الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]
المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٠٧٤
وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، وكونها لا تدخل إلا بإحرام ، وثناء الله تعالى على البيت بقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ ...) إلخ [آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧] ، وفضائل مكة لا تعدّ ولا تحصى ، ولو لم يكن فيها سوى أنها مهبط الوحي ، وأنها مسقط رأس سيد الأنام ، ومنزل القرآن ، ومظهر الإيمان صلىاللهعليهوسلم ، ومنشأ الخلفاء الراشدين لكفى ذلك شرفا. ذكره القرشي (١).
وقال مالك ـ أي في رواية أشهب ـ عنه : المدينة أفضل من مكة ، وكذا عمر بن الخطاب وأكثر المدنيين ، واستدلّوا بما روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال حين خرج من مكة إلى المدينة : «اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني في أحب البلاد إليك» (٢). رواه الحاكم في المستدرك.
وما هو أحب البقاع إلى الله يكون أفضل ، والظاهر استجابة دعائه صلىاللهعليهوسلم وقد أسكنه المدينة ، فتكون أفضل البقاع.
وقوله صلىاللهعليهوسلم : «المدينة خير من مكة» وهو نص في الباب.
ودعا لها ـ أي : للمدينة ـ بمثل ما دعا سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمكة ومثله معه ، وهو قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا يصبر على لأوائها أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» (٣) ، وقوله صلىاللهعليهوسلم : «إن الإيمان ليأرز إلى ـ المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» (٤).
__________________
(١) البحر العميق (١ / ١٥).
(٢) أخرجه الحاكم (٣ / ٤ ح ٤٢٦١).
(٣) أخرجه مسلم (٢ / ١٠٠٢ ح ١٣٧٤).
(٤) أخرجه البخاري (٢ / ٦٦٣ ح ١٧٧٧) ، ومسلم (١ / ١٣١ ح ١٤٧).
وفي هامش الأصل : قوله : «إن الإيمان ليأرز» هو بتقديم الراء على الزاي ، وهذه الرواية هي رواية الجامع الصغير. وفي صحاح الجوهري : «إن الإسلام ليأرز إلى المدينة
وقوله صلىاللهعليهوسلم : «إن المدينة تنفي الخبث» (١).
وقوله صلىاللهعليهوسلم : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» (٢).
ولأنها مهاجر سيد المرسلين ومواطن استقرار الدين. ذكره القرشي في البحر العميق ، ثم قال : وهذا لفظه. أجاب عن الأول الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في الاستذكار (٣) : أنه لا يصح هذا الحديث الذي هو قوله : «كما أخرجتني إلى أحب البقاع إليّ فأسكني ... إلخ» ولا يختلف أهل العلم في نكارته ووضعه ، وبأنه محمول على أنه أراد أحب البقاع إليك بعد مكة ، على أن الحديث نفسه لا دلالة فيه ؛ لأن قوله : «فأسكني في أحب البقاع» هذا السياق يدل في العرف على أن المراد به بعد مكة ، فإن الإنسان لا يسأل ما أخرج منه ، فإنه قال : «فأخرجتني فأسكني» فدلّ على إيراد غير المخرج منه ، وتكون مكة مسكوت عنها في الحديث. هكذا ذكره القرشي (٤).
وقوله في نكارته ووضعه أي : بهذا اللفظ ، ففي المواهب اللدنية (٥) : وكان قوله صلىاللهعليهوسلم حين خرج من مكة لما وقف على الحزورة نظر إلى البيت فقال : «والله إنك لأحب أرض الله إليّ وإنك لأحب أرض الله إلى الله ، ولولا (٦) أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
__________________
كما تأرز الحية إلى جحرها» ، أي : ينضمّ إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها (الصحاح ٣ / ٨٦٤).
(١) أخرجه البخاري (٢ / ٦٦٥ ح ١٧٨٤) ، ومسلم (٢ / ١٠٠٦ ح ١٣٨٤).
(٢) أخرجه البخاري (١ / ٣٩٩ ح ١١٣٧) ، ومسلم (٢ / ١٠١٠ ح ١٣٩٠).
(٣) الاستذكار (٧ / ٢٣٧).
(٤) البحر العميق (١ / ١٦).
(٥) المواهب اللدنية (١ / ٢٩٠ ـ ٢٩١).
(٦) في الأصل : لولا. والتصويب من المواهب ، الموضع السابق.
قال العلامة القسطلاني : وهذا أصح ما يحتج به على فضل مكة. انتهى.
وفي الخفاجي على الشفاء : «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ ، ولو لا أني أخرجت منها ما خرجت» (١). رواه الترمذي والنسائي وقال : إنه صحيح.
فهو دليل على فضل مكة ، وعن الثاني بأنه ضعيف لا يحتج به ، وقيل : إنه موضوع ، وبأنه وإن كان نصا في التفضيل غير أنه مطلق ، فيحتمل أنه خير من جهة سعة الرزق والمتاجر ، فلم يبق محل للنزاع ، وعن الثالث بأنه مطلق في المدعو به ، فيحمل على زمانه صلىاللهعليهوسلم ولكون معه النصر ، ويعضده خروج الصحابة رضياللهعنهم إلى العراق وغيره وهم أهل الإيمان ، وخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم حق ، فيحمل على زمان يكون الواقع فيه تحقيقا لصدقه ، وكذا الجواب عن السادس والجواب عن السابع أنه يدل على فضل ذلك الموضع لا المدينة ، والله أعلم. انتهى من البحر العميق للقرشي (٢).
