هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

.................................................................................................

__________________

باللفظ ، لأنّ ذلك حاصل بمجرّد إلقاء اللّفظ ، فلا يقبل الفرض والتعليق كالإيجاد التكويني ، فيمتنع تقييده وتعليقه ، وبنفس امتناع التقييد يمتنع الإطلاق أيضا ، لما قرر في محله من كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

والإخبار كالإنشاء في امتناع تعليقه ، فإنّه يحصل بمجرّد إلقاء اللفظ بقصد الحكاية وإن كان المخبر به معلّقا ، كالإخبار بفساد العالم إذا تعدّدت الآلهة ، فإن الأخبار فعليّ ، والمخبر به تعليقي.

بل محلّ الكلام هو المنشأ كالمبادلة أو التمليك في البيع ، كأن يقول : «بعتك إن جاء زيد» وكقوله : «إن جاءك زيد فأكرمه» فإنّ المجي‌ء قيد للمنشإ وهو الوجوب المستفاد من الهيئة ، فنفس البيع معلّق على المجي‌ء ، كتعليق الوجوب الذي هو المنشأ على المجي‌ء ، فتعليق المنشأ ـ كالبيع ـ نظير الوجوب المشروط ، فمصبّ النزاع في اعتبار التنجيز هو المنشأ ، ومن المعلوم قابليّته للتعليق كالوصية التمليكية ، فإنّ الملكية معلّقة على الموت ، هذا.

وفيه أوّلا : أنّ الإنشاء ليس مجرّد إلقاء اللفظ لإخطار المعنى حتى يمتنع تعليقه ويكون كالإيجاد التكويني غير القابل للتعليق ، بل هو نفس الإيجاد التكويني ، لأنّ اللفظ الموجود بالتلفظ موجود تكويني لا إنشائي اعتباري. بل الإنشاء نحو خاصّ من استعمال اللفظ وإلقاء المعنى به ، فالإنشاء متقوم بتلك الخصوصية بحيث لا يوجد في الوعاء المناسب له إلّا بوجود تلك الخصوصية. ففرق واضح بين الإيجاد الإنشائي والتكويني ، فإنّ الثاني لا يقبل التعليق والإناطة ، بخلاف الأوّل ، لأنّ إنشاء الأمور الاعتبارية غير إنشاء الأمور التكوينية ، إذ الأوّل متقوم بقصد حصول المنشأ ، بخلاف الثاني ، إذ الإيجاد والوجود متّحدان ذاتا مختلفان اعتبارا ، والوجود عين التحقق ، وهو ينافي الفرض والتعليق ، فالإنشاء إيجاد اعتباري قابل للتعليق ، والإيجاد الحقيقي غير قابل له.

وثانيا : أنّ الإنشاء لو كان مجرّد إلقاء مدلول الكلام لزم صدقه على الكلام الصادر من النائم والساهي ، ومن المعلوم عدمه ، لأنّ الإنشائية خصوصية قصديّة من خصوصيات الاستعمال متقوّمة بالقصد ، والإنشائية والإخبارية خارجتان عن حريم

٥٨١

.................................................................................................

__________________

مدلول اللفظ.

فالإنشاء في الأمور الاعتبارية قابل للتعليق ، لأنّه عبارة عن إلقاء المعنى باللّفظ بكيفية خاصّة ، بحيث يتقوّم الإنشاء بها ، فإنشاء الملكية مثلا تارة لا يعلّق على شي‌ء ، كأن يقول : «بعتك هذا المتاع بكذا» وأخرى يعلّق على شي‌ء ، كأن يقول : «بعتك إذا قدم الحاج» فإنّ إنشاء الملكية حينئذ معلّق على قدوم الحاج ، بحيث لا تتحقق الملكية إلّا إذا قدم الحاج.

والمراد بتعليق الإنشاء هو هذا المعنى ، وهذا التعليق هو الذي أنكره في الأصول على ما حكي عنه ، حيث أنكر رجوع القيود إلى الهيئة ، وأرجعها إلى المادة كالفصول ، فالتزم بالواجب المعلّق دون المشروط لأحد وجوه :

من خصوص المعنى الحرفي غير القابل للتقييد.

ومن كونه إيجاديّا غير قابل للحاظ والتعليق ، لكون الإيجاد كالوجود يمتنع تعليقه.

ومن كون المعنى الحرفي ـ الذي يكون معنى الهيئات منه ـ آليّا غير قابل للحاظ الاستقلالي ، لتضادّ الآلية والاستقلالية ، فيمتنع لحاظهما في شي‌ء واحد.

ولكن قد ثبت في الأصول بطلان هذه الوجوه ، وبنينا على إمكان تقييد الهيئة وصيرورة الوجوب مشروطا. فلو قال : «إذا دخل الوقت فصلّ» أو : «بعتك هذا إذا جاء زيد» كان الشرط قيدا للوجوب وإنشاء البيع ، بحيث لا يكون إنشاء للوجوب والنقل إلّا في ظرف تحقق الشرط ، فبدونه لا وجوب ولا نقل. فالوصية التمليكية من قبيل الواجب المشروط ، والإجارة بالنسبة إلى منفعة السنة الآتية تكون من قبيل الواجب المعلّق ، لكون الملكية حاصلة بالفعل ، والمنفعة المملوكة متأخرة زمانا.

وبالجملة : إذا قال : «بعتك هذا المتاع بدينار إذا قدم الحاج» فهنا أمور :

أحدها : الألفاظ المذكورة.

ثانيها : معانيها الإفرادية.

٥٨٢

.................................................................................................

__________________

ثالثها : معانيها التركيبية.

رابعها : الأثر الشرعي أو العرفي المترتب على هذه الألفاظ.

أمّا الأوّل فهو أجنبي عن الإنشاء ، لأنّ وجود الألفاظ تكويني ، لا اعتباري.

وأمّا الثاني فوجودها حين استعمال الألفاظ ـ كوجودها قبله ـ ذهني ، ويعرضها الوجود اللفظي عناية ، وإلّا فالوجود اللفظي حقيقة لنفس الألفاظ.

