هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

وكيف كان (١) فالصورة الأولى (٢) داخلة قطعا (٣).

ولا يخفى (٤) أنّ الحكم فيها (٥) بالضمان مناف لجريان حكم المعاطاة.

وربما يجمع (٦)

______________________________________________________

(١) أي : سواء أكان مراد المحقّق والعلّامة من العقد الفاسد خصوص الإنشاء القولي الفاقد لبعض الشرائط ، أم الأعم منه ومن اختلال شروط المتعاقدين أو العوضين.

(٢) وهي كون فساد العقد لاختلال شروطه كما هو موضوع البحث.

(٣) لصدق «الفاسد» على الصيغة الفاقدة لشروطها ، ولكون الكلام المزبور وهو «لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد .. إلخ» مذكورا بعد شروط الصيغة ، وهذا قرينة على كون الكلام المذكور متفرّعا على شروط الصيغة.

(٤) غرضه إبداء إشكال على الحكم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد ، وجعل العقد الملحون كالمعاطاة في الحكم بالإباحة.

ومحصل الإشكال : منافاة الضمان للمعاطاة ، لأنّ جريان حكم المعاطاة في الإنشاء القولي الملحون يقتضي عدم الضمان ، فينافيه الحكم بالضمان.

فأجاب عنه المصنف بأنّ حكم المحقق والعلامة بضمان المقبوض بالعقد الفاسد قرينة على عدم لحقوق حكم المعاطاة بالصيغة الملحونة ، فالإنشاء الملحون يكون بحكم العدم. ولو كان هذا معاطاة لم يكن وجه للضمان فيه ، لكونها صحيحة شرعا حينئذ.

وعليه يظهر التهافت بين نظر المحقّق والعلّامة من الحكم بالفساد ، وبين نظر المحقق والشهيد الثانيين من إلحاق الإنشاء الملحون بالمعاطاة ، وقد تصدّى السيد الفقيه العاملي قدس‌سره للجمع بين كلامي الطائفتين.

(٥) أي : في الصورة الأولى وهي فقدان شروط الصيغة.

(٦) الجامع هو السيد الفقيه في مفتاح الكرامة في مبحث المقبوض بالعقد

٢٨١

بين هذا الكلام (١) وما تقدم (٢) من المحقق والشهيد الثانيين ، فيقال (٣) : «إنّ موضوع المسألة في عدم جواز التصرف بالعقد الفاسد ما إذا علم عدم الرّضا إلّا بزعم صحة المعاملة ، فإذا انتفت الصحة انتفى الإذن ، لترتّبه (٤) على زعم

______________________________________________________

الفاسد. ذكره بعد نقل كلمات جمع من الأصحاب ، آخرها عبارة المسالك وهي : «لا إشكال في الضمان ـ أي ضمان المقبوض ، بالعقد الفاسد ـ إذا كان جاهلا بالفساد ، لأنه قدم على أن يكون مضمونا عليه فيحكم عليه به وإن تلف بغير تفريط» (١).

(١) وهو : لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملك وكان مضمونا عليه.

(٢) حيث قال قبل أسطر : «بأنّ العقد الفاقد للشروط يكون معاطاة».

(٣) هذا تقريب الجمع بين الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد وبين جريان حكم المعاطاة على العقد الفاسد.

ومحصل الجمع بينهما هو تغاير الموضوع في المسألتين ، إذ الموضوع في الحكم بضمان المقبوض بالعقد الفاسد هو تقيّد الإذن في التصرف بصحّة المعاملة ، بحيث يكون الرّضا مفقودا في صورة فساد المعاملة.

والموضوع في جريان حكم المعاطاة هو صورة إطلاق الإذن لكلتا صورتي صحة المعاملة وفسادها ، إمّا لحدوث الإذن والرّضا بالتصرف بعد علمهما بالفساد ، بحيث يستند جواز التصرف إلى الرضا الحادث المستمرّ إلى زمان القبض ، وإمّا لكون الإنشاء من أوّل الأمر على نحو تعدّد المطلوب. ولم يظهر من المحقق والعلّامة قدس‌سرهما القائلين بضمان المقبوض بالعقد الفاسد ذهابهما إلى الضمان في صورة بقاء الإذن بالتصرف إلى زمان القبض ، وعدم جريان حكم المعاطاة فيها حتى يكونا مخالفين للمحقق والشهيد الثانيين.

(٤) أي : لترتب الإذن في التصرف على سبب واحد وهو اعتقاد صحة العقد ، وحيث كان العقد فاسدا فلا إذن ، لانتفاء الموقوف بانتفاء الموقوف عليه.

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٨

٢٨٢

الصحة ، فكان التصرف تصرفا بغير إذن وأكلا للمال بالباطل ، لانحصار وجه الحلّ في كون المعاملة بيعا أو تجارة عن تراض أو هبة ، أو نحوها من وجوه الرضا بأكل المال من غير عوض. والأوّلان (١) قد انتفيا بمقتضى الفرض. وكذا البواقي (٢) ، للقطع من (٣) جهة زعمهما صحة المعاملة بعدم الرضا بالتصرف ، مع عدم بذل شي‌ء في المقابل ، فالرّضا المقدّم كالعدم (٤). فإن (٥) تراضيا (*) بالعوضين بعد العلم بالفساد ، واستمرّ رضاهما ، فلا كلام في صحة المعاملة ورجعت إلى المعاطاة ، كما إذا علم الرّضا من أوّل الأمر بإباحتهما التصرف بأيّ وجه اتّفق ،

______________________________________________________

(١) وهما البيع والتجارة عن تراض. ووجه انتفائهما بعد ارتفاع الإذن واضح.

(٢) أي : الهبة ونحوها من المجّانيّات ، فإنّ انتفاء الإذن يوجب انتفاءهما أيضا.

(٣) كلمة «من» نشوية ، يعني : للقطع الناشئ عن زعم صحة المعاملة ، حاصله : أنّ القطع بعدم الرضا بالتصرف ناش عن عدم صحة المعاملة ، حيث إنّ الرّضا كان متقوما بصحة المعاملة ، فانتفاؤها يوجب انتفاء الرّضا قطعا.