وفي الخفاجي وملا علي قاري على الشفاء : وحاصل ما فيهما كما في حاشية توضيح المناسك لشيخنا المشهور من مذهب مالك : أن المدينة أفضل من مكة ، كما رواه أشهب عن الإمام ؛ لحديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان (٣) وهو : «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».
__________________
(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٧٢٢) ، والنسائي (٢ / ٤٧٩).
(٢) البحر العميق (١ / ١٦).
(٣) البخاري (١ / ٣٩٨) ، ومسلم (٢ / ١٠١٣).
قال ابن نافع وجماعة من أصحاب مالك : معنى هذا الحديث أن الصلاة في مسجده صلىاللهعليهوسلم أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام ، فإن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون ألف ـ أي : أقل من الألف ـ.
واحتج المالكية أيضا لتفضيل المدينة بما روي عن عمر بن الخطاب رضياللهعنه : «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه». فيأتي فضيلة مسجد الرسول على المسجد الحرام بتسعمائة ، وعلى غيره بألف.
وتفضيل المدينة على مكة هو قول عمر بن الخطاب رضياللهعنه ، وقول أكثر علماء المدينة.
وذهب ابن وهب وعطاء وابن حبيب من أصحاب مالك في رواية عنه إلى تفضيل مكة ، وهو ما ذهب إليه أهل مكة وعلماء الكوفة ، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وسفيان الثوري ، وحماد ، وعلقمة ، وأصحاب الشافعي وغيرهم ، وحكاه الساجي عن الشافعي ، وحمل هؤلاء المفضلون لمكة الاستثناء في حديث أبي هريرة المتقدم على ظاهره ـ أي : للزيادة ـ وعلى أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل ، واحتجوا لما قالوه بحديث عبد الله بن الزبير رضياللهعنه بمثل حديث أبي هريرة المتقدم وزيد في حديث ابن الزبير : «وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة» ، فهذا منطوق وقع صريحا فلا يعارضه مفهوم ولو كان صحيحا ، وهذا الحديث مما ثبت في مسند الإمام أحمد (١)
__________________
(١) مسند أحمد (٤ / ٥).
وغيره من حديث عبد الله بن الزبير رضياللهعنه (١).
وقال النووي في شرح مسلم (٢) : هذا حديث حسن. رواه أحمد بن حنبل في مسنده والبيهقي (٣) وغيرهما بإسناد حسن. انتهى.
وقد رواه ابن حبان في صحيحه (٤).
وقد قال الدلجي في قوله : «بمائة صلاة» سقط منه المضاف إلى صلاة ، أي : بمائة ألف صلاة ، إذ قد ورد كذلك عن أحمد ، وابن ماجه ، عن جابر بإسنادين صحيحين بلفظ : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» (٥).
وروى قتادة مثل حديث ابن الزبير ، وحديث ابن الزبير هذا روى صدره أبو هريرة ، وعجزه عمر بن الخطاب رضياللهعنهما.
ومما احتجوا به أيضا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقف على راحلته بمكة يقول : «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولو لا أني أخرجت منك ما خرجت» (٦). رواه الترمذي والنسائي وقال : [حديث حسن غريب صحيح](٧).
قال الباجي : الذي يقتضيه الحديث ، أي : الوارد في فضل المسجدين
__________________
(١) بهجة النفوس (١ / ١٨٢).
(٢) شرح النووي على صحيح مسلم (٩ / ١٦٤).
(٣) سبق تخريجهما.
(٤) صحيح ابن حبان (٤ / ٤٩٩).
(٥) أخرجه ابن ماجه (١ / ٤٥١) ، وأحمد (٣ / ٣٩٧).
(٦) أخرجه الترمذي (٥ / ٧٢٢) ، والنسائي (٢ / ٤٧٩).
(٧) في الأصل : إنه صحيح حسن. والتصويب من سنن الترمذي (٥ / ٧٢٢).
مخالفة حكم مسجد مكة لسائر المساجد حتى مسجد الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ولا يعلم من الحديث الذي استدلوا به حكم مكة في التفاضل مع المدينة ، إلا أن حديث : «حسنات الحرم بمائة ألف» إن ثبت صريح في أن نفس مكة أفضل من نفس المدينة ، ولا خلاف أن موضع قبره صلىاللهعليهوسلم أفضل من سائر بقاع الأرض ، بل هي أفضل من السموات والعرش والكعبة ، وهاهنا بحث وهو أن البقعة التي ضمت الجسد الشريف العظيم إذا كانت أفضل من سائر البقاع يلزم أن تكون المدينة أفضل من مكة بلا نزاع ؛ لأن المدينة هي تلك البقعة مع زيادة وزيادة الخير ، فكيف يتصور الخلاف بين العلماء على هذا؟ بل نقول : المدينة بعد هجرته إليها وإقامته بها تفضل مكة ؛ لأن شرف المكان بالمكين ، بل في كلام ابن القاسم ما يقتضي أن فضل البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة ثابت قبل دفنه فيها وقبل موته ، بل وقبل هجرته. انظر الخفاجي وملا علي القاري على الشفا. انتهى ما في حاشية توضيح المناسك. والله أعلم.