وأمّا الثالث فهو كالثاني في إحضار المعاني التركيبية في الذّهن ، فوجود اللفظ تكويني والمعنى ذهني ، فالموجود الاعتباري الإنشائي لا بدّ أن يترتّب على قصد خصوصية ، وهي قصد تحقق المعنى في وعاء الاعتبار ، فما لم يقصد ذلك لا يتصف الكلام بالإنشاء ، فمجرّد التلفظ بلفظ واستعماله في معناه لا يكون إنشاء.

وقصد إيجاد المعنى في صقع الاعتبار تارة يكون مطلقا ، كقوله : «بعتك هذا بكذا» فإنّ القائل يوجد البيع ـ الذي هو المبادلة مثلا ـ في عالم الاعتبار بلا شرط ، فالإنشاء مطلق لا معلّق. وأخرى يكون معلّقا كالمثال المزبور ، فإنّ البائع ينشئ البيع في عالم الاعتبار معلّقا على قدوم الحاج ، بحيث لا يوجد البيع الاعتباري إلّا حين قدوم الحاج ، فقبله لا إنشاء ولا منشأ ، وحينه يوجد الإنشاء والمنشأ ، فالايجاد والوجود غير منفكّين ، نظير «إن بنيت مسجدا فصلّ فيه» فإنشاء الوجوب يكون بعد بناء المسجد ، وقبله لا وجوب ولا إنشاء ، فالتعليق في الإنشاء من الأمور المتداولة عند الشارع والعرف.

فدعوى «امتناع التعليق في الإنشاء ، وإرجاعه إلى المنشأ» في غاية الغرابة. ولعلّ المدّعي خلط بين اللفظ الذي هو موجود تكويني يمتنع تعليقه كغيره من الموجودات التكوينية ، وبين الإنشاء الذي هو أمر اعتباري كالإيجاب ، فزعم أنّ الإنشاء هو اللفظ الذي يمتنع تعليقه.

فتلخص مما ذكرنا : أنّ التعليق في الإنشاء من الأمور المتداولة عرفا وشرعا ، ولا يعقل التفكيك بين الإنشاء والمنشأ في التعليق ، ولا معنى لتعليق الإنشاء وتنجيز المنشأ ، فإنّهما كالإيجاب والوجوب والإيجاد والوجود من الاتّحاد الذاتي

٥٨٣

.................................................................................................

__________________

والاختلاف الاعتباري. ففي المثال يكون إيجاب الصلاة ووجوبها بعد بناء المسجد ، فلا إيجاب ولا وجوب قبله.

نعم آلة الإنشاء ـ وهي اللفظ الخاص مثل «بعت» ـ توجد فعلا وجودا تكوينيّا ، وهذا الوجود أجنبي عن الإيجاد الاعتباري الذي هو مفاد الإنشاء.

وقد ظهر مما ذكرنا ـ من كون الإنشاء إيجادا اعتباريّا تابعا لاعتبار المعتبر من الإطلاق والتقييد والتنجيز والتعليق ـ فساد قياس الإيجاد الإنشائي بالإيجاد التكويني ، كإيجاد الأكل والشّرب واللّبس والضرب وغيرها من الأفعال الخارجية ، فإنّ إيجادها لا يقبل التعليق ، فإنّ الأكل يتحقق ولو لم يكن المأكول ما قصده الآكل ، كما إذا أكل شيئا معلّقا على كونه حنطة ثم تبيّن أنّه شعير ، فإنّ الأكل تحقق. فالوجود التكويني غير قابل للتعليق ، بخلاف الوجود الاعتباري ، فإنّه قابل لذلك في إنشاء الأمور الاعتبارية كالملكية والزوجية.

والحاصل : أنّ حقيقة الإنشاء إيجاد المعنى في وعاء الاعتبار ، لا إيجاد المعنى باللفظ الذي هو مقوّم الاستعمال. ومن المعلوم أنّ الإيجاد الاعتباري تابع لكيفية اعتبار معتبرة ، فإن علّقه على شي‌ء توقّف وجوده في وعاء الاعتبار على وجود ذلك الشي‌ء ، فلا وجه لاستحالة تعليق الإنشاء ، كما عن المحقق النائيني قدس‌سره ، ولا منافاته للجزم حال الإنشاء كما عن العلّامة في التذكرة ، لعدم اعتبار الجزم في الإنشاء. بل هو أمر ممكن وواقع في العرفيات والشرعيات كالوصية والتدبير والنذر ، فإنشاء العقود معلّقا مما لا مانع عنه ، لصدق العقد عرفا مع التعليق وبدونه على نسق واحد ، فاعتبار التنجيز محتاج إلى الدليل.

بل يمكن أن يقال : إنّ الجزم في الإنشاء المعلّق كالإخبار المعلّق موجود ، فإنّ الأخبار بفساد العالم على فرض تعدّد الآلهة جزمي لا ترديد فيه. وكذا الإنشاء ، فإنّ الإنشاء في قوله : «بعتك إن جاء زيد» جزمي ، إذ لا ترديد له في البيع على تقدير مجي‌ء زيد.

٥٨٤

.................................................................................................

__________________

وعلى فرض كون مثل هذا الإنشاء خاليا عن الجزم نمنع الكبرى وهو اعتبار الجزم في الإنشاء ، لصدق العقد والإيقاع عرفا مع الجزم ، فلو قال شاكّا في كون شخص عبده أو امرأة فلانية زوجته : «أنت حرّ لوجه الله» و «أنت طالق» فأصاب ، صدق في العرف عتق عبده وطلاق زوجته.

وكذا الحال إذا قال : «بعتك هذا المال» برجاء كونه ماله ـ وكان في الواقع ماله ـ صدق عرفا أنّه باع ماله ، فلا يعتبر الجزم في الصدق العرفي ، فاعتبار الجزم مع هذا الصدق لا بدّ أن يكون تعبّدا محضا.

وبالجملة : فالتعليق في الإنشاء خال عن المحذور.

بل لا وجه لرجوع القيد إلى المنشأ في بعض الموارد ، كما إذا أنشأ بالفعل الملك يوم الجمعة ، فإنّ لازمه جواز إنشاء الملك لشخص آخر يوم السبت ، ولثالث يوم الأحد ، نظير باب الإجارة ، فيكون الجميع مالكا بالفعل كلّ ملكية قطعة من الزمان ، مع أنّ الملك ليس متكثّرا بتكثّر الزمان ، وليس المملوك متعددا في المملوكية كالمنافع في كل يوم.

فالصواب رجوع القيد إلى الإنشاء ، وبطلان رجوعه إلى المنشإ ، لعدم تعدّد المملوك حتى ينتقل في زمان إلى شخص ، وفي غيره إلى شخص آخر. بل المملوك نفس الشي‌ء ، والزمان ظرف له.

وأمّا إذا رجع إلى الهيئة فالتمليك لنفس الطبيعة لا مقيّدة بيوم الجمعة ، إذ المقيّد حينئذ هو نفس التمليك ، فكأنّه قال : «أوجدت يوم الجمعة ملكية المتاع الفلاني لك» فإنشاء التمليك معلّق على يوم الجمعة ، فقبله لا عقد ولا إنشاء.

والسّر في ذلك : أنّ القيد إن رجع إلى الهيئة كانت الطبيعة مطلقة. ففي المثال تكون الملكيّة مطلقة ، والتمليك مقيّدا بيوم الجمعة. فالنتيجة : أنّ في يوم الجمعة صار المتاع ملكا للمشتري ، فطبيعة المتاع صارت مملوكة له في يوم الجمعة ، فالتمليك والإنشاء معلّق على يوم الجمعة ، فقبله لا تمليك ولا عقد.

٥٨٥

.................................................................................................

__________________

وإن رجع إلى المادّة والمنشأ كان التمليك ، بلا قيد والإنشاء بلا تعليق ، فلا بدّ من تحققه ومن وجود الملكية فعلا ، لامتناع انفكاك المنشأ عن الإنشاء. لكن الملكيّة مقيّدة بيوم الجمعة ، لا مطلقة ، لأنّ مقتضى هذا العقد هو وجود الملكيّة المقيّدة بيوم الجمعة لا الطبيعة المطلقة ، فللمتاع المزبور ملّاك متعددة حسب اقتضاء القيود الراجعة إلى المادة.

وهذا كما ترى.

ولازم رجوع القيد إلى المادّة أيضا تمامية العقد فعلا ، وعدم جواز الرجوع من المتعاقدين قبل حصول القيد والمعلّق عليه. بخلاف ما إذا رجع إلى الهيئة ، إذ العقد إنّما يكون على تقدير حصول القيد ، فبدونه لا عقد ، بل إنشاء معلّق ، ولا يصير عقدا إلّا بعد حصول المعلّق عليه.

فالمتحصل : أنّه لا وجه لاعتبار الجزم في الإنشاء لا عقلا ولا عرفا من باب تقوّم عنوان العقد أو الإيقاع عرفا بالإنشاء المنجّز ، حتى يقال : إنّ التنجيز مقوّم لمفهوم العقد العرفي أو الإيقاع كذلك. فلا بدّ أن يكون اعتباره بدليل نقلي ، وهو مفقود أيضا ، لأنّ الإجماع غير ثابت أوّلا ، لما عرفت من تصريح المحقق القمي قدس‌سره بصحة الوكالة مع التعليق.

مضافا إلى : أنّ المسألة لم تكن معنونة ، وإنّما استندوا فيها إلى باب الوكالة والوقف ونحوهما.

وثانيا : بعد تسليمه ـ لا يكون إجماعا تعبديّا ، لاستناد المجمعين إلى الوجوه المذكورة ، فيكون مدركيا. ولا أقلّ من صيرورته محتمل المدركية ، فيسقط عن الاعتبار.

وكذا الحال في سائر أدلتهم التي عرفت ضعفها ، فلا دليل على مبطلية التعليق ليخصّص به عموم أدلة صحة العقود ، فالمرجع هو العمومات والإطلاقات ، وبها يدفع احتمال مانعية التعليق أو شرطية التنجيز.

فتلخص : من جميع ما ذكرناه أمور :

الأوّل : أنّ التعليق لا ينافي الإنشاء أصلا ، سواء أكان عقدا أم إيقاعا.

٥٨٦

.................................................................................................

__________________

الثاني : أنّه لا فرق في القيود بين دخلها في قوام العقد أو الإيقاع كتزويج من يشكّ في أنوثيّته ، وطلاق من يشكّ في زوجيّتها ، وبين دخلها في الصحة كالطلاق بحضور رجلين يشكّ في عدالتهما ، وبيع ما يشكّ في كونه ممّا يتموّل ، لما عرفت من عدم منافاة التعليق للإنشاء. وبين ما لا يكون دخيلا في شي‌ء منهما.

الثالث : أنّه لا فرق في القيود بين الحاليّة والاستقباليّة ، وبين معلوم الحصول ومشكوكه ، وبين كونها صريحة وضمنية ، وبين كون صيغة العقد جملة اسمية وبين كونها جملة فعلية ـ كما في حاشية الفاضل الشهيدي قدس‌سره ـ بزعم «صحة التعليق في الاولى ، وبطلانه في الثانية ، استنادا إلى عدم المانع عن الصحة في الأولى ، لعدم دلالتها على الزمان ، لأنّها تدلّ على مجرّد ثبوت المحمول للموضوع ، فهي تقبل التقييد بالزمان المستقبل وبمقابليه. بخلاف التعليق في الثانية أي الجملة الفعلية ، حيث إنّ التعليق فيه ينافي مدلول الفعل ماضيا كان أو مضارعا ، أمّا في الماضي فلأنّ مدلوله صدور الفعل قبل حصول القيد ، وقضية التعليق صدوره بعده. وكذا الكلام في المضارع فيما إذا قصد به الإنشاء.

ولا مجال للتصرف في أحد الطرفين بقرينة الآخر ، للزوم محذور فوات الإنشاء على تقدير محذور فوات التعليق على آخر. نعم يصح فيه إذا كان المعلّق عليه أمرا حاليا معلوم الحصول» (١).

وذلك لأنّ الجملة الفعلية الدالة على الزمان ـ على ما عن النحاة ـ لا بدّ أن تنسلخ عن الزمان إذا استعملت في مقام الإنشاء ، فحينئذ تكون كالجملة الاسمية في انسلاخها عن الزمان ، فتصلح للتقييد بالقيود. وعليه فلا فرق بين الجملة الفعلية والاسمية في جواز تعليق الإنشاء بها وعدمه.

