هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

من الإجارة والهبة ، لكون (١) الفعل مفيدا (٢) للتمليك فيهما.

وظاهر المحكي (٣) عن التذكرة : عدم القول بالفصل بين البيع وغيره ، حيث قال في باب الرّهن : «إنّ الخلاف في الإكتفاء فيه بالمعاطاة والاستيجاب والإيجاب عليه ، المذكور (٤) في البيع آت هنا» (١) انتهى.

______________________________________________________

قصور الأفعال عن تأدية المراد. ولمّا كان هذا الشّقّ باطلا ـ لما تقدم من الأدلة على مملّكية المعاطاة ـ تعيّن القول بجريانها في الإجارة والهبة أيضا.

ثانيهما : أن الدليل التعبديّ ـ وهو الإجماع المركّب ـ يقتضي جريان المعاطاة في سائر العناوين الاعتبارية كالوديعة والوكالة والوصيّة والرهن وغيرها ، لما يظهر من كلام العلّامة في رهن التذكرة من عدم القول بالفصل بينه وبين البيع ، فإمّا أن يقال بفساد المعاطاة في الجميع ، وإمّا بصحتها فيه ، لقابلية الأفعال ـ ولو بمعونة القرائن الحالية أو المقالية ـ لإنشاء الأمور الاعتبارية بها. وحيث إنّ الصحة في البيع متسالم عليها فلا بد من صحتها في مطلق المعاملات ، إلّا مع قيام دليل على اعتبار الصيغة الخاصة في بعض العقود والإيقاعات كالنكاح والطلاق والنذر ، وإلّا فمقتضى القاعدة وقوعها بكلّ من القول والفعل ، هذا.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الأوّل ، وهو التعدي عن البيع إلى خصوص الإجارة والهبة ، وفاقا لما استظهره المحقق الثاني قدس‌سره من كلام بعض الأصحاب.

(٢) يعني : بضمّ القرينة المقالية أو المقامية ، وإلّا فالفعل ـ وهو الإعطاء ـ لا يفيد بنفسه شيئا من الإجارة والهبة وغيرهما من العناوين الاعتبارية الإنشائية ، فإذا صار الفعل مفيدا له شمله عموم دليل الصحة.

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الثاني ، وهو تعميم المعاطاة بالتعبد ، لا بمناط كاشفية الفعل عن القصد.

(٤) صفة ل «الخلاف» يعني : الخلاف ـ المذكور في البيع ـ آت في الرهن أيضا.

__________________

(١) : الحاكي هو السيد العاملي ، مفتاح الكرامة ، ج ٥ ، ص ٧٢ ، لاحظ تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ١٢

١٦١

لكن (١) استشكله في محكي جامع المقاصد «بأنّ البيع ثبت فيه حكم المعاطاة بالإجماع ، بخلاف ما هنا (٢)» (١).

ولعلّ (٣) وجه الإشكال عدم تأتّي المعاطاة بالإجماع في الرهن على النحو الّذي أجروها في البيع ،

______________________________________________________

(١) هذا إشكال على الإجماع الذي ربما يظهر من كلام العلّامة ، وهو في الحقيقة إنكار للإجماع على اتحاد حكم البيع والرهن ، ومحصّله : أنّ أصالة الفساد المحكّمة في المعاملات تقتضي فساد المعاملة المعاطاتية مطلقا ، سواء في البيع وغيره ، خرجنا عنه في خصوص البيع ، إمّا لإفادتها الإباحة كما عليه المشهور ، وإمّا الملك الجائز كما عليه المتأخرون. وأمّا الرهن فهو باق تحت عموم المنع ، فلا وجه للتسوية بينه وبين البيع ، هذا.

(٢) أي : في الرهن.

(٣) التعبير ب «لعلّ» من جهة تطرّق احتمالين في إشكال المحقق الثاني على العلامة قدس‌سرهما.

الأوّل : أنّ الأصل في مطلق المعاملات المعاطاتية هو الفساد ، إلّا مّا خرج بالدليل كالبيع.