الفصل الثالث : في الأماكن التي يستجاب فيها الدعاء بمكة المشرفة
وحرمها وما قاربهما
قال الحسن البصري رضياللهعنه في رسالته (١) : إن الدعاء يستجاب هنالك في خمسة عشر موضعا : في الطواف ، وعند الملتزم ، وتحت الميزاب ، وداخل الكعبة ، وعند زمزم ، وخلف المقام ، وعلى الصفا ، وعلى المروة ، وفي المسعى ، وفي عرفات ، وفي المزدلفة ، وفي منى ، وعند الجمرات الثلاثة.
__________________
(١) فضائل مكة والسكن فيها (ص : ٢٤ ـ ٢٥).
قال المحب الطبري (١) : إنه يستجاب الدعاء عند الحجر الأسود ، [فتصير](٢) المواضع ستة عشر ، وزاد غيره : عند رؤية البيت ، وفي الحطيم ، وعند المتعوذ ـ وهو المستجار ـ وفي ظهر الكعبة.
وذكروا : أنه يستجاب بين الركن والمقام ، وفي موقف النبي صلىاللهعليهوسلم بعرفات ، وفي الموقف عند المشعر الحرام.
وحكي في بعض الأجزاء عن [أبي](٣) سهل النيسابوري : أن المواضع التي يستجاب فيها الدعاء بالمسجد الحرام خمسة عشر موضعا ، وعدّ منها : باب بني شيبة ، وباب إبراهيم ، وباب النبي صلىاللهعليهوسلم ، وباب الصفا ، وبجوار المنبر. انتهى.
وذكر القاضي مجد الدين الشيرازي في كتابه الوصل والمنى مواضع أخر بمكة وحرمها يستجاب الدعاء فيها ؛ لأنه نقل عن النقاش المفسر أنه قال في منسكه : ويستجاب الدعاء على ثبير ، وفي مسجد الكبش. زاد غيره : وفي مسجد الخيف. وزاد غيره : وفي مسجد المنحر ببطن منى. وزاد ابن الجوزي : وفي مسجد البيعة وهو قرب منى ، وفي غار المرسلات ومغارة الفتح ؛ لأنها من ثبير.
قال : وقال النقاش : يستجاب الدعاء إذا دخل من باب بني شيبة ، وفي دار خديجة زوج النبي صلىاللهعليهوسلم ليلة الجمعة ، وفي مولد النبي صلىاللهعليهوسلم يوم الاثنين عند الزوال ، وفي دار الخيزران عند المختبأ بعد العشائين ، وتحت السدرة بعرفة وقت الزوال ، وفي مسجد الشجرة يوم الأربعاء ، وفي المتكأ غداة الأحد ،
__________________
(١) القرى (ص : ٣١٧).
(٢) في الأصل : فتسير.
(٣) في الأصل : ابن. والمثبت من البحر العميق.
وفي جبل ثور عند الظهر ، وفي أحد وثبير مطلقا. قيل : وفي مسجد النحل انتهى من البحر العميق للقرشي (١).
ثم قال : مسجد الشجرة بأعلى مكة مقابل مسجد الجن ، ثم قال : وأما مسجد النحل فلم يعرف اليوم ، وكذا المتكأ لم يعرف ، وأنكرها الأزرقي (٢).
قلت : كذلك لم يعرف اليوم مسجد النحل ولا المتكأ ، وكذا تحت السدرة التي بعرفات لم تعرف اليوم.
ثم ذكر القرشي أيضا أن النقاش ذكر في مناسكه : أن الدعاء يستجاب في أربعين موضعا ، وعدّ البعض منها ولم يأت بها كلها ، ووقت كل بقعة بوقت معين ، قال : منها خلف المقام ، وتحت الميزاب وقت السحر ، وعند الركن اليماني مع الفجر ، وعند الحجر الأسود نصف النهار ، وعند الملتزم نصف الليل ، وداخل زمزم عند غيبوبة الشمس ، وداخل البيت عند الزوال ، وعلى الصفا والمروة عند العصر ، وفي دار خديجة رضياللهعنها ليلة الجمعة ، وفي مولد النبي صلىاللهعليهوسلم يوم الاثنين عند الزوال ، وفي دار الخيزران عند المختبأ بين العشائين ، وبمنى ليلة البدر شطر الليل ، وبالمزدلفة عند طلوع الشمس ، وبعرفة عند وقت الزوال ، وعلى الموقف عند غيبوبة الشمس ، وفي ثور عند الظهر. انتهى كلامه ، هكذا ذكره النقاش (٣).
ثم قال القرشي : ومن المواضع [التي](٤) يستجاب فيها الدعاء : رباط الموقف ، أي. وهو رباط ابن عفان ، وتقدم تعريفه.
__________________
(١) البحر العميق (٢ / ١١٥ ـ ١١٦).
(٢) الأزرقي (٢ / ٢٠٢).
(٣) لقد كثرت هذه الأقوال في الكتاب ولا يصح الأخذ بها.
(٤) في الأصل : الذي.
ثم قال : ومنها جبل أبي قبيس على ما قيل ، وذكر الفاكهي (١) خبرا في قدوم وفد عاد إلى مكة للاستسقاء ، وتقدم ذلك عند ذكر جبل أبي قبيس.
ثم قال : وعند قبر خديجة الكبرى رضياللهعنها ، وعند قبر سفيان بن عيينة ، وعند قبر الفضيل بن عياض ، والإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري بمقبرة المعلا.
