّر عبد المطلب وكبّر أصحابه ، ثم نزلوا وشربوا واستقوا وملؤوا قربهم ، ثم دعا القبائل التي كانت معهم من قريش فقال : هلموا إلى الماء ، فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا ، فشربوا واستقوا فقالت القبائل التي نازعته : قد والله قضى الله لك علينا يا عبد المطلب ، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا ، الذي سقاك هذا في الفلاة هو الذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشدا ، فرجع ورجعوا ولم يمضوا إلى الكاهنة ، وخلّو بينه وبين زمزم.

قال ابن إسحاق (٢) : هذا الذي بلغني من حديث عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه.

فلما رجع ورجعوا فحفر ، فلما تمادى به ـ أي : الحفر ـ وجد غزالتين من ذهب ، وهما الغزالتان اللتان دفنتهما جرهم فيها حين خرجت من

__________________

(١) في الأصل : نتبع رأيك. والتصويب من البحر العميق (٣ / ٢٧٤) ، والأزرقي (٢ / ٤٥).

(٢) السيرة النبوية لابن إسحاق (١ / ٢ ـ ٥).

٢٩٢

مكة ، ووجد فيها أسيافا وأدرعا ، فقالت له قريش : يا عبد المطلب ، لنا معك في هذا [شركا](١) ، قال : لا ، ولكن هلموا إلى أمر ينصف بيني وبينكم ، نضرب عليها بالأقداح ، قالوا : وكيف نصنع؟ قال : نجعل للكعبة قدحين ، ولي قدحين ، ولكم قدحين ، فمن خرج قدحاه على شيء كان له ، ومن تخلّف قدحاه فلا شيء له. قالوا : أنصفت ، فجعل قدحين أصفرين للكعبة ، وقدحين أسودين لعبد المطلب ، وقدحين أبيضين لقريش ، ثم أعطوا الأقداح للذي يضرب بها عند هبل ، وقام عبد المطلب يدعو الله عزوجل ، وضرب صاحب الأقداح فخرج الأصفران (٢) على الغزالتين ، وخرج الأسودان (٣) على الأسياف ، والدروع لعبد المطلب ، وتخلفت أقداح قريش ، فضرب عبد المطلب الأسياف بباب الكعبة ، وضرب في الباب الغزالتين ، فكان أول حلية حلّيت [به](٤) الكعبة. ذكره الحلبي (٥).

وحفر عبد المطلب ثلاثة أيام حتى انبط الماء في القرار ثم نحرها حتى لا تنزف ، ثم بنى عليها حوضا فطفق هو وابنه ينزعان فيملآن الحوض فيشرب منه الحاج ، فيكسره ناس من حسدة قريش بالليل فيصلحه عبد المطلب حين يصبح ، فلما أكثروا فساده دعى عبد المطلب ربه ، فأري في المنام فقال : قل : اللهم لا أحلّها لغسل ، ولكن هي للشارب حلّ وبلّ ، ثم كفيتهم ، فقام عبد المطلب فنادى بالذي رأى في المنام ، ثم انصرف ، فلم يكن يفسد حوضه ذلك عليه أحد من قريش إلا رمي في جسده بداء حتى تركوا

__________________

(١) في الأصل : أشركنا. والتصويب من البحر العميق (٣ / ٢٧٥).

(٢) في الأصل : الأصفرين.

(٣) في الأصل : الأسودين.

(٤) قوله : به ، زيادة على الأصل.

(٥) السيرة الحلبية (١ / ٥٥).

٢٩٣

حوضه وسقايته. انتهى. ذكره القرشي (١).

وقوله فيما تقدم : «بنقرة الغراب الأعصم ... إلخ» ، قال السهيلي (٢) : دل على زمزم بعلامات [ثلاث](٣) : بنقرة الغراب الأعصم فإنها بين الفرث والدم ، وعند قرية النمل.

ويروى : أنه لما قام لحفرها رأى [ما](٤) رسم له من قرية النمل ونقرة الغراب ، ولم ير الفرث والدم ، فبينما هو كذلك انفلتت بقرة لجزارها ، فلم يداركها حتى دخلت المسجد ، فنحرها في الموضع الذي رسم لعبد المطلب ، فسال هناك الفرث والدم ، فحفر عبد المطلب [حيث](٥) رسم له كما تقدم.

ولم [تخص](٦) بهذه العلامات الثلاثة بأن تكون دليلا عليها إلا لحكمة إلهية ، وفائدة مشاكلة في علم التعبير والتوسم الصادق لمعنى زمزم ومائها.

