هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

مطلقا (١) بناء على صيرورتها بيعا (٢) بعد اللزوم (*) كما سيأتي عند تعرّض الملزمات (٣) ، فالخيار موجود من زمان المعاطاة ، إلّا أنّ أثره (٤) يظهر بعد اللزوم. وعلى هذا (٥) فيصحّ إسقاطه والمصالحة عليه قبل اللزوم (*).

______________________________________________________

(١) يعني : من غير فرق بين الخيار المختصّ بالبيع كخياري المجلس والحيوان ، وغير المختص به كخيار الغبن.

(٢) يعني : لا معاوضة مستقلة في قبال البيع كما سيأتي في التنبيه السابع إن شاء الله تعالى.

(٣) الأولى أن يقال : «بعد تعرض الملزمات» لأنّ الملزمات ذكرت في التنبيه السادس ، وليس هناك دلالة على صيرورتها بيعا بعد عروض الملزم ، وإنّما أفاده في التنبيه السابع الّذي افتتحه بقوله : «ان الشهيد الثاني في المسالك ذكر وجهين في صيرورة المعاطاة بيعا بعد التلف ، أو معاوضة مستقلة».

(٤) يعني : أثره العملي وهو القدرة على الفسخ ، وإلّا فالإسقاط والمصالحة عليه من الآثار أيضا كما صرّح به المصنف بقوله : «وعلى هذا فيصح إسقاطه والمصالحة عليه قبل اللزوم».

(٥) أي : وعلى فرض وجود الخيار من زمان المعاطاة.

__________________

(*) فلا يرد عليه ما في حاشية المحقق الخراساني قدس‌سره من قوله : «والخيار موجود من زمن المعاطاة ، وأثره يظهر من حيث ثبوته ، لصحة إسقاطه والمصالحة عليه قبل اللزوم ، فلا وجه لما أفاده من ظهور أثره بعده» (١).

وكأنّه قدس‌سره لم يلاحظ من كلام المصنف قدس‌سره إلّا قوله : «إلّا أنّ أثره يظهر بعد اللزوم» ولم يلاحظ ما بعده من قوله : «وعلى هذا فيصح إسقاطه .. إلخ».

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ١٧

٤١

ويحتمل (١) أن يفصّل بين الخيارات المختصة بالبيع ، فلا تجري (٢) ، لاختصاص أدلّتها (٣) بما وضع على اللزوم من غير جهة الخيار (٤) ، وبين غيرها (٥) كخيار الغبن والعيب (*)

______________________________________________________

(١) معطوف على «فيمكن القول» لا على قوله : «فيمكن نفيه ..» لأنّ المقصود إبداء احتمالين في المعاطاة المفيدة للملك ، وأمّا المفيدة للإباحة فلا معنى للخيار فيها.

وكيف كان فحاصل ما أفاده : أنّه يحتمل التفصيل بين الخيارات بأن يقال : إنّ ما يختص منها بالبيع لا يجري في المعاطاة ، لاختصاص أدلّتها بالبيع المبني على اللزوم من غير ناحية الخيار ، يعني : لو لا الخيار كان لازما ، ولم يكن سبب لجوازه إلّا الخيار ، فمع جواز العقد في نفسه لا يثبت فيه الخيار. وأمّا ما لا يختص من الخيارات بالبيع كخيار الغبن فيجري في المعاطاة ، لعموم أدلة تلك الخيارات كقاعدة نفي الضرر ، وبناء المتعاملين على مساواة العوضين في المالية. فجاز فسخ العقد عند التخلف.

(٢) يعني : فلا تجري الخيارات المختصة بالبيع في المعاطاة المفيدة للملك.

(٣) أي : أدلة الخيارات المختصة بالبيع ، مثل «البيّعان بالخيار» و «صاحب الحيوان المشتري بالخيار إلى ثلاثة أيّام».

(٤) والمفروض استناد جواز الملك وتزلزله في المعاطاة إلى نفس العقد الفعلي ، لا إلى الخيار ، فإنّه لو لم يجري شي‌ء من الخيارات فيها كان الملك جائزا بعد ، ومن المعلوم عدم جريان الخيار المخصوص بالبيع ـ المبني على اللزوم بحسب طبعه الأوّلي ـ في المعاطاة.

(٥) أي : غير الخيارات المختصة.

__________________

(*) لا يخفى أن هذين الخيارين أولى من غيرهما بعدم الجريان ، لأنّ دليلهما ـ وهو قاعدة نفي الضرر ـ لا يجري في البيع الجائز ذاتا ، ضرورة أنّ الضرر ينشأ من وجوب الوفاء بالمعاملة ، فلا ضرر ـ إذ لا وجوب وفاء بالمعاملة الجائزة ذاتا ـ حتى ينشأ منه الخيار.

٤٢

بالنسبة (١) إلى الرّدّ دون الأرش ، فتجري ، لعموم أدلّتها (*).

وأمّا (٢) حكم الخيار بعد اللّزوم فسيأتي بعد ذكر الملزمات.

______________________________________________________

(١) هذه الكلمة قيد ل «خيار العيب» ومقصوده قدس‌سره أنّ دليل خيار العيب المقتضي لجريانه في العقود المعاوضية يوجب في المعاطاة الردّ خاصة ، ولا يقتضي الأرش.

توضيحه : أنّهم عرّفوا الخيار ب «ملك فسخ العقد وإقراره» وهذا المعنى جار في جميع الخيارات ، ولخيار العيب حكم آخر في البيع ، وهو جواز إبقاء العقد وأخذ الأرش ، أي التفاوت بين الصحيح والمعيب ، فلو باع متاعا معيبا تخيّر المشتري بين فسخ العقد وأخذ الأرش. لكن هذا التخيير مخصوص بالبيع اللفظي المفيد بطبعه للملك اللّازم ، لأنّه حكم تعبدي ثبت في البيع ، وليس مما يقتضيه مطلق الخيار ، وليس من شؤونه.