وذكر الشيخ خليل المالكي : أن الدعاء يستجاب عند قبر الشيخ أبي الحسن الشولي ، وعند قبور سماسرة الخير ، وعند قبر عبد المحسن ، وعند قبر الدلاصي بالقرب من الجبل. انتهى (٢). ذكره القرشي في البحر العميق (٣).
الفصل الرابع : في فضل أهالي مكة المشرفة
روي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم استعمل عتّاب رضياللهعنه قال له : «أتدري على من استعملتك؟! استعملتك على أهل الله فاستوص بهم خيرا ـ يقولها ثلاثا ـ» (٤). ذكره القرشي.
وقال ابن أبي مليكة : كان فيما مضى يلقبون بأهل الله ، فيقال لهم : يا أهل الله ، وهذا من أهل الله (٥).
وروى [الثعالبي](٦) في ثمار القلوب في المضاف والمنسوب : كانوا يقولون لقريش في الجاهلية : أهل الله ، لما تميزوا به ـ أي : بالحرم والبيت ـ
__________________
(١) أخبار مكة للفاكهي (٥ / ١٣٦ ـ ١٣٧).
(٢) لا يجوز الدعاء ولا التبرك عند القبور ، ولا يشفع من في القبور لأحد.
(٣) البحر العميق (٢ / ١١٦).
(٤) أخرجه الأزرقي (٢ / ١٥١). وانظر : البحر العميق (١ / ١٤).
(٥) الأزرقي (٢ / ١٥١) ، والفاكهي (٣ / ٦٨).
(٦) في الأصل : الشبلي. والتصويب من كشف الظنون (١ / ٥٢٣).
عن سائر العرب في المحاسن والفضائل والمكارم ، فلما جاء الإسلام تظاهر شرفهم وساروا على الحقيقة يدعو أهل الله واستمر عليهم. انتهى.
وروى الأزرقي (١) عن وهب بن منبه أن الله تعالى يقول : من آمن أهل الحرم استوجب بذلك أماني ، ومن أخافهم فقد أخفرني في ذمتي ، ولكل ملك حيازة ، وبعض مكة حوزي.
وفي لفظ : وبطن مكة حوزي التي اخترت لنفسي ، أنا الله ذو بكة ، أهلها جيراني ، وعمّارها وفدي وأضيافي ، وفي كنفي وأماني ، ضامنون عليّ وفي ذمتي وجواري. ذكر جميع ذلك أبو الفرج في مثير الغرام (٢).
[وعن](٣) عبد الملك بن عباد أنه سمع النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «أول من أشفع له من أمتي : أهل المدينة وأهل مكة وأهل الطائف» ... الحديث بسنده في أسد الغابة في ترجمة عبد الملك (٤).
وفي الجامع الصغير : «أول من أشفع له من أمتي : أهل المدينة وأهل مكة وأهل الطائف» (٥). أخرجه الطبراني (٦) عن عبد الله بن جعفر. قال شارح الجامع (٧) : حديث صحيح.
وفي المقاصد الحسنة للحافظ السخاوي : سفهاء مكة حشو الجنة. قال الحافظ : حديث تنازع فيه عالمان في الحرم ، فأصبح الطاعن فيه وقد اعوج
__________________
(١) أخرجه الأزرقي (٢ / ١٥٣).
(٢) البحر العميق (١ / ١٤) ، ومثير الغرام (ص : ٢٣٨). وهو جزء من حديث طويل أخرجه البيهقي في الشعب (٣٩٨٥).
(٣) في الأصل : عن.
(٤) الإصابة (٤ / ٣٨٢).
(٥) أخرجه المقدسي في الأحاديث المختارة (٩ / ١٨٧ ح ١٦٧).
(٦) المعجم الأوسط (٢ / ٢٣٠).
(٧) فيض القدير (٣ / ٩١).
أنفه ورأى قائلا يقول : سفهاء مكة حشو الجنة ـ ثلاثا ـ فاعترف [بالكلام](١) فيما لا يعنيه ، ويقال : إنه ابن أبي الصيف اليمني فإنه كان يقول : إن شئت فإنما هو أسفاء مكة تصحيف على الراوي ، ومعناه : المحزنون. انتهى (٢).
وفي منائح [الكرم](٣) قال : ورأيت في هامش نسخة من الخصائص عند قوله : وبلدة المدينة أفضل البلاد ما عدا مكة ، وبعدها في الفضيلة المدينة ، ثم بيت المقدس بعد مكة والمدينة ، وهذه الثلاث أفضل الأرض ما عدا البقعة التي ضمت أعضاءه صلىاللهعليهوسلم ، ثم قال : وأهلها أفضل الناس. انتهى من التحفة لابن حجر.
ومقتضى هذا : أن أهل مكة أفضل مطلقا من أهل المدينة ، وأهل المدينة مطلقا أفضل من أهل بيت المقدس ، وأهل بيت المقدس مطلقا أفضل من أهل الأرض. انتهى.
وفي الجواهر واليواقيت للقطب الشعراني نقلا عن ابن العربي ـ قدّس سره ـ بعد كلام : إن أسعد الناس بالنبي صلىاللهعليهوسلم أهل حرم مكة. انتهى.
قال السيد تقي الدين الفاسي في شفاء الغرام (٤) : وجد بخط بعض أصحابنا فيما نقله من خط الشيخ أبي العباس الميورقي ورد : سفهاء مكة حشو الجنة ... إلخ.
