تحصيل المرام - ج ١-٢

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]

تحصيل المرام - ج ١-٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٠٧٤

هذا المسجد بالذراع الحديد. اه شفاء الغرام (١).

ذكر المشعر الحرام

قيل : المشعر الحرام قزح وعليه الميقدة. كذا ذكر صاحب الهداية وحافظ الدين وصاحب المجمع.

وفي البدائع : الأفضل الوقوف على الجبل الذي يقال له قزح ، وهو تأويل ابن عباس للمشعر الحرام أنه الجبل وما حواليه.

وقال صاحب الغاية : قزح آخر المزدلفة ، وهو المشعر الحرام. وصحح في مناسكه : أن المشعر الحرام في المزدلفة لا يمين المزدلفة ، وتبعه [الكرماني](٢) أن قزح هو المشعر الحرام. انتهى من البحر العميق (٣).

وقال قاضي خان : المزدلفة يقال لها : المشعر الحرام ، والمستحب الوقوف عند جبل قزح.

وقال الطحاوي : إن للمزدلفة ثلاثة أسماء ؛ أحدها : المشعر الحرام.

وقال أبو الليث في تفسيره : إن المزدلفة هي المشعر الحرام ، وعند عامة أهل العلم : المشعر الحرام : مزدلفة.

وصحح صاحب الكشاف (٤) : أن المشعر الحرام هو قزح لا المزدلفة.

ولفظه : المشعر الحرام : قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه

__________________

والخاصكي ، والخاصكية (خاسكية) : خاص بالسلطان ، أي : (الخاصة الملكية). (معجم الكلمات الأعجمية والغريبة للبلادي ص : ٤٢).

(١) شفاء الغرام (١ / ٥٨٥).

(٢) في ب : الكراماتي. والتصويب من البحر العميق (٢ / ٧٣).

(٣) البحر العميق (٢ / ٧٣).

(٤) الكشاف (١ / ١٢٤).

٤٦١

الميقدة. وقيل : المشعر الحرام ما بين جبل المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر ، وليس المأزمين ولا وادي محسر من المشعر الحرام. والصحيح أنه الجبل ؛ لما روى (١) جابر رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صلى الفجر ـ يعني بالمزدلفة ـ ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام [فدعا وكبّر وهلّل ، ولم يزل واقفا حتى أسفر.

وقوله تعالى : (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩٨]](٢) معناه : مما يلي المشعر الحرام قريبا منه ، وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة [وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر](٣) ، أو جعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر. اه كلامه.

وجزم حافظ الدين النسفي في [المدارك](٤) : أن المشعر الحرام هو جبل قزح ، ولم يذكر قولا آخر (٥).

وقال في [المنافع شرح النافع](٦) : أنه المزدلفة.

وقال النووي في شرح مسلم (٧) : المشعر الحرام هو جبل في المزدلفة يقال له : قزح ، وقيل : المشعر الحرام : المزدلفة كلها.

وقال أيضا في شرح حديث جابر الطويل (٨) : ثم ركب القصوى حتى

__________________

(١) في ب زيادة : أن.

(٢) ما بين المعكوفين زيادة من الكشاف (١ / ١٢٤).

(٣) ما بين المعكوفين زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) في ب : المدراك. وهو تحريف.

(٥) تفسير النسفي (١ / ١٧١).

قلت : بل ذكر قولا آخر ، وهو : أن المشعر الحرام ، مزدلفة.

(٦) في ب : النافع شرح اليافع. وانظر : كشف الظنون (٤ / ٦١٦).

(٧) شرح النووي على صحيح مسلم (٨ / ١٨١).

(٨) أخرجه مسلم (٢ / ٨٩١). وانظر : شرح النووي على صحيح مسلم (٨ / ١٨٩).

٤٦٢

أتى المشعر الحرام ، المراد به هاهنا قزح ـ بضم القاف وفتح الزاي ـ وهو جبل معروف بالمزدلفة ، ثم قال : وهذا الحديث حجّة للفقهاء في أن المشعر الحرام هو قزح.

وقال جماهير المفسرين وأهل الحديث : المشعر الحرام : جميع المزدلفة.

ثم قال : وقد جاء في الأحاديث ما يدل على كلا المذهبين. انتهى (١).

وفي نهاية ابن الأثير ومشارق الأنوار للقاضي عياض (٢) : أن المشعر الحرام هو المزدلفة.

وفي تفسير البغوي (٣) ولفظه : المشعر الحرام وهو ما بين جبل المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسر ، وليس المأزمان (٤) ولا المحسر من المشعر الحرام. انتهى.

وفي المغرب (٥) : المشعر الحرام جبل بالمزدلفة واسمه قزح.

وقال القاضي عياض (٦) : قزح موضع بالمزدلفة ، وهو موقف قريش بالجاهلية إذ كانت لا تقف بعرفة. انتهى من البحر العميق (٧).

وفي القاموس (٨) : قزح بالمزدلفة.