الثاني : أنّ المعاطاة ليست على خلاف الأصل ، وإنّما لا تجري في عقد الرّهن لخصوصية فيه مانعة عن إنشائه بالفعل ، وذلك لأن المعاطاة إمّا تفيد الإباحة أو الملك الجائز. والأوّل غير متصور ، إذ ليس المطلوب في الرهن إباحة التصرف ، بل الاستيثاق للدين. والثاني ينافي حقيقة الرهن وهي الاستيثاق ، إذ الجواز ينافي الوثوق بعد وضوح كون الراهن سلطانا على فسخ عقد الرّهن.

ولا يبعد ظهور كلام المحقق الثاني في الاحتمال الأوّل ، ولذا حمله المصنف على الوجه الثاني احتمالا.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٥ ، ص ٤٥

١٦٢

لأنّها (١) هناك إمّا مفيدة للإباحة أو الملكية الجائزة على الخلاف.

والأوّل (*) غير متصوّر هنا (٢). وأمّا الجواز فكذلك (٣) لأنّه ينافي الوثوق الذي به قوام مفهوم الرهن خصوصا (٤) بملاحظة أنّه لا يتصور هنا (٥) ما يوجب

______________________________________________________

(١) أي : لأنّ المعاطاة في البيع.

(٢) أي : في الرّهن ، لأنّ مقتضى كونه وثيقة للدين عدم تصرّف الراهن فيه ، ومن المعلوم أنّ المبيح يجوز له استرداد ماله من المباح له.

(٣) يعني : أنّ جواز الرهن غير متصور أيضا ، لمنافاته للوثوق المقوّم لماهية الرّهن.

(٤) وجه الخصوصية : أنّ الالتزام بالملك الجائز في معاطاة البيع أخفّ مئونة منه في الرهن ، وذلك لأول الجواز هناك الى اللزوم عند طروء الملزم كتلف إحدى العينين ، وهذا بخلاف جواز الرهن ، إذ لا يجري شي‌ء من الملزمات فيه ، حيث إنه لو تلفت العين المرهونة لم يبق شي‌ء حتى يكون وثيقة للدّين.

مضافا إلى : أنّ المعتبر في الرهن هو الوثوق حدوثا وبقاء ، والجواز مناف لأصل الاستيثاق.

(٥) أي : في الرهن ، وضمير «انه» للشأن.

__________________

(*) الأولى بسلاسة العبارة أن يقال : «وكلاهما غير متصوّر هنا كما لا سبيل الى اللزوم» أمّا عدم تصور الإباحة فواضح ، لعدم كون المطلوب إباحة التصرف ـ للمرتهن ـ في العين المرهونة ، لأنّ الرهن وثيقة للدين ، ويتعلق حق المرتهن بها من دون أن تدخل في ملكه أو يباح له التصرف فيها.

وأما عدم تصور الملكية الجائزة فلمنافاتها للوثوق الذي به قوام مفهوم الرهن ، خصوصا مع استمرار الجواز وعدم أوله إلى اللزوم أصلا. وأمّا عدم تصور اللزوم فلكونه مخالفا للإجماع المدّعى على إناطة لزوم العقد باللفظ.

١٦٣

رجوعها الى اللزوم ليحصل به الوثيقة في بعض الأحيان (١). وإن جعلناها (٢) مفيدة للزوم كان مخالفا لما أطبقوا عليه من توقف العقود اللازمة (٣) على اللفظ.

وكأنّ هذا (٤) هو الذي دعا المحقق الثاني إلى الجزم بجريان المعاطاة في مثل الإجارة والهبة والقرض ، والاستشكال في الرّهن (*).

______________________________________________________

(١) أي : عند طروء الملزم.

(٢) يعني : وإن جعلنا الرّهن المعاطاتي مفيدا للزوم من أوّل الأمر ـ بلا حاجة الى طروء الملزم ـ فإنّه وإن كان مناسبا للاستيثاق ، لكنه مخالف للإجماع المنعقد على توقف العقود اللازمة على اللفظ.

وعليه فملخص إشكال جريان المعاطاة في الرهن على هذا هو : أنّه بناء على الجواز لا يتحقق الرهن ، لتقوم مفهومه بالوثوق الذي ينافيه الجواز. وبناء على اللزوم ينافيه الإجماع على اعتبار اللفظ في العقود اللازمة ، حيث إنّ الرهن لازم من طرف الراهن.