قال الفاسي : وما ذكر من التفضيل فهو على عمومه للصالح
__________________
(١) في الأصل : في الكلام. وانظر : المقاصد الحسنة (ص : ٢٤١).
(٢) المقاصد الحسنة (ص : ٢٤١ ـ ٢٤٢).
(٣) في الأصل : الكرام.
وانظر الخبر في : منائح الكرم (١ / ٢٥٠).
(٤) شفاء الغرام (١ / ١٦٤).
والطالح ، كما يدل عليه سياق الكلام الذي هو في معرض الامتنان. وهذا الفضل لا يشاركهم فيه أحد ، وهم يشاركون الناس في أعظم الأمور ، مثل الإسلام والحج ، فالواحد منهم عند مسقط رأسه بالأرض إلى حين وفاته يحج البيت إذا كان مقيما ، وفي حال صغره يحرم عنه وليه ، وهذا لا يتأتّى غالبا إلا للمكي ، خصوصا إذا خص أحدهم بزيادة فضيلة نحو العلم والورع والزهد فبخ بخ ، فإن كان قرشيا واجتمعت فيه هذه الفضائل فلا كلام في زيادة فضله. انتهى.
في خلاصة الأثر : أنه لما تزايد ظلم الأروام (١) بمكة ، فكتب في ذلك وسافر بها الشيخ أحمد الرهمتوشي ، فلما وصل إلى حلب سمع هاتفا يقول : إذا نحن شئنا ... إلخ الأبيات الآتية.
وعن بعض السلف : أنه رأى بمكة ما لا يرضيه من سفهائها ، فأنكر ذلك واضطراب فيه فكره ، فلما كان الليل رأى بمكة قائلا ينشد هذه الأبيات :
إذا نحن شئنا [لا](٢) يدبر ملكنا |
|
سوانا ولم نحتج مشيرا يدبّر |
فقل للذي قد [رام ما لا نريده](٣) |
|
وأتعب نفسا بالذي يتعذّر |
لعمرك ما التصريف إلا لواحد |
|
ولو شاء لم يظهر بمكة منكر |
انتهى منائح الكرم (٤).
وجاء في الأثر : إن الله تعالى ينظر كل ليلة إلى أهل الأرض ، فأول ما ينظر إلى أهل الحرم ، وأول ما ينظر إلى أهل المسجد الحرام ؛ فمن رآه طائفا
__________________
(١) المقصود : الأتراك الموجودون بمكة المكرمة.
(٢) في الأصل : فلا ، وقد صوّبناه ليستقيم الوزن الشعري.
(٣) في الأصل : رأى ما لا يريده. والتصويب من منائح الكرم (٢ / ١٨٩).
(٤) في الأصل : الكرام. وانظر الخبر في : منائح الكرم (٢ / ١٨٩).
غفر له ، ومن رآه مصليا غفر له ، ومن رآه مستقبل القبلة غفر له. ذكره الغزالي في الإحياء (١).
لطيفة : ذكر الشيخ محيي الدين ابن العربي ـ قدسسره ورضياللهعنه ـ في الفتوحات المكية : حدثنا محمد بن إسماعيل ابن أبي الصيف اليمني نزيل مكة ، قال : حدثنا حسين بن علي ، حدثنا الحسن بن خلف بن هبة الله بن قاسم الشامي ، حدثنا الحسن بن أحمد بن فراس ، حدثني أبي [عن أبيه](٢) إبراهيم بن فراس ، عن أبي محمد (٣) إسحاق [بن](٤) نافع الخزاعي ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن المكي ، عن محمد بن العباس المكي ، قال : أخبرني بعض المشايخ المكيين ، أن داود بن عيسى بن موسى لما ولي على مكة والمدينة أقام بمكة وأرسل ولده سليمان إلى المدينة نائبا عنه ، فبعد أن أقام داود بمكة عشرين شهرا كتب إليه أهل المدينة.
وقال الزبير بن أبي بكر : كتب إليه يحيى بن مسكين بن قيس بن أيوب بن مخراق يسأله التحوّل إلى المدينة ، ويعلمه أن مقامه بالمدينة أفضل من مقامه بمكة وذلك في قصيدة وهي هذه القصيدة كما تراها ، غفر الله لنا وله ، آمين :
أداود قد فزت بالمكرمات |
|
وبالعدل في بلد المصطفى |
وصرت ثمالا لأهل الحجاز |
|
وسرت بسيرة أهل التقى |
وأنت المهذّب من هاشم |
|
وفي منصب العز والمرتجى |
__________________
(١) إحياء علوم الدين (١ / ٢٤٢).
(٢) قوله : عن أبيه ، زيادة من الفتوحات المكية.
(٣) في الأصل زيادة : بن. والتصويب من الفتوحات المكية (١ / ٧٥٩).
(٤) في الأصل : عن. والتصويب من الفتوحات المكية ، الموضع السابق.