وعلى هذا فالبناء على عموم دليل خيار العيب لغير البيع كان مقتضى جريانه في المعاطاة ـ التي هي معاوضة جائزة حسب الفرض ـ جواز فسخ أصل العقد. وأمّا إذا كان المأخوذ بالمعاطاة معيبا ، فليس للآخذ مطالبة الأرش ، لفرض كون الأرش حكما تعبديا في خصوص البيع اللازم. فهو نظير الخيارات المخصوصة بالبيع ـ كخياري المجلس والحيوان ـ في عدم جريانها في سائر العقود المعاوضية.

(٢) يعني : أنّ ما تقدم من التفصيل في حكم جريان الخيار في المعاطاة يكون مورده قبل طروء أحد الملزمات ، وأمّا جريانه فيها بعد اللّزوم فسيأتي إن شاء الله تعالى في التنبيه السابع ، فإنّه يذكر هناك حكم الخيار بعد اللزوم على كلا القولين وهما الملكية والإباحة.

__________________

(*) لا وجه لهذا الاحتمال ، لما فيه أوّلا : من النقض بالبيع القولي إذا اجتمعت فيه موجبات عديدة للخيار كالغبن والعيب ، إذ لازم دلالة كل واحد من أدلّة تلك

٤٣

.................................................................................................

__________________

الخيارات على اختصاص الخيار بالعقد الذي وضع على اللزوم من ناحية غير هذا الخيار هو عدم اجتماع تلك الخيارات في البيع اللفظي ، مع عدم التزام أحد بذلك.

وثانيا : من الحلّ ، وحاصله : أنّ المراد بلزوم العقد هو كون العقد بطبعه مقتضيا للزوم ، وهذا لا ينافي جوازه للجهات العارضة.

وبعبارة أخرى : المراد لزومه لو خلّي وطبعه ، فلا مانع من جوازه لجهات خارجة عن ذاته.

وتفصيل البحث أن يقال : إنّ المعاطاة المقصود بها الملك إن أفادت الملك اللّازم كما هو الأصح فلا ينبغي الارتياب في تطرّق الخيارات طرّا فيها ، لإطلاق أدلتها ، من غير فرق بين الخيارات المختصة بالبيع وغيرها. وأمّا الخيارات الثابتة بدليل لبّي فالمتيقّن من موردها هو البيع اللّازم.

وإن أفادت الملك الجائز فكذلك أيضا ، لإطلاق أدلّتها ، وتوهم منافاة جوازها للخيار ، للزوم تحصيل الحاصل أو اجتماع المثلين أو اللغويّة مندفع بما مرّ آنفا.

نعم إن كان دليل الخيار لبيّا فلا يحكم بثبوته في المعاطاة المفيدة للملك الجائز.

وإن أفادت الإباحة فلا معنى للخيار ـ الذي هو حلّ العقد وفسخ مضمونه ـ في المعاطاة المفيدة للإباحة كما عرفت في توضيح كلام المصنف قدس‌سره ، لأنّها إباحة عندهم فلا معنى للخيار.

لكن لسيّدنا المحقق الخويي قدس‌سره هنا كلام محصّله : أنّه لا شبهة في صدق البيع العرفي على المعاطاة المقصود بها الملك المفيدة للإباحة شرعا ، فإنّ الإباحة الشرعية لا تخرجها عن البيع العرفي ، ولذا يصح حمله عليها بالحمل الشائع ، فتشملها العمومات الدالة على صحة البيع ، فيحكم بكونها بيعا في نظر الشارع كحصول الملكية في بيع الصرف والسّلم المتوقف على القبض الخارجي. وحينئذ نقول : إن كان المقصود من ثبوت الخيار في العقد سلطنة ذي الخيار على فسخه فعلا فلا إشكال في

٤٤

.................................................................................................

__________________

عدم شمول أدلة الخيارات للمعاطاة المفيدة للإباحة ، لعدم حصول الملكية إلّا بعد طروء أحد الملزمات ، وإباحة التصرف ترتفع بعدم رضا المالك بالتصرف بلا احتياج إلى فسخ المعاطاة.

إلّا أن يقال : إنّ الإباحة شرعيّة لا مالكيّة حتى ترتفع بعدم رضا المالك ، ومن المعلوم بقاء الإباحة الشرعية إلى أن يحكم الشارع بارتفاعها.

لكنه مندفع بأنّ الإباحة هنا ثبتت بالإجماع ، والمتيقن منه إنّما هو مع بقاء الباذل على إذنه ، فلا يشمل الإجماع صورة رجوعه عن إذنه.

والحاصل : أنّ الغرض من جعل الخيار إن كان هو ترتب الأثر الفعلي عليه لم يجر ذلك في المعاطاة المقصود بها الملك المفيدة للإباحة.

لكنّه بديهي البطلان ، إذ لو كان الغرض من الخيار الأثر الفعلي لزم منه امتناع اجتماع الخيارات العديدة في البيع وغيره من العقود. وإن كان الغرض من الخيار استيلاء صاحبه على إلغاء ما هو مؤثّر في النقل والانتقال ، فلا شبهة في جريان الخيار المصطلح في المعاطاة المذكورة ، لأنّها قابلة للتأثير في الملكية ، فإذا ثبت الخيار لكلّ من المتعاطيين جاز لكلّ منهما رفع تلك القابلية برفع موضوعها لئلّا تؤثّر في الملكية بعد طروء أحد الملزمات.

وعلى هذا فيكفي في صحة جعل الخيار في المعاطاة التمكن من إلغائها بالفسخ عن قابلية التأثير في الملكية. هذا ملخص كلامه (١).