أما الفرث والدم فإن ماءها طعام طعم وشفاء سقم ، وهي لما شربت له ، وقد تقوّت من مائها أبو ذر ثلاثين بين يوم وليلة فسمن ، فهي إذا كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اللبن : «إذا شرب أحدكم اللبن فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ، فإنه ليس شيء يسدّ مسدّ الطعام والشراب إلا اللبن» ، وقد قال تعالى : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) [النحل : ٦٦] فظهور هذه السقاية المباركة بين الفرث والدم وكانت تلك من دلائلها المشاكلة

__________________

(١) البحر العميق (٣ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥).

(٢) الروض الأنف (١ / ٢٥٩).

(٣) في الأصل : ثلاثة. والمثبت من الروض الأنف ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : لما. والتصويب من الروض الأنف ، الموضع السابق.

(٥) في الأصل : حين. والصواب ما أثبتناه.

(٦) في الأصل : خص. والتصويب من البحر العميق (٣ / ٢٧٥).

٢٩٤

لمعناها.

وأما قوله : «الغراب الأعصم» ، قال القتيبي : الغراب الأعصم : الذي في جناحه بياض ، وقيل : الذي في رجليه ، واعترض على القتيبي فقيل : الذي في أحد رجليه ، ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المرأة الصالحة في النساء كالغراب الأعصم». قيل : يا رسول الله ، وما الغراب الأعصم؟ قال : «الذي في أحد رجليه بياض» (١).

قال السهيلي (٢) : فالغراب في التأويل فاسق وهو أسود ، فدلّت نقرته على نقرة الأسود الحبشي [بمعوله](٣) على أساس الكعبة يهدمها في آخر الزمان ، بقبلة الرحمن ، وسقيا أهل الإيمان ، وذلك عندما يرفع القرآن ، وتجيء عبادة الأوثان.

وأما قرية النمل ففيها من المشاكلة والمناسبة أيضا : أن زمزم هي عين مكة التي يردها الحجيج والعمّار من كل جانب ، فيحملون إليها البرّ والشعير وغير ذلك ، وهي لا تحرث ولا تزرع ؛ لقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ...) ـ إلى قوله ـ : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) ، وقرية النمل كذلك ؛ لأن النمل لا تحرث ولا تبذر ، وتجلب الحبوب إلى قريتها من كل جانب. وفي مكة قال تعالى : (قَرْيَةً [كانَتْ])(٤)(آمِنَةً [مُطْمَئِنَّةً])(٥)(يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (٨ / ٢٠١ ح ٧٨١٦). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٤ / ٢٧٣) ، وعزاه إلى الطبراني.

(٢) الروض الأنف (١ / ٢٦٠ ـ ٢٦١).

(٣) في الأصل : بمعواله. انظر : البحر العميق (٣ / ٢٧٥).

(٤) قوله : (كانَتْ) ساقطة من الأصل.

(٥) قوله : (مُطْمَئِنَّةً) ساقطة من الأصل.

٢٩٥

مِنْ كُلِّ مَكانٍ) [النحل : ١١٢] مع أن لفظ قرية النمل مأخوذة من : قريت الماء في الحوض إذا جمعته ، والرؤيا تعبر على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى ، فقد اجتمع اللفظ والمعنى في هذا التأويل ، وقيل لعبد المطلب في صفة زمزم : لا تنزف أبدا ولا تذم ، وهذا برهان عظيم ؛ لأنها لم تنزف من ذلك الوقت إلى يومنا قط ، وقد وقع فيها عبد حبشي فنزحت من أجله ، فوجدوا ماءها يثور من ثلاثة عيون ، أقواها وأكثرها ماء العين الذي من ناحية الحجر الأسود. هذا حديث الدارقطني. ذكره القرشي (١).

وذكر الفاسي في شفاء الغرام (٢) : أن العباس بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه سأل كعب الأحبار رضي‌الله‌عنه : أي عيونها أغزر؟ قال : العين [التي](٣) تجري من جهة الحجر. قال : صدقت. انتهى.

وقوله : لا تذم ، أي : لا تعاب ولا تلفى مذمومة ، من قولك : أذممته إذ وجدته مذموما ، وقيل : لا يوجد ماؤها [قليلا](٤) ، من قولهم : بئر ذمة إذا كانت قليلة الماء ، ومنه حديث البراء رضي‌الله‌عنه : فأتينا على بئر ذمة فنزلنا فيها ـ أي : قليلة الماء ـ. كذا قاله ابن الأثير (٥) ، وضعف السهيلي الوجه الأول.

وقال : قوله : «فلا تذم» فيه نظر ، وليس هو على ما يبدو من ظاهر اللفظ من أنها لا يذمها أحد ، ولو كان من الذم لكان ماؤها أعذب المياه ، ولتضلع منه كل من شربه. وقد جاء في الحديث : «أنه لا يتضلع منها

__________________

(١) البحر العميق (٣ / ٢٧٥).