وأنت الرّضا للذي نابهم |
|
وفي كل حال ونجل الرضا |
وبالفيء أغنيت أهل الخصاص |
|
فعدلك فينا هو المنتهى |
ومكة ليست بدار المقام |
|
فهاجر كهجرة (١) من قد مضى |
مقامك عشرون شهرا بها |
|
كثير لهم عند أهل الحجا |
فضم بلاد الرسول التي |
|
بها الله خص نبي الهدى |
ولا ينفينك عن قربه |
|
مشير مشورته بالهوى |
فقبر النبي وآثاره |
|
أحق بقربك من ذي طوى |
قال : فلما ورد الكتاب والأبيات على داود بن عيسى أرسل إلى رجال من أهل مكة فقرأ عليهم الكتاب ، فأجابه رجل منهم يقال له : عيسى بن عبد العزيز [السعلبوسي](٢) بقصيدة يرد عليه ويذكر فيها فضل مكة وما خصها الله تعالى به من الكرامة والفضيلة ، ويذكر المشاعر والمناقب فقال غفر الله له :
أداود أنت الإمام الرّضا |
|
وأنت ابن عمّ نبيّ الهدى |
وأنت المهذّب من كل عيب |
|
[كبيرا](٣) ومن قبله في زمن الصبا |
وأنت المؤمّل من هاشم |
|
وأنت ابن قوم كرام تقى |
وأنت غياث لأهل الخصاص |
|
تسدّ خصاصتهم بالغنى |
أتاك كتاب حسود جحود |
|
أسا في مقالته واعتدى |
يخيّر يثرب في شعره |
|
على حرم الله حيث ابتنى |
فإن كان يصدق فيما يقول |
|
فلا يسجدنّ إلى ما هنا |
وأيّ بلاد تفوق أمّها |
|
ومكة مكة أمّ القرى |
وربي دحا الأرض من تحتها |
|
ويثرب لا شكّ فيما دحا |
__________________
(١) في الأصل : بهجرة. وانظر الفتوحات المكية ، وأخبار مكة للفاكهي.
(٢) في الأصل : السلعوسي. والتصويب من الفاكهي (٢ / ٢٩٤).
(٣) في الأصل : وكبر. والتصويب من الفتوحات المكية ، والفاكهي.
وبيت المهيمن فينا مقيم |
|
نصلّي إليه برغم العدا |
ومسجدنا بيّن فضله |
|
على غيره ليس في ذا مرا |
صلاة المصلّي تعد له |
|
مئين [ألوف](١) صلاة وفا |
كذاك أتى في حديث النّبي |
|
وما قال حقّ به يقتدى |
وأعمالكم كلّ يوم وفود |
|
إلينا شوارع مثل القطا |
فيرفع منها إلهي الذي |
|
يشاء ويترك ما لا يشا |
ونحن تحجّ إلينا العباد |
|
فيرمون شعثا بوتر الحصا |
ويأتون من كلّ فج عميق |
|
على أينق ضمّر كالقنا |
ليقضوا مناسكهم عندنا |
|
فمنهم سعاة ومنهم معا |
فكم من ملبّ بصوت حزين |
|
يرى صوته في الهوى قد علا |
وآخر يذكر ربّ العباد |
|
ويثني عليه بحسن الثّنا |
فكلهم أشعث أغبر |
|
يؤم المعرّف أقصى المدى |
فظلّوا به يومهم كلّه |
|
وقوفا يضجون [حتى](٢) المسا |
حفاة [ضحاة](٣) قياما لهم |
|
[عجيج](٤) ينادون ربّ السما |
رجاء وخوفا لما قدّموا |
|
وكل يسائل دفع البلا |
يقولون : يا ربّنا اغفر لنا |
|
بعفوك واصفح عمّن أسا |
فلما دنا الليل من يومهم |
|
وولّى النهار أجدّوا البكا |
وسار الحجيج إليهم دجى |
|
فحلّوا بجمع بعيد العشا |
فباتوا جميعا فلمّا بدا |
|
عمود الصّباح وولّى الدّجى |
دعوا ساعة ثم شدّوا الشّسوع |
|
على قلص ثم [أمّوا](٥) منى |
__________________
(١) في الأصل : ألوفا. والتصويب من الفاكهي (٢ / ٢٩٥).
(٢) في الأصل : عند. والمثبت من الفتوحات المكية.
(٣) في الأصل : عراة. والمثبت من الفاكهي (٢ / ٢٩٥).
(٤) في الأصل : عجيب. والمثبت من الفتوحات المكية.
(٥) في الأصل : أمسوا. والمثبت من الفاكهي (٢ / ٢٩٥).