لكن لا يمكن المساعدة على ما أفاده قدس‌سره ، لمنع صدق البيع العرفي على المعاطاة المفيدة للإباحة وإن قصد بها التمليك ، فإنّ صدق البيع مع التفات العرف إلى عدم إمضاء الشارع له ، وجعل الإباحة له ممنوع أشدّ المنع ، وصدقه عليه أحيانا عرفا إنّما هو لأجل عدم اطّلاعه على عدم إمضاء الشارع له ، وبدون إمضائه لا عقد حتى يجري فيه الخيار

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٦٤ و١٦٥

٤٥

.................................................................................................

__________________

الذي هو حلّ العقد. والإباحة الشرعية أجنبية عن العقد ، وطروء الملزمات لا يوجب الملك ، بل لزوم الإباحة كما هو ظاهر جلّ كلمات القائلين بالإباحة.

وقياس المعاطاة المفيدة للإباحة حدوثا والملك بقاء ببيع الصرف المتوقف تأثيره في الملكية على القبض مع الفارق ، لأنّه بيع عرفي لا يؤثّر شرعا في الملكيّة إلّا بالقبض بحيث يكون القبض شرطا لتأثيره ، من دون ترتّب أثر على مجرّد البيع حتى الإباحة. بخلاف المعاطاة ، فإنّها تؤثّر في الإباحة ، وتأثيرها في الملكية بعد طروء أحد الملزمات غير ثابت ، لما عرفت من أنّ كلمات جلّ القائلين بالإباحة خالية عن تأثيرها في الملكية ، بل عبّروا بأنّها تلزم بالتصرف أو التلف ، والظاهر من ذلك أنّ الإباحة تلزم بهما ، فلاحظ.

ثم إنّه يظهر ممّا ذكرنا : أنّ موضوع الخيار هو العقد الممضى شرعا ، لأنّ الخيار عبارة عن حلّ ما عقده والتزم به ، وبدون الإمضاء الشرعي لا يتحقق عقد حتى ينحلّ بالفسخ الناشئ عن الخيار. والمعاطاة المفيدة للإباحة وإن قصد بها الملك ليست عقدا شرعا حتّى يجري فيها الخيار.

وعليه فلا موضوع لما أفاده قدس‌سره من «أنّ الغرض من جعل الخيار إن كان هو ترتب الأثر الفعلي امتنع اجتماع الخيارات العديدة في البيع وغيره من العقود ، وهو بديهي البطلان. وإن كان هو استيلاء صاحبه على إلغاء ما هو مؤثّر في النقل والانتقال ، فلا شبهة في جريان الخيار المصطلح في المعاطاة المذكورة ، لأنها قابلة للتأثير في الملكية فلا مانع من إلغائها عن التأثير المزبور بالخيار ، هذا» وذلك لأنّه لا يصدق العقد العرفي والشرعي على المعاطاة المذكورة حتى يصحّ جعل الخيار فيها ، ويجي‌ء فيه التشقيق المزبور في الخيار.

هذا كلّه مضافا إلى : أنّ دليل الخيار يخصّص أدلة لزوم الملك التي هي دليل الإمضاء ، فدليل الخيار مترتب عليها ، ومخصّص لعمومها الأفرادي أو الأزماني.

٤٦

.................................................................................................

__________________

وإن شئت فقل : إنّ الخيار دافع لأصالة اللزوم كخيار المجلس ، أو رافع لها كخيار العيب والغبن بناء على كون ظهور العيب والغبن سببا للخيار.

وعلى كلّ حال يعتبر في تعلق الخيار وقوع مضمون العقد ، ولا يكفي مجرّد القابلية في تعلّقه ، وإلّا لصحّ تعلق خيار المجلس ببيع الصرف قبل التقابض ، لكونه قابلا للمملّكية ، وصيرورة هذه القابلية فعليّة بعد التقابض ، مع أنّ من البديهي عدم جعل الخيار فيه إلّا بعد التقابض. ولا ملك فعلا في المعاطاة حتى يثبت فيها الخيار ، ولذا لا يجري خيار المجلس في بيع الصرف والسّلم قبل القبض ، حيث إنّ نفس العقد فيهما لا يفيد الملك حتى يجي‌ء فيهما الخيار وإن كانا قابلين للتأثير في الملكيّة.

والحاصل : أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ موضوع الخيار هو العقد الممضى شرعا ، لا مجرّد العقد العرفي وإن لم يمضه الشارع كالمعاطاة المفيدة للإباحة شرعا المقصود بها الملك.

فتلخص مما ذكرنا : أنّ شيئا من الخيارات لا يتطرّق في المعاطاة المفيدة للإباحة وإن قصد بها التمليك ، كعدم تطرّقه في المعاطاة المقصود بها الإباحة.

٤٧

الأمر الثاني (١) : أنّ المتيقن من مورد المعاطاة هو حصول التعاطي

______________________________________________________

التنبيه الثاني : إنشاء المعاطاة بوجوه أربعة

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه بيان ما يتحقق به المعاطاة ، يعني : أنّه هل يعتبر في تحققها ـ حتى تفيد الملك أو الإباحة ـ التعاطي من الطرفين ، أم تتحقق بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر ، وبغير ذلك.

وتوضيح المقام : أنّ في كل معاملة ـ ومنها المعاطاة في البيع ـ جهتين :

إحداهما : المنشأ ، وهو الأمر الاعتباري المقصود للمتعاملين ، وهو إمّا التمليك أو الإباحة.

وثانيهما : الإنشاء ، وهو ما يكون مبرزا للقصد النفساني أو موجدا للأمر الاعتباري. ولا بد من تحقيق كلتا الجهتين ، وقد عقد المصنف قدس‌سره التنبيه الرابع لاستيفاء الكلام في أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين. كما عقد هذا التنبيه للبحث عن الجهة الثانية.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المذكور في المتن صور أربع :

الأولى : اعتبار الإعطاء من الطرفين في تحقق الملكية أو الإباحة ، فلا يحصل شي‌ء منهما بإعطاء واحد ، وهو مقتضى الجمود على مدلول هيئة المفاعلة أي المشاركة بين اثنين في المبدأ ، وعليه فالإعطاء الواحد جزء السبب المؤثّر في الملكية أو

٤٨

فعلا (١) من الطرفين (٢) ، فالملك (٣) أو الإباحة في كلّ منهما بالإعطاء ، فلو (٤) حصل الإعطاء من جانب واحد لم يحصل ما يوجب إباحة الآخر أو ملكيّته ، فلا (٥) يتحقق المعاوضة (٦)

______________________________________________________

الإباحة ، نظير الإيجاب الواحد القولي في عدم ترتب أثر عليه ما لم ينضم إليه قبول قولي.

الثانية : إعطاء أحد المتعاطيين وأخذ الآخر ، من دون أن يعطي الآخذ شيئا.

الثالثة : عدم تحقق الإعطاء أصلا ، لا من الطرفين ولا من طرف واحد. بل مجرّد إيصال المال الى الآخر بوضعه في المكان المعدّ له.

الرابعة : مجرّد الكلام والمقاولة ، من دون تحقق الإعطاء ولا إيصال أحد العوضين للآخر.

هذا إجمال الكلام ، وسيأتي التفصيل إن شاء الله تعالى.

(١) التقييد بفعلية التعاطي يكون لإخراج سائر الصور ، فإنّ الإعطاء سيتحقق منهما ، لكنه ليس بعنوان إنشاء المعاوضة ، بل لأجل الوفاء بها ، كما هو الحال في القبض في البيع القولي.

(٢) هذا إشارة إلى الصورة الأولى. وهي مقتضى الجمود على ظاهر باب المفاعلة.

(٣) إذا كان هو المقصود ، وقلنا بترتبه على المعاطاة كترتبه على البيع بالصيغة.

(٤) هذه الإباحة إمّا مالكية لو كانت مقصودة ، أو تعبدية كما هو رأي القدماء من ترتبها على المعاطاة المقصود بها الملك.

(٥) هذه نتيجة اعتبار فعلية التعاطي من الطرفين في ترتب الأثر على المعاطاة.

(٦) يعني : بناء على كون المعاطاة مفيدة للملك.

٤٩

ولا الإباحة (١) رأسا ، لأنّ (٢) كلّا منهما ملك أو مباح في مقابل ملكية الآخر (٣) أو إباحته.

إلّا (٤) أن الظاهر من جماعة (٥) من متأخري المتأخرين تبعا للشهيد في الدروس جعله (٦) من المعاطاة (٧).

______________________________________________________

(١) بناء على إفادة المعاطاة للإباحة.

(٢) محصل هذا التعليل : أنّ المعاوضة البيعية أو الإباحيّة تتوقف على قيام كلّ من المالين مقام الآخر في الملكية أو الإباحية ، ولا يقوم ذلك إلّا بإعطاء المالك ، فالإعطاء من كلّ واحد من المالكين تمليك أو إباحة ، فالإعطاء من طرف واحد تمليك أو إباحة بلا عوض ، وهذا غير المعاوضة المتقومة بإعطاء كلّ واحد من المالكين.

(٣) أي : ملكية المال الآخر.

(٤) هذا استدراك على قوله : «المتيقن من مورد المعاطاة» وغرضه بيان الصورة الثانية ، يعني : إلحاق الإعطاء من طرف واحد ـ وأخذ الآخر ـ بالمعاطاة من الطرفين في إفادة الإباحة على رأي القدماء ، والملك على رأي المتأخرين.

(٥) كالشهيد الثاني (١) والمحدث البحراني (٢).

(٦) أي : جعل الإعطاء ـ من جانب واحد ـ من مصاديق المعاطاة.

(٧) قال الشهيد قدس‌سره : «ومن المعاطاة : أن يدفع إليه سلعة بثمن يوافقه عليه من غير عقد ، ثم تهلك عند القابض ، فيلزم الثمن المسمّى» (٣).

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥١

(٢) الحدائق الناضرة ، ج ١٨ ، ص ٣٦٤

(٣) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩٢

٥٠

ولا ريب (١) أنّه لا يصدق (٢) معنى المعاطاة ، لكن هذا (٣) لا يقدح في جريان حكمها عليه بناء (٤) على عموم الحكم لكلّ بيع فعلي (٥) ، فيكون إقباض أحد العوضين من مالكه تمليكا له بعوض ، أو مبيحا (٦) له به (٧) ،

______________________________________________________

(١) هذا إشكال على إلحاق الإعطاء من طرف واحد بالمعاطاة موضوعا ، ثم وجّهه بقوله : «لكن» وحاصل ما أفاده : أنّ جعل الإعطاء من طرف واحد معاطاة إن أريد به كونه معاطاة موضوعا فهو ممنوع ، لظهور هيئة المفاعلة في اعتبار الإعطاء من الجانبين فعلا ، فإعطاء أحدهما ليس معاطاة. وإن أريد به إلحاقه حكما بالمعاطاة كان متينا ، بناء على أن يكون مفاد دليل مشروعية المعاطاة صحة البيع الفعلي في قبال القولي ، سواء تحقق بالتعاطي من الجانبين ، أم بإعطاء أحدهما ، أم بنحو آخر ، إذ المتّبع حينئذ هو دليل المعاملة الفعلية وإن لم يصدق عنوان المعاطاة عليها. وعليه فما في دروس الشهيد وتبعه جماعة في غاية المتانة.

(٢) لتوقّفه على الإعطاء من الطرفين ، بدعوى دلالة هيئة المفاعلة على الاشتراك في المبدأ.

(٣) أي : عدم صدق المعاطاة لا يقدح في جريان حكم المعاطاة على الإعطاء الواحد.

(٤) قيد لقوله : «لا يقدح» يعني : فلو قيل بدوران صحة المعاطاة مدار صدق المعاطاة المنوطة بالتعاطي لم يكن وجه للإلحاق المزبور.

(٥) غرضه قدس‌سره أنّ الإعطاء من طرف واحد محكوم عليه بحكم المعاطاة ـ وإن لم يصدق عليه عنوانها ـ بناء على عموم حكم المعاطاة عند الأصحاب لكل بيع فعلي من دون مزيّة وخصوصية للتعاطي من طرفين ، إذ من المعلوم حينئذ كون الإعطاء من طرف واحد مصداقا للبيع الفعلي وإن لم يكن مصداقا للمعاطاة ، إذ لم يرد عنوان المعاطاة في نصّ حتى يكون لها خصوصية.

(٦) الأنسب بالمقابلة أن يقال : «أو إباحة له» أو يقال : «مملّكا له بعوض».

(٧) أي : بالعوض ، وضمير «له» في المواضع الخمسة راجع إلى أحد العوضين.

٥١

وأخذ الآخر له تملّكا (١) له بالعوض أو إباحة له بإزائه ، فلو كان (٢) (*) المعطى (٣) هو الثمن كان دفعه على القول بالملك والبيع اشتراء ، وأخذه (٤) بيعا للمثمن به ، فيحصل الإيجاب والقبول الفعليّان بفعل واحد (٥) في زمان واحد (**).

ثم صحّة هذا (٦) على القول بكون المعاطاة بيعا مملّكا واضحة ، إذ يدلّ عليها ما دلّ على صحة المعاطاة من الطرفين.

______________________________________________________

(١) فيكون الأخذ كالقبول القولي ، وإعطاء البائع بمنزلة الإيجاب اللفظي. ولا حاجة حينئذ إلى الإعطاء من طرف آخر ، بل يتحقق البيع بإعطاء واحد منهما وأخذ الآخر.

(٢) هذا متفرع على كفاية إعطاء أحدهما وأخذ الآخر في صدق البيع الفعلي ـ وهو المعاطاة بالمعنى الأعم ـ عليه.

(٣) بصيغة المفعول.

(٤) يعني : وأخذ مالك المبيع للثمن من مالكه بيع للمثمن بذلك الثمن الذي أخذه ، وهذا بناء على صحة تقدم القبول على الإيجاب لا مانع عنه ، وإلّا ففيه منع.

(٥) يعني : بإعطاء واحد مقرون بأخذ الطرف الآخر في زمان واحد.

(٦) أي : صحة المعاطاة المتحققة بإعطاء واحد. وحاصل ما أفاده قدس‌سره هو : أنّه

__________________

(*) هذا التفريع غير ظاهر ، لأنّ دفع الثمن ـ الذي هو وظيفة المشتري ـ تملك لا تمليك. وغرضه قدس‌سره كون الإعطاء تمليكا لا تملّكا. والظاهر عدم تحقق البيع بدفع الثمن إلى مالك المبيع.

(**) فالإعطاء من الطرف الآخر يكون وفاء بالعقد المتحقق بإعطاء واحد ، وليس إنشاء لقبول العقد ، لتحققه قبله على الفرض. بل مقتضى كفاية إعطاء واحد في تحقق المعاطاة هو كون الإعطاء من الطرف الآخر ـ في المعاطاة من الطرفين أيضا ـ وفاء ، لا إنشاء للقبول.

٥٢

وأمّا على القول بالإباحة فيشكل بأنّه ـ بعد عدم حصول الملك بها ـ لا دليل على تأثيرها في الإباحة (١).

اللهم (٢) إلّا أن يدّعى قيام السيرة عليها (٣) كقيامها على المعاطاة الحقيقية (٤).

وربما يدّعى (٥) انعقاد المعاطاة بمجرد إيصال الثمن وأخذ المثمن من غير

______________________________________________________

بناء على كون المعاطاة بيعا مفيدا للملك يكون دليل صحتها ما دلّ على صحة المعاطاة ـ الحاصلة من الإعطائين ـ من الأدلّة المتقدمة ، فإنّ المعاطاة حينئذ بيع يشملها جميع ما دلّ على صحة البيع. وبناء على كون المعاطاة مفيدة للإباحة لا تكون بيعا حتى تشملها أدلّة البيع ، ولا دليل على إفادتها الإباحة ، لظهور كلمات القدماء القائلين بالإباحة في توقفها على إعطاء الجانبين ، كقولهم : «إذا دفع قطعة الى البقلي أو الشارب فقال : أعطني بقلا أو : اسقني ماء» وظهورها في توقف الإباحة على الإعطاء من جانبين ممّا لا ينكر. إلّا أن يدّعى قيام السيرة عليها كقيامها على المعاطاة الحقيقية المتحققة بالإعطاء من الطرفين ، بأن يقال : إنّ موضوع السيرة هي المعاطاة المتحققة عرفا بالإعطاء من طرف واحد.

(١) حيث إنّ مقتضى القاعدة عدم جواز التصرف في مال الغير بدون إذنه.

(٢) استدراك على قوله : «فيشكل» ومقصوده ـ كما تقدم توضيحه ـ تصحيح المعاطاة ـ بإعطاء واحد منهما ـ بالسيرة المستمرة على ترتب الإباحة عليه.

(٣) أي : على المعاطاة الحاصلة بإعطاء واحد منهما.

(٤) وهي بالتعاطي من الطرفين.

(٥) هذا ثالث الوجوه المتصورة في المعاطاة ، ومحصل هذا الوجه هو : أنّه لا إعطاء في البين أصلا ، لا من الطرفين ولا من الطرف الواحد ، بل ليس فيه إلّا إيصال ووصول ، فالموصل يتسبب بإيصاله إلى التمليك ، والطرف الآخر يتسبب بوصول المال إليه إلى مطاوعته ، فيتحقق بهما البيع. ولعلّ السيرة الجارية على ذلك

٥٣

صدق إعطاء أصلا فضلا عن التعاطي كما تعارف (١) أخذ الماء مع غيبة السّقّاء ، ووضع الفلس في المكان المعدّ له إذا علم من حال السّقّاء الرّضا بذلك. وكذا غير الماء من المحقّرات كالخضريات ونحوها. ومن هذا القبيل (٢) دخول الحمّام ووضع الأجرة في كوز صاحب الحمّام مع غيبته (٣).

فالمعيار (٤) في المعاطاة وصول العوضين أو أحدهما مع الرضا بالتصرف. ويظهر ذلك (٥) من المحقق الأردبيلي رحمه‌الله أيضا في مسألة المعاطاة ،

______________________________________________________

ـ في السقاية والاستحمام بل وغيرهما ـ موردها قصد التمليك. وقد تقدّم أنّ «تبديل العين المتمولة بمال» هو البيع ، فكل فعل يكون قابلا لإبراز هذا التبديل الاعتباري فهو بيع فعلي وإن لم يكن معاطاة مصطلحة. ومع صدق البيع عليه يشمله عموم ما دلّ على صحة البيع ، ولا يدور الحكم مدار صدق المعاطاة عليه بعد ما عرفت من عدم ورود عنوان «المعاطاة» في آية ولا رواية ولا معقد إجماع حتّى يدور الحكم مدارها.

(١) مقصوده قدس‌سره : أنّ الصورة الثالثة ليست صرف فرض ، بل هي واقعة خارجا ، لجريان سيرتهم عليها ، إذ لا يتصور الإعطاء والأخذ عند غيبة السّقّاء والبقلي ، فضلا عن تحقق التعاطي.

(٢) أي : من قبيل أخذ الماء عند غيبة السّقّاء ووضع الثمن في المكان المعدّ له ـ في كونه معاطاة ـ دخول الحمام.

(٣) التقييد بالغيبة واضح ، إذ مع حضوره في الحمّام يندرج في الصورة الثانية وهي إعطاء المستحم وأخذ الحمّامي.

(٤) يعني : بناء على هذه الصورة الثالثة.

(٥) يعني : يظهر انعقاد المعاطاة ـ بمجرّد إيصال الثمن وأخذ المثمن ـ من المحقق الأردبيلي قدس سرّه كما يظهر من غيره ، ولعلّ المصنف استظهر كفاية الإيصال من قوله في شرح الإرشاد : «فاعلم أن الذي يظهر أنّه لا يحتاج في انعقاد عقد البيع ـ المملّك

٥٤

وسيأتي توضيح ذلك (١) في مقامه (٢) إن شاء الله تعالى.

ثم (٣) إنّه لو قلنا بأنّ اللفظ غير المعتبر (٤) في العقد كالفعل في انعقاد المعاطاة أمكن خلوّ المعاطاة (٥)

______________________________________________________

الناقل للملك من البائع إلى المشتري وبالعكس ـ إلى الصيغة المعيّنة كما هو المشهور ، بل يكفي كل ما يدلّ على قصد ذلك مع الإقباض» (١) بأن يراد من الإقباض مجرّد الوصول والإيصال ، لا ظاهره وهو تسليم أحد المتعاطيين ماله للآخر. ولعلّ المصنف قدس‌سره اعتمد في هذه النسبة على ما في مفتاح الكرامة (٢) فراجع.

(١) أي : انعقاد المعاطاة بمجرّد إيصال الثمن وأخذ المثمن ، من غير إعطاء أصلا.

(٢) وهو التنبيه الثامن ، حيث يقول فيه : «والسيرة موجودة في المقام ، فإنّ بناء الناس على أخذ الماء والبقل وغير ذلك من الجزئيات من دكاكين أربابها مع عدم حضورهم ، ووضعهم الفلوس في الموضع المعدّلة .. إلخ» لكن المصنف خصّ جواز هذه الصورة بالقول بالإباحة دون الملك ، وسيأتي تفصيل الكلام هناك إن شاء الله تعالى.

(٣) هذا إشارة إلى الصورة الرابعة من صور المعاطاة ، وهو إنشاء البيع باللفظ الفاقد لشرائط الصيغة مادّة أو هيئة ، بدون إعطاء العوضين ولا أحدهما ولا إيصاله. وحكم هذه الصورة الصحّة بناء على إفادة الملك المقصود للمتعاطيين ، والبطلان بناء على الإباحة كما سيأتي.

(٤) كأن يقول في إنشاء البيع : «عوّضت» بدل «بعت» أو قال أحدهما : «هذا لك» وقال الآخر : «هذا لك بدل ما أعطيتني».

(٥) الأولى تبديله ب «خلوّ المبادلة» لفرض عدم تحقق الإعطاء والإيصال في هذه الصورة أصلا ، وإنّما يراد إلحاقها بالمعاطاة حكما. نعم لا بأس بهذا التعبير بناء على أن يراد بالمعاطاة ما يقابل البيع القولي الجامع لشروط الصيغة ، إذ ليست هذه

__________________

(١) : مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٣٩

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٩

٥٥

من الإعطاء والإيصال رأسا ، فيتقاولان (١) على مبادلة شي‌ء بشي‌ء من غير إيصال. ولا يبعد (٢) صحّته مع صدق البيع عليه (٣) بناء على الملك. وأمّا على القول بالإباحة فالإشكال المتقدم (٤) هنا آكد (٥) (*).

______________________________________________________

الصورة الرابعة بيعا بالصيغة فتندرج في المعاطاة التي هي بيع فعلي.

(١) بأن يقصد إنشاء البيع بالألفاظ غير المعتبرة في إنشاء البيع.

(٢) هذا إشارة إلى حكم الصورة الرابعة ، وهو التفصيل بين ترتب الملك والإباحة ، فتصحّ على الأوّل ، لكونها بيعا عرفيا ، وتبطل على الثاني ، لكون المتيقن من دليل الاعتبار ـ وهو مثل السيرة ـ تحقق الإعطاء من الجانبين.

(٣) وإن لم يصدق عليه المعاطاة ، لما مرّ من عدم دوران الحكم بالصحة مدار خصوص الإعطاء والإيصال ، بل يكفي قصد الملك وصدق «البيع» على الإنشاء.

(٤) بقوله في الصورة الثانية : «فيشكل بأنّه بعد عدم حصول الملك بها لا دليل على تأثيرها في الإباحة».

(٥) وجه الآكديّة : أنّ الإباحة لمّا كانت لأجل السيرة والإجماع ـ وهما لبّيّان ـ اختصّا بصورة التعاطي من الطرفين ، فلو تعدّينا عن التعاطي إلى الإعطاء الواحد لم يتجه التعدّي إلى المقام ممّا لا فعل فيه أصلا ، وإنّما هو إنشاء قولي ملحون ، ولا يصدق عليه المعاطاة موضوعا.

__________________

(*) عبارة المصنف قدس‌سره في هذا التنبيه قد تضمّنت صورا أربعا :

الأولى : تحقق الإعطاء من الطرفين ، وهي المنسبقة إلى الأذهان.

الثانية : تحقق الإعطاء من طرف واحد فقط.

الثالثة : عدم الإعطاء لا من الطرفين ولا من طرف واحد ، بل مجرّد إيصال ووصول كالأمثلة المذكورة في المتن من شرب الماء ، والدخول في الحمّام ، وأخذ الخضروات ووضع العوض في الموضع المعدّ له من كوز أو صندوق أو غيرهما.

٥٦

.................................................................................................

__________________

الرابعة : مجرّد الكلام الدال على المقاولة من غير إيصال ووصول.

أمّا الصورة الاولى فلا ينبغي الإشكال فيها ، لكونها هي المتيقنة من المعاطاة ، فيشملها ما يدلّ على صحّتها. ودعوى «عدم تعقّل توقف المعاطاة المقصود بها المبادلة على الإعطاء من الطرفين ، بل لا محيص عن تحققها بالإعطاء والأخذ لطرف واحد ، نظرا إلى : أنّ الأخذ إن قصد بأخذه للعين قبول ما ملّكه المعطي فقد تمّت به المعاملة ، لاشتمالها على تمليك وتملّك ، فيكون إعطاء الآخر بعد ذلك وفاء بالعقد ، لا إنشاء للقبول. وإن لم يقصد بأخذه القبول فلا يجزي إعطاؤه ، لأنّه تمليك مستقلّ ، فيتحقّق إيجابان مستقلّان بإعطائين. ولا ريب في عدم انعقاد المعاملة حينئذ ، لكون كل منهما إيجابا مستقلا بلا قبول» (١).

غير مسموعة ، لأنّ البيع ليس إلّا تمليكا بإزاء تمليك كما في الإعطائين ، فإنّ كلّا منهما تمليك بإزاء تمليك. وهذا المقدار من الربط كاف في الربط المعاملي ، ولا دليل على اعتبار خصوص الربط المطاوعي ، فلا يكون الإعطائان في المقام تمليكين مستقلّين. ولو كان خصوص الرّبط المطاوعي معتبرا في تحقق البيع لما صحّ إنشاء وكيل المتعاملين تبادل المالين بقوله : «بادلت بينهما» مع صحته قطعا ، فلا ينحصر إيجاد ماهية البيع بالإيجاب والقبول.

فالمتحصل : أنّ البيع يتحقق بإعطائين كما يتحقق بإعطاء واحد ، هذا.

وأمّا الصورة الثانية فقد ظهر مما ذكرنا في الصورة الأولى صحتها ، وأنّها بيع مشتمل على الإيجاب والقبول ، لكون الإعطاء إيجابا والأخذ قبولا ، فيشمله دليل البيع سواء أكان لفظيا أم لبّيّا ، لصدق البيع العرفي عليه.

لكن قد يناقش في تحقق المعاطاة بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر ، تارة بما

__________________

(١) : حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني ، ج ١ ، ص ٨٣

٥٧

.................................................................................................

__________________

في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره ، وأخرى بما في حاشية المحقق الإيرواني قدس‌سره.

أمّا الأوّل فقد مهّد لإثبات دعواه مقدّمة ، محصّلها : أنّ العقود المعاوضية التي يمكن إنشاؤها بالمعاطاة هي البيع والإجارة والقرض والهبة ، وأما غيرها كالصلح فلا يقع بالمعاطاة ، وذلك لأنّه يعتبر كون الفعل آلة لذلك العنوان المعاملي حتى يتحقق في وعاء الاعتبار ، فلا معنى لإيجاد كل عنوان بكل فعل وإن لم يكن آلة له ، ولذا لا يقع الصلح بالتسليط الخارجي على المال ، لكونه مصداقا للتمليك لا للتسالم الذي هو حقيقة الصلح.

وعلى هذا فلمّا كانت حقيقة البيع تبديل طرفي الإضافة توقّف حصولها بالمعاطاة على التعاطي من الجانبين ، حتى يفكّ كل منهما ربطه الملكي بماله ويشدّه بمال الآخر ، فيتبدّل طرفا الإضافة. ولا يتحقق عقد البيع لو كان الإعطاء من طرف واحد ، فإنّ البائع مثلا وإن حلّ علقته بماله وشدّها بالمشتري ، إلّا أنّه لم يقم مقامه شي‌ء من المشتري ، إذ لم يصدر منه إلّا الأخذ ، وأمّا حلّ ربطه بمال نفسه فلم يتحقق منه ما يوجبه لا قولا ولا فعلا.

وحينئذ فإمّا أن يكون إعطاء أحدهما وأخذ الآخر مصداقا للهبة ، وإمّا أن يكون باطلا لا بيعا ولا غيره ، إذ البيع تبديل الطرفين والنقل من طرف واحد ليس بيعا.

مضافا إلى : لزوم بقاء نفس إضافة البائع على حالها مع عدم وجود طرف لها ، لعدم انتقال مال المشتري إليه بعد ، ومن المعلوم امتناع بقاء الإضافة بدون طرفها ، لتضايف المالكية والمملوكية. هذا ما يستفاد من تقرير درسه الشريف (١).

وأما الثاني فقد قال : «وأمّا اعتبار العطاء من جانب واحد فهو أيضا باطل ،

__________________

(١) : المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ١٩٧ ـ ١٩٨

٥٨

.................................................................................................

__________________

فإنّ دليل صحة المعاطاة إن كانت هي الأدلة اللفظية المتقدمة فإطلاقها كما ينفي اعتبار اللفظ في الإنشاء كذلك ينفي اعتبار الفعل ، فكلّ ما حصل به إنشاء المعاملة صحّ بمقتضى تلك الأدلّة. وإن كانت هي السيرة والإجماع فكلّ أحد يعلم أنّ السيرة لا تدور مدار الإنشاء بأسباب خاصة ، بل كلّ ما حصل به إنشاء المعاملة من قول أو فعل أو إشارة كفى في ترتيب أثر المعاملة عند العقلاء وأهل العرف» (١).

لكن يمكن أن يقال : أمّا ما أفاده الميرزا قدس‌سره فإنّ قابلية الفعل لإبراز العنوان القصدي أو إيجاده أو آليته له وإن كانت مسلّمة ، فكما لا تصلح صيغة النكاح لإنشاء البيع مثلا ، فكذا الحال في الإنشاء بالفعل. إنّما الكلام في التطبيق ، إذ المرجع في صدق البيع على المعاطاة هو العرف ، ولا يعتبر عندهم أزيد من قصد العنوان والتوصّل إليه بلفظ أو فعل ، فكما تقع المعاملة عندهم بالملامسة والمنابذة ، فكذا يصح إنشاؤها بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر.

هذا مضافا إلى : النقض بموارد التزم الميرزا قدس‌سره بجريان المعاطاة فيها بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر كالقرض وبيع النسيئة والسّلم ، فالقرض مثلا تمليك عين بضمان البدل ، فلا بد أن يكون أخذ المقترض تملّكا للعين وتمليكا للمثل أو القيمة ، إذ لو لا هذا التمليك وضمانه بالبدل لكان تصرفه عدوانيا. ولا وجه لتصحيح القرض المعاطاتي إلّا الالتزام بأنّ أخذ المقترض آلة عرفا لتملكه للمال ولتمليكه للمثل أو القيمة أي ضمانه لأحدهما.

وكذا الحال في بيع السّلم ، إذ لم يصدر منهما إعطاءان ، بل إقباض الثمن خاصة.

فتحصّل : أن بيان الميرزا قدس‌سره غير ظاهر نقضا وحلّا.

وأمّا ما أفاده المحقق الإيرواني قدس‌سره فلا يخلو من غموض أيضا ، إذ المقصود البحث عن حال الإعطاء الواحد من حيث كونه سببا لإنشاء البيع عرفا وعدمه ، لا من

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٣

٥٩

.................................................................................................

__________________

حيث اعتبار الإعطاء الواحد شرعا في إنشاء البيع حتى ينفى اعتباره بإطلاق الأدلّة. ولا ريب في أنّ الإعطاء الواحد سبب عرفي لإنشاء البيع ، فتشمله أدلة البيع ، وإلّا لانسدّ باب البيع نسيئة والسّلم ، فهما من أقوى شواهد صحة إنشاء البيع بإعطاء واحد ، فدليل صحة البيع ـ سواء أكان لفظيا أم لبيا ـ يشمل البيع المنشأ بإعطاء واحد.

ولا فرق فيما ذكرناه من صحة إنشاء البيع بالإعطائين والإعطاء الواحد بين إفادة المعاطاة الملك كما هو مقصود المتعاملين ، وبين إفادتها الإباحة تعبّدا كما عن مشهور القدماء ، لأنّ السيرة جارية على كل منهما ، ضرورة أنّ المعاملات الجارية بين العرف تارة تكون بإعطائين ، وأخرى بإعطاء واحد.

وأمّا مع قصد المالكين للإباحة فالأمر أوضح ، لأنّ الإباحة حينئذ مالكية ، فتشمله قاعدة سلطنة المالكين على أموالهم ، كما استدل بها صاحب الجواهر قدس‌سره ، فلا فرق في حصول الإباحة المالكية بين صدور إعطائين وإعطاء واحد ، وبين عدم صدور فعل منهما أصلا ، لكفاية مجرّد الإذن في التصرف سواء حصل بقول ، أم فعل ، أم إشارة ، أم غيرها.

وأمّا الصورة الثالثة ـ وهي عدم حصول إعطاء لا من كليهما ولا من أحدهما بل مجرّد إيصال ووصول ـ فملخص الكلام فيها : أنّ المحقق الإيرواني قدس‌سره منع عن كون الأمثلة المزبورة من المعاطاة المجردة عن الفعل ، بل جعلها من المعاطاة المتحققة بالتعاطي من الجانبين ، حيث قال ما لفظه : «التعاطي من الجانبين في الأمثلة التي ذكرها موجود ، فوضع الماء في موضع معدّ لأن يؤخذ إعطاء من السّقاء للماء ، وهكذا فتح باب الحمام للداخلين ، ووضع الفلس من شارب الماء والداخل في الحمّام في موضع أعدّ لذلك أخذ منه للفلس ، فكلّ منهما قد أعطى ، وكلّ قد أخذ ما أعطاه الآخر. وإنما تتحقق المعاملة بلا عطاء من شي‌ء من الجانبين فيما إذا كان المالان عند كل منهما بسبق أمانة

٦٠