(٣) يعني : سواء أكان لزومها من طرفين أو من طرف واحد كما في الرّهن ، فإن لزومه من طرف الرّاهن لا المرتهن.

(٤) أي : وكأنّ إطباقهم على توقف العقود اللازمة على اللفظ دعا المحقق الثاني .. إلخ ، ومقصود المصنف من هذه الجملة توجيه تفصيل المحقق الثاني بين الإجارة والهبة والقرض وبين الرهن ، بجريان المعاطاة في تلك الثلاثة دون الأخير ، وذلك لأن جواز الملك فيها ممكن ، لصيرورته لازما بطروء الملزوم ، بخلاف الرهن ، لامتناع الجواز فيه ، لمنافاته للاستيثاق.

__________________

(*) ما نسبه المصنف الى المحقق الثاني من التزامه بجريان المعاطاة في الإجارة والهبة والقرض وإفادتها فيها ملكا جائزا لا يخلو من شي‌ء.

أمّا في الإجارة فلم يظهر ممّا نقلناه عنه في أوّل هذا التنبيه التزامه بالملك الجائز ،

١٦٤

نعم (١) من لا يبالي

______________________________________________________

(١) استدراك على التوجيه المتقدّم بقوله : «وكأنّ هذا ..» وغرضه الإيراد على المحقق الثاني المفصّل بين معاطاة الرهن وبين معاطاة الإجارة والهبة والقرض. وحاصله : أنّه لا وجه للفرق بين العقود المزبورة ، فلا بدّ من الالتزام بصحة الرّهن المعاطاتي وترتب اللزوم عليه ، وذلك لوجود المقتضي وفقد المانع.

أمّا وجود المقتضي فهو إطلاق بعض أدلة الرهن ، كمعتبرة عبد الله بن سنان ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السّلم في الحيوان والطّعام ، ويرتهن الرّجل بماله

__________________

بل مقصوده إثبات أصل مشروعية معاطاة الإجارة. ولعلّ المصنف قدس‌سره ظفر بكلام منه دالّ على إفادتها فيها للملك المتزلزل.

وأمّا في القرض فربما يكون المستفاد من جامع المقاصد ترتّب الإباحة المحضة على معاطاة القرض ، وتوقف الملك على الصيغة ، فلاحظ قوله فيه : «ظاهر عباراتهم : أنّه لا بدّ من الإيجاب القولي ، وعبارة التذكرة أدلّ على ذلك. ويرد عليه : أنّه قد سبق في البيع الاكتفاء بالمعاطاة التي هي عبارة عن الأخذ والإعطاء. فإن اكتفى في العقد اللازم بالإيجاب والقبول الفعليين فحقّه أن يكتفي بها هنا بطريق أولى. وليس ببعيد أن يقال : إن انتقال الملك إلى المقترض بمجرّد القبض موقوف على هذا ، لا إباحة التصرف إذا دلّت القرائن على إرادتها» (١).

والجملة الأخيرة صريحة في توقف ملك المقترض ـ حتى المتزلزل منه ـ على اللفظ ، وأنّ القبض لا يفيد أكثر من إباحة التصرف لو كان مقرونا بما يدلّ عليها ، فالقبض المجرّد عن قرينة الإباحة لا يؤثّر أصلا في الإباحة فضلا عن الملك.

ولعلّ مقصود المصنف قدس‌سره من الجواز أصل مشروعية القرض المعاطاتي ، لا ترتب الملك الجائز عليه ، أو لعلّه ظفر بكلام آخر لهذا المحقق ، والله تعالى العالم بحقائق الأمور.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٥ ، ص ٢٠

١٦٥

مخالفة (١) ما هو المشهور ـ بل المتفق عليه بينهم ـ من توقف العقود اللازمة على اللفظ ، أو حمل (٢) تلك العقود على اللّازمة من الطرفين

______________________________________________________

رهنا؟ قال : نعم ، استوثق من مالك» (١). فإنّه عليه الصلاة والسلام جوّز أخذ الوثيقة على المبيع سلما ، وإطلاقه شامل لكلّ من الرهن القولي والفعلي ، ولا مقيّد في البين مع كونه عليه‌السلام في مقام البيان.