فمن بين من قد قضى نسكه |
|
وآخر يبدأ بسفك الدّما |
وآخر يهوي إلى مكة |
|
ليسعى ويدعوه فيمن دعا |
وآخر يرمل حول الطّواف |
|
وآخر ماض يؤم الصّفا |
فآبوا بأفضل مما رجوا |
|
وما طلبوا من جزيل العطا |
وحجّ الملائكة المكرمون |
|
إلى أرضنا قبل فيما مضى |
وآدم قد حجّ من بعدهم |
|
ومن بعده أحمد المصطفى |
وحجّ إلينا خليل الإله |
|
وهجّر بالرّمي فيمن رمى |
فهذا لعمري لنا رفعة |
|
حبانا بهذا شديد القوى |
ومنا النبي نبيّ الهدى |
|
وفينا تنبّا ومنّا ابتدى |
ومنا أبو بكر ابن الكرام |
|
ومنا أبو حفص المرتجى |
وعثمان منّا فمن مثله |
|
إذا عدّد الناس أهل التّقى |
ومنّا عليّ ومنّا الزبير |
|
وطلحة منّا وفينا انتشا |
ومنا ابن عباس [ذو](١) المكرمات |
|
نسيب النبي وحلف النّدى |
ومنّا قريش وآباؤها |
|
ونحن إلى فخرنا المنتهى |
ومنّا الذين بهم تفخرون |
|
فلا تفخرون علينا بنا؟ |
ففخر أولاء لنا رفعة |
|
وفينا من الفخر ما قد كفى |
وزمزم والحجر فينا فهل |
|
لكم مكرمات كما قد لنا؟ |
وزمزم طعم وشرب لمن |
|
أراد الطعام وفيه الشّفا |
وزمزم [تنفي](٢) هموم الصدور |
|
وزمزم من كل سقم دوا |
[وكم](٣) جاء زمزم من جائع |
|
إذا ما تضلّع منها اكتفى |
وليست كزمزم في أرضكم |
|
كما ليس نحن وأنتم سوا |
وفينا سقاية عمّ الرسول |
|
ومنها النبي امتلا وارتوى |
__________________
(١) في الأصل : ذي. والمثبت من الفتوحات المكية. (٢) في الأصل : ينفي. والمثبت من الفتوحات المكية.
(٣) في الأصل : ومن. والتصويب من إفادة الأنام (مخطوط ج ٦ ص : ٣٤).
وفينا المقام فأكرم به |
|
وفينا المحصّب والمنحنى (١) |
وفينا الحجون ففاخر به |
|
وفينا كدي وفينا كدا |
وفينا الأباطح [والمروتان](٢) |
|
فثج وعج فمن مثلنا |
وفينا المشاعر منشا النبي |
|
وأجياد والرّكن والمتّكا |
وثور فهل عندكم مثل ثو |
|
ر وفينا ثبير وفينا حرا |
[وفيه اختباء](٣) نبي الإله |
|
ومعه أبو بكر المرتضى |
فكم بين أحد [إذا جاء فخر](٤) |
|
وبين القبيسيّ فيما ترى |
وبلدتنا حرم لم تزل |
|
محرمة الصّيد فيما خلا |
ويثرب كانت حلالا فلا |
|
تكذبن كم بين هذا وذا |
فحرّمها بعد ذاك النبي |
|
فمن أجل ذلك جاء (٥) كذا |
فلو قتل الوحش في يثرب |
|
لما فدي الوحش حتى اللقا |
ولو قتلت عندنا نملة |
|
أخذتم بها أو تؤدّوا الفدا |
ولو لا زيارة قبر النبي |
|
لكنتم كسائر من قد بدا |
وليس النبيّ بها ثاويا |
|
ولكنه في جنان العلا |
فإن قلت قولا خلاف الذي |
|
أقول فقد قلت قول الخطا |
فلا تفحشنّ علينا المقال |
|
ولا تنطقنّ بقول الخنا |
ولا تفخرنّ بما لا يكون |
|
ولا ما يشينك عند الملا |
ولا تهج بالشّعر أرض الحرام |
|
وكفّ لسانك عن ذي طوى |
وإلا لجاءك ما لا تريد |
|
من الشّتم في أرضكم والأذى |
وقد يمكن القول في أرضكم |
|
بسبّ [العقيق](٦) ووادي قبا |
__________________
(١) في الفتوحات المكية والفاكهي : والمختبا.
(٢) في الأصل : والمروتين. والمثبت من الفتوحات المكية.
(٣) في الأصل : وفينا اجتبى. والمثبت من الفتوحات المكية.
(٤) في الأصل : دجى فاخر. والمثبت من الفتوحات المكية.
(٥) في الأصل : زيادة : ذا.
(٦) في الأصل : عقيق.
فأجابهمارجل من بني عجل ناسك ،كان مقيما بجدة مرابطا هناك فحكم بينهما فقال :
إني قضيت على اللذين تماريا |
|
في فضل مكة والمدينة فاسألوا |
فلسوف أخبركم بحقّ فافهموا |
|
فالحكم حينا قد يجور ويعدل |
فأنا الفتى العجلي جدّة مسكني |
|
وخزانة الحرم التي لا تجهل |
وبها الجهاد مع الرّباط وإنها |
|
لبها الوقيعة لا محالة تنزل |
من آل حام في أواخر دهرها |
|
وشهيدها بشهيد بدر يعدل |
شهداؤنا قد فضّلوا بسعادة |
|
وبها السرور لمن يموت ويقتل |
يا أيها المدنيّ أرضك فضلها |
|
فوق البلاد وفضل مكة أفضل |
أرض بها البيت المحرّم قبلة |
|
للعالمين له المساجد تعدل |
حرم حرام أرضها وصيودها |
|
والصيد في كلّ البلاد محلّل |
وبها المشاعر والمناسك كلّها |
|
وإلى فضيلتها البريّة ترحل |
وبها المقام وحوض زمزم مترعا |
|
والحجر والرّكن الذي لا يجهل |
والمسجد العالي الممجّد والصفا |
|
والمشعران ومن يطوف ويرمل |
هل في البلاد محلّة معروفة |
|
مثل المعرّف إذ يحل محلل |
أو مثل جمع في المواطن كلّها |
|
أو مثل خيف منى بأرض منزل |
تلكم مواضع لا يرى [برحابها](١) |
|
إلا الدماء ومحرم ومحلّل |
شرفا لمن وافى المعرّف [ضيفه](٢) |
|
شرفا له ولأرضه إذ ينزل |
وبمكة الحسنات يضعف أجرها |
|
وبها المسيء عن الخطيئة يسأل |
يجزى المسيء على الخطيئة مثلها |
|
وتضاعف الحسنات منه وتقبل |
ما ينبغي لك أن تفاخر يا فتى |
|
أرضا بها ولد النبي المرسل |
بالشعب دون الردم مسقط رأسه |
|
وبها نشا صلى عليه المرسل |
__________________
(١) في الأصل : محرابها. والمثبت من الفاكهي (٢ / ٢٩٨).