الرابع : أنّه لا فرق في جواز التعليق بين كون المعنى الذي يراد إنشاؤه في حدّ

__________________

(١) : هداية الطالب إلى أسرار المكاسب ، ص ١٩٨

٥٨٧

.................................................................................................

__________________

ذاته متقوّما بمعنى آخر بحيث يمتنع إنشاؤه بدون ذلك الشي‌ء كالرّهن ، فإنّه متقوم بالدّين ، وبدونه لا يعقل إنشاء الرهن ، لأنّه وثيقة للدّين. وكالطلاق والعتق ، فإنّهما متوقفان حقيقة على الزوجية والرّقية ، لأنّ الأوّل إزالة علقة الزوجية ، ومن المعلوم توقف ذلك على الزوجية ، والثاني فكّ الرقية ، فبدونها لا معنى للعتق. وبين عدم كونه متقوّما بغيره وإن توقّف تأثيره عرفا أو شرعا على شي‌ء كإناطة زوجية المرأة بأجنبيّتها وكقضاوة من لا أهلية له ، إذ مفهوم الزوجيّة غير متقوّم بالأجنبيّة ، وكذا مفهوم القضاوة بالأهليّة ، بل الأجنبيّة والأهلية شرطان شرعا لهما.

فالتفكيك بين القسمين بدعوى : «عدم تحقق الجزم بالإنشاء في الأوّل دون الثاني ، إذ مع عدم العلم بالزوجية والرّقية لا يعقل حصول الجزم بالإنشاء. بخلاف الثاني ، لحصول الجزم بالإنشاء فيه ولو مع عدم القطع بالأجنبيّة وعدم الأهلية ، بل ومع العلم بالعدم ، إذ المفروض عدم تقوم مفهومهما بذلك» ممّا لا وجه له ، لما عرفت من عدم مانع عن الإنشاء معلّقا ، لصدق الطلاق على قول من قال لامرأته : «أنت طالق إن كنت زوجتي». وصدق العتاق على قول من قال : «أنت حرّ إن كنت عبدي» فتبيّن كون المرأة زوجته ، والرجل عبده كما لا يخفى.

الخامس : أنّه قد ظهر مما ذكرنا : أنّ التنجيز ـ على تقدير اعتباره ـ يكون من شرائط المعنى المنشأ ، لا من شرائط الصيغة كالعربية والماضوية كما هو ظاهر المحقق النائيني قدس‌سره ، حيث قال : «لا ينحصر التعليق في أداة الشرط ، بل كل ما كان في معنى التعليق ولو بغير الأداة» (١). خلافا للمصنف قدس‌سره ، حيث يظهر منه كونه شرطا للصيغة ، لأنّه قال : «فإذا مسّت الحاجة إلى شي‌ء من ذلك للاحتياط ، وقلنا بعدم جواز تعليق الإنشاء على ما هو شرط فيه فلا بدّ من إبرازه بصورة التنجيز».

وإن أمكن أن يقال بعدم ظهور عبارته في كون التنجيز من شرائط الصيغة ، وأنّ إبرازه بصورة التنجيز لأجل كون الصيغة حاكية عن المعنى المنشأ.

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٣

٥٨٨

.................................................................................................

__________________

وكيف كان فالأقوى ما ذكرناه من كون التنجيز بعد تسليم اعتباره شرطا للمعنى المنشأ ، هذا.

وقد ظهر من هذا البيان جريان بحث اعتبار التنجيز وعدمه في المعاطاة أيضا ، لأنّ مقتضى عدم كونه من شرائط الصيغة ـ بل من شرائط المعنى الإنشائي ـ تطرّقه في المعاطاة أيضا ، فيقال : إنّه يعتبر في الإنشاء سواء أكان باللفظ أم بالفعل أن يكون منجّزا.

لكن الأصحّ على ما تقدم عدم اعتبار التنجيز في الإنشاء ، فيصح بداعي احتمال حصول المسبّب به ، فله إنشاء مفهوم الطلاق بهذا الوجه ، فيقع طلاقا حقيقيّا إذا كانت المرأة زوجته واقعا ، وإلّا يقع لغوا.

والحاصل : أنّ الجزم في المعاملات كالجزم في العبادات ، فكما لا يعتبر ذلك في العبادات على الصحيح ، فكذلك في المعاملات ، والله تعالى هو العالم بالأحكام.

تكملة : الظاهر أنّ توقيت البيع بمنزلة التعليق ، إذ لا فرق ـ على ما تقدم ـ بين كون المعلّق عليه زمانا وزمانيا. فعلى القول باعتبار التنجيز في البيع كان التوقيت مبطلا ، وإلّا فلا ، فإذا قال : «بعتك هذا بعد شهر مثلا» صحّ ، بناء على عدم اعتبار التنجيز ، وبطل بناء على اعتباره.

لكن حكي الإجماع على بطلانه ، فإن ثبت ذلك فلا كلام ، وإلّا فمقتضى عدم اعتبار التنجيز في العقود هو الصحة ، كما قيل بصحة الإجارة مع التوقيت ، كما إذا قال : «آجرتك هذه الدار بكذا بعد شهر».

قال في مفتاح الكرامة : «ويشترط في البيع أن لا يكون موقّتا ، لأنّه لا يقبل التوقيت كما تقبله الإجارة ، فإنّه يصح أن يؤجرهم بعد سنة ، ولا يصح أن يبيعه كذلك» (١).

هذا بعض الكلام فيما يتعلق بالتنجيز في الإنشاءات العقدية والإيقاعية.

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٦

٥٨٩

ومن جملة شروط العقد : التطابق بين الإيجاب والقبول (١).

______________________________________________________

المبحث الرابع : التطابق بين الإيجاب والقبول

(١) هذا هو المبحث الرابع من مباحث الهيئة التركيبية في صيغة البيع ، وقد اشترطوا مطابقة القبول للإيجاب ، ففي التذكرة : «لا بدّ من التطابق في المعنى بين الصيغتين» (١).

وفي القواعد : «ولا بدّ من التطابق بين الإيجاب والقبول. فلو قال : بعتك هذين بألف ، فقال : قبلت أحدهما بخمسمائة ، أو : قبلت نصفها بنصف الثمن ، أو قال : بعتكما هذا بألف ، فقال أحدهما : قبلت نصفه بنصف الثمن لم يقع» (٢).

وقال في الجواهر ـ بعد نقل تصريح غير واحد من الأصحاب باعتبار هذا الشرط ـ ما لفظه : «لكن على معنى المطابقة بينهما بالنسبة إلى المبيع والثمن ، لا مطلق التطابق ، لاتّفاق على صحة الإيجاب ببعت والقبول باشتريت. بل الظاهر صحة قبلت النكاح مثلا لإيجاب زوّجتك ، كما عن جماعة التصريح به. بل المراد المطابقة التي مع انتفائها ينتفي صدق القبول لذلك الإيجاب وبالعكس .. إلخ» (٣).

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٢) قواعد الأحكام ، ص ٤٧ (الطبعة الحجرية).

(٣) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٥

٥٩٠

فلو (١) اختلفا في المضمون بأن أوجب البائع البيع على وجه خاصّ من حيث خصوص المشتري أو المثمن أو الثمن ، أو توابع العقد من الشروط ، فقبل المشتري على وجه آخر لم ينعقد.

ووجه هذا الاشتراط واضح ، وهو (٢) مأخوذ من اعتبار القبول ، وهو الرّضا بالإيجاب ، فحينئذ لو قال : «بعته من موكّلك بكذا» فقال : «اشتريته لنفسي» لم ينعقد. ولو قال : «بعت هذا من موكّلك» فقال الموكّل غير المخاطب : «قبلت» صحّ (٣).

______________________________________________________

(١) هذا متفرّع على اعتبار التطابق ، ويستفاد منه أنّ المراد بالمطابقة هو المطابقة في المضمون والمعنى دون اللّفظ ، فلا يلزم أن يكون قبول البيع ـ الذي أنشئ إيجابه بلفظ «بعت» أو إيجاب النكاح بلفظ «أنكحت» ـ ابتعت ، أو : قبلت النكاح. بل لو قال «اشتريت» وفي الثاني «قبلت التزويج» صحّ ، لتطابق الإيجاب والقبول في المعنى.

(٢) أي : اشتراط التطابق مأخوذ .. إلخ. توضيحه : أنّ منشأ اعتبار التطابق هو اعتبار القبول في العقد ، حيث إنّ القبول عبارة عن الرّضا بالإيجاب كما تقدّم سابقا ، فلا بدّ في تحقق القبول من كونه رضا بالإيجاب ، ولا يحصل ذلك إلّا بتطابق القبول والإيجاب في المعنى الإنشائي ، بأن يتحقق الرّضا بالإيجاب على النحو الذي حصل ، إذ بدون التطابق لا يكون القبول رضا بالإيجاب ، ولا يرتبط به ، ولا يعدّ قبولا ـ أي رضا بالإيجاب ـ بل يكون شيئا آخر ، فلا يتحقق الرّبط بين الالتزامين.

وإن شئت فقل : إنّ نفس المعاهدة والمعاقدة تتقوّم بالتطابق بين الإيجاب والقبول ، إذ مع التخالف لا تصدق المعاقدة على شي‌ء واحد ، فإنّ المعاهدة على أمر لا تتحقق إلّا بوحدة المورد الذي تعاقدا عليه.

(٣) لوجود التطابق ، فإنّ قول الموكّل : «قبلت» يكون رضا بالإيجاب.

٥٩١

وكذا (١) لو قال : «بعتك» فأمر المخاطب وكيله بالقبول ، فقبل.

ولو قال : «بعتك العبد بكذا» فقال : «اشتريت نصفه بتمام الثمن» أو نصفه (٢) لم ينعقد (٣).

وكذا (٤) لو قال : «بعتك العبد بمائة درهم» فقال : «اشتريته بعشرة دنانير».

ولو قال للاثنين : «بعتكما العبد بألف» فقال أحدهما : «اشتريت نصفه بنصف الثمن» لم يقع (٥). ولو قال كلّ منهما ذلك لا يبعد الجواز (٦).

ونحوه لو قال البائع : «بعتك العبد بمائة» فقال المشتري : «اشتريت كلّ نصف منه بخمسين» وفيه إشكال (٧).

______________________________________________________

(١) لصدق تطابق الإيجاب والقبول حينئذ.

(٢) بالجرّ معطوف على «تمام الثمن» أي : يقول المشتري : «اشتريت نصفه بنصف الثمن».

(٣) لعدم المعاقدة على ذلك ، فإنّ مضمون الإيجاب شي‌ء غير مضمون القبول ، فلا تتحقق المعاقدة المتقوّمة بربط الالتزامين ، المنوط بوحدة الملتزم به.

(٤) لعدم صدق المعاقدة أيضا على ذلك ، فإنّ القبول ليس مرتبطا بالإيجاب ، لاختلافهما في الثمن ، فلا تتحقق المعاهدة على مبادلة العبد بمائة.

(٥) لاختلاف الإيجاب والقبول في الثمن والمثمن ، إذ المبيع تمام العبد بألف ، لا نصفه بخمسمائة.

(٦) إذ لا اختلاف بينهما إلّا في العبارة ، فإنّ البيع ينحلّ حقيقة إلى بيعين ، أحدهما : بيع نصفه من أحدهما بخمسمائة ، والآخر : كذلك أيضا.

(٧) وهو : أنّ الإيجاب إنّما وقع على بيع المجموع ، بحيث يكون انتقال كلّ نصف من العبد إلى المشتري ضمنيّا ، والقبول إنّما وقع على الرّضا بانتقال كل نصف بالاستقلال ، فلا يتحقق التطابق بين الإيجاب والقبول ، هذا.

٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن فيه تأمّل ، لأنّ مقتضى الإيجاب انحلاله إلى إيجابين بالنسبة إلى بيع النصفين ، فقبول أحدهما قبول لأحد الإيجابين ، فالتطابق بين أحد الإيجابين مع قبوله موجود ، فلا بأس بالصحة بالنسبة إليه ، وإن كان الخيار ثابتا ، لتخلّف الإيجاب الآخر عن قبوله ، فليتأمّل (*).

__________________

(*) قد عرفت أنّهم عدّوا من شرائط العقد التطابق بين الإيجاب والقبول ، والمراد به هو التطابق على إنشاء المعنى المقصود لهما ، لا التطابق في جميع الجهات حتّى اللفظ كي لا يصحّ القبول مثلا بلفظ «قبلت» فيما إذا كان إيجاب البيع بلفظ «بعتك» وإيجاب النكاح بلفظ «أنكحت».

قال في نكاح التذكرة : «لا يشترط اتفاق اللفظ من الموجب والقابل ، فلو قال الموجب : زوّجتك ، فقال الزوج : أنكحت ، أو قال الموجب : أنكحتك ، وقال الزوج : تزوّجت ، صحّ العقد إجماعا» (١).

وفي نكاح القواعد ـ بعد اشتراط اتّحاد المجلس ـ : «فلو قالت زوّجت نفسي من فلان ، وهو غائب ، فبلغه فقبل ، لم ينعقد. وكذا لو أخّر القبول مع الحضور بحيث لا يعدّ مطابقا للإيجاب» (٢).

لكن ذلك معنى آخر ينطبق على اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول. وقد عرفت في التوضيح عبارة الجواهر الدالة على اعتبار المطابقة بين الإيجاب والقبول في المبيع والثمن ، لا مطلق المطابقة.

وكيف كان يكون تعبير المصنف أولى ، لكونه أجمع من تعبير الجواهر.

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨٢

(٢) قواعد الأحكام ، ص ١٤٧ (الطبعة الحجرية)

٥٩٣

.................................................................................................

__________________

وتنقيح المقام يتوقف على البحث عن جهات :

الاولى : في كون التطابق من شروط الصيغة أم من شروط مضمونها أعني به العقد الذي هو الالتزامان المرتبطان.

الثانية : في أنّ موردها جميع الخصوصيات المذكورة في الإيجاب ، أو خصوص ما يتحقّق به عنوان العقد ، وهو المطابقة لما يتقوّم به الإيجاب.

الثالثة : في الدليل على اعتباره.

أمّا الجهة الأولى فملخّصها : أنّ الإيجاب والقبول لا يراد بهما إلّا مضمونهما ، فإنّ إيجاب البيع ليس إلّا تبديل مال بمال مثلا ، وليس للفظ خصوصية حتى يقال : إنّ التطابق شرط للصيغة على حذو شرطية العربية والماضوية لها ، فليس القبول إلّا رضا بهذا المضمون. ومن هنا صحّ اختلاف ألفاظ الإيجاب والقبول ، فيصح أن يقول قابل عقد النكاح : «قبلت التزويج» مع كون الإيجاب بلفظ «أنكحت» وأن يقول قابل البيع : «اشتريت أو تملّكت» مع كون الإيجاب بلفظ «بعت».

وقد عرفت تصريح التذكرة بعدم اشتراط اتفاق اللّفظ من الموجب والقابل. وقد مرّ تصريحه أيضا في التذكرة بأنّه «لا بدّ من التطابق في المعنى بين الصيغتين» فعباراتهم مشتملة على اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول مطلقا كما في القواعد ، أو «التطابق في المعنى بين الصيغتين» كما في التذكرة.

لكن هذه العبارة تفسّر عبارة القواعد ، خصوصا بعد ما عرفت من تصريحهم بعدم اعتبار المطابقة اللفظية بين الإيجاب والقبول في النكاح الذي اهتمّ فيه الشارع غاية الاهتمام.

فقد ظهر ممّا ذكرنا في هذه الجهة أمور :

الأوّل : أنّ مورد التطابق هو العقد لا الإيقاع ، لعدم اشتماله على الإيجاب والقبول.

الثاني : أنّ التطابق من شرائط العقد أعني به الالتزامين ، لا الصيغة حتى يكون من

٥٩٤

.................................................................................................

__________________

قبيل العربية والماضوية.

الثالث : أنّ التطابق لا يختص اعتباره بالعقد اللفظي ، بل يعمّ العقد ولو كان بالمعاطاة ، إذ المفروض أنّ التطابق شرط لنفس العقد الذي ينشأ تارة باللفظ ، وأخرى بالفعل ، كما لا يخفى.

وأمّا الجهة الثانية : فملخّص البحث فيها : أنّ التطابق بين الإيجاب والقبول يتصور على وجوه :

أحدها : أن يلاحظ بالإضافة إلى المبيع ، كأن يقول البائع : «بعتك عبدي بألف دينار» فقال المشتري : «قبلت بيع العبد بذلك الثمن» ، لا ينبغي الارتياب في اعتبار المطابقة هنا ، إذ لو قال المشتري : «قبلت بيع الجارية بألف دينار» لم يكن هذا قبولا لما أنشأه الموجب ، بل كان إنشاء أجنبيا عن الإنشاء الإيجابي ، فلا يتحقّق عنوان العقد الذي هو عبارة عن التزامين مرتبطين كما لا يخفى.

ثانيها : أن يلاحظ بالإضافة إلى الثمن ، كأن يقول البائع : «بعتك عبدي بألف دينار» ويقول المشتري : «قبلت ذلك بألف درهم» لا ينبغي الإشكال أيضا في بطلان العقد وعدم تحققه ، لأنّ المعاهدة والمعاقدة لم تتحقّق بينهما ، فإنّ الإنشاء القبولي ـ الذي هو عبارة عن إمضاء الإيجاب والرّضا به ـ لم يحصل ، فلم يتحقق عنوان البيع بينهما ، لعدم التزامين مرتبطين بينهما ، بل حصل بينهما إنشاءان أجنبيّان مندرجان تحت عنوان الإيقاع لا العقد ، فإنّهما إيقاعان ، كما لا يخفى.

ثالثها : أن يلاحظ بالإضافة إلى نفس المعاملة ، كأن يقول البائع : «بعتك هذا الكتاب بدينار» فإن قال المشتري : «قبلت هذا البيع بهذا الثمن» فلا إشكال في الصحة. وأمّا إذا قال : «قبلت هبة أو صلح هذا الكتاب» فلا إشكال في البطلان ، لعدم اتّفاق الإنشائين على عنوان واحد حتى يرتبطا ، فيكون كلّ واحد من الإنشائين أجنبيّا عن الآخر ، فلا تحصل معاقدة بينهما حتى تشملها العمومات المقتضية للصحة.