وأمّا انتفاء المانع ، فلأنّ المانع عن الأخذ بالإطلاق المزبور هو الإجماع المدّعى على إناطة العقود اللازمة بالإنشاء القولي. ولكنّه غير مانع بنظر المحقق الكركي قدس‌سره إمّا لأنّه لا يعتني بأصل هذا الإجماع ، ولذا خالف المشهور في معاطاة البيع ، وأوّل حكمهم بالإباحة بالملك المتزلزل. وأمّا لأنّه وإن اعتنى بهذا الإجماع. لكنّه يحمل معقده على خصوص العقود اللّازمة من الطرفين كالبيع والإجارة والصلح ونحوها من المعاوضات المبنية على اللزوم ، لا مطلقا ولو كان اللزوم من طرف واحد كالرّهن الذي هو لازم من طرف الرّاهن فقط.

فإن قلت : إنّ إطلاق معقد الإجماع على إناطة العقود اللازمة باللفظ محكّم ، ولا وجه لإخراج الرّهن منه. وعليه يتجه منع المحقق الكركي عن الرّهن المعاطاتي.

قلت : لا إطلاق في الإجماع المزبور حتى يشمل الرّهن ، لاختصاصه بالعقود المعاوضية ، والرّهن خارج عنها موضوعا ، إذ ليس فيه إعطاء شي‌ء وأخذ آخر ، وإنّما هو مجرّد استيثاق للدّين.

وعلى هذا ينبغي أن يلتزم المحقق الكركي قدس‌سره بصحة الرّهن المعاطاتي ، وكونه كالقولي مفيدا للّزوم.

(١) الأولى اقترانه بالباء ، بأن يقال : «لا يبالي بمخالفة ..» وهذا إشارة إلى عدم الاعتناء بالإجماع رأسا.

(٢) معطوف على «مخالفة» يعني : لا يبالي المحقق الثاني بتوجيه الإجماع المزبور

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٢١ ، الباب ١ من كتاب الرهن ، الحديث : ١

١٦٦

فلا (١) يشمل الرهن ، ولذا (٢) جوّز بعضهم الإيجاب بلفظ الأمر ، ك «خذه» والجملة الخبرية ، أمكن (٣) أن يقول بإفادة المعاطاة في الرّهن اللّزوم ، لإطلاق (٤) بعض أدلّة الرّهن. ولم يقم (٥) هنا إجماع على عدم اللزوم كما قام في المعاوضات (٦).

______________________________________________________

بحمله على خصوص العقود اللازمة من الطرفين ، فيخرج الرّهن عنها موضوعا ، لكونه لازما من قبل الراهن فقط.

(١) هذا متفرّع على قوله : «حمل تلك العقود .. إلخ».

(٢) أي : ولأجل حمل تلك العقود على العقود اللّازمة من الطرفين جوّز بعض الفقهاء إنشاء الرّهن بلفظ الأمر وبالجملة الخبرية ، قال الشهيد قدس‌سره : «وإيجابه : رهنت ووثقت ، وهذا رهن عندك أو وثيقة .. ولو قال : خذه على مالك أو بمالك فهو رهن» (١).

وكلامه صريح في صحة إنشاء الرّهن بصيغة الأمر وبالجملة الخبرية. ولو كان من العقود اللازمة من الطرفين كالبيع والإجارة تعيّن إنشاؤه بالفعل الماضي خاصة ، لما سيأتي تفصيله في بحث ألفاظ العقود إنشاء الله تعالى.

(٣) هذا جزاء قوله : «من لا يبالي» والمراد بالإمكان هنا ما يساوق التعيّن واللّابديّة ، لا الأعم منه ومن الوقوع حتى يكون بمعنى الاحتمال الصّرف ، إذ بعد وجود المقتضى للزوم وفقد المانع عنه لا بدّ من القول بلزوم الرهن المعاطاتي.

(٤) هذا إشارة إلى وجود المقتضي للزوم الرّهن. وقد تقدمت معتبرة ابن سنان المتضمنة للإطلاق ، ونحوها غيرها ، فراجع جملة من أخبار الرهن.

(٥) هذا إشارة إلى فقد المانع عن إطلاق النصوص الشامل لصحة الرهن الفعلي والقولي على حدّ سواء.

(٦) كالبيع والإجارة والصلح والقرض ، فإنّها عقود معاوضية يتوقف لزومها

__________________

(١) : الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ٣٨٣

١٦٧

ولأجل ما ذكرنا (١) في الرّهن يمنع من جريان المعاطاة في الوقف ، بأن يكتفى فيه بالإقباض ، لأنّ (٢) القول فيه باللزوم مناف لما اشتهر بينهم من توقف اللّزوم على اللّفظ. والجواز (٣) غير معروف في الوقف من الشارع ، فتأمّل (٤).

______________________________________________________

على إنشائها باللفظ.

هذا تمام ما أفاده المصنف في الإشكال على المحقق الثاني في ما يتعلّق بجريان المعاطاة في الرّهن ، وقد اختار في المتن عدم جريانها فيه ، لمنافاة الجواز لماهية الرّهن.

(١) أي : ولأجل ما ذكرنا ـ من توقف العقود اللّازمة على اللّفظ وعدم كفاية المعاطاة في لزومها ، ومنافاة حقيقة الرّهن للإباحة والتزلزل ـ يمنع من إنشاء الوقف بالفعل وهو الإقباض. والدليل على المنع نحو ما تقدّم في الرّهن من أنّ جواز الوقف حتى يجوز للواقف إعادة الموقوف إلى ملكه غير معهود من الشارع ، ولزومه منوط باللفظ للإجماع.

(٢) تعليل لقوله : «يمنع».

(٣) يعني : لو قيل بمشروعية المعاطاة في الوقف ـ ولم نقل ببطلانها رأسا ـ قلنا بمنافاة ماهية الوقف للجواز ، فإنّه تحبيس للملك على الدوام أو تحريره. وهذا لا يجتمع مع الجواز المقتضي لصحة إعادته في الملك بالرجوع عن الوقف.

(٤) لعلّه ـ كما قيل ـ إشارة إلى : أنّه لا مانع من الالتزام بجواز الوقف ، إذ لو كان الجواز منافيا لماهيّته لما جاز اشتراط الرجوع فيه. والمفروض جواز هذا الشرط.

لكن فيه : أنّ الظاهر إرادة الجواز الذاتي من الجواز الذي نفى معروفيته ، لا الجواز الناشئ عن أمر خارجي كالشرط ، فالوقف بذاته لازم ، ولا يصير جائزا إلّا بالشرط مثلا. فعلى هذا لا تجري المعاطاة في الوقف.

لكن سيأتي في التعليقة أنّ المرجع في الجواز واللزوم هو دليل ذلك العنوان الاعتباري ، سواء أكان إنشاؤه بالقول أم بالمعاطاة.

١٦٨

نعم (١) احتمل الإكتفاء بغير اللفظ في باب وقف المساجد من الذكرى تبعا للشيخ رحمه‌الله (١).

______________________________________________________

(١) استدراك على منع جريان المعاطاة في الوقف ، وحاصله : أنّه يمكن جريان المعاطاة في وقف المساجد بأن يصلّي المالك في أرض بقصد المسجدية ، أو يأذن لغيره في الصلاة فيها.

قال الشهيد قدس‌سره : «إنّما تصير البقعة مسجدا بالوقف إمّا بصيغة : وقفت وشبهها ، وإمّا بقوله : جعلته مسجدا ، أو بإذن في الصلاة فيه بنيه المسجدية ، ثم صلّوا أمكن صيرورته مسجدا ، لأنّ معظم المساجد في الإسلام على هذه الصورة» (٢).

لكن صاحب الجواهر قدس‌سره قوّى اعتبار الصيغة فيه «للأصل وظهور إطباقهم في باب الوقف على الافتقار فيه إلى اللفظ» وإن رجع في آخر كلامه بقوله : «إلّا أنّه مع ذلك فالإنصاف أنّ النصوص غير خالية عن الإيماء إلى الإكتفاء بالبناء ونحوه مع نيّة المسجدية من غير حاجة الى صيغة خاصة ، خصوصا ما ورد منها في تسوية المساجد بالأحجار في البراري والطرق» (٣).

وقال في كتاب الوقف : «ولو صرف الناس في الصلاة في المسجد أو في الدفن ولم يتلفّظ بصيغة الوقف لم يخرج عن ملكه ، بلا خلاف أجده فيه هنا» (٤).

وسيأتي أنّ مقتضى القاعدة هو جريان المعاطاة في الوقف وغيره من الاعتباريات ، سواء أكانت عقدا أم إيقاعا ، إلّا إذا لم يكن فعل مناسب لذلك الاعتبار النفساني ، أو نهض دليل على اعتبار اللفظ فيه تعبّدا كالنذر والعهد والضمان وغيرها على ما قيل.

__________________

(١) : النهاية لشيخ الطائفة ، ص ٥٩٥

(٢) ذكري الشيعة ، ص ١٥٨

(٣) جواهر الكلام ، ج ١٤ ، ص ٧٠

(٤) جواهر الكلام ، ج ٢٨ ، ص ٨٩

١٦٩

ثمّ إنّ الملزم للمعاطاة (١) فيما تجري فيه من العقود الأخر (*) هو الملزم في باب البيع كما سننبّه به بعد هذا الأمر (**).

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ المعاطاة في البيع لمّا أفادت الإباحة المحضة أو الملك المتزلزل ، وكان لزومها متوقفا على طروء الملزم ـ من تلف أحد العوضين أو التصرف فيه ـ فلا محيص عن الالتزام بتوقف اللزوم على حصول الملزم لو تعدّينا عن معاطاة البيع ، وقلنا بجريانها في جملة من العقود المملّكة ، وغيرها ، لتوقف اللّزوم من أوّل الأمر على الإنشاء بالصيغ المعهودة ، والإنشاء الفعلي قاصر عن إفادته ، فلذا يناط اللزوم بحصول الملزم. هذا تمام الكلام في هذا التنبيه.

__________________

(*) ظاهر العبارة : أنّ المعاطاة في أي عقد تجري تكون جائزة وإن كان ذلك العقد بنفسه لازما. لكن سيأتي إن شاء الله تعالى في التعليقة خلافه.

مضافا إلى عدم تعقّل كون التلف ملزما للمعاطاة في بعض العقود كالرّهن ، لأنّ التلف مبطل للاستيثاق ، لا موجب للزومه ، كما لا يخفى.

(**) الظاهر جريان المعاطاة في غير البيع من العقود والإيقاعات ، وقبل بيانه ينبغي تقديم أمرين :

الأوّل : أنّ الأفعال تارة تدلّ على المعاني بلا حاجة إلى قرينة كالسجود ، فإنّه بذاته يدلّ على الخضوع. وأخرى تدلّ عليها بمعونة قرينة مقامية أو مقاليّة. وهذا هو الغالب ، فإذا دلّت على المعاني بالقرائن بحيث عدّت دلالتها من الظهورات العرفية كانت حجة عند العقلاء على حذو حجية ظهورات الألفاظ في معانيها.

الثاني : أنّ بناء العقلاء على إنشاء الأمور الاعتبارية بالأفعال المبرزة لها وإن كان إبرازها بالقرائن ، فكلّ فعل مبرز لمعناه الإنشائي يصح جعله آلة للإنشاء عند العقلاء ، إلّا إذا منعه الشارع واعتبر اللفظ المطلق أو الخاص في إنشائه.

إذا عرفت ما ذكرناه تعرف أنّه لا مانع من التمسك بأدلة العقود والإيقاعات لصحة

١٧٠

.................................................................................................

__________________

المعاطاة فيها ، إلّا إذا لم يكن الفعل ولو بالقرينة آلة لإنشاء ذلك العقد أو الإيقاع عند العقلاء. أو اعتبر الشارع في ذلك العقد أو الإيقاع لفظا كالنذر. وفي غير هذين الموردين يكون مقتضى القاعدة جريان المعاطاة.

وبالجملة : كل فعل يكون عند العقلاء مبرزا للاعتبار النفساني يصح الإنشاء به ، هذا.

وفي تقريرات المحقق النائيني قدس‌سره ما لفظه : «لا يخفى أنّ الاستدلال بأدلة المعاملات لصحّة المعاطاة فيها يتوقف على إثبات مقدّمتين :

الأولى : كون الفعل بنفسه مصداقا لهذه العناوين ليصح الاستدلال بأدلة العناوين على صحته أو كونه مصداقا لأمر ملازم لأحد العناوين ، بحيث يترتب عليه بجريان العادة المألوفة والسيرة المستمرة ما يترتب على ملازمه ، بأن كانت السيرة دليلا على ترتب ما يترتب على ملازم الفعل ، لا أن تكون دليلا على أصل صحة المعاملة الفعلية. فبعد جريان العادة يدخل الفعل بالملازمة في أحد العناوين ، ويصح الاستدلال له بما يستدل به للعناوين نظير القول ، فإنّه قد ينشأ به أحد العناوين مطابقة ، وقد ينشأ به أحدها التزاما.

ووجه اعتبار كون الفعل مصداقا لها أو مصداقا لملازمها ما أشرنا إليه سابقا من أنّ مجرّد قصد عنوان ووقوع الفعل عقيبه لا يؤثر في تحقّق هذا العنوان إذا لم يكن الفعل آلة لإيجاده أو إيجاد ملازمه» (١).

وفيه : أنّ البيع المسبّبي ـ وهو مبادلة المالين ـ يكون من الأمور الاعتبارية التي لا موطن لها إلّا وعاء الاعتبار ، ولا يحاذيها شي‌ء في الخارج حتى يكون ذلك مصداقا لها ، فلا بدّ من أن يكون المراد البيع السببي ، وهو ما يتسبّب به من قول أو فعل ، إلى البيع المسببي. ومن المعلوم أنّ البيع السببي عبارة أخرى عن آلة إيجاد البيع

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٧٩

١٧١

.................................................................................................

__________________

المسببي ، ومقتضى عرفيّة البيع سببيا ومسببيا هو جواز إيجاد المسببي بكلّ ما يكون ظاهرا فيه عند العقلاء من قول أو فعل.

وبالجملة : يصح إنشاء الأمور الاعتبارية بكل لفظ أو فعل يكون مبرزا لها ، لكون ذلك اللفظ أو الفعل مصداقا لما يتسبّب به إلى عنوان اعتباريّ من بيع أو صلح أو هبة أو غيرها ، من غير فرق بين كون ذلك العنوان عقدا أو إيقاعا كالطلاق والعتق وغيرهما.

ووجه الصحة هو شمول دليل نفوذ ذلك العنوان له ، إذ لا فرق في مصاديق البيع السببي بين القول والفعل.

واتّضح من هذا البيان : جريان المعاطاة في كل عقد وإيقاع ، إلّا إذا قام دليل على اعتبار اللفظ في ذلك ، أو لم يكن فعل مبرزا له ، فالأصل يقتضي جريان المعاطاة في جميع العناوين الاعتبارية ، هذا.

ولا بأس بالإشارة إلى جملة من الموارد التي يمكن أن يكون فيها فعل مبرز للعنوان الاعتباري :

منها : القرض ، فإنّ إعطاء المقرض بهذا العنوان وأخذ المقترض كذلك مبرز للتمليك بالضمان الذي هو مفهوم القرض ، لما مرّ آنفا من أنّه لا يعتبر في المبرز أن يكون إبرازه للاعتبار النفساني بالذات أو الوضع ، بل المدار على كونه مبرزا عقلائيّا ، سواء أكان إبرازه ذاتيا أم وضعيّا أم للقرينة. فلا ينبغي الإشكال في صحة إنشاء القرض بالإعطاء.

ومنها : الرّهن ، فإنّ إمكان إبرازه بالإعطاء ـ المحفوف بقرينة تدلّ عليه ـ من الأمور العقلائية التي لا ينبغي الارتياب فيها ، إذ الإعطاء بقصد الرهن مع إقامة القرينة عليه ـ بحيث يصير عند العقلاء كاللفظ آلة للإيجاد ـ يكون محقّقا فعليا للرّهن ، فيشمله عموم أو إطلاق دليل صحته ، فيكون لازما من طرف الرّاهن.

ودعوى «كونه جائزا ، للإطباق على توقف العقود اللازمة على اللفظ» غير مسموعة ، لعدم ثبوت ذلك الإجماع بمثابة يصلح لتخصيص العمومات.

١٧٢

.................................................................................................

__________________

كعدم سماع دعوى اختصاص دليل صحة المعاطاة من الإجماع والسيرة بالبيع. لما عرفت في كلام جامع المقاصد والمسالك من اقتضاء كلام بعضهم اعتبار المعاطاة في الإجارة والهبة. وهذا يوهن دعوى اختصاص الإجماع والسيرة بالبيع ، هذا.

وقد ظهر مما ذكرناه من شمول عمومات الرهن لمعاطاته : اندفاع ما أورد على الرهن المعاطاتي من أنّ الجواز ينافي حقيقة الرهن وهي الوثوق.

وملخّص وجه الاندفاع هو : أنّ المرجع في كل معاملة معاطاتية دليل تلك المعاملة بعد عدم تحقق إجماع على توقف العقود اللازمة على اللفظ.

ثم إنّه قد استشكل في جريان المعاطاة في القرض والرّهن والصرف والوقف وغيرها مما يكون القبض شرط صحتها بما حاصله : لزوم اتحاد الشرط والمشروط. قال المحقق الأصفهاني قدس‌سره في توضيحه : «وليعلم أوّلا أن المعاطاة في القرض إن كانت بنفس القبض ـ مع أنّ القبض شرط الصحة ـ يلزم اتحاد الشرط والمشروط ، وهو محال ، إذ الشي‌ء لا يعقل أن يكون نفسه مصحّحا لفاعليّة نفسه أو متمّما لقابلية نفسه ، لعدم الاثنينية بين الشي‌ء ونفسه ، ففرض عدم تمامية الفاعلية والقابلية في حدّ ذاته ينافي فرض تماميته بنفس ذاته» (١).

توضيحه : أنّه يلزم اجتماع الضدّين ـ وهما المقتضي والشرط ـ وهما مغايران وجودا. مضافا إلى : أنه يلزم تقدم الشي‌ء الواحد وتأخره ، لأنّه من حيث كونه مقتضيا متقدم رتبة ، ومن حيث كونه شرطا متأخر كذلك.

ثم أجاب المحقق المتقدم ذكره بما لفظه : «والجواب العام : أن الفعل الخارجي الخاص له حيثيّتان من حيث الصدور من الراهن مثلا ، وبهذا الاعتبار إقباض ، ومن حيث مساسه بالمرتهن القابض ، وبهذا الاعتبار قبض ، كالإعطاء والأخذ في المعاطاة

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٤٧

١٧٣

.................................................................................................

__________________

البيعي ، حيث قلنا بأنّه يتسبّب إلى الملكية بإعطائه ، ويطاوع الآخر بأخذه ، فهناك فعلان حقيقة كلّ منهما قائم بطرف ، فلا مانع من كون أحدهما بمنزلة المقتضي ، والآخر بمنزلة الشرط».

وأنت خبير ببقاء محذور اتحاد المقتضي والشرط ، وذلك لأنّ مقتضى عقدية القرض وكفاية الإعطاء والأخذ في المعاطاة هو كون الأخذ متمّما للمعاطاة التي هي المقتضي للملكيّة في القرض كالعقد اللفظي الذي يكون القبول جزءه ، ومع كون الأخذ جزء العقد المقتضي للملكية كيف يصير شرطا لها؟ إذ لو كان شرطا أيضا لزم محذور اتحاد الشرط والمشروط.

وقد يقال في دفع الإشكال : إنّ المقتضي هو الأخذ بمعناه المصدري ، والشرط هو الأخذ بمعناه الاسمي أي كون العين في يد الطرف الآخر ، من المقترض والمتهب ، والمشتري في بيع الصرف ، ومن المعلوم تأخّر الأخذ بالمعنى الاسمي عنه بمعناه المصدري رