هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

.................................................................................................

__________________

أصالة الفساد المقتضية لعدم الجواز.

وأمّا وجه التعميم إلى جميع ألفاظ القبول في النكاح فلعلّه دعوى القطع بأولوية الماضي بالجواز من غيره ، ولا أقلّ من التساوي ، هذا.

وفيه : أمّا بالنسبة إلى الجواز في النكاح فلمنع عدم الإطلاق في الأدلة العامة ، ومقتضاه جواز تقديم القبول على الإيجاب مطلقا ، من دون حاجة إلى التمسّك بدليل خاص كروايتي أبان وسهل المتقدمتين ، حتّى يقال باختصاص جواز تقديم القبول حينئذ بالنكاح ، والعدم في غيره لأصالة الفساد. بل مقتضى الإطلاقات عدم الفرق بين النكاح وغيره.

وأمّا بالنسبة إلى جهة تعميمه إلى جميع ألفاظ القبول في النكاح فلمنع القطع بأولوية الماضي بالجواز من غيره ، بعد احتمال دخل خصوصية المضارع والأمر في النكاح.

الاحتمال الرابع : التفصيل بين كون القبول بصيغة الأمر ، فيجوز مطلقا ، وبين كونه بغيرها ، فلا يجوز مطلقا. ولعلّ وجهه في العقد الإيجابي هو اختصاص دليل الجواز بالأمر ، ويتعدّى عن مورده ـ أعني به النكاح ـ إلى غيره بالأولوية ، فيجوز تقديم القبول بلفظ الأمر في غير النكاح أيضا.

وفي العقد السلبي ـ أعني به عدم الجواز بغير الأمر في النكاح وغيره ـ هو قصور الإطلاقات ، لانصرافها إلى العقود المتعارفة ، فيرجع في غير النكاح ـ الذي هو مورد النص وما يلحق به بالفحوى ـ إلى أصالة الفساد القاضية ببطلان العقد المقدّم قبوله بغير الأمر على إيجابه ، هذا.

وفيه ما لا يخفى ، إذ في الأوّل أوّلا : أنّ دليل النكاح لا يختصّ بالأمر ـ بعد تسليم كون الأمر ، وهو قول الصحابي : «زوّجني» في مقام إنشاء القبول ، لا المقاولة ـ لورود المضارع أيضا في رواية أبان المتقدمة.

٤٨١

.................................................................................................

__________________

وثانيا : منع أولويّة غير النكاح من النكاح حتى يتعدّى إلى غير النكاح كما تقدّم آنفا.

وفي الثاني : منع قصور الإطلاقات وانصرافها إلى العقود المتعارفة كما عرفت أيضا. فالإطلاق محكّم ، ومقتضاه جواز تقديم القبول ـ مطلقا ـ على الإيجاب بعد صدق العقد العرفي ، هذا.

الاحتمال الخامس : الذي اختاره المصنف قدس‌سره هو التفصيل بين ألفاظ القبول ، والظاهر أنّه أوّل من فصّل في المقام.

ومحصّل ما أفاده هو : أنّ إنشاء القبول تارة يكون بلفظ «ملكت أو تملّكت أو اشتريت أو ابتعت» ونحوها من الألفاظ الظاهرة في إنشاء التملّك والتمليك التبعي.

وأخرى يكون بلفظ «قبلت أو رضيت أو أمضيت أو أنفذت» ونحوها ممّا له ظهور في إنشاء التمليك مع سبق الإيجاب ، بحيث لا ظهور له في ذلك بدون سبقه ، نظير تحريك الرأس في مقام الجواب عن السؤال.

وثالثة يكون بما هو ظاهر في الاستدعاء كلفظ الأمر ، مثل قول المشتري : «بعني الكتاب الفلاني بألف» وقول البائع له : «بعته إياك بكذا».

أمّا القسم الأوّل : فيجوز تقديمه على الإيجاب. والوجه فيه عدم اعتبار عنوان القبول والمطاوعة في صدق مفهوم العقد العرفي ، ضرورة أنّ العقد متقوم بالتزامين مرتبطين مبرزين ، ومن المعلوم حصول إبرازهما بلفظ : «ملكت» قبولا ، و «بعت» مثلا إيجابا ، لأنّ معنى «ملكت واشتريت» ونحوهما ممّا تقدّم هو إنشاء ملكية المبيع بإزاء ماله عوضا ، فالمشتري ينشئ المعاوضة حقيقة كالبائع ، غاية الأمر أنّ البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بإزاء مال صاحبه ، والمشتري ينشئ ملكية مال صاحبه لنفسه بإزاء ماله. فكلّ منهما يخرج ماله إلى صاحبه ، ويدخل مال صاحبه في ملكه ، إلّا أنّ الإدخال في الإيجاب مفهوم من ذكر العوض ، والإدخال في القبول يفهم من نفس اللفظ وهو

٤٨٢

.................................................................................................

__________________

«ملكت» ونحوه ، فإنّ معناه ملكت المبيع بإزاء الثمن بذكر العوض وهو الدينار.

وبالجملة : فما هو المعتبر في القبول ـ من الرّضا بالإيجاب ، ونقل الثمن في الحال ـ متحقق. أمّا الرّضا فواضح. وأمّا الثاني فلأنّه أنشأ ملكيّة المبيع بإزاء ماله عوضا ، ولا يعتبر في القبول ما عدا هذين الأمرين كالمطاوعة ، فإنّه لا دليل على اعتبارها في مفهوم القبول.

لا يقال : إنّ «التاء» في «اشتريت وابتعت وتملكت» يدلّ على مطاوعة الفاعل لغيره ، وقبوله لأثره ، فالتاء في «اشتريت» يدل على مطاوعة فاعله لفاعل «شريت» فلا فرق بين «قبلت واشتريت» إلّا أنّ دلالة الأوّل على المطاوعة تكون بالمادة ، والثاني بالهيئة.

فإنّه يقال : لا تدلّ «تاء» المطاوعة على لزوم صدور مدخولها من فاعل غير فاعل الفعل ، بل يكفي فيه مجرّد الصلاحية لذلك ، فيصحّ أن يقال : «اكتسى زيد أو اهتدى» وإن لم يكن له كاس وهاد.

نعم لعلّ الغالب صدور مدخول تاء المطاوعة من فاعل غير فاعل الفعل. لكنّه لا يوجب اعتبار ذلك فيه ، فلا دليل على اعتبار المطاوعة في مفهوم القبول ، هذا.

وقد أورد على ما أفاده المصنف قدس‌سره ـ من جواز تقديم القبول إذا كان بلفظ اشتريت ونحوه ـ بوجوه.

الأوّل : ما عن المحقق النائيني قدس‌سره على ما في تقرير بحثه الشريف ، ومحصّله : أنّه يعتبر في القبول ـ بأيّ لفظ كان ـ مطاوعة الإيجاب والانفعال والتأثّر منه ، وإلّا كان أجنبيا عن الإيجاب وغير مرتبط به ، وكان إيقاعا لا عقدا ، فلا بدّ من الارتباط بين الإيجاب والقبول بمطاوعة الثاني له ، فالمطاوعة معتبرة في مفهوم القبول ، سواء أكان بلفظ «قبلت أم اشتريت» ونحوه. وعليه فلا بدّ من تقديم الإيجاب على القبول ، وإلّا فمع التقديم لا يسمّى قبولا ، بل إيجابا ، هذا (١).

وأجيب عنه تارة بعدم اعتبار شي‌ء في القبول سوى الرّضا بالإيجاب ، ومن

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٠

٤٨٣

.................................................................................................

__________________

المعلوم أنّه لا يمنع عن جواز التقديم.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّ مجرّد الرضا بالإيجاب ليس قبولا للإيجاب. ودعوى كونه قبولا لا شاهد عليها.

وأخرى ـ بعد تسليم اعتبار المطاوعة ـ أنّ المعتبر منها هي الإنشائية القابلة للتقدم دون الحقيقية غير القابلة له ، هذا.

الثاني : ما في المتن من الإجماع على اعتبار القبول في العقد ، وهو متضمن لمعنى المطاوعة حتى يقع قبولا.

وفيه ما قيل من : أنّ المتيقن من الإجماع هو اعتبار القبول الشامل للرّضا بالإيجاب.

لكنّه ممنوع بأنّ المتيقن اعتبار المطاوعة أيضا في القبول ، فبدونها يشكّ في ترتب الأثر على العقد ، ومقتضى أصالة الفساد عدمه ، فتدبّر.

الثالث : ما في حاشية المحقق الأصفهاني قدس‌سره من : «أنّ مفهوم الاشتراء أو الابتياع متضمن لاتّخاذ المبدء ، فإن كان بعنوان اتخاذه من الغير فلا محالة يكون مطاوعة قصديّة ، وإلّا كان من إنشاء بيع مال الغير فضولا ، لا إنشاء الملكية قبولا» (١) ، هذا.

وقد أجيب تارة : بأنّ المطاوعة الإنشائية لا تمنع من التقديم.

وأخرى : بأنّ صيغة الافتعال ليست كصيغة الانفعال متضمنة للمطاوعة دائما ، هذا.

وأنت خبير بما فيهما. إذ في الأوّل : أنّه لا فرق بين المطاوعة الحقيقيّة والإنشائية في لزوم التأخّر ، إذ المفروض ترتبها على فعل الفاعل ، كما في الانكسار المترتب على الكسر ، والانتقال المترتب على النقل ، فتقدّم القبول الإنشائي ينافي اعتبار المطاوعة.

والحاصل : أنّه لا فرق في المطاوعة الاعتبارية والحقيقية ، لأنّ تقديم القبول على الإيجاب خلاف ما فرض فيه من المطاوعة. نظير ما قيل في دفع إشكال الشرط المتأخر من : أنّ الممتنع هو تأخّر الشرط في العلل التكوينية دون الاعتبارية التي يمكن اعتبارها قبل حصول ماله دخل فيها ، فإنّك خبير بأنّ اعتبار الملكيّة مثلا قبل إجازة

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٦٩

٤٨٤

.................................................................................................

__________________

المالك مناف لفرض دخل الإجازة فيه ، ويكون ذلك خلفا كما لا يخفى.

وفي الثاني : أنّ ظهور باب الافتعال في المطاوعة ممّا لا سبيل إلى إنكاره ، ولا يصار إلى خلافه إلّا بالقرينة ، أو عدم قابلية المورد للمطاوعة كالإحتطاب والاحتشاش ونحوهما ، فتدبّر.

الرابع : ما أوجب تردّد المصنف قدس‌سره من قوله : «نعم يشكل الأمر بأن المعهود المتعارف من الصيغة تقديم الإيجاب. ولا فرق بين المتعارف هنا وبينه في المسألة الآتية وهو الوصل بين الإيجاب والقبول ، فالحكم لا يخلو عن شوب الإشكال».

وفيه : أنّ التعارف لا يقيّد الإطلاق. وفرق بين المقام وبين الموالاة ، حيث إنّ فوات الموالاة مخلّ بالمعاقدة عرفا ، فاعتبار الوصل بين الإيجاب والقبول دخيل في صدق العقد العرفي ، بخلاف تقديم الإيجاب على القبول ، فإنّه إذا ثبت كان بالتعبّد كما لا يخفى.

أو يقال في الفرق بين المقامين : بأنّ التعارف هنا من قبيل الغالب المتخلّف في بعض الموارد ، بشهادة ما ورد في بعض نصوص عقد النكاح من قول الزوج : «أتزوّجك وقول الزوجة : نعم». وهذا بخلاف التعارف في الموالاة ، إذ لم يعرف تخلّف له.

والتعارف على النحو الأوّل ـ وهو المتخلّف في بعض الموارد ـ لا يقيّد الإطلاق ، بخلاف التعارف على النحو الثاني ، فإنّه يقيّده ، فمع فرض صدق العقد العرفي على الإيجاب والقبول المنفصلين لا يشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لفوات الموالاة المعتبرة في العقود المقيّدة لإطلاق أدلة الصحة ، هذا.

وأمّا القسم الثاني : ـ وهو أن يكون القبول بلفظ «قبلت ورضيت» ونحوهما ـ فقد ذهب إلى عدم الجواز. والوجه في ذلك ـ على ما في المتن ـ أمور ثلاثة :

الأوّل : الإجماع المحكي عن التذكرة.

والثاني : أنّ العقد المتقدم قبوله على إيجابه خلاف المتعارف ، فلا يشمله عموم

٤٨٥

.................................................................................................

__________________

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بعد انصرافها إلى العقود المتعارفة.

والثالث : أنّ القبول ـ الذي هو أحد ركني العقد المعاوضي ـ فرع الإيجاب ، لأنّه عبارة عن الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله في الحال إلى الموجب عوضا ، إذ المشتري كالبائع ناقل ، فلا بدّ من تقدم الإيجاب عليه ، وإلّا لم يكن معنى للقبول.

نعم لو كان القبول عبارة عن مجرد الرّضا بالإيجاب توجّه تقديم القبول عليه ، لأنّ مجرد الرّضا يتعلّق بالشي‌ء الماضي والحال والمستقبل.

وبالجملة : فلا يدلّ «قبلت ورضيت» على إنشاء نقل الثمن في حال التكلم إلّا مع تأخّرهما عن الإيجاب الدال على نقله عن المشتري تبعا ، هذا.

وفي الكل ما لا يخفى إذ في الأوّل : عدم ثبوت الإجماع ، وعدم صحة نسبته إلى التذكرة كما تقدم في التوضيح. وعلى تقدير ثبوته يحتمل أن يكون مدركيا ، لاحتمال استناد المجمعين إلى بعض الوجوه كالفرعية ، فراجع.

وفي الثاني : عدم صلاحية التعارف لتقييد الإطلاقات.

وفي الثالث : أنّ المراد بالفرعية إن كان فرعية المعلول للعلة في الوجود ، ففيه : أنّ فساده أوضح من أن يذكر ، إذ لازمه وجود القبول قهرا بمجرّد وجود الإيجاب ، كما هو شأن المعلولات الحقيقية.

وإن كان فرعيّته للعلّة في التأثير لا أصل الوجود ففيه أوّلا : أنّه ليس أولى من العكس.

وثانيا : أنّه أجنبي عن مورد البحث الذي هو جواز تقديم القبول من حيث الوجود الإنشائي ، ومقتضى الفرعية المذكورة عدم جوازه من حيث التأثير ، وهو لا يدلّ على لزوم تأخير القبول بوجوده الإنشائي.

وإن كان فرعيّة العرض للمعروض في قيام القبول بالإيجاب ـ بأن يقال : إنّ القبول كسائر الأفعال المتوقف تحقّقها على وجود مفعول به قبلها كالأكل والشرب المتعلقين

٤٨٦

.................................................................................................

__________________

بالمأكول والمشروب ـ ففيه : أنّه إن أريد من وجود الإيجاب قبل القبول حتّى يرد عليه القبول وجوده الإنشائي الخارجي فهو مصادرة ، لأنّه عين محل النزاع.

وإن أريد منه مطلق وجوده ـ ولو كان ذهنيا ـ فهو ممّا لا إشكال فيه ، لكنه لا يثبت المقصود ، وهو عدم جواز تقديم القبول على الإيجاب الإنشائي الخارجي.

وبعبارة أخرى : الأفعال من حيث الاحتياج إلى وجود المتعلق ـ المعبّر عنه بالمفعول به تارة ، وبالموضوع أخرى ، وبمتعلّق المتعلّق ثالثة ـ تكون على أقسام.

أحدها : احتياجها إلى خصوص الوجود الخارجي كالأكل والشرب.

ثانيها : احتياجها إلى خصوص الوجود الذهني كالطلب ، إذ لو تعلّق بالوجود الخارجي لزم طلب الحاصل المحال.

ثالثها : احتياجها إلى مطلق الوجود كالقبول ، فإنّه يتعلّق بالإيجاب الموجود خارجا أو ذهنا ، كالرّضا المتعلّق بإيجاب يوجد في المستقبل ، فليتأمّل.

وإن كان فرعية الانفعال للفعل ففيه : أنّ ترتب الانفعال على الفعل وتأخره عنه إنّما هو في الفعل والانفعال الحقيقيّين كالكسر والانكسار ، دون الفعل والانفعال الإنشائيّين ، لصحة الانفعال الإنشائي وإن لم يكن هناك فعل ، لا واقعا ولا إنشاء ، حيث إنّ الانفعال الإنشائي ليس إلّا إنشاء لمفهومه ، واستعمال اللفظ فيه بقصد تحققه. فالقبول والمطاوعة الإنشائيّان لا يتوقّفان على وجود الإيجاب لا خارجا ولا إنشاء ، وإنّما يتوقفان بوجودهما الواقعي على وجود الإيجاب.

والحاصل : أنّ للقبول والمطاوعة أنحاء من الوجود الذهني والخارجي والإنشائي ، ومحلّ البحث هنا هو وجودهما الإنشائي الذي لا يتوقف على وجود الإيجاب قبله ، فيصح إنشاء القبول والمطاوعة قبل الإيجاب.

ثم إنّه على فرض التنزّل ـ والالتزام بتوقف وجودهما الإنشائي أيضا على وجود الإيجاب ـ يمكن القول بجواز تقديم القبول على الإيجاب أيضا. بيانه : أنّ عدم الجواز

٤٨٧

.................................................................................................

__________________

حينئذ مبني على كون القبول العقدي انفعالا متضمنا لمعنى المطاوعة. وذلك ممنوع ، لأنّ الانفعال ـ الذي هو التأثر ـ في قبال الفعل وهو التأثير ، وإحداث الأثر لا يتصوّر في القبول العقدي ، لأنّ مورد التأثّر إمّا هو المال ، لعروض الانتقال عليه ، فيتأثر المال بالابتياع والانتقال. وإمّا هو القابل ، فكأنّ الموجب بنقل ماله إلى المشتري بعوض يؤثّر في المشتري ، وهو يتأثّر به.

إذ يلزم على الأوّل أن يكون القبول العقدي صفة للمال دون المشتري ، فلا يصحّ جعل المشتري قابلا ، بل القابل هو المال. ومن البديهي أنّ القابل هو المشتري لا المال ، كما أنّ الموجب هو البائع لا المبيع ، فإنّ الموجب والقابل وصفان للمتعاملين لا العوضين. كما لا يخفى.

ويلزم على الثاني أن يصحّ إنشاء القبول بلفظ «انفعلت وتأثّرت» وفساده بمكان من الوضوح.

إلّا أن يقال : إنّ عدم صحة إنشاء القبول بلفظ «انفعلت وتأثّرت» يحتمل أن يكون تعبّدا محضا.

لكن فيه : أنّه لم يثبت تعبّد هنا ، فلاحظ.

والذي يشهد بعدم كون القبول العقدي انفعالا : أنّه لا يستعمل شي‌ء من ألفاظ القبول إلّا متعدّيا ، ومن المعلوم أنّ التعدّي ينافي معنى الانفعال ، فليس القبول العقدي ـ وإن كان بلفظه ـ انفعالا للإيجاب ، بل هو عبارة عن مجرّد الرّضا بالإيجاب الذي هو نقل الموجب ماله إلى المشتري أصالة ، ونقل مال المشتري إليه تضمنا.

وبعبارة أخرى : التأثير وهو تمليك المبيع أصالة ، والتأثّر وهو تملّك مال المشتري تبعا كلاهما مستند إلى الموجب ، وناش من إيجابه ، ولا يصدر من المشتري إلّا صرف الرّضا بهذين التأثير والتأثر. وحيث إنّ هذا الرّضا قائم بالصورة الذهنية كالطلب فلا يتوقف على وجود الإيجاب خارجا فعلا ، بل يكفي وجود الإيجاب خارجا

٤٨٨

.................................................................................................

__________________

في المستقبل في تعلق القبول بمعنى الرّضا المزبور به ، ولا يحتاج إلى تقدم الإيجاب عليه في الخارج. وسيأتي في المقام الثاني إن شاء الله تعالى مزيد بيان لإثبات كون القبول مجرّد الرّضا بالإيجاب ، فانتظر.

وأمّا القسم الثالث ـ وهو أن يكون القبول بصيغة الأمر ـ فقد ذهب المصنف قدس‌سره إلى منع تقديمه على الإيجاب ، لأنّ الأمر لا يدلّ إلّا على طلب المعاوضة والرضا بها ، ولا يدلّ على نقل الثمن إلى البائع في الحال عوضا عن المبيع ، إذ المفروض عدم تحقق الإيجاب قبله. ودعوى الاتفاق على صحة تقدم القبول بلفظ الأمر على الإيجاب كما في المبسوط موهونة بمصير الأكثر إلى خلافه ، فلا إجماع أصلا.

ثم إنّه ينبغي تحرير محل النزاع في الأمر ، فنقول وبه نستعين : إنّ استعمال الأمر في مقام المعاملة يتصوّر على ثلاثة أقسام :

أحدها : مجرّد الطلب ، والدلالة على رضائه بالمعاملة لو اتّفق معه البائع ، من دون قصد الطالب للقبول به ، بل غرضه طلب المعاملة من البائع. ولا ينبغي الإشكال في عدم كفايته عن القبول ، كما لا ينبغي نسبة القبول بصحّة العقد به ـ إذا لحقه الإيجاب من دون اتباعه بالقبول المعتبر ـ إلى أحد من فقهائنا ، لفقدان قصد القبول مع تقوّم القبول به.

ثانيها : مجرّد الدلالة على الرّضا بالمأمور به وهو البيع من دون قصد إلى الطلب ، من باب استعمال اللفظ الموضوع للازم في الملزوم ، فتدلّ صيغة الأمر حينئذ على مجرّد الرّضا بما يوجبه الموجب في المستقبل ، ولا تدلّ على الرّضا بنقل الثمن في الحال إلى البائع. وهذا أيضا لا يتحقق به القبول ، لعدم كونه رضا بنقل الثمن في الحال ، والمفروض أنّ القبول على مذهب المصنف قدس‌سره عبارة عن الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل الثمن في الحال إلى الموجب ، فلا يكون هذا الأمر قبولا حتّى يلتئم العقد بلحوق القبول ـ الذي هو ركن ـ بالإيجاب.

ثالثها : الدلالة على معنى «اشتريت» من باب استعمال اللّفظ الموضوع للملزوم في اللازم ، إذ من لوازم طلب البيع قبوله والقيام بالاشتراء ، فاستعملت صيغة الأمر في

٤٨٩

.................................................................................................

__________________

إنشاء هذا اللازم.

وهذا ممّا ينبغي أن يكون محلّا للنزاع ، دون الأوّلين ، لوضوح عدم كفايتهما في تحقق العقد ، لما عرفت من عدم دلالتهما على الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله إلى الموجب في الحال ، ومن المعلوم أنّ هذا المعنى هو القبول العقدي ، والمفروض عدم حصوله بهما. بخلاف المعنى الأخير ، لحصول القبول العقدي به ، غاية الأمر أنّ دلالة الأمر على هذا اللازم تكون على سبيل المجاز ، للقرينة المقاليّة أو المقامية ، فيصح استعماله على مذهب المحقق الثاني قدس‌سره فيصير حاله حال «اشتريت» فإن جوّزنا تقديم القبول بصيغة الأمر فهو وإلّا فلا.

ومن هنا يظهر : أنّ منع المصنف قدس‌سره عن تقديمه على الإيجاب ناش عن حمل الأمر على المعنى الأوّل ، وهو الدلالة على مجرّد الطلب كما هو صريح كلامه : «لأنّ غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة على الرّضا بها .. إلخ».

وأنت خبير بأنّ الأمر بالمعنى الذي أفاده المصنف قدس‌سره لا يصلح لأن يكون قبولا عقديّا حتى يقع محلّا للنزاع في جواز تقديمه على الإيجاب ، إذ لا يدلّ بهذا المعنى على القبول العقدي أصلا ، فلا يصحّ إنشاء القبول به وإن تأخّر عن الإيجاب.

فالحقّ أن يقال : إنّ الأمر إذا دلّ على القبول العقدي بالقرينة فهل يجوز تقديمه على الإيجاب أم لا؟ فإنّ هذا ينبغي أن يقع موردا للنزاع في جواز تقديم القبول بصيغة الأمر ، كالنزاع في تقديمه إذا كان بصيغة الماضي ، ويأتي ما هو مقتضى التحقيق إن شاء الله تعالى.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل أعني به : الاحتمالات والأقوال في مسألة اعتبار تقدم الإيجاب على القبول وعدمه.

وأمّا المقام الثاني : ـ أعني به الحقّ الذي ينبغي الاعتماد عليه ـ فتنقيحه منوط بتقديم أمور :

٤٩٠

.................................................................................................

__________________

الأوّل : أنّه لا ريب في تركّب العقد من الإيجاب والقبول ، وأنّ مجموعهما موضوع لحكم الشارع أو العقلاء من الأمر الاعتباري كالملكية والزوجية ونحوهما. والفارق بين العقد وبين الإيقاع هو كون موضوع الأمر الاعتباري بسيطا في الإيقاع غير محتاج إلى إنشاء آخر يسمّى بالقبول كباب التحرير والنذر وغيرهما من الإيقاعات ، ومركّبا في العقد أي محتاجا في ترتب الأثر إلى إنشاء آخر يسمّى بالقبول. ونتيجة هذا الأمر أنّ الإنشاءين المقوّمين للعقد العرفي موجودان مع تقدم القبول على الإيجاب.

الثاني : أنّه لا بدّ في الأدلّة اللّبّيّة ـ كالإجماع ـ من الأخذ بالمتيقن ، إذ لا إطلاق لها حتى يؤخذ به ، وهذا بخلاف الأدلّة اللفظية ، فإنّها على قسمين :

أحدهما : أن تكون مجملة ، كما إذا كانت في مقام التشريع فقط ، كقوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

والآخر : أن يكون لها إطلاق أو عموم ، كما إذا كانت في مقام البيان من سائر الجهات أيضا غير جهة التشريع.

الثالث : أنّ الإيجاب والقبول المعتبرين في العقود لا حقيقة شرعية لهما ، فلا بدّ في تحقيق مفهومهما من الرّجوع إلى العرف.

الرابع : أنّ النزاع في اعتبار تقدّم الإيجاب على القبول إنّما هو مع انحفاظ عنوان القبول مع تقدّمه على الإيجاب ، وإلّا فلا معنى للنزاع في تقدم القبول مع خروجه عن عنوانه ، وتبدّله بعنوان الإيجاب.

الخامس : أنّه لا ريب في صدق العقد العرفي على العقد المتقدم إيجابه على قبوله ، فلا يتقوّم مفهوم العقد عرفا بتقدم الإيجاب على القبول ، فاعتبار تقدمه لو قيل به لا بدّ أن يكون بدليل شرعي.

والغرض من هذا الأمر هو : أنّ الارتباط المقوّم لعقدية الإنشاءين موجود مع تقدم القبول على الإيجاب.

٤٩١

.................................................................................................

__________________

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : أنّ المتيقن من الإجماع القائم على اعتبار القبول في العقد هو كون القبول عبارة عن الرّضا بالإيجاب وتقريره وتثبيته. واعتبار المطاوعة والانفعال خصوصية زائدة لا دليل على اعتبارها في مفهوم القبول ، فإنّ المتيقّن من الإجماع الدالّ على اعتبار القبول في العقد هو الرّضا بالإيجاب. واعتبار قيد زائد فيه ـ كالانفعال والمطاوعة وإنشاء نقل ـ مما لا دليل على اعتباره ، بعد وضوح صدق مفهوم العقد العرفي على العقد الذي يكون قبوله رضا بالإيجاب من دون خصوصية أخرى معه. ولو شك في اعتبارها شرعا ينفى بعموم وجوب الوفاء بالعقود.

فوزان القبول وزان «جزاكم الله خيرا» لمن عمل عملا ، وشأنه تقرير عمل الموجب. كما أنّ المناسب للفظ القبول عرفا هو هذا المعنى ، فإنّه قبول لإيجاب الموجب ورضا به ، فليس شأن القبول إنشاء نقل مثلا في قبال إنشاء الموجب ، وإلّا كان العقد مركّبا من إيجابين ، لا إيجاب وقبول ، كما إذا قال المشتري بعد قول البائع : بعتك هذا المتاع بدينار : «نقلت الدينار إليك بهذا المتاع» فإنّ هذا الكلام من المشتري إيجاب لا قبول.

والحاصل : أنّ تمام ماهية البيع توجد بإيجاب البائع وقبول المشتري لهذا الإيجاب ، ولا تحتاج إلى إيقاع المشتري ملكية المبيع أو البائع ملكية الثمن ، لأنّ الإيجاب متضمّن لذلك ، والمحتاج إليه في ترتب الأثر هو قبول المشتري ، ورضاه بما أوقعه الموجب ، فليس القبول نقلا وانتقالا جديدا ، بل الإنشاء الصادر من المشتري ليس إلّا رضا بالإيجاب.

فما أفاده المصنف قدس‌سره من اعتبار تضمّن القبول للنقل وللرّضا بالإيجاب لا يخلو من غموض.

إذ فيه أوّلا : عدم الدليل على اعتبار النقل في القبول ، كما عرفت.

وثانيا : منافاته لما اختاره قدس‌سره في ثاني تنبيهات المعاطاة من كفاية الإعطاء من

٤٩٢

.................................................................................................