(٢) شفاء الغرام (١ / ٤٧٢).

(٣) في الأصل : الذي.

(٤) قوله : قليلا ، زيادة من البحر العميق (٣ / ٢٧٥).

(٥) النهاية في غريب الحديث (٢ / ١٦٩).

٢٩٦

منافق» ؛ فماؤها إذا مذموم عندهم ـ أي : عند المنافقين ـ وقد كان خالد بن عبد الله [القسري](١) أمير العراق يذمها [ويسميها](٢) أم جعلان ، واحتفر بئرا خارج مكة باسم الوليد بن عبد الملك ، وجعل يفضّلها على زمزم ، ويحمل الناس بالتبرك بها دون زمزم جراءة منه على الله تعالى ، وقلّة حياء منه ، وهو الذي كان يعلن ويفصح بسبّ سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه على المنبر.

قال السهيلي (٣) : وإنما ذكرنا هذا ليعلم أنها قد ذمت. قال : فقولهم إذا : «لا تذم» من قولهم : بئر ذمة ، أي : قليلة الماء ، فهو من أذممت البئر وجدتها ذمة ؛ كقولهم : أكذبت الرجل إذا وجدته كذابا ، قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) [الأنعام : ٣٣] ، فهذا أولى ما حمل عليه معنى قوله : «لا تذم». انتهى كلام السهيلي وهذا لفظه.

[وقوله](٤) : ادع بالماء الروي غير الكدر ، يقال : ماء روى ـ بالكسر والقصر ـ ورويا ـ بالمد والفتح ـ مثل نعام جافل لم يقسم الجافل ، من جفلت الغنم إذا انفلتت بجميعها ، ولم يقسم ، أي : لم يوزع ولم يتفرق ، ليس يخاف منه شيء ما عمر ، أي : ما عمر هذا الماء فإنه لا يؤذي ولا يخاف منه ما يخاف من المياه إذا أفرط في شرابها ، بل هي بركة على كل حال.

قال السهيلي (٥) : فعلى هذا يجوز أن يحمل على قوله : لا تنزف ولا تذم ، أي : لا تذم عاقبة شربها ، وهذا تأويل سائغ أيضا إلى ما قدمناه من

__________________

(١) في الأصل : القسيري. وفي ب : القشيري. وهو تصحيف.

(٢) في الأصل : ويسمها.

(٣) الروض الأنف (١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢).

(٤) قوله : وقوله ، زيادة من البحر العميق (٣ / ٢٧٦).

(٥) الروض الأنف (١ / ٢٦٥).

٢٩٧

التأويل ، وكلاهما صحيح في صفتها.

وكان حفر عبد المطلب لها قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما ذكره ابن إسحاق في السيرة (١) عن علي.

وفي تاريخ الأزرقي (٢) : أن حفر عبد المطلب لبئر زمزم كان بعد قصة أصحاب الفيل. فعلى هذا يكون حفر عبد المطلب لها بعد مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله أعلم.

وروي أن أبا طالب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالج زمزم. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينقل الحجارة وهو غلام. رواه البزار في مسنده بسند ضعيف (٣).

وأما علاج زمزم في الإسلام.

قال الأزرقي (٤) : قد كان قلّ ماؤها جدا حتى كادت أن تجمّ (٥) في سنة [ثلاث](٦) وعشرين [وأربع](٧) وعشرين ومائتين ، فضرب في جنبها (٨) تسعة أذرع سحّا في الأرض في تقوير جوانبها ، ثم جاء الله بالأمطار والسيول في سنة [خمس](٩) وعشرين ومائتين فكثر ماؤها ، وقد كان سالم بن [الجراح](١٠) قد ضرب فيها في خلافة هارون الرشيد [أذرعا](١١) ،

__________________

(١) السيرة النبوية لابن إسحاق (١ / ٢ ـ ٥).

(٢) الأزرقي (٢ / ٤٢).

(٣) أخرجه البزار (٤ / ١٢٤).

(٤) الأزرقي (٢ / ٦١).

(٥) جمّت تجمّ وتجمّ ، والضم أكثر : تراجع ماؤها (لسان العرب ، مادة : جمم).

(٦) في الأصل : ثلاثة.

(٧) في الأصل : وأربعة.

(٨) في الأزرقي (٢ / ٦١) : فضرب فيها. وكذا في البحر العميق (٣ / ٢٧٦).

(٩) في الأصل : خمسة.

(١٠) في الأصل : جريح. وانظر : الأزرقي (٢ / ٦١) ، والبحر العميق (٣ / ٢٧٦).