وعن علي كرم الله وجهه : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أصبح بجمع ـ أي قزح ـ

__________________

(١) شرح النووي على صحيح مسلم (٩ / ٤١).

(٢) مشارق الأنوار (١ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤).

(٣) معالم التنزيل (١ / ١٧٤).

(٤) في ب : المأزمين.

(٥) المغرب (١ / ٤٤٥).

(٦) مشارق الأنوار (٢ / ١٩٩).

(٧) البحر العميق (٢ / ٧٣ ـ ٧٤).

(٨) القاموس المحيط (ص : ٣٠٢).

٤٦٣

فوقف عليه وقال : «هذا قزح وهو الموقف ، وجمع كلها موقف» (١). أخرجه أبو [داود](٢) والترمذي وقال : حسن صحيح.

وعن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما أنه رأى ناسا يزدحمون على الجبل الذي يقف عليه الإمام فقال : يا أيها الناس ، لا تشقوا على أنفسكم ، ألا إن ما هاهنا مشعر كله. أخرجه سعيد بن منصور.

وعنه قال : المشعر الحرام المزدلفة كلها. أخرجه أبو ذر. كذا ذكره القرشي (٣).

قال المحب الطبري (٤) : وهذا الحديث مصرّح بأن المشعر الحرام هو المزدلفة ، وهو الذي تضمنه كثير من كتب التفسير.

وحديث جابر الطويل وحديث عليّ يدلان على أن قزح هو المشعر الحرام ، وهو المعروف في كتب الفقه ، فتعين أن يكون في أحدهما [حقيقة ، وفي الآخر مجازا ؛ دفعا](٥) للاشتراك ، إذ المجاز [خير منه ، فترجح احتماله](٦) عند التعارض ، فيجوز أن يكون حقيقة في قزح ، فيجوز إطلاقه على الكل لتضمنه إياه ، وهو أظهر الاحتمالين في الآية ، فإن قوله : (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩٨] يقتضي أن يكون الوقوف في غيره ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ١٩٣) ، والترمذي (٣ / ٢٣٢).

(٢) في ب : ذر. والتصويب من البحر العميق (٢ / ٧٤).

(٣) البحر العميق (٢ / ٧٤).

(٤) القرى (ص : ٤١٩ ـ ٤٢٠).

(٥) زيادة من القرى (ص : ٤١٩) ، والبحر العميق (٢ / ٧٤). وفي ب : أحدهما مجاز للاشتراك.

(٦) في الأصل : خير من ترجيح احتماله ، والتصويب من القرى والبحر العميق ، الموضعين السابقين.

٤٦٤

[وتكون](١) المزدلفة كلها عنده ؛ لمّا كانت كالحريم [له](٢). ولو أراد [بالمشعر](٣) الحرام : المزدلفة لقال : في المشعر الحرام. ويجوز أن يكون حقيقة في المزدلفة كلها ، وأطلق على قزح وحده [تجوّزا](٤) ؛ لاشتمالها عليه ، وكلاهما وجهان من وجوه (٥) المجاز ـ أعني : إطلاق اسم الكل على البعض ، وبالعكس ـ وهذا القائل يقول : حروف [المعاني](٦) يقوم بعضها مقام بعض ، فقامت «عند» مقام «في». انتهى. ذكره القرشي (٧).

ثم قال : فالأولى أن يجمع الإنسان بينهما.

وقال ابن الصلاح : إن قزح جبل صغير في آخر المزدلفة ، وقد استبدل الناس الوقوف على الموضع الذي ذكرنا فيقفون على بناء استحدث في وسط المزدلفة ولا تتأدّى (٨) به هذه السّنّة. انتهى.

وفي القاموس (٩) : المشعر الحرام بالمزدلفة ، وعليه بناء اليوم ، ووهم من ظنه جبيلا بقرب ذلك البناء.

وقال المحب الطبري (١٠) : والظاهر أن البناء إنما هو على الجبل المسمى بقزح ، ولم أر من ذكر هذا غير ابن الصلاح.

__________________

(١) في ب : ويكون. والمثبت من القرى والبحر العميق ، الموضعين السابقين.

(٢) زيادة من القرى (ص : ٤١٩) ، والبحر العميق (٢ / ٧٤).

(٣) في ب : المشعر. والتصويب من القرى والبحر العميق ، الموضعين السابقين.

(٤) في ب : تجوّز. والتصويب من القرى والبحر العميق ، الموضعين السابقين.

(٥) في ب زيادة : التجوّز.

(٦) في ب : المباني. والتصويب من القرى (ص : ٤١٩) ، والبحر العميق (٢ / ٧٤).

(٧) البحر العميق (٢ / ٧٤).

(٨) في الأصل : تباري. والتصويب من القرى (ص : ٤٢٠) ، والبحر العميق (٢ / ٧٤) ، الموضعين السابقين.

(٩) القاموس المحيط (ص : ٥٣٤).

(١٠) القرى (ص : ٤٢٠).

٤٦٥

وقال الشيخ عز الدين ابن جماعة : وما ذكره المحب الطبري هو الظاهر الذي يقتضيه نقل الخلف عن السلف. انتهى (١).

وقال صاحب المغرب (٢) : الميقدة بالمشعر الحرام على قزح ، كان أهل الجاهلية يوقدون عليها النار.

وقال قوام الدين في شرح الهداية : وقيل : إنه كان كانون (٣) آدم عليه الصلاة والسلام.

قال ابن اللخمي : والميقدة بناها قصي جدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليشهدوا بها الحجاج المقربون من عرفات. انتهى.

قال الأزرقي : وعلى جبل قزح أسطوانة ـ أي : مأذنة ـ من حجارة تدويرها أربعة وعشرون ذراعا ، وطولها في السماء اثنا عشر ذراعا ، وفيها خمس وعشرون درجة ، وهي على أكمة مرتفعة ، كانوا يوقدون عليها في خلافة الرشيد [شمعا](٤) ليلة مزدلفة ، وكانوا قبل ذلك يوقدون بالحطب ، وبعد هارون يوقدون بالمصابيح الكبار فيصل نورها إلى مكان بعيد ، ثم مصابيح صغار. انتهى (٥).

ذكر منى

اعلم أن منى من حرم مكة المشرفة بلا خلاف ، والجبال المحيطة بها ما أقبل منها عليها فهو منها ، وما أدبر فليس منها.

__________________

(١) البحر العميق (٢ / ٧٤).

(٢) المغرب (٢ / ٣٦٤).

(٣) الكانون والكانونة : الموقد (اللسان ، مادة : كنن).

(٤) في ب : أشمع.

(٥) الأزرقي (٢ / ١٨٧) ، وانظر : الفاكهي (٤ / ٣٢٤).

٤٦٦

قال النووي في تهذيب الأسماء (١) : وهو شعب ممدود بين جبلين أحدهما : ثبير ، والآخر : الضائع. قال : وحدّها من جهة شماله جمرة العقبة ، ومن المشرق وجه المزدلفة وعرفات بطن المسيل [إذا هبطت](٢) من وادي المحسر ، وتقدم تعريفه وحده.

ومن جمرة العقبة إلى وادي محسر سبعة آلاف [ومائتا](٣) ذراع ، وعرض منى من مؤخر المسجد الذي (٤) يلي الجبل [إلى الجبل الذي](٥) بحذائه ألف ذراع وثلاثمائة ذراع ، وعرض شعب علي وهو حيال جمرة العقبة ستة وعشرون ذراعا ، وعرض الطريق الأعظم ـ أي : عقبة المدرج ـ ستة وثلاثون ذراعا.

وذكر الأزرقي (٦) : أن الطريق الوسطى طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي سلكها يوم النفر من قزح إلى الجمرة ، ولم تزل أئمة الحجّ تسلكها حتى تركت من سنة مائتين من الهجرة. اه شفاء الغرام (٧).

ومن جمرة العقبة إلى الجمرة الوسطى : أربعمائة ذراع وسبعة وثمانون ذراعا واثنا عشر أصبعا ، ومن جمرة الوسطى إلى الجمرة التي تلي مسجد الخيف : ثلاثمائة ذراع وخمسة أذرع ، ومن الجمرة التي تلي مسجد الخيف إلى وسط أبواب المسجد : ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وإحدى وعشرون

__________________

(١) تهذيب الأسماء (٣ / ٣٣٣) ، وانظر الأزرقي (٢ / ١٨٦).

(٢) في ب : إذ هبط. والتصويب من تهذيب الأسماء ، الموضع السابق.

(٣) قوله : ومائتا ، زيادة من تهذيب الأسماء ، الموضع السابق ، وانظر الأزرقي (٢ / ١٨٦).

(٤) إلى هنا انتهى النقل من ب.

(٥) قوله : إلى الجبل الذي ، زيادة من تهذيب الأسماء (٣ / ٣٣٣) ، وانظر الأزرقي (٢ / ١٨٦).

(٦) الأزرقي (٢ / ١٨٦).

(٧) شفاء الغرام (١ / ٥٩١).

٤٦٧

ذارعا (١).

ثم قال الأزرقي (٢) : وقد كانت الجمرة زائلة عن محلّها شيئا يسيرا منها ومن فوقها ، فردّها إلى موضعها الذي لم تزل عليه ، وبنى من ورائها جدارا ومسجدا متصلا بذلك الجدار ؛ لئلا يصل [إليها](٣) من يريد الرمي من أعلاها ، والرمي : أن يرمي من أسفل الوادي يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ، ويرمي كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

والذي بنى الجدر والمسجد : إسحاق بن [سلمة الصائغ](٤) الذي أنفذه المتوكل العباسي. اه فاسي (٥).

ومنى ـ بكسر الميم والتخفيف ـ سميت بذلك ؛ لما يمنى فيها من الدماء ـ أي : يراق ويصبّ ـ من أمنى [النطفة](٦). هذا هو المشهور الذي قاله جماهير أهل اللغة.

ونقل الأزرقي (٧) وغيره : أن جبريل قال لآدم عليه‌السلام : تمنّ في ذلك المحل ، فسميت منى ، وقيل : غير ذلك. انظر البحر العميق (٨).

وفي شفاء الغرام (٩) : أن من باب بني شيبة إلى أعلا العقبة التي هي حد منى ثلاثة عشر ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وستون ذراعا ، يكون ذلك ثلاثة

__________________

(١) شفاء الغرام (١ / ٥٤٩).

(٢) الأزرقي (١ / ٣٠٣).

(٣) في الأصل : إليه. وانظر شفاء الغرام ، والأزرقي ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : مسلم الصانع. والتصويب من شفاء الغرام (١ / ٥٥٠) ، وانظر : الأزرقي (١ / ٣٠١).

(٥) شفاء الغرام (١ / ٥٤٩ ـ ٥٥٠).

(٦) في الأصل : الطفت. والتصويب من البحر العميق (٢ / ٣٣).

(٧) الأزرقي (٢ / ١٨٠).

(٨) البحر العميق (٢ / ٣٣).

(٩) شفاء الغرام (١ / ٥٩٨).

٤٦٨

أميال وأربعة أخماس ميل وعشر (١) عشر ميل.

ومن باب المعلا إلى حد منى من جهة مكة : إحدى عشر ألف ذراع ومائتا (٢) ذراع وإحدى وأربعون ذراعا وسبع ذراع ، يكون ثلاثة أميال وخمس (٣) خمس عشر ميل يزيد ذراعا وسبع ذراع انتهى. شفاء الغرام.

تنبيهان :

الأول : [قال](٤) شيخنا في توضيح المناسك : يشترط المبيت بمنى : أن يكون فوق جمرة العقبة ، فمن بات دونها جهة مكة لم يبت بمنى.

الثاني : في حاشية شيخنا على مناسك الحطاب : قال مالك في المدونة (٥) : يكره البناء الذي أحدثته الناس بمنى. قال سند : وحمله على ذلك أن منى لا ملك لأحد فيها ، وليس لأحد أن يحجر فيها موضعا إلا أن ينزل منزلا فيختص به حتى يفرغ من مناسكه ويخرج منها. والأصل ما روي عن عائشة قالت : قلنا : يا رسول الله ، ألا نبني لك بيتا يظلك بمنى؟ قال : «لا ، منى مناخ من سبق» (٦). أخرجه الترمذي والنسائي.

وهذا يمنع أن يحدث أحد فيها بنيانا إلا أن يكون نازلا بها ، وإن كان نازلا بها كره له أيضا.

قال مالك : لأنه يضيق على الناس ، وكره إجارة البنيان الكائن بها. وقوله في الحديث : «مناخ» بضم الميم. انتهى.

__________________

(١) في شفاء الغرام : وخمس.

(٢) في شفاء الغرام : ومائة.

(٣) في شفاء الغرام زيادة : ميل وخمسي.

(٤) قوله : قال ، زيادة على الأصل.

(٥) المدونة الكبرى (٢ / ٣٩٩).

(٦) أخرجه الترمذي (٣ / ٢٢٨). ولم أقف عليه في سنن النسائي.

٤٦٩

وعند غيره : أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من [الصلاة](١) في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما تقدم من حديث ابن الزبير رضي‌الله‌عنه.

وذكر الطحاوي في شرح الآثار (٢) : أن الرجل يوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره.

واعلم أن التفضيل هذا مختص بالفرائض ، وصلاة النوافل في البيوت أفضل من المسجد ، لحديث عبد الله بن سعد : لأن أصلي في بيتي أحب إليّ من أن أصلي في المسجد (٣). وحديث ابن ثابت : خير الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة (٤).

فإن قيل : قد جاء عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أن حسنات الحرم كل حسنة بمائة ألف حسنة ، وهذا يدل على أن المراد بالمسجد الحرام في فضل تضعيف الصلاة في الحرم جميعه ؛ لأنه عمم التضعيف في جميع الحرم.

أجاب عنه الشيخ محب الدين الطبري (٥) بأنا نقول : بموجب حديث ابن عباس : أن حسنة الحرم مطلقا بمائة ألف ، لكن المسجد مخصوص بتضعيف ذلك على ذلك ، والصلاة في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألف صلاة ، كل صلاة بعشر حسنات ، كما جاء عن الله عزوجل ، فتكون بعشرة آلاف حسنة ، والصلاة في المسجد الحرام بمائة [صلاة في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد بيّنا أنها في مسجده بعشرة آلاف ، فتكون الصلاة في المسجد الحرام بألف ألف

__________________

(١) في الأصل : الصلوات. والتصويب من البحر العميق (١ / ١٩).

(٢) شرح معاني الآثار (٣ / ١٢٥).

(٣) أخرجه ابن ماجه (١ / ٤٣٩ ح ١٣٧٨) ، والبيهقي (٢ / ٤١١) ، وابن خزيمة (٢ / ٢١٠) ، والمقدسي في الأحاديث المختارة (٩ / ٤٠٩).

(٤) أخرجه البخاري (١ / ٢٥٦ ح ٦٩٨) ، ومسلم (١ / ٥٣٩ ح ٧٨١).

(٥) القرى (ص : ٦٥٨ ـ ٦٥٩).

٤٧٠

الشافعي : التشديد خطأ ، وهي على ثمانية عشر ميلا. قاله الباجي. وقيل : على بريد. ذكره الفاكهي (١). كذا في الخميس.

وسمي هذا الموضع بامرأة كانت تلقب بالجعرانة ، وهي [ريطة](٢) بنت سعد وهي المراد بقوله تعالى : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) [النحل : ٩٢].

وفي شفاء الغرام (٣) : [أخبرني زياد أن محمد بن طارق](٤) اعتمر مع مجاهد من الجعرانة فأحرم من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة. قال : ومن هاهنا أحرم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإني [لأعرف](٥) أول من اتخذ المساجد على الأكمة ، بناه رجل من قريش سماه ، واشترى مالا عنده نخلا فبنى هذا المسجد.

قال ابن جريج : فلقيت أنا محمد بن طارق فسألته فقال : التقيت أنا ومجاهد بالجعرانة ، فأخبرني أن المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجعرانة. وأما هذا المسجد فبناه رجل من قريش ، واتخذ ذلك الحائط.

وذكر ابن خليل عن ابن جريج أن الذي بنى المسجد الأدنى هو عبد الله بن خالد الخزاعي.

وذكر الواقدي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى من الجعرانة ، وكان مصلاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان بالجعرانة به ، وأما الأدنى فبناه رجل من قريش ، واتخذ ذلك الحائط عنده ، ولم يجز

__________________

(١) أخبار مكة للفاكهي (٥ / ٦٩).

(٢) في الأصل : رابطة. والتصويب من نزهة الألباب في الألقاب (١ / ١٧٣).

(٣) شفاء الغرام (١ / ٥٤٦) ، وأخبار مكة للأزرقي (٢ / ٢٠٧).

(٤) في الأصل : أن زياد بن محمد. والتصويب من الأزرقي ، الموضع السابق.

(٥) في الأصل : لا أعرف. وانظر شفاء الغرام (١ / ٥٤٦) ، وأخبار مكة للأزرقي (٢ / ٢٠٧).

٤٧١

صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوادي إلا محرما.

وكان إحرامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثنتي عشر خلت من ذي القعدة على أصح الأقوال.

وقسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم غنائم حنين (١) بالجعرانة ، واعتمر من الجعرانة ثلاثمائة نبي ، وبها ماء شديد العذوبة يقال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فحص موضع الماء بيده المباركة فانبجس](٢) ، وشرب منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس (٣). ويقال : إنه غرز رمحه فنبع الماء منه (٤). انتهى شفاء الغرام (٥).

والمسجد الذي بها الآن جدّدته حرمة هندية في نيف وستين بعد المائتين والألف ، وهو في الوادي بجانب البئر.

ذكر التنعيم

هو على ثلاثة أميال أو أربعة من مكة. كذا في القاموس (٦).

وفي مناسك ابن جماعة : حدّ الحرم من جهة المدينة دون التنعيم عند بيوت نفار ـ بكسر النون (٧) ـ على ثلاثة أميال ، وهو قول الجمهور.

وعن مالك عن عمر بن الخطاب : حد الحرم بعد الكشف من جهة المدينة نحو أربعة أميال إلى التنعيم. انتهى.

__________________

(١) حنين : واد قبل الطائف ، وقيل واد بجنب ذي المجاز ، بينه وبين مكة ثلاث ليال ، وقيل :

بضعة عشر ميلا (معجم البلدان ٢ / ٣١٣) ومن وادي حنين تأتي عين زبيدة إلى مكة ؛ لأن المياه تجتمع فيه لانخفاضه وإحاطة الجبال به.

(٢) في الأصل وب : تحمى موضع الماء المبارك فانبجث. والتصويب من شفاء الغرام (١ / ٥٤٨).

(٣) أخرجه الفاكهي (٥ / ٦٩ ح ٢٨٥٨) من حديث خالد بن عبد العزى.

(٤) أخرجه الفاكهي (٥ / ٦٨ ح ٢٨٥٤) من حديث خالد بن عبد العزى.

(٥) شفاء الغرام (١ / ٥٤٨).

(٦) القاموس المحيط (ص : ١٥٠٢).

(٧) في الأصل زيادة : والفاء والراء.

٤٧٢

«فالصلاة هاهنا ـ وأومأ بيده إلى مكة ـ خير من ألف صلاة هاهنا ـ وأومأ بيده إلى الشام ـ». أخرجه أحمد (١).

وعن أبي الدرداء رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصلاة في المسجد الحرام تفضل على غيره بثلاثة آلاف صلاة ، وفي مسجدي بألف صلاة ، وفي مسجد بيت المقدس بخمسمائة صلاة». حديث غريب من حديث [سعيد بن بشير ، عن إسماعيل بن عبيد الله](٢) ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، والصحيح ما تقدم من حديث ابن الزبير. انتهى. ذكره القرشي (٣).

وفي الدر المنثور للسيوطي (٤) : أخرج البزار وابن خزيمة والطبراني والبيهقي في الشّعب عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة ، وفي مسجدي ألف صلاة ، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة» (٥).

وروى ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) [الأنبياء : ١٠٦] قال : «[الصلوات](٦) الخمس في المسجد الحرام بالجماعة» (٧).

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٣ / ٥٧٦) ، والمقدسي (٤ / ٨٣) ، والطبراني في الكبير (١ / ٣٠٦). ولم أجده في مسند أحمد.

(٢) في الأصل : سعد بن بشير عن إسماعيل بن عبد الله. والتصويب من الشعب (٣ / ٤٨٥) ، وانظر : تحفة الأشراف (٨ / ٢٣٩) ، وتقريب التهذيب (ص : ٢٣٤).

(٣) البحر العميق (١ / ١٩).

(٤) الدر المنثور (٢ / ٩٥).

(٥) أخرجه البيهقي في الشعب (٣ / ٤٨٥).

(٦) في الأصل : الصلاة. وانظر الدر المنثور (٤ / ٦١٣).

(٧) أخرجه الفاكهي (٢ / ٩٦ ح ١١٩٨) ، وذكره الفاسي في شفاء الغرام (١ / ٨١) ، وعزاه للمفضّل الجندي. وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦١٣).

٤٧٣

قال المحب الطبري (١) : والمسجد الأقصى بعد الهبوط من الأكمة في بطن الوادي. انتهى.

وذرع مسجد الهليلجة من وسط المحراب إلى الجدر الذي في آخر درجة خمسة وعشرون ذراعا ، وعرضه ثلاثة وعشرون ذراعا ، وبين هذا المسجد وبين الأعلام التي في الأرض سبعمائة ذراع وأربعة عشر ذراعا كل ذلك بذراع الحديد.

وطول المسجد الآخر المنسوب لعائشة رضي‌الله‌عنها الذي يلي مسجد الهليلجة من المحراب إلى جدر الدرجة المقابل له أربعة وعشرون ذراعا وثلثي ذراع ، وعرض المحل المقبب منه من الجدر الذي فيه المحراب إلى طرف العقد ما يلي الدرجة عشرة أذرع وثلثي ذراع ، وطول المقبب منه ثلاثة وعشرون ذراعا وثلاثة أرباع ذراع بالذراع الحديد.

وذرع ما بين المسجدين المشار إليهما ثمانمائة ذراع واثنان وسبعون ذراعا بالذراع المذكور.

وممن عمّر مسجد الهليلجة : إبراهيم بن محمد بن علي أبو النصر وأنه عمّر مسجد الإهليلجة لشجرة كانت هناك فيه سقطت منه سنين قريبة ، وكان بناه في رجب سنة [ست](٢) وستين وأربعمائة ، ثم الملك المسعودي صاحب اليمن سنة [تسع عشرة](٣) وستمائة (٤).

وممن عمّر المسجد الآخر عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى

__________________

(١) القرى (ص : ٦٢٣).

(٢) في الأصل : ستة.

(٣) في الأصل : تسعة عشر.

(٤) غاية المرام (١ / ٥٩٦ ـ ٥٩٧).

٤٧٤

العباسي ، ثم العجوز والدة المقتدر ، ثم زوج المنصور صاحب اليمن سنة [خمس](١) وأربعين وستمائة. انتهى شفاء الغرام (٢).

وفي الإعلام للقطب (٣) : مسجد عائشة بعيد عن الأميال [التي](٤) هي حد الحرم ، وكان يسمى مسجد الهليلجة ، وقد تهدم هذا المسجد وما بقي منه إلا أثر جدران قائمة ، وكأنه المكان الذي أحرمت منه السيدة عائشة ، ولا يصل إليه المعتمرون الآن بل يقتصرون على أميال الحرم ويبرزون عنها قليلا ويحرمون بالعمرة ويعودون.

ومسجد عائشة مما يتعين تجديده وتعميره ؛ لأنه من الآثار المباركة القديمة ، وقد تركه الناس [لتهدّمه](٥) ، واقتصروا على مساجد [مرضومة](٦) بالأحجار الصغار ، تهدم ويرضم غيرها ، وكلها من وراء الأميال. انتهى.

قلت : وقد بني مسجد محل المساجد التي كانت تهدم ، وهو الآن عامر.

وممن جدّده السلطان عبد المجيد خان ، وهو الذي يعتمرون منه الناس ولا يتجاوزونه من أجل أن مسجد السيدة عائشة درس محلّه لخرابه.

قال ابن جماعة : وليس الإحرام من الموضع المعروف بمسجد عائشة بلازم كما يتوهم ، ولكنه حسن كما قاله ابن الصلاح. انتهى.

وفي الموطأ عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) في الأصل : خمسة.