__________________

طرف واحد في تحقق البيع المعاطاتي. وجه المنافاة أنّه لا يتحقق حينئذ فعل من المشتري حتّى يكون نقلا للثمن ، بل يحصل منه أخذ ، وهو متمّم لفعل المعطي ، وليس إنشاء لنقل الثمن كما لا يخفى.

كما أنّ ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره على ما في تقرير بحثه الشريف : «من أنّ كلّا من الموجب والقابل في عقود المعاوضة ينشئ أمرين ، أحدهما بالمطابقة ، وثانيهما بالالتزام ، فالموجب ينقل ماله إلى ملك المشتري مطابقة ، ويتملّك مال المشتري عوضا عن ماله التزاما ، والقابل بعكس ذلك» (١) لا يخلو أيضا من غموض.

لما فيه أوّلا : من منافاته لتحقق البيع المعاطاتي بإعطاء واحد كما عرفت آنفا ، فتأمّل.

وثانيا : أنّ تمليك الثمن بالقبول لا بدّ أن يكون مقصودا للمشتري ، لتبعية العقد للقصد ، كسائر الأمور القصدية المتقومة بالقصد ، ومن المسلّم فقدانه في غالب البيوع ، لجهل المشتري باعتبار قصد نقل الثمن ، فيلزم بطلان كثير منها ، وهو كما ترى.

وثالثا : يلزم تركب العقد من إيجابين : تمليك البائع للمبيع ، وتمليك المشتري للثمن ، وهذا غير الإيجاب والقبول المقوّمين للعقد.

ورابعا : يلزم أن يكون مفهوم القبول ـ الذي هو أحد ركني العقد في العقود المعاوضية ـ مغايرا لمفهوم القبول في سائر العقود ، ولازم هذا تعدّد الوضع للقبول على حسب تعدد أنواع العقود ، ولا أظنّ التزام أحد بذلك ، هذا.

وقد ظهر أيضا مما ذكرناه ما في تفصيل المصنف قدس‌سره بين ألفاظ القبول ، بجواز التقديم إذا كان بلفظ «اشتريت» ونظائره مما هو ظاهر في التملّك والتمليك التبعي وبعدمه إذا كان بلفظ «قبلت» ونحوه مما هو ظاهر في مطاوعة فعل الموجب ، أو كان بصيغة الأمر ، بدعوى : أن «اشتريت» ونحوه يدلّ على الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٠٩

٤٩٣

.................................................................................................

__________________

النقل في الحال ، فيجوز تقديمه. وأنّ لفظ «قبلت» متفرع على الإيجاب ، ولم يحصل بعد ، فلا يجوز. وكذا لفظ الأمر ، فإنّه يدلّ على الرّضا بالمعاملة ، ولا يدلّ على الرّضا بالنقل في الحال ، فالأمر إذن في إيقاع البيع ، لا قبول للإيجاب ، هذا.

وذلك لما عرفت من أنّ القبول العقدي ليس إلّا الرّضا بفعل الموجب ، سواء حصل الإيجاب أم لم يحصل بعد ، ضرورة أنّ الرّضا كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلق بأمر استقبالي. ولا يعتبر في القبول النقل في الحال ، لما مرّ من عدم دخله في شي‌ء من العقود شرعا ولا عرفا. ولو كان إنشاء النقل دخيلا في مفهوم القبول لما كان التقديم جائزا بأيّ لفظ كان ، لامتناع اتصاف القبول بهذا المعنى إلّا مع التأخر ، لأنّ نقل الثمن لازم تملّك المبيع ، وبدون تملّكه لا ينشأ تمليك الثمن. ولو لم يكن دخيلا في مفهومه جاز تقديم القبول بأيّ لفظ كان.

فهذا النزاع الراجع إلى مقام الإثبات غير مناسب ، لأنّ مفهوم القبول إمّا يقبل التقديم وإمّا لا يقبله. فعلى الأوّل يجوز مطلقا ، وعلى الثاني لا يجوز كذلك ، وإن كان بلفظ : اشتريت وابتعت.

ولو سلّم اعتبار المطاوعة في القبول فلا مانع من إنشائه مقدّما على الإيجاب بأحد نحوين ، إمّا بنحو الاشتراط ، كأن يقول : «إن بعتني هذا المتاع بكذا قبلت» نظير الواجب المشروط ، فيتحقق القبول الحقيقي المتمّم لموضوع الأمر الاعتباري بعد الإيجاب. وإمّا بنحو الواجب التعليقي ، فيقبل الإيجاب في موطن تحققه ، كإيجاب الصلاة في الغد ، فالإنشاء فعلي والمنشأ استقبالي.

وعلى التقديرين لا مانع من إنشاء القبول قبل الإيجاب سواء أكان بلفظ : «اشتريت أم قبلت» أم الأمر. والفرق بينها إنّما هو في كيفية الدلالة ، فإنّ دلالة «قبلت ورضيت» على القبول وهو الرّضا بالإيجاب إنّما تكون بالمطابقة ، وعلى النقل والتملّك بالالتزام ، ودلالة

٤٩٤

.................................................................................................

__________________

«اشتريت» ونحوه على القبول ـ بالمعنى المزبور ـ إنّما تكون بالالتزام ، وعلى النقل والتملك بالمطابقة. ودلالة الأمر على القبول إنّما تكون بالكناية ، لأنّ مطلوبية البيع الذي هو مادة الأمر يلزمها الرّضا بإيجابه.

لكن هذا الفرق ليس بفارق في جهة البحث وهي تقدّم القبول على الإيجاب.

ولو نوقش في دلالة بعض الألفاظ على القبول مع تقدّمها على الإيجاب ، فإنّما هو مناقشة صغروية لا تقدح في البحث الكبروي ، وهو تقدم القبول على الإيجاب ، بعد كون القبول هو الرّضا بالإيجاب ، وعدم اعتبار شي‌ء آخر ـ كالنقل في الحال ـ فيه.