(١١) في الأصل : أذرع.

٢٩٨

وضرب فيها في خلافة المهدي ، وكان عمر بن ماهان قد ضرب فيها ، وكان ماؤها قد قلّ حتى كان رجل يقال له : محمد بن [مشير](١) من أهل الطائف (٢) يعمل فيها فقال : أنا صليت في قعرها. ذكره القرشي (٣).

وتقدم : أن العيون التي في قعرها ثلاثة : عين حذاء الركن الأسود ، وعين حذاء الصفا [وأبي](٤) قبيس ، وعين حذاء المروة. ذكره القرشي (٥) والحلبي (٦).

ذكر ذرع زمزم

قال الأزرقي (٧) : كان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها ستين ذراعا ، ثم قلّ ماؤها حتى كانت تجم ، فضرب فيها تسعة أذرع سحا في الأرض في تقوير جوانبها.

قال : فغورها من رأسها إلى الجبل أربعون ذراعا كل ذلك بنيان ، وما بقي فهو جبل منقور وهو تسعة وعشرون ذراعا.

__________________

(١) في الأصل : بشير. والتصويب من الأزرقي (٢ / ٦١) ، والبحر العميق (٣ / ٢٧٦).

(٢) الطائف : مدينة في السفوح الشرقية لسراة الحجاز ، شرق مكة مع ميل يسير إلى الجنوب على (٩٩) كيلا. وترتفع عن سطح البحر (١٦٣٠) مترا ، ولذا فإن جوّها معتدل صيفا وغير قارس شتاء ، وتعتبر مصيفا مثاليا يؤمه كل صيف ألوف المصطافين من المملكة ودول الخليج ، وهي كثيرة المزارع والفواكه ، ولرمانه شهرة ، وعنبه من أحسن الأنواع (معجم معالم الحجاز ٥ / ٢١٩ ـ ٢٢٠).

(٣) البحر العميق (٣ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦).

(٤) في الأصل : وأبا.

(٥) البحر العميق (٣ / ٢٧٦).

(٦) السيرة الحلبية (١ / ٥٢).

(٧) الأزرقي (٢ / ٦١).

٢٩٩

قال : وذرع حنك زمزم في السماء ذراعان [وشبر](١) ، وذرع تدوير فم البئر إحدى [عشرة](٢) ذراعا ، وسعة فم زمزم ثلاثة أذرع وثلثا ذراع.

وأول من عمل الرخام على زمزم وعلى الشبابيك وفرش أرضها بالرخام : أمير المؤمنين أبو جعفر في خلافته ، ثم عمل المهدي في خلافته ، ثم غيره (٣) [عمر بن فرج الرخّجي](٤) في خلافة أمير المؤمنين المعتصم سنة عشرين ومائتين ، وكانت مكشوفة قبل ذلك إلا قبة صغيرة على موضع البئر.

وذكر الأزرقي (٥) صفة زمزم وحجرتها وحوضها قبل أن تغيّر في خلافة المعتصم بالله ، ثم ذكر صفة القبة وحوضها وذرعها ، [ثم ذكر صفة سقاية العباس بن عبد المطلب (٦) وذرعها إلى خلافة الواثق بالله في سنة تسع وعشرين ومائتين فمن أراد ذلك كله فلينظره ثمة](٧).

قال القرشي في البحر العميق (٨) : [ومن الحجر الأسود إلى جدار الحجرة التي فيها بئر زمزم إحدى وثلاثون ذراعا بذراع القماش ، وصفة](٩) الحجرة التي فيها بئر زمزم في زماننا ، فهو بيت مربع مسقف في جدرانه

__________________

(١) في الأصل : وشبرا. والصواب ما أثبتناه. وانظر الأزرقي ، الموضع السابق.

(٢) في الأصل : عشر.

(٣) في الأصل : غير.

(٤) زيادة من الأزرقي.

(٥) الأزرقي (٢ / ١٠٠ ـ ١٠٦).

(٦) سقاية العباس : كان بيت كبير مربع له قبة شرقي الكعبة وجنوبي زمزم. عمل أيام المهدي بستة أحواض. وأزيلت هذه تماما سنة ١٣٢١ ه‍ في ولاية الشريف عون توسعة للمصلّين (شفاء الغرام ١ / ٤٩٠ ، ومرآة الحرمين ١ / ٢٥٩).

(٧) ما بين المعكوفين زيادة من ب. وانظر : البحر العميق (٣ / ٢٧٧).

(٨) البحر العميق (٣ / ٢٧٧).

(٩) ما بين المعكوفين زيادة من ب. وانظر : البحر العميق ، الموضع السابق.

٣٠٠