(٤) لتقوّمه بما يكون منتفيا واقعا ، فلا عبرة به.

(٥) هذا بيان لمورد كلام المحقق والشهيد الثانيين ومن تبعهما ـ بناء على الجمع المذكور في مفتاح الكرامة ـ وحاصله : أنّ مورد الحكم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد هو صورة العلم بعدم الرّضا بالتصرف على تقدير البطلان ، ومورد جريان حكم المعاطاة ـ الملازم لعدم الضمان فيه ـ هو صورة العلم بتجدّد الرضا به بعد العلم بالفساد. وعلى هذا الجمع لا يبقى تهافت بين الكلامين.

__________________

(*) بل الظاهر أنّ مورد حكم المشهور بضمان المقبوض بالعقد الفاسد هو صورة تقيّد الإذن بصحة المعاملة ، فمع الفساد ينتفي الإذن. ومورد كلام المحقق والشهيد الثانيين هو صورة إطلاق الإذن لصورتي صحة المعاملة وفسادها.

٢٨٣

سواء صحّت المعاملة أو فسدت ، فإنّ ذلك ليس (١) من البيع الفاسد في شي‌ء» (*).

أقول : المفروض (٢) أنّ الصيغة الفاقدة لبعض الشرائط لا يتضمّن إلّا إنشاء واحدا هو التمليك ، ومن المعلوم أنّ هذا المقدار لا يوجب بقاء الإذن

______________________________________________________

(١) حتى يكون المقبوض به من المقبوض بالعقد الفاسد المحكوم بالحرمة والضمان.

(٢) غرضه قدس‌سره الإشكال على الجمع المزبور المشتمل على أمرين :

أحدهما : تحقق المعاطاة بالتراضي الموجود حال العقد إذا علم بعدم تقيّده بصحة المعاملة. وقد تعرّض لهذا الأمر بقوله : «كما إذا علم الرضا من أوّل الأمر بإباحتهما التصرف».

وقد أجاب المصنف عنه بقوله : «المفروض أنّ الصيغة .. إلخ» ومحصله : أنّ التراضي الموجود حين العقد مقيّد بالتمليك لا مطلق ، ومن المعلوم انتفاء المقيّد بانتفاء قيده ، فبإنتفاء التمليك ينتفي التراضي.

ثانيهما : حصول المعاطاة بالتراضي الجديد الحادث بعد العقد والعلم بالفساد. وقد تعرّض السيد العاملي لهذا الأمر بقوله : «فان تراضيا بالعوضين» الى قوله : «ورجعت إلى المعاطاة».

وقد أجاب عنه المصنف بقوله : «مع أنّك عرفت .. إلخ» وحاصله : أنّ كلام الشهيد والمحقق الثانيين لا يقبل الحمل على التراضي الجديد ، ووقوع معاطاة جديدة بالتقابض الواقع بعد العقد الفاسد ، وذلك لظهور كلامهما في حصول المعاوضة بنفس الإشارة المفهمة ، وبنفس الصيغة الخالية عن الشرائط ، لا بالتقابض الحاصل بعدهما.

__________________

(*) لكنّه ليس من المعاطاة المعهودة أيضا ، بل هو إباحة مالكيّة لا تلزم بملزمات المعاطاة. مع أنّ مورد كلام المحقق والشهيد الثانيين قدس‌سرهما إلحاق نفس اللفظ الملحون بالمعاطاة ، ولا أثر من الرّضا غير المعاملي في كلامهما.

٢٨٤

الحاصل في ضمن التمليك بعد فرض انتفاء التمليك (١) ، والموجود بعده (٢) إن كان إنشاء آخر في ضمن التقابض خرج عن محل الكلام ، لأنّ المعاطاة حينئذ إنّما تحصل (*) به لا بالعقد الفاقد للشرائط.

مع أنّك (٣) عرفت أنّ ظاهر كلام الشهيد والمحقق الثانيين حصول المعاوضة والمراضاة بنفس الإشارة المفهمة (٤) بقصد البيع ، وبنفس الصيغة (٥) الخالية عن الشرائط ، لا بالتقابض الحاصل بعدهما.

______________________________________________________

(١) حيث إنّه مقيّد بالتمليك ، وبانتفاء القيد ينتفي المقيّد.

(٢) أي : بعد انتفاء التمليك العقدي. وهذا إشكال على ما ادّعاه السيد العاملي قدس‌سره من وجود إذن بعد فساد العقد ، ومحصّل الإشكال : أنّ الإذن المدّعى إن كان إنشائيا حاصلا بالتقابض بقصد المعاطاة كان خارجا عن محل الكلام ، ومندرجا في حصول إنشاء جديد بعد الصيغة الملحونة ، وهذه المعاطاة صحيحة بلا ريب كما سبق في قول المصنف قدس‌سره : «نعم إذا حصل إنشاء آخر بالقبض المتحقق بعده تحقق المعاطاة». وإن كان هذا الإذن هو الذي تحقق بالإنشاء الملحون فالمفروض فساده ، فينتفي الإذن قطعا.

(٣) هذا إشكال على حصول المعاوضة بالتقابض الحادث بعد الإنشاء الملحون ، وقد تقدم آنفا.

(٤) كما هو مصبّ كلام الشهيد الثاني قدس‌سره.

(٥) كما هو مورد كلام المحقق الثاني قدس‌سره.

__________________

(*) حصول المعاطاة التي هي محل الكلام في إفادتها الملك أو الإباحة بالتقابض ـ مضافا إلى خروجها عن موضوع البحث ـ ممنوع جدّا ، لأن تلك المعاطاة التي قامت السيرة على إباحة التصرف بها هي التي قصد بها التمليك ، لا مجرّد التراضي بالتصرف ، فإنّه خارج عن المعاطاة المصطلحة. بل التراضي المزبور لا يجدي إلّا الإباحة المالكية لا الشرعية التي هي المقصودة في المعاطاة.

٢٨٥

ومنه (١) يعلم فساد ما ذكره من حصول المعاطاة بتراض جديد بعد

______________________________________________________

(١) أي : ومن ظهور كلام المحقق والشهيد الثانيين ـ في حصول المعاوضة والمراضاة بنفس الإنشاء الملحون والإشارة المفهمة ـ يعلم فساد .. إلخ ، وهذا إشكال المصنف على ما ذكره السيد الفقيه العاملي قدس‌سره في الأمر الأوّل بقوله : «فان تراضيا بالعوضين بعد العلم بالفساد» ومحصل الإشكال أمور :

الأوّل : أنّ الحمل على التراضي الجديد خلاف ظاهر كلام المحقق والشهيد الثانيين ، لما عرفت من ظهور كلاميهما في إلحاق نفس الإنشاء القولي الملحون والإشارة المفهمة بالمعاطاة ، وليس من الرّضا الحادث عين ولا أثر في عبارتيهما ، فيصير حمل الكلامين على حصول المعاطاة بإنشاء جديد أجنبيّا عنهما ، لا توجيها لهما.

الثاني : أنه لو سلّمنا استناد حليّة التصرف في المالين إلى التراضي الجديد فهو مخصوص بما إذا علم المتبايعان فساد العقد ، وعدم ترتب النقل والانتقال عليه ، حتى يأذن كلّ منهما للآخر بالتصرّف فيما يأخذه. وأمّا إذا لم يعلما بالفساد أو علما به ولم يرضيا بالتصرف فلا مجال لتوجيه السيد قدس‌سره ، إذ لا معنى للرّضا الجديد في هاتين الصورتين. مع أنّ كلام الفقهاء مطلق يعمّ جميع الصور الثلاث ، يعني : سواء علما بفساد ذلك الإنشاء الناقص أم لم يعلما به ، وسواء رضيا بالتصرف بعد العلم بالفساد أم لم يرضيا به.

وعليه يكون قول السيد قدس‌سره : «فان تراضيا بعد العلم بالفساد» توجيها للصحة في صورة واحدة ـ وهي العلم بالفساد والرضا الحادث ـ لا في جميع الصور ، فالمناسب حينئذ التفصيل في إطلاق فتوى الأصحاب ، لا دعوى توجيهه في جميع الصور.

الثالث : أنّ أصل هذا التوجيه ـ بفرض الرّضا الحادث ـ ممنوع ، مع الغض عن إباء كلام الأصحاب عن حمله عليه. وسيأتي توضيح المنع عن قريب.

٢٨٦

العقد غير (١) مبنيّ على صحة العقد.

ثم (٢) إنّ ما ذكره من التراضي الجديد بعد العلم بالفساد ـ مع اختصاصه بما إذا علما بالفساد دون غيره من الصور (٣) مع أنّ كلام الجميع مطلق ـ يرد عليه : أن (٤) هذا التراضي

______________________________________________________

(١) بالجر صفة ل «تراض جديد».

(٢) قد عرفت توضيح هذا الإشكال آنفا ، وحاصله : أنّ ذلك الجمع مختص بصورة علم المتعاملين بالفساد حتى يتراضيا بالإنشاء ثانيا بالقبض ، مع أنّ كلامهم مطلق ، حيث إنّهم حكموا بالفساد والضمان مطلقا سواء علم المتبايعان بالفساد أم لا.

(٣) المراد من الصور صورتان ، إحداهما : علم المتبايعين بفساد الإنشاء القولي وعدم إنشاء إذن جديد ، والثانية : جهلهما بفساده.

(٤) هذا أصل الإشكال على الجمع المزبور ، وحاصله : أنّ التراضي الجديد ـ المفروض حدوثه بعد العلم بالفساد ـ غير مجد على تقدير ، وغير واقع على تقدير آخر. وبيانه : أنّ هذا التراضي إن كان لا على وجه المعاطاة ، ولا تقابض آخر في البين ، بل رضي كلّ منهما بتصرّف الآخر في ماله ، ففيه : أنّه على فرض حدوثه إباحة مجّانية لا يترتب عليها إلّا جواز التصرف المستند إلى طيب النفس. وهذا غير المعاطاة المصطلحة ، وهي الّتي يقصد بها التمليك ، وتترتب عليها الملكية أو الإباحة الشرعية ، ومن المعلوم أنّ المقصود بالمعاطاة هنا هو المصطلح منها.

وإن كان على وجه المعاطاة بأن كان التراضي منهما على إنشاء التمليك حتى تندرج في المعاطاة المصطلحة ـ التي هي من المعاوضات ـ ففيه : أنّه ليس في المقام تراض جديد ، إذ المعاطاة المعهودة هي التي قصد بها التمليك ، كما تقدم عن المحقق الثاني ، ومن المعلوم عدم تراض جديد على التمليك بعد العلم بفساد العقد ، بل التراضي الموجود فعلا هو التراضي الذي كان على التمليك السابق.

٢٨٧

إن كان (١) تراضيا آخر حادثا بعد العقد ، فإن كان لا على وجه المعاطاة ، بل كلّ منهما رضي بتصرف الآخر في ماله من دون ملاحظة رضاء صاحبه بتصرّفه في ماله ، فهذا ليس من المعاطاة ، بل هي إباحة مجّانيّة من الطرفين تبقى ما دام العلم بالرضا ، ولا يكفي فيه عدم العلم بالرجوع ، لأنّه (٢) كالإذن الحاصل من شاهد الحال (٣) ، ولا يترتب عليه أثر المعاطاة من اللزوم بتلف إحدى العينين ، أو جواز التصرف إلى حين العلم بالرجوع.

______________________________________________________

(١) لم يذكر المصنف عدلا لهذه الشرطية ، فالأولى أن يقال : «ان هذا التراضي الحادث بعد العقد إن كان لا على وجه المعاطاة .. إلخ».

(٢) تعليل لدوران هذه الإباحة المجّانية مدار العلم بالرضا ، وعدم كفاية الجهل بالرجوع عن الإباحة.

(٣) في لزوم إحراز الإذن في إباحة التصرف ، وعدم كفاية عدم العلم بالرجوع عن الإذن. والوجه في عدم الكفاية هو : أنّ الإذن بالتصرف انحلالي ، فكلّ فرد من أفراده الطولية والعرضية لا بدّ أن يكون مقرونا بالإذن ، فمع العلم به يجوز التصرف ، وبدونه لا يجوز. ومع الشّك لا مجال للاستصحاب ، لتعدد الموضوع ، ضرورة أنّ كل فرد من أفراد التصرف موضوع مستقل ، واستصحاب الإذن في الفرد المشكوك فيه تسرية الحكم من موضوع إلى آخر ، وهو أجنبي عن الاستصحاب ومندرج في القياس المسدود بابه.

وبالجملة : فلا مجال لاستصحاب الإذن في الفرد من التصرف. بخلاف الرجوع في المعاطاة المفيدة للإباحة الشرعية ، حيث إنّ غايتها رجوع المالك ، ومع الشك فيه يستصحب عدم الرجوع.

ففرق واضح بين الرجوع في المعاطاة ، وبين الإذن وطيب النفس في الإباحة المالكية ، فإنّ الإباحة المالكية منوطة بالعلم بطيب النفس في كل فرد من

٢٨٨

وإن كان (١) على وجه المعاطاة فهذا ليس إلّا التراضي السابق على (٢) ملكية كلّ منهما لمالك الآخر ، وليس تراضيا جديدا ـ بناء (٣) على أنّ المقصود بالمعاطاة التمليك كما عرفته من كلام المشهور (٤) خصوصا المحقق الثاني (٥) ـ

______________________________________________________

أفراد التصرف.

(١) معطوف على : «فإن كان» وهذا شقّ آخر من المنفصلة ، وقد عرفت توضيحه آنفا.

(٢) متعلق بالتراضي ، لا بالسابق ، يعني : التراضي على مالكية كل منهما لمال الآخر ، وهذا التراضي هو الحاصل بالإنشاء الفاقد لبعض خصوصيات الصيغة ، ولم يحصل هذا التراضي بإنشاء جديد بعد العلم بفساد الإنشاء الأوّل.

(٣) حاصله : أنّه ـ بناء على كون المقصود بالمعاطاة التمليك ـ لا يكون هنا تراض جديد على التمليك ، بل ذلك التراضي المتحقق حال العقد الفاسد. نعم بناء على كون المقصود بالمعاطاة الإباحة فلا بد من التراضي الجديد على الإباحة ، لأنّ التراضي السابق كان على التمليك لا على الإباحة.

(٤) حيث إن محطّ نظر المشهور القائلين بالإباحة التعبدية هو المعاطاة المقصود بها الملك ، وقد استظهر المصنف قدس‌سره هذا من عبارات الأصحاب عند ما خاض في تحقيق النزاع بين المحقق الكركي وصاحب الجواهر قدس‌سرهما (١).

(٥) حيث نقل عنه المصنف بعد نقل الأقوال في المعاطاة ما لفظه : «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع وإن لم يكن كالعقد في اللزوم .. إلخ» (٢).

__________________

(١) : راجع الجزء الأول من هذا الشرح ، ص ٣٣٦ إلى ٣٣٤

(٢) راجع الجزء الأول من هذا الشرح ، ص ٣٤٥ إلى ٣٤٧

٢٨٩

فلا يجوز (١) له أن يريد بقوله المتقدم عن صيغ العقود : «إنّ الصيغة الفاقدة للشرائط مع التراضي يدخل في المعاطاة» التراضي (٢) الجديد الحاصل بعد العقد لا على وجه المعاوضة (٣) (*).

______________________________________________________

(١) متفرع على كون المقصود بالمعاطاة التمليك. وجه عدم الجواز هو : أنّ المعاطاة عنده هي المقصود بها التمليك ، فالتراضي الجديد على الإباحة لا يوجب الاندراج في المعاطاة المزبورة ، بل تكون هذه الإباحة أجنبية عن البيع المنقسم إلى القولي والمعاطاتي.

(٢) مفعول «يريد».

(٣) يعني : المعاطاة المفيدة للإباحة.

هذا تمام ما أفاده المصنف حول الوجه الأوّل ، وهو إلحاق الإنشاء الملحون بالمعاطاة كما اختاره المحقق والشهيد الثانيان ، والوجه الثالث وهو كونه عقدا فاسدا ، الذي اختاره المحقق والعلّامة ، وما أفاده السيد العاملي قدس‌سره من محاولة الجمع بينهما ، ثم نقاش المصنف في الجمع المزبور. وسيأتي مختاره في إلحاق الإنشاء الملحون بالمعاطاة وعدمه.

__________________

(*) ولا يخفى أنّ المحقق الخراساني قدس‌سره جمع بين ما عن المشهور من عدم جواز التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد وضمانه ، وبين ما عن المحقق والشهيد الثانيين وغيرهما من جريان حكم المعاطاة على الإنشاء القولي غير الجامع للشرائط بما هذا لفظه : «والحكم بضمان المقبوض بالعقد الفاسد يمكن أن ينزّل على أنّه حكم اقتضائي لا فعلىّ ، بمعنى : أنّ قضية فساده بما هو عقد ذلك لو لم يجي‌ء في البين الحكم بصحته بوجه آخر أي بما هو بيع بغير العقد. وهذا أحسن ما يقال توفيقا بين ما ذكر في

٢٩٠

وتفصيل (١) الكلام : أنّ المتعاملين بالعقد الفاقد لبعض الشرائط إمّا أن يقع تقابضهما بغير رضا من كلّ منهما في تصرّف الآخر ، بل حصل قهرا عليهما أو على أحدهما وإجبارا على العمل بمقتضى العقد ، فلا إشكال في حرمة التصرف في المقبوض على هذا الوجه (٢).

______________________________________________________

(١) أي : تفصيل المطلب الذي عقد له هذا التنبيه الثامن وما يصح اختياره فيه ، لا تفصيل الكلام في الجمع بين الكلامين ورفع التهافت بينهما.

(٢) أي : وجه العمل بمقتضى العقد الفاسد إجبارا ، ومحصل ما أفاده من التفصيل هو : أنّ التعاطي بالعقد الفاسد يتصور ثبوتا على وجوه :

أحدها : أن يترتب عليه التقابض من المتعاطيين قهرا عليهما أو أحدهما بعنوان الوفاء بالعقد. ولا إشكال في حرمة التصرف في هذه الصورة ، لعدم مسوّغ لهذا التصرف المشروط جوازه بطيب نفس المالك المفقود هنا ، إذ المفروض بطلان العقد وعدم تأثيره في التمليك ، وعدم التراضي منهما في إباحة التصرف ، فلا محالة يكون تصرف كلّ منهما في مال الآخر حراما وموجبا للضمان.

__________________

المقامين ، فتفطّن» (١).

وفيه : أنّ الحمل على الحكم الاقتضائي وإن كان في نفسه حسنا ، لكنه إنّما يصح فيما إذا صار فعليّا ولو في بعض الأزمنة كالأحكام الأوّلية مثل وجوب الوضوء عند طروء عنوان ثانوي كالضرر ، فإنّ الجمع بين الحكم الأوّلي والثانوي بحمل الأوّلي على الاقتضائي ، والثانوي على الفعلي في غاية المتانة. بخلاف المقام ، فإنّ جعل الحرمة والضمان فيه بنحو الاقتضاء لغو ، لعدم فعليتهما أصلا ، ضرورة وجود عنوان المعاطاة دائما في المقبوض بالعقد الفاسد ، فلا يصير شي‌ء من الضمان والحرمة في المقبوض بالعقد الفاسد في شي‌ء من الأزمنة فعليّا ، بل يبقيان على الاقتضاء.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٢٦

٢٩١

وكذا (١) إن وقع على وجه الرّضا الناشئ عن بناء كلّ منهما على ملكية الآخر اعتقادا (٢) أو تشريعا ، كما في كلّ قبض وقع على هذا الوجه (٣) ، لأنّ (٤) حيثية

______________________________________________________

ثانيها : أن يترتب التقابض على العقد الفاسد بعنوان الوفاء بمقتضى ذلك العقد وإن كان برضاهما مقيّدا بالوفاء ، لبنائهما على صحة ذلك العقد اعتقادا أو تشريعا.

وبعبارة أخرى : يتقابضان مع التراضي بناء على كون ذلك التقابض عملا بمقتضى العقد ، لاعتقاد صحته شرعا ـ من جهة جهلهما بفساد العقد واقعا ـ أو تشريعا بالبناء على صحة ذلك الإنشاء الفاقد لشروط التأثير.

وحكم هذا الوجه هو الحرمة والضمان ، لشمول قولهم : «المقبوض بالعقد الفاسد مضمون ويحرم التصرف فيه» له.

ثالثها : أن يكون التقابض بقصد إنشاء التمليك بعد الإعراض عن أثر العقد الأوّل. ولا إشكال في جواز التصرف ، وعدم الضمان فيه ، لكونه معاطاة صحيحة عقيب عقد فاسد.

رابعها : أن يكون الرّضا بالتصرف مقارنا لاعتقاد الملكية ، لا مقيّدا به حتى يرتفع بانتفاء الملكية. وسيأتي حكم هذا الوجه من ابتناء شمول المعاطاة له على أمرين.

(١) يعني : وكذا لا إشكال في حرمة التصرف إن وقع التقابض على وجه الرضا .. إلخ. وهذا إشارة إلى الوجه الثاني المتقدّم بقولنا : «ثانيها : أن يترتب .. إلخ».

(٢) يعني : أنّ التقابض ـ بعنوان الوفاء بالعقد الفاسد ـ موجب للضمان ، سواء أكان عن اعتقاد بصحة العقد جهلا بحقيقة الأمر ، أو عن التشريع بالبناء على صحته مع العلم بفساده أو مع عدم العلم بصحّته. والوجه في الضمان عدم حصول سبب حلّية التصرف والملكية.

(٣) أي : على وجه بناء كلّ منهما على ملكيّة القابض لما يقبضه.

(٤) تعليل لحرمة التصرف في كلا الوجهين ، وهما : الإجبار على العمل بمقتضى

٢٩٢

كون القابض مالكا مستحقا لما يقبضه جهة تقييدية (١) مأخوذة في الرّضا ينتفي بانتفائها في الواقع كما في نظائره (٢).

وهذان الوجهان ممّا لا إشكال فيه في حرمة التصرف في العوضين.

______________________________________________________

العقد الفاسد ، ورضا كلّ منهما ، بالتصرف في مال الآخر اعتقادا بأنّه ماله ، أو تشريعا.

وحاصل التعليل : أنّ المستفاد من مثل قوله عليه‌السلام : «لا يحل مال امرء مسلم إلّا بطيبة نفسه» هو اعتبار طيب نفس المالك بتصرف الغير في ماله بما أنّه ماله وهو مالكه ، فإذا أنيط الرضا بكون القابض مالكا انتفى بانتفاء المالكية ، إذ ليس رضا المالك ـ بما أنّه أجنبي عن المال ـ كافيا في جواز التصرف.

وعلى هذا فإذا باع زيد كتابا من عمرو بدينار ـ ببيع صحيح ـ وأقبضه الكتاب كان رضاه بالقبض من جهة كون القابض مالكا مستحقا للكتاب. وأمّا إذا كان بيعه فاسدا فالمشتري القابض للمبيع يعلم بعدم مالكيّته للكتاب وعدم استحقاقه له ، وحرمة التصرف فيه من جهة انتفاء الملكية.

والحاصل : أنّ الرضا بالقبض ليس مطلقا ، بل مقيّد بكون القابض مالكا ، وحيث إنّ الملكية منتفية في الوجه الأوّل والثاني كان الرضا بالقبض منتفيا أيضا ، فيكون تصرف الآخذ كتصرف الغاصب في الضمان والحرمة.

(١) يعني : يتقيّد الرّضا بالتصرف بما إذا كان القابض مالكا مستحقا لما يقبضه.

(٢) كما إذا أعطى زيد دينارا لعمرو باعتقاد كونه مديونا له ، فأدّى دينه به ، ورضي بتسلّم عمرو للدينار وتصرّفه فيه بما أنّه مالكه ، ولكن علم عمرو بعدم استحقاقه شيئا على زيد ، فإنّه لا يجوز له التصرف في الدينار بمجرد رضا زيد بإقباضه إياه.

ووجه عدم الجواز هو : أنّ رضا زيد بالتصرف في الدينار ليس مطلقا ، بل مقيّد بكون القابض ـ وهو عمرو ـ مالكا ، ومع عدم مالكيته له واقعا ينتفي رضا زيد بالتصرف في ماله ، فإنّ انتفاء المقيّد بانتفاء قيده من القضايا التي قياساتها معها.

٢٩٣

كما أنه لا إشكال (١) في الجواز إذا أعرضا عن أثر العقد وتقابضا بقصد إنشاء التمليك ليكون معاطاة صحيحة عقيب عقد فاسد.

وأمّا (٢) إن وقع الرضا بالتصرف بعد العقد ـ من دون ابتنائه على استحقاقه بالعقد السابق ، ولا قصد لإنشاء التمليك ، بل وقع مقارنا لاعتقاد الملكية الحاصلة ، بحيث (٣) لولاها كان الرّضا أيضا موجودا ،

______________________________________________________

(١) إشارة إلى الوجه الثالث. والوجه في عدم الإشكال في جواز التصرف فيه وانتفاء الضمان هو كون التقابض حينئذ مصداقا للمعاطاة ، وعدم توقف صحتها على العقد السابق الفاسد حسب الفرض.

(٢) هذا إشارة إلى الوجه الرّابع ، وهو مقارنة الرّضا بالتصرف لاعتقاد الملكية به لا مقيّدا به ، وكون العقد الفاسد وسيلة للتصرف ، بحيث لو سئل كلّ منهما بعد فساد العقد «هل تكون راضيا بتصرف صاحبك في مالك» لأجاب بقوله : «نعم». وحكم هذا الوجه : أنّ إدخاله في المعاطاة منوط بأمرين :

أحدهما : كفاية الرّضا الارتكازي في حصول المعاطاة. ولعلّ ما أفاده في مفتاح الكرامة من قوله : «كما إذا علم الرّضا من أوّل الأمر بإباحتهما التصرّف بأيّ وجه اتفق» يرجع إلى ذلك. والوجه في كفاية هذا الرّضا المركوز في النفس ـ بل الرّضا الشأني ـ هو صدق «طيب النفس» على هذا الرّضا.

ثانيهما : عدم اعتبار إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض في إباحة التصرفات ، بل عدم اعتبار فعل في ذلك ، وكفاية وصول كلّ من العوضين إلى المالك الآخر ، وحصول الرّضا بالتصرف قبله أو بعده.

فإن تمّ هذان الأمران صحّ الوجه الرابع ، وجاز التصرف لكلّ واحد منهما ، وإن نوقش فيهما أو في أحدهما لم يصح ، ولحقه حكم المقبوض بالعقد الفاسد ، وسيأتي مناقشة المصنف في الأمر الثاني.

(٣) أي : بحيث لو لا الملكية ، وهو متعلّق بقوله : «وقع» وبيان لمقارنة الرضا

٢٩٤

وكان (١) المقصود الأصلي من المعاملة التصرف ، وأوقعا العقد الفاسد وسيلة له. ويكشف عنه (٢) أنّه لو سئل كلّ منهما من رضاه بتصرّف صاحبه على تقدير عدم التمليك أو بعد تنبيهه على عدم حصول الملك كان (٣) راضيا ـ فإدخال (٤) هذا في المعاطاة يتوقّف على أمرين (*) :

______________________________________________________

بالتصرف لاعتقاد الملكية.

(١) معطوف على «لولاها» يعني : بحيث كان المقصود الأصلي .. إلخ. وهذا من عطف العلة على المعلول.

(٢) أي : عن كون المقصود الأصلي من المعاملة هو التصرّف.

(٣) جزاء الشرط في قوله : «لو سئل».

(٤) جزاء الشرط في قوله : «وأما إن وقع الرضا بالتصرف» وغرضه بيان حكم الوجه الرابع ، وقد عرفت آنفا أنّ إدراجه في المعاطاة مبني على أمرين.

أحدهما : عدم اشتراط المعاطاة بالرّضا الفعلي.

وثانيهما : عدم توقف المعاطاة على خصوص الإنشاء الفعلي بالقبض والتعاطي ، بل البناء على كفاية وصول كل من العوضين إلى الآخر في تحقق المعاطاة.

__________________

(*) قال السيد قدس‌سره : «الحق عدم تمامية شي‌ء منهما. أمّا الأوّل فلأنّ الرضا الباطني وإن كان كافيا في جواز التصرف في مال الغير ، إلّا أنّه لا يكفي في لحقوق حكم المعاطاة من اللزوم بالملزمات وغيره. وأمّا الثاني فلأنّه لا بد في تحقق المعاملة من إنشاء قولي أو فعلي ، فلا يكفي مجرّد وصول كل من العوضين إلى مالك الآخر. ودعوى : أنّ عنوان التعاطي في كلماتهم لمجرّد الدلالة على الرّضا ، وأنّ السيرة التي هي عمدة الدليل موجودة في المقام كما ترى ، فإنّا نمنع أنّ مجرّد الرضا كاف ، بل لا بدّ من الإنشاء الفعلي أو القولي. والسيرة ممنوعة ، ومسألة أخذ الماء والبقل ودخول الحمام ليست من باب المعاطاة ، بل من باب الإذن المعلوم بشاهد الحال. وعلى فرضه فليست موردا للسيرة المستمرة الكاشفة كما لا يخفى. فالتحقيق عدم لحوق حكم المعاطاة لهذا القسم ، إلّا أن

٢٩٥

.................................................................................................

__________________

يرجع إلى ما ذكرنا من إنشاء التمليك والرضا المطلق بالصيغة الفاسدة ، بأن يكون هذه الصيغة بمنزلة المعاطاة في إنشاء التمليك والتراضي به مطلقا ، فتدبّر» (١).