وبالجملة : فالحقّ جواز تقديم القبول مطلقا ولو كان بلفظ الأمر ، إن كان مفهوم القبول بسيطا وهو الرّضا بالإيجاب ، لما عرفت من جواز تعلّق الرّضا بإيجاب استقبالي كتعلّقه بإيجاب حاليّ ، وعدم جواز التقديم إن كان مفهومه مركّبا من الرّضا بالإيجاب والنقل في الحال ، وإن كان بلفظ «اشتريت وابتعت وملكت». فمناط جواز التقديم وعدمه هو بساطة مفهوم القبول وتركّبه من غير دخل لدلالة الألفاظ من حيث الصراحة وعدمها في ذلك ، كما لا يخفى.

كما أنّه قد ظهر مما ذكرنا أيضا غموض تفصيل آخر ، وهو ما أفاده المصنف قدس‌سره أيضا من الفرق بين أنواع العقود ، وملخّصه : أنّ القبول في العقود على أقسام ، لأنّه إمّا التزام بشي‌ء كالالتزام بنقل ماله إلى الغير عوضا عن ماله كما في العقود المعاوضيّة كالبيع والإجارة ، وما بحكمهما كالنكاح ، فإنّ القابل وهو الزوج يلتزم بالزوجيّة. وهذا القسم يتصور على وجهين :

أحدهما : كون الالتزام الحاصل من القابل نظير الالتزام الحاصل من الموجب كالمصالحة المعاوضية ، حيث إنّ كلّا منهما يتسالم صاحبه على المال.

ثانيهما : كونه مغايرا له كالاشتراء ، إذ الملحوظ فيه عوضيّته لمال آخر.

٤٩٥

.................................................................................................

__________________

وإمّا مجرد الرّضا بالإيجاب من دون التزام بشي‌ء. وهذا القسم يتصور أيضا على وجهين :

الأوّل : أن يعتبر فيه عنوان المطاوعة كالارتهان والاتهاب والاقتراض.

والثاني : أن لا يعتبر فيه أزيد من الرّضا بالإيجاب كالوكالة والعارية والوديعة ، فإنّ القبول فيها يحصل بمجرّد الرضا بإيجاب التوكيل والإعارة والإيداع ، وليس فيه إنشاء التزام.

وتقديم القبول على الإيجاب إنّما يكون في صورتين :

إحداهما : كون القبول التزاما مغايرا للإيجاب كالاشتراء.

ثانيتهما : كون القبول مجرّد الرّضا من دون اعتبار المطاوعة فيه ، كالقبول في المصالحة المتضمنة للإسقاط أو التمليك بغير عوض ، وفي الوكالة والعارية والوديعة لأنّ في هاتين الصورتين ينبغي أن ينازع في جواز تقديم القبول على الإيجاب وعدمه ، حيث إنّ تقديمه فيهما على الإيجاب لا يخرجه عن معنى القبول.

بخلاف الصورتين الأخريين ـ وهما كون القبول التزاما نظير التزام الموجب كالمصالحة المعاوضية. وكون القبول الرضا بالإيجاب مع اعتبار المطاوعة فيه ـ فإنّ التقديم في الأولى يوجب تركب العقد من إيجابين ، وفي الثانية يوجب فوات المطاوعة المعتبرة في مفهوم القبول. هذا محصل ما يستفاد من كلام المصنف قدس‌سره.

والإشكال فيه يظهر مما أسلفناه ، إذ القبول العقدي في جميع أنواع العقود ليس له معنى متعدّد ووضع كذلك. والوجه في اعتبار القبول في العقد إمّا العرف ، لتركب العقد عندهم من الإيجاب والقبول ، فالقبول حينئذ مقوّم للعقد العرفي. وإمّا الإجماع على اعتبار القبول في العقد.

وعلى التقديرين لا وجه لاعتبار أزيد من الرّضا بالإيجاب في ظرف تحققه ، إذ لا يحكم العرف بأزيد منه. وكذا الإجماع ، لأنّ المتيقن منه هو اعتبار مجرّد الرّضا

٤٩٦

.................................................................................................

__________________

بالإيجاب ، ولا دليل على اعتبار المطاوعة ـ أو فعليّة الإيجاب حين القبول ـ في مفهوم القبول أو في تأثيره.

فالتحقيق : أنّ القبول في جميع العقود بمعنى واحد ، وهو الرّضا بالإيجاب مطلقا ، سواء تقدّم أم تأخّر ، لما عرفت من صحة الرّضا بشي‌ء مستقبل كالحالي.

وأمّا الالتزام بالشي‌ء في بعض العقود ـ كالالتزام بالنقل في البيع وبالزوجية في النكاح ـ فليس دخيلا في مفهوم القبول ، وإنّما هو من لوازمه ، حيث إنّ الرّضا بالإيجاب يختلف مقتضاه بحسب اختلاف أنحاء الإيجاب ، فإنّ إيجاب الزوجية يستلزم أن يكون الرّضا به التزاما بالزوجية ، والرّضا بتسالم زيد مثلا على مال يكون قبولا للصلح.

وبالجملة : ففي جميع أنواع العقود ليس القبول فيها إلّا مجرّد الرّضا بما أوجبه الموجب من غير فرق في ذلك بين العقود اللازمة المعاوضية والإذنية والمجانيّة.

هذا مضافا إلى ما في بعض أمثلة التفصيل المزبور من المناقشة ، حيث إنّه قدس‌سره جعل قبول القرض مجرّد الرّضا بالإيجاب من دون التزام بشي‌ء ، مع أنّ من الواضح التزام المقترض بضمان العين المقترضة مثلا أو قيمة.

وكيف كان فمقتضى التحقيق جواز تقديم القبول بأيّ لفظ كان على الإيجاب في أيّ عقد كان ، فتدبّر.

ومما ذكرنا تعرف ما في كلمات المصنف قدس‌سره من الاضطراب ، هدانا الله تعالى إلى حقائق أحكامه بحق محمد وعترته سادة أوليائه صلوات الله عليهم إلى يوم لقائه.

٤٩٧

ومن جملة شروط العقد : الموالاة (١) بين إيجابه وقبوله.