(٢) شفاء الغرام (١ / ٥٤٠ ـ ٥٤١).

(٣) الإعلام (ص : ٤٥٤).

(٤) في الأصل : الذي.

(٥) في الأصل : لتهدده. والمثبت من الإعلام.

(٦) في الأصل : مرصوصة. والمثبت من الإعلام.

٤٧٥

«العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما. والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (١).

وفي الموطأ أيضا : جاءت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إني [قد](٢) كنت تجهزت إلى الحج ، فقال لها صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعتمري في رمضان. فإن عمرة فيه كحجّة» (٣).

وعن ابن عمر رضي‌الله‌عنه قال : افصلوا بين حجكم وعمرتكم ، فإن ذلك أتمّ لحج أحدكم وأتمّ لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج (٤). انتهى. شيخنا في توضيح المناسك.

وأفضل جهات الحلّ الجعرانة ، ثم التنعيم. قال النووي (٥) : ثم الحديبية.

وفي حاشية قوله : «ثم التنعيم» تبع في هذا ـ أي : الحطاب ـ سيدي خليل ، وهو تابع لما في النوادر ، لكن الذي عليه الأكثر كما قال بهرام وابن شاس ، وابن الحاجب ، وابن عرفة ، وغيرهم : أن التنعيم مساويا للجعرانة لا أفضلية لواحد منهما على الآخر ، كما في الرياحين.

وسمي التنعيم ؛ لأن على يمينه جبل نعيم وعلى يساره جبل ناعم ، واسم الوادي نعمان (٦). انتهى.

[وفي](٧) رحلة ابن بطوطة (٨) : أن بطريق التنعيم جبال الطير وهي أربعة

__________________

(١) أخرجه مالك (١ / ٢٨١ ح ٦٥).

(٢) قوله : قد ، زيادة من الموطأ (١ / ٢٨١).

(٣) أخرجه مالك (١ / ٢٨١ ح ٦٦).

(٤) أخرجه مالك (١ / ٢٨٢ ح ٦٧).

(٥) الإيضاح (ص : ٤٢٣).

(٦) القاموس المحيط (١ / ١٥٠٢) ، ومعجم البلدان (٢ / ٤٩) ، ومعجم ما استعجم (١ / ٣٢١).

(٧) في الأصل : في.

(٨) رحلة ابن بطوطة (١ / ١٦٥ ـ ١٦٦).

٤٧٦

جبال ، يقال أنها الجبال التي وضع الخليل عليه‌السلام عليها أجزاء الطير ثم دعاها ، وعليه أعلام من حجارة. انتهى.

لكن لم أر من ذكر هذا غيره. والله أعلم.

ذكر الحديبية

وهي على عشرة أميال من مكة على ما ذكره الأزرقي. والحديبية سميت لبئر أو لشجرة حدباء. كذا في القاموس (١) ، وهي في الحرم. كذا ذكره شيخنا. انتهى.

عياض في المشارق : هي قرية ليست بالكبيرة ، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة. قال مالك : من الحرم. وقال ابن القصار : بعضها من الحرم. انتهى [من](٢) شفاء الغرام (٣).

وكانت هذه الشجرة شجرة ثمر ، ثم غيبت لما قطعها عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه حين بلغه أن الناس يأتون إليها ويعظّمونها.

قال الفاكهي (٤) : وهذا المسجد على يمين طريق جدة ، وهذا المسجد زعم الناس أنه الموضع الذي كان به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وهو مسجد الرضوان (٥).

وثمّ مسجد آخر وهل الناس فيه ، بناه يقطين بن موسى في الشق الأيسر.

__________________

(١) القاموس المحيط (ص : ٩٣).

(٢) في الأصل : وفي.

(٣) شفاء الغرام (١ / ٥٥٣).

(٤) أخبار مكة (٥ / ٨٢).

(٥) في الفاكهي : مسجد آل كرز.

٤٧٧

وهذان المسجدان والحديبية لا يعرفان. قاله الفاسي (١).

ونزل بأقصاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم محرما فصدّه المشركون من دخول مكة ، وأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيدنا عثمان بن عفان بكتابه لأشراف قريش يعلمهم بأنه قدم مكة معتمرا لا مقاتلا ، فصمموا على أن لا يدخل مكة في هذا العام ، ثم رمى رجل من أحد الفريقين على الفريق الآخر ، فكانت بينهما معاركة بالنّبل والحجارة ، [وأمسكت](٢) قريشا عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، وأشاع إبليس لعنه الله أنهم قتلوه ، وأمسك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض المشركين وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نبرح حتى [نناجزهم](٣) الحرب» ودعى الناس عند الشجرة للبيعة على الموت أو على أن لا يفرّوا ، فبايعوه على ذلك ، وذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) ـ [أي](٤) : تحت الشجرة ـ إلى قوله : (عَظِيماً) [الفتح : ١٠] ، فلما سمع الكفار بالمبايعة نزل بهم الخوف وأرسلوا رجلا منهم يعتذر بأن القتال ما وقع إلا من سفهائهم ، وطلبوا أن يرسل من أسر منهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني غير مرسل حتى يأتوني أصحابي» ، فقال ذلك الرجل : أنصفت ، فبعث إليهم فأرسلوا سيدنا عثمان بن عفان وجماعة من المسلمين رضي‌الله‌عنهم ، ووقع الصلح بينه وبين ذلك الرجل على شرط أن توضع الحرب بينهم عشر سنين ، وأن يؤمّن بعضهم بعضا ، وأن يرجع عنهم عامهم هذا ويأتي معتمرا في العام القابل ، وأن يرد إليهم من جاء منهم مسلما ، وأن لا يردوا إليه [من](٥) جاء إليهم ممن تبعه ،

__________________

(١) شفاء الغرام (١ / ٥٥٣).

(٢) في الأصل : وأمسكوا.

(٣) في الأصل : ننجازهم.

(٤) قوله : أي ، زيادة على الأصل.

(٥) في الأصل : ما.

٤٧٨

وكتب لهم علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه بذلك كتابا فكره المسلمون هذا الشرط وقالوا : يا رسول الله إنا نرد ولا يردون ، فقال : نعم ، أما من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجا ومخرجا. ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوموا فانحروا واحلقوا». انتهى من الباجوري على السنوسية.

ذكر فضل جدّة وشيء من خبرها

قال ابن ظهيرة في الجامع اللطيف (١) ونصه : جدة الآن ساحل مكة.

ذكر ابن المجاور في تاريخه : أن العجم لما خربت شبراق انفلت أهل شبراق إلى السواحل ، فجاء جماعة منهم إلى جدة وفيهم اثنان : أحدهما اسمه سيار والآخر مياس ، فسكنوا جدة وبنوا لها سورا وركّبوا له أربعة أبواب ، باب الدومة ، وباب المدبغة ، وكان عليه حجر حفر فيه طلسم : إذا سرق السارق بها ليلا وجد اسم ذلك السارق [مكتوبا](٢) في الحجر ، وباب مكة ، وباب الفرضة مما يلي البحر ، فلما حصنوا الفرس البلد بنوا بها على الأصح بباطن البلد خمسمائة صهريج وبظاهرها مثلها ، وأنها خربت في بعض السنين. والسبب في ذلك : أن صاحب مكة أنفذ إلى شيخ التجار يطلب منه حمل حديد ، فقال الشيخ لغلامه : أعطيه حمل حديد ، فأعطاه ، فلما وصل إلى صاحب مكة وجده قضبان ذهب ، فردّ رسوله وهو يسأل فضل الشيخ بأن ينعم عليه بحمل ثان من عين هذا الحديد ، فهم الأمر والمسألة ، فاستشار جماعة فاتفقوا على الخروج منها بما معهم وركبوا

__________________

(١) الجامع اللطيف (ص : ٥٣).

(٢) في الأصل : مكتوب.

٤٧٩

البحر وتركوها ، فاستمرت خربا أعواما.

ونقل أيضا : أن في زمن دولة الأمير عيسى بن فليتة (١) كان يأخذ الجزية من المغاربة ، والسبب في ذلك : أن كلبا دخل إلى جدة من كلابه فأخذ رغيفا فقتله المغاربة ، فأراد الأمير قتلهم هو وقواده ، فلما تحققوا المغاربة الهلاك جعلوا له الجزية ، كل إنسان عليه سبعة يوسفية ويوسفي للقواد ، فتقرر ذلك إلى زمن الأمير مكثر ، وأول من أسسه الأمير عيسى بن فليتة ، وبقي إلى آخر دولة الأمير مكثر ، فأنفذ الأمير صلاح الدين بن يوسف ستة آلاف أردب حب ، وجعلها للأمير مكثر في مقابلة ما يأخذه من المغاربة ، فأخذها وترك ما يأخذه من المغاربة. والله أعلم. كذا في الجامع.

وجدّة ـ بضم الجيم وتشديد المهملة ـ : موضع على ساحل البحر غربي مكة بينهما مرحلتين (٢) ، سمّاها بعضهم : [منقطع](٣) الأعشاش ـ جمع عشة ـ.

وسميت جدة ؛ لأنها حاضرة البحر ، والجدة ما والى البحر ، والنهر ما والى البر.

قال في التنبيه : وأصل الجدة : الطريق الممتد. قاله البكري في المعجم (٤). انتهى.

__________________

(١) انظر ترجمته في : شفاء الغرام (٢ / ٣٣٩) ، وغاية المرام (١ / ٥٢٧) ، والعقد الثمين (٥ / ٤٣٧).

(٢) المرحلة : هي المسافة التي يقطعها السائر في نحو يوم ، أو ما بين المنزلين (المعجم الوسيط ١ / ٣٣٥).

(٣) في الأصل : مقطع. والتصويب من الأزرقي (٢ / ١٣١).

(٤) معجم ما استعجم (١ / ٣٧١).

٤٨٠