أقول : الحق أن يقال : إنّ المعاطاة لم ترد في دليل حتى يجب اتباع عنوانها ، وإقامة الدليل على إلحاق شي‌ء بها ، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة الأدلة القاضية بصحة هذه المعاملة الفعلية. فعلى القول بكونها بيعا مفيدا للملك من أوّل الأمر كما اخترناه سابقا فلا إشكال في إفادتها الملك اللازم ، لإطلاقات أدلة البيع والتجارة ، من غير فرق بين كون آلة الإنشاء قولا وفعلا واجدا للخصوصيات أو فاقدا لها ، إذ المناط صدق البيع العرفي عليه. وكذا الحال إذا كان الدليل سيرة العقلاء بما هم عقلاء ، إذ لا فرق في نظرهم بين كون الإنشاء بالقول والفعل.

وعلى القول بالملك عند التصرف أو غيره من ملزمات المعاطاة ، فإن استند ذلك إلى السيرة الجارية على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة المال المباح بإذن المالك ما دام حيّا ، فيجوّز العقلاء كلّ تصرف فيه ، ولا يحكمون بالضمان عند التلف ، بل يحكمون بتعين الباقي للعوضية من دون فرق في ذلك بينهم بين الفعل والقول.

وإن استند ذلك إلى اقتضاء ، الجمع بين الأدلة له فيمكن الفرق بين الفعل والقول ، حيث إنّ الجمع بين الأدلة منوط بنهوض الدليل على جواز كل تصرف ، وهو في الفعل ثابت شرعا دون القول ، وذلك لأنّ الإباحة المعاطاتية ، إمّا لأجل الرضا الضمني ، وإمّا شرعية محضة مستندة إلى الإجماع ، والمتيقن منه هو المعاملة الفعلية.

وأمّا الأولى ـ أي الإباحة لأجل الرضا الضمني ـ فقد تعرّض لها المحقق الأصفهاني قدس‌سره في حاشيته بما هذا لفظه : «فقد مرّ غير مرّة أنّ التسليط الخارجي حيث إنّه صادر عن الرضا ، فإثبات يد الغير عليه ـ عن الرّضا ـ له دلالة نوعية على الرّضا بكل تصرّف كان. بخلاف الإنشاء القولي الصادر عن الرّضا ، فإنّه يدلّ على أنّ التمليك مرضي به. ولم يحصل. والتسليط الواقع بعده لا دلالة له نوعا إلّا على الالتزام بالمعاملة القولية ،

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٨٥

٢٩٦

.................................................................................................

__________________

لا عن الرضا به بخصوصه ، وحيث إنّه نوعا بعنوان الوفاء بما اعتقد تأثيره فلذا لا يجدي في استكشاف الرضا بالتصرفات.

وهذا هو الفارق بين المعاطاة والعقد الفاسد في إفادة الأولى للإباحة دون الثاني. وعليه فلا رضا ولو ضمنا في المعاملة القولية الفاقدة لما يشك في اعتباره حتى يكون على طبقه إباحة شرعية ، ليكون مقتضى الجمع بين الأدلة حصول الملك عند التصرف أو التلف» (١).

ومحصل ما أفاده قدس‌سره في الفرق بين المعاطاة وبين الإنشاء القولي الفاسد هو : أنّ التسليط الخارجي لمّا نشأ عن الرّضا بكلّ تصرف فله دلالة نوعية على الرّضا بكل تصرف ، فمقتضى الجمع بين الأدلة حينئذ هو الملكية عند التصرف أو التلف.

وهذا بخلاف الإنشاء القولي الفاسد ، فإنّه لا يدلّ إلّا على الرضا بالتمليك ، والمفروض عدم حصوله. وأمّا التسليط الواقع بعده فإنّه لمّا كان بعنوان الوفاء بما اعتقد تأثيره فلا يكشف عن الرضا بالتصرفات ، هذا.

لكن فيه ما لا يخفى ، حيث إنّ التسليط الخارجي لمّا كان بعنوان التمليك وإنشاء له فالرّضا أيضا يكون بالتمليك ، لا بالتصرفات في ماله بعنوان أنّه ماله وهو مالكه ، فوزان المعاطاة وزان الإنشاء القولي في عدم الدلالة على الرّضا بالتصرفات.

وبالجملة : فمن ناحية الرّضا لا فرق بين القول والفعل. فالإنشاء القولي الفاسد لا يترتب عليه أثر أصلا حتى جواز التصرف ، بخلاف الفعل وهو المعاطاة ، فإنّه بناء على عدم تأثيره في الملكية يترتب عليه إباحة التصرف شرعا ، للإجماع والسيرة ، لا لأجل الرّضا الضمني فيه الموجود في كلّ من الإنشاء القولي الفاسد والمعاطاة وهي التقابض. فعدم كون الإنشاء القولي الفاسد معاطاة ليس لاعتبار وجود الرضا الضمني في المعاطاة الفعلية دون الإنشاء القولي الفاسد حتى يكون الفارق بينهما ذلك الرّضا ، بل الفارق بينهما

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٦٣

٢٩٧

الأوّل : كفاية هذا الرضا المركوز في النفس ، بل (١) الرضا الشأني ، لأنّ (٢)

______________________________________________________

(١) يعني : يتوقف إدراج الوجه الرابع في المعاطاة على كفاية الرّضا الشأني الذي هو أخفى من الرّضا الارتكازي ، فإنّ الرّضا الارتكازي موجود بالفعل في النفس ، ولكن الشأني لا حظّ له من الوجود فعلا ، وإنّما هو بحيث لو التفت إلى ذات الشي‌ء المرضيّ لرضي به.

ففي المقام لو التفت المتعاقدان إلى بطلان العقد وفساده وعدم حصول النقل الملكي لرضي كلّ منهما بتصرف الآخر في ماله. وهذا الرضا الاقتضائي في قبال الرضا الفعلي ، وهو الرّضا بالتصرف اعتقادا بصحة العقد وكون الآخذ مالكا.

(٢) تعليل لتوقف إدخال الوجه الرابع في المعاطاة على كفاية الرّضا الشأني ،

__________________

هو وجود السيرة والإجماع على الإباحة في المعاطاة الفعلية ، دون الإنشاء القولي الفاسد. فالفرق بين العقد الفاسد وبين المعاطاة حكمي لا موضوعي.

فتلخص : أنّ الإنشاء القولي الفاسد لا أثر له أصلا ، والمقبوض به بمنزلة المغصوب في الحرمة والضمان.

نعم مع العلم بالتراضي يجوز لهما التصرف. لكنه ليس من المعاطاة المصطلحة التي هي عبارة عن إنشاء التمليك بالفعل. فما أفاده المحقق الثاني ومن تبعه من «كون الإنشاء القولي الفاسد معاطاة» لا يخلو من غموض.

وعليه فما عن الفقهاء قدس‌سرهم «من ضمان المقبوض بالعقد الفاسد وحرمة التصرف فيه» متين إن لم يكن تراض منهما بالتصرف ، وإلّا فلا بأس بالتصرف وعدم الضمان لكن من باب الإذن والرضا في ذلك ، لا من باب كونه معاطاة. فلا يمكن التوفيق بين كلام الفقهاء وبين ما عن المحقق الثاني ومن تبعه.

وحمل التراضي على تقابض جديد بعنوان المعاطاة خلاف ظاهر عبارة المحقق الثاني «كان معاطاة» لظهور رجوع ضمير «كان» في عبارته المزبورة إلى نفس ما أوقع وهو الإنشاء الملحون ، فنفس الإنشاء الملحون معاطاة.

٢٩٨

الموجود بالفعل هو رضاه من حيث كونه مالكا في نظره. وقد صرّح بعض (١) من قارب عصرنا بكفاية ذلك. ولا يبعد رجوع الكلام المتقدم ذكره (٢) إلى هذا. ولعلّه يصدق طيب النفس (٣) على هذا الأمر المركوز في النفس (٤).

الثاني : أنّه لا يشترط في المعاطاة إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض (٥) بل ولا بمطلق الفعل ، بل يكفي وصول كلّ من العوضين الى المالك الآخر ، والرّضا بالتصرف قبله أو بعده على الوجه المذكور (٦).

______________________________________________________

وبيانه : أنّ الرضا بالتصرف ـ الموجود فعلا ـ لا ينفع من جهة الاعتقاد بصحة العقد ، فإن كان المدار على الرضا الفعلي لم يندرج الوجه الرابع في المعاطاة ، وإن كان على الرضا الشأني اندرج فيها.

(١) وهو صاحب المقابس قدس‌سره (١).

(٢) وهو كلام السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة ، المتقدّم مفاده في المتن بقوله : «كما إذا علم الرّضا من أوّل الأمر .. وعلم التراضي منهما كان معاطاة ..».

(٣) إشارة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفس منه» (٢).

(٤) يمكن أن يستأنس من عدم المناقشة في كفاية الرّضا الشأني التزامه بها في المقام ، وهو إدراج الوجه الرابع في المعاطاة.

(٥) يعني : من الطرفين ، في قبال قوله : «ولا بمطلق الفعل» بأن يراد منه كفاية إعطاء أحدهما وأخذ الآخر في صدق المعاطاة.

(٦) لعلّ المراد بالوجه المذكور هو الوصول على وجه إنشاء الإباحة أو التمليك ، بأن لا يكون كفاية وصول العوض مجرّدا عن القصد ، إذ لا يتحقق به المعاطاة قطعا.

__________________

(١) : مقابس الأنوار ، ص ١٣٨

(٢) وسائل الشيعة ج ٣ ، ص ٤٢٤ ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلّي ، الحديث : ١

٢٩٩

وفيه (١) إشكال ، من (٢) أنّ ظاهر محلّ النزاع بين العامة والخاصة هو العقد الفعلي كما ينبئ عنه (٣) قول العلامة رحمه‌الله في ردّ كفاية المعاطاة في البيع : «إنّ الأفعال قاصرة عن إفادة المقاصد» (١). وكذا استدلال المحقق الثاني على عدم

______________________________________________________

(١) أي : وفي الأمر الثاني ـ وهو عدم اشتراط إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض حتى من طرف واحد ـ إشكال ، وسيذكر المصنف قدس‌سره وجهي الإشكال ، ثم يرجّح كفاية وصول العوضين بناء على القول بإفادة المعاطاة للإباحة ، لا الملك.

(٢) هذا أحد وجهي الإشكال على عدم اشتراط الإباحة أو التمليك بالقبض ، وتحقّقه بمجرد وصول كلّ من العوضين إلى مالك الآخر.

وحاصل هذا الوجه : أنّ محل النزاع بين العامة والخاصة في المعاطاة هو العقد الفعلي كما يدل عليه قول العلامة في ردّ كفاية المعاطاة في البيع : «أنّ الأفعال قاصرة عن إفادة المقاصد» وكذا استدلال المحقق الثاني على عدم لزومها «بعدم كون الأفعال كالأقوال في صراحة الدلالة». وكذا ما تقدّم من الشهيد رحمه‌الله في قواعده : «من أنّ الفعل في المعاطاة لا يقوم مقام القول ، وإنّما يفيد الإباحة ..» إلى غير ذلك من العبارات التي تظهر منها أنّ محلّ الكلام في المعاطاة هو الإنشاء الحاصل بالتقابض ، فالإنشاء المتحقق بغير ذلك خارج عن موضوع بحثهم في المعاطاة.

وكذا يظهر ذلك من كلمات العامة ، حيث إنّه ذكر بعضهم «أنّ البيع ينعقد بالإيجاب والقبول وبالتعاطي» فإنّ ظاهره هو التقابض.

وعليه فبعد بطلان هذا الأمر الثاني لا سبيل لإدراج الوجه الرابع في المعاطاة ، لعدم حصول التقابض بقصد الإنشاء ، والمفروض عدم كفاية مجرّد وصول العوضين إلى الطرفين.

(٣) أي : كما ينبئ قول العلّامة عن أنّ محل النزاع بين العامة والخاصة هو خصوص العقد الفعلي.

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

٣٠٠