ذكره الشيخ في المبسوط في باب الخلع (٢) ،

______________________________________________________

المبحث الثاني : شرطية الموالاة بين الإيجاب والقبول

(١) هذا هو المبحث الثاني من مباحث الجهة الثالثة المتكفلة لشرائط الصيغة من حيث الهيئة التركيبية. والبحث في هذه المسألة عن شرطية الموالاة بين الإيجاب والقبول ، وإخلال الفضل بينهما ـ بالأجنبي. وقد يعبّر عن هذا الشرط بالفورية في كلام بعضهم ، كما في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره (١). وسيأتي تصريح شيخ الطائفة باعتبار الفورية في الخلع.

وفي الجواهر : «وأمّا الاتّصال فعن جماعة منهم الفاضل في النهاية والشهيد والمقداد والمحقق : أنّه يشترط أن لا يتأخّر القبول بحيث لا يعدّ جوابا ، ولا يضرّ تخلّل آن أو تنفّس أو سعال» (٢).

وفي مفتاح الكرامة ـ بعد حكاية الاشتراط عن الجماعة المذكورين ـ : «قلت : هو مما لا ريب فيه» (٣).

(٢) ذكره شيخ الطائفة في خصوص الخلع ، ولم يذكره على وجه القضية الكلية الجارية في سائر العقود. قال في المبسوط : «إذا طلّقهما بألف أو على ألف ، فقد طلّقهما

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٥١

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٥

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٥

٤٩٨

ثمّ العلّامة (١) والشهيدان (٢)

______________________________________________________

طلاقا بعوض ألف. ويقتضي أن يكون جوابه على الفور ، فإن تراخى لم يصحّ أن يطلّقهما على ما طلبتا ، فإن طلّق كان ابتداء طلاق من جهته ، ويكون رجعيا» (١) انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

(١) قال قدس‌سره في بيع النهاية : «ويشترط أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول ، ولا يتخلّلهما كلام أجنبي عن العقد ، إذا خرج بذلك عن القبول عرفا» (٢).

واعتبر في نكاح القواعد (٣) وحدة مجلس الإيجاب والقبول.

وجوّز في نكاح التذكرة التراخي ، فقال : «إنّما يصح العقد إذا صدر في مجلس واحد ولم يتشاغلا بينه بغيره وإن تراخى أحدهما عن الآخر ، إذا عدّ الجواب جوابا للإيجاب .. إلخ» (٤) فراجع.

وعلى هذا فإن أمكن استفادة الفورية من اشتراط وحدة المجلس فهو ، وإلّا فتنحصر نسبة شرطية الفورية إلى العلّامة في صراحة عبارة النهاية.

(٢) قال الشهيد قدس‌سره في شرائط الوقف : «ورابعها : القبول المقارن للإيجاب ، إذا كان ـ أي الوقف ـ على من يمكن فيه القبول» (٥).

ويستفاد اعتبار الموالاة أيضا من مفهوم قوله في شرائط عقد البيع : «ولا يقدح تخلّل آن أو تنفّس أو سعال» (٦).

ورجّح الشهيد الثاني في الرّوضة اشتراط الوقف بالقبول ـ إذا كان الوقف على من يمكن في حقه القبول ـ ثم قال : «فعلى هذا يعتبر فيه ما يعتبر في العقود اللازمة من

__________________

(١) : المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٤ ، ص ٣٦٢

(٢) نهاية الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٥٠

(٣) قواعد الأحكام ، ص ١٤٧ (الطبعة الحجرية)

(٤) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨٣

(٥) الدروس الشرعية ، ج ٢ ، ص ٢٦٤

(٦) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩١

٤٩٩

والمحقّق الثاني (١) والشيخ المقداد (١).

قال الشهيد في القواعد (٢) : «الموالاة معتبرة في العقد ونحوه (٣) ، وهي (٤)

______________________________________________________

اتصاله بالإيجاب عادة» (٢).

(١) كما في موضعين من جامع المقاصد ، أحدهما : في عقد البيع ، حيث قال : «ويشترط وقوع القبول على الفور عادة من غير أن يتخلّل بينهما كلام أجنبي» (٣).

ثانيهما : في عقد النكاح ، حيث شرط العلّامة اتحاد المجلس ، واستظهر منه المحقق الثاني الموالاة ، فقال : «وكذا يشترط اتحاد مجلس الإيجاب والقبول ، فلو تعدّد ـ كما لو قالت الزّوجة : زوّجت نفسي من فلان ، وهو غائب ، فبلغه ، فقبل ـ لم يصحّ ، لأنّ العقود اللازمة لا بدّ فيها من وقوع القبول على الفور عادة ، بحيث يعدّ جوابا للإيجاب. وكذا لو تخلّل بينهما كلام آخر أجنبي» (٤).

وتعرّض العلّامة قدس‌سره في التذكرة لفرعين ، أحدهما : اتحاد المجلس كما نقلناه آنفا ، والآخر : تأخر القبول عن الإيجاب بما لا يتعارف ، كما إذا كان غائبا عن مجلس الإيجاب. ويظهر من عقد فرعين تعددهما موضوعا ، فراجع التذكرة (٥).

(٢) استند الشهيد قدس‌سره في اعتبار الموالاة إلى فتاوى فقهائنا قدس‌سرهم في مسائل خمس ، ونقل فتوى بعض العامة في مسألة تخلّل التحميد والتصلية بين إيجاب عقد النكاح وقبوله.

(٣) ممّا يعدّ فيه الشيئان أو الأشياء واحدا ، أو يعدّ أجزاء المركّب واحدا كالصلاة.

(٤) أي : الموالاة. توضيحه : أنّ الملحوظ في اعتبار الاتصال بين الإيجاب

__________________

(١) : التنقيح الرائع ، ج ٢ ، ص ٢٤

(٢) الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ١٦٥

(٣) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٩

(٤) جامع المقاصد ، ج ١٢ ، ص ٧٨

(٥) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨٢

٥٠٠