(٢) في الأصل : ضيعة. والمثبت من الفتوحات المكية.
وبها أقام وجاءه وحي السما |
|
وسرى به الملك الرفيع المنزل |
ونبوّة الرحمن فيها أنزلت |
|
والدّين فيها قبل دينك أول |
هل بالمدينة هاشميّ ساكن |
|
أو من قريش ناشئ أو مكهل؟ |
إلا ومكة أرضه وقراره |
|
لكنهم عنها نبوا فتحوّلوا |
فكذاك هاجر نحوكم لما أتى |
|
إنّ المدينة هجرة فتحمّلوا |
فأجرتم وقريتم ونصرتم |
|
خير البريّة حقّكم أن تفعلوا |
فضل المدينة بيّن ولأهلها |
|
فضل قديم نوره يتهلّل |
من لم يقل إنّ الفضيلة فيكم |
|
قلنا كذبت وقول ذلك أرذل |
لا خير فيمن ليس يعرف فضلكم |
|
من كان يجهله فلسنا نجهل |
في أرضكم قبر النبي وبيته |
|
والمنبر العالي الرفيع الأطول |
وبها قبور السابقين بفضلهم |
|
عمر وصاحبه الرفيق الأفضل |
والعترة الميمونة اللّاتي بها |
|
سبقت فضيلة كلّ من يتفضّل |
آل النبي بنوا عليّ إنّهم |
|
أمسوا ضياء للبريّة يشمل |
يا من تبضّ (١) إلى المدينة عينه |
|
فيك الصّغار وصعر خدّك أسفل |
إنا لنهواها ونهوى أهلها |
|
وودادها حقّ على من يعقل |
قل للمديني الذي يزدار دا |
|
ود الأمير ويستحث ويعجل |
قد جاءكم داود بعد كتابكم |
|
قد كان حبلك في أميرك يفتل |
فاطلب أميرك واستزره ولا تقع |
|
في بلدة عظمت فوعظك أفضل |
ساق الإله لبطن مكة ديمة |
|
تروى بها وعلى المدينة تسبل |
انتهى من الفتوحات المكية (٢).
__________________
(١) العين تبضّ بضّا وبضيضا : دمعت. لسان العرب (٧ / ١١٨).
(٢) الفتوحات المكية (١ / ٧٥٩ ـ ٧٦٣). وانظر القصيدة في أخبار مكة للفاكهي (٢ / ٢٩٣ ـ ٢٩٩) ، وإتحاف الورى (٢ / ٢٥٠ ـ ٢٥٦).
الفصل الخامس : في حكم المجاورة بمكة وفضلها
فذهب أبو حنيفة رحمهالله وبعض أصحاب الشافعي وجماعة من المحتاطين في دين الله إلى كراهية المقام بمكة.
قال صاحب المنظومة : ويكون ذلك إثما ، وذلك لمعان ثلاث (١) :
أحدها : الحدّ (٢) خوف التبرم والأنس بالبيت ، فإن ذلك ربما يؤثر في تسكين حرقة القلب في [الاحترام](٣) ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضياللهعنه يدور على الحجّاج بعد قضاء حجّهم بالدرّة ، ويقول : يا أهل اليمن يمنكم ، ويا أهل الشام شامكم ، ويا أهل العراق عراقكم ، فإنه أبقى لحرمة بيت ربكم في قلوبكم. وكذا همّ عمر أن يمنع الناس من كثرة الطواف ؛ خشية أن يأنس الناس بهذا البيت فتزول هيبته من صدورهم.
الثاني : تهيّج الشوق بالمفارقة له ، [لتنبعث](٤) داعية العود ، فإن الله جعل البيت مثابة [للناس ، يثوبون إليه](٥) ، أي : يؤولون ويعودون إليه مرة بعد أخرى ، ولا يقضون منه [وطرا](٦).
وقال بعضهم : [لأن](٧) تكون في بلدك وقلبك مشتاق إلى مكة متعلق بهذا البيت خير لك من أن تكون فيه وأنت متبرم بالمقام وقلبك في بلد
__________________
(١) انظر : التشويق إلى البيت العتيق (ص : ٢٢٤) ، والبحر العميق (١ / ١٦) ، ومنائح الكرم (١ / ٢٣٥) ، وشفاء الغرام (١ / ١٥٩) ، والجامع اللطيف (ص : ١٦٤).
(٢) كذا في الأصل.
(٣) في الأصل : الإضرام. والتصويب من التشويق ، الموضع السابق.
(٤) في الأصل : لتبعث. والتصويب من التشويق ، الموضع السابق.
(٥) زيادة من التشويق ، الموضع السابق.
(٦) في الأصل : وترا. والتصويب من التشويق ، الموضع السابق ، والبحر العميق (١ / ١٦).
(٧) زيادة من التشويق (ص : ٢٢٤).