٥٩٥

.................................................................................................

__________________

رابعها : أن يلاحظ بالنسبة إلى البائع والمشتري ، فلو قال زيد لعمرو : «بعتك هذا الكتاب بدينار» وقال عمرو : «قبلت البيع لخالد» بطل العقد ، لعدم ورود الإيجاب والقبول على مورد واحد.

ودعوى «عدم دخل خصوصية البائع والمشتري في صحّة البيع ، حيث إنّ الرّكن فيه العوضان. بخلاف النكاح ، إذ الركن فيه الزّوجان ، فمقتضى القاعدة عدم لزوم التطابق بين الإيجاب والقبول في البائع والمشتري ، بل هذا التطابق معتبر في النكاح الذي ركنه الزوجان» غير مسموعة ، لأنّ عدم لزوم التطابق بين الإيجاب والقبول ـ في البائع والمشتري ـ إنّما هو فيما إذا كان العوضان من الأعيان الخارجية.

أمّا مع كون أحدهما ـ فضلا عن كليهما ـ كلّيا ذميّا فإنّه لا بدّ من اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول من ناحية البائع والمشتري ، بداهة اختلاف ذمم الأشخاص من حيث الاعتبار ، فربّ شخص لا يعتمد عليه إلّا في الأمور الحقيرة ، وشخص آخر يعتمد عليه في الأمور الخطيرة ، فلا بدّ حينئذ من المطابقة بين البائع والمشتري.

وعليه فإذا باع زيد متاعه من عمرو بمائة دينار في الذمة ، فليس لعمرو أن يقبل هذا البيع لغيره ، ولا لغيره أن يقبله لنفسه. وهذا هو ما أشار إليه المصنف قدس‌سره بقوله : «فحينئذ لو قال بعته من موكّلك بكذا فقال : اشتريته لنفسي لم ينعقد».

وكذا إذا باع زيد عبده بمائة من بكر وخالد ، فقال أحدهما : «قبلت بيع نصفه بخمسين دينارا» فإنّ التطابق هنا أيضا مفقود ، لأنّ الإيجاب عبارة عن تمليك العبد لاثنين لا لواحد.

أقول : اعتبار التطابق في هذه الصورة بين البائع والمشتري غير ظاهر ، بل المدار على رضا البائع باشتغال ذمّة القابل بالثمن ، فعلى تقدير كون القابل وجيها عند البائع فلا دليل على اعتبار التطابق المزبور ، بعد وضوح عدم دخل خصوصية البائع والمشتري في صحّة البيع ، ولذا لا يتفحّصون عن المالك غالبا ، ويشترون الأمتعة من غير سؤال

٥٩٦

.................................................................................................

__________________

وفحص عن ملّاكها ، هذا.

خامسها : أن يلاحظ التطابق بين الإيجاب والقبول في أجزاء المبيع والثمن ، فإذا قال : «بعتك داري بمائة دينار» فقال المشتري : «قبلت بيع نصف الدار بخمسين دينارا» فعن المحقق النائيني قدس‌سره بطلان البيع ، لعدم ارتباط كلام أحدهما بالآخر ، حيث قال مقرّر بحثه الشريف : «ومما ذكرنا ظهر أنّه لا بدّ من اتّحاد المنشأ حتى بالنسبة إلى التوابع والشروط ، فلو أنشأ أحدهما مع شرط ، وقبل الآخر بلا شرط ، أو باع البائع عبدين ، وقبل المشتري أحدهما ، وغير ذلك ممّا هو نظير ما ذكرناه لم يصحّ أيضا ، لعدم ارتباط كلام أحدهما بالآخر» (١).

ولا يخفى أنّ ذكر المثال الثاني ـ وهو قوله : أو باع البائع عبدين .. إلخ ـ غير مناسب ، لأنّه تفريع على اتّحاد المنشأ في التوابع والشروط ، مع أنّه تبعيض في المبيع ، أو هو مع الثمن كما لا يخفى.

وكيف كان فأيّده سيدنا المحقق الخويي قدس‌سره بما هذا لفظ المقرّر : «لأنّ مرجع بيع الدار بخمسين دينارا مثلا إلى بيع كل نصف منها بخمسة وعشرين دينارا مع اشتراط كلّ منهما بوجود الآخر ، فإذا قبل المشتري أحدهما دون الآخر رجع ذلك إلى عدم المطابقة من جهة الشرط ، وقد مرّ حكمه» (٢).

وقد ذكر قبل ذلك لزوم التطابق بين الإيجاب والقبول في الشروط أيضا.

لكن الحق عدم اعتبار التطابق في الشروط ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

سادسها : التطابق بين الإيجاب والقبول من ناحية الشروط المذكورة في العقد.

قيل : بصحة العقد مع عدم التطابق في الشروط ، نظرا إلى أجنبية الشرط عن العقد ، حيث إنّه التزام آخر غير الالتزام العقدي.

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٤

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٧٤

٥٩٧

.................................................................................................

__________________

وهذا هو الأقوى بناء على كون دخل الشرط بنحو تعدّد المطلوب كالواجبات التي ثبت لها القضاء ، فإنّ قضاءها يكشف عن كونها بنحو تعدّد المطلوب ، فتعدّد المطلوب يكون في الوضعيات والتكليفيّات معا ، ففوات الشرط لا يوجب بطلان العقد ، لعدم كون الشرط مقوّما له ، بل خارجا عنه غير موجب فواته لفوات العقد.

ودعوى : بطلان العقد ، لأجل عدم التطابق بين الإيجاب والقبول في الشروط ـ كما في تقرير سيدنا المحقق الخويي قدس‌سره نظرا إلى : «أنّ تعليق اللزوم يرجع إلى جعل الخيار ، وهذا الجعل يرجع إلى تحديد المنشأ ، وعدم التطابق فيه يوجب البطلان» (١). انتهى ملخّصا.

غير مسموعة ، لأنّ التطابق العقدي موجود بالنسبة إلى الالتزام الأوّل ، كما هو قضية انحلال العقد إلى عقدين أو أزيد ، نظير انحلال رواية متضمنة لجمل ـ سقط بعضها عن الحجية ـ إلى روايات تكون بعضها حجّة ، وبعضها غير معتبرة ، فالشرط لا يوجب تحديد المنشأ الأوّل بحيث يوجب وحدة المنشأ ، حتى يلزم التطابق ، بل هناك إنشاءان والتزامان ومطلوبان يوجب تخلّف الثاني سلطنة المشروط له على حلّ الالتزام الأوّل ، وهذه السلطنة حكم شرعي مترتب على عدم وفاء المشروط عليه بالشرط ، فالخيار مجعول شرعي موضوعه تخلّف الشرط ، فالشارط لم يجعل الخيار حتى يكون مرجعه إلى تحديد المنشأ.

والحاصل : أنّ انحلال الإيجاب المتضمّن لقيود إلى إيجابات يقتضي انحلال القبول أيضا ، فإذا طابق القبول جميع مراتب الإيجاب كانت العقود التي انحلّ إليها الإيجاب صحيحة ، وإلّا كان الصحيح خصوص العقد المطابق لقبوله.

وأمّا انحلال عقد الى عقود ففي غاية الوضوح ، كبيع المملوك وغير المملوك معا ، وكبيع ما يملكه مع مملوك الغير كذلك.

وعليه فإذا باع كتابه وفرسه بعشرة ، وقبل المشتري بيع أحدهما بخمسة دراهم

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٧٣

٥٩٨

.................................................................................................

__________________

صحّ البيع بالنسبة إليه ، وبطل بالإضافة إلى الآخر ، هذا.

وأمّا الجهة الثالثة : فملخّص الكلام فيها : أنّه يظهر من المصنّف وغيره أنّ منشأ اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول هو اعتبار القبول في العقد ، إذ القبول ـ بمعنى الرّضا بالإيجاب ـ لا يصدق إلّا على الرّضا بما أنشأه الموجب ، ولا نعني بالتطابق إلّا هذا ، فاعتبار هذا الشرط يكون حقيقة مقوّما لمفهوم المعاهدة والمعاقدة. ولذا قال المحقق الخراساني في مقام بيان شرطية التطابق ما لفظه : «ضرورة أنّه لو لا التطابق لما قصدا أمرا واحدا ، بل لكلّ همّ وقصد ، فلا يكون بينهما عقد» (١). فدخل التطابق في العقد عرفي ، لكونه مقوّما لمفهوم العقد العرفي.

وعليه فوزان اعتبار التطابق وزان اعتبار القبول في العقد ، نظير شرائط تنجيز العلم الإجمالي كالابتلاء ، فإنّها توجب العلم بالحكم الفعلي ، لا أنّها شرائط منجزية العلم بالحكم الفعلي.

وبعبارة أخرى : تلك الشرائط مقوّمة لحصول العلم المزبور ، فجعل العلم بالحكم الفعلي مشروطا بها لا يخلو عن مسامحة.

وكيف كان فإناطة المعاقدة بالتطابق المزبور ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، فشرطيّته في العقد من القضايا التي قياساتها معها ، فلا يحتاج إثبات شرطيّته إلى إقامة برهان ، فليست شرطيّة التطابق على حدّ شرطيّة العربية والماضوية والتنجيز بعد تسليمها ، حيث إنّها شروط تعبّديّة لا بدّ من إقامة الدليل على اعتبارها.

والمتحصل : أنّ الكبرى مسلّمة ، إلّا أن تطبيقها على صغرياتها مشكل ، كما عرفت في جملة من الموارد.

منها : كون الإيجاب مشروطا بشرط ، والقبول خاليا عنه.

ومنها : ما إذا أوجب البائع لشخصين ، فقبل أحدهما نصف المبيع بنصف الثمن.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٢٩

٥٩٩

.................................................................................................

__________________

ومنها : ما إذا باع شيئين بثمن معيّن ، وقبل القابل أحدهما بنصف الثمن.

فالتحقيق أن يقال : إنّ في كل مورد ينحلّ العقد عرفا إلى عقدين أو عقود أو إلى عقد وشي‌ء آخر ، فقبل القابل البعض المنحلّ يقع التطابق بينهما ، كما إذا قاول المشتري البائع في بيع عبده بمائة وبيع ثوبه بمائة ، بحيث لا يكون بين البيعين ارتباط في الغرض ، فباعهما بمأتين ، وكان الجمع بينهما في العبارة لمجرّد السهولة ، ففي مثل هذه الصورة ينحلّ البيع في نظر العقلاء إلى بيعين ، فإذا قبل المشتري أحدهما ـ كبيع العبد ـ يصدق أنّه باع عبده بمائة ، ويكون القبول مطابقا للإيجاب.

بخلاف ما إذا كان في الواقع وبنظر العقلاء ـ أو في نظر المنشئ ـ ربط بينهما ، فباع المجموع بما هو مجموع ، فإنّ المشتري إذا قبل البعض لا يكون قبولا له ، ولا مطابقا لإيجابه ، كما إذا باع الباب فقبل أحد مصراعيه ، لا يتحقق المطاوعة والتطابق ، فيكون البيع باطلا.

وهكذا الكلام في الشروط ، فعلى القول بانحلالها وكونها التزاما في التزام يكون القبول بلا شرط قبولا ومطابقا للإيجاب. وعلى القول بعدم انحلالها لا يكون القبول المجرّد عن الشرط مطابقا للإيجاب. فالمدار في المطابقة وعدمها على الانحلال وعدمه.

فعلى الأوّل يحصل التطابق بين الإيجاب والقبول ، فيصح في أحد العقدين دون الآخر. أو في الالتزام العقدي دون الشرطي. وتشخيص موارد الانحلال بنظر العرف ، فمع إحراز الانحلال أو عدمه لا كلام ، ومع الشك في قابلية المنشأ للانحلال يرجع إلى أصالة الفساد ، للشكّ في عقديته مع عدم إحراز التطابق.

وبالجملة : فاعتبار التطابق إنّما هو لأجل تقوّم العقد به ، فالشكّ في التطابق يوجب الشك في تحقق العقد ، والأصل عدمه.

ففي جميع موارد الشك في انحلال العقد يشكّ في التطابق ، ومرجع هذا الشكّ الى الشك في صدق العقد ، فمقتضى أصالة الفساد عدم ترتب الأثر المقصود عليه.

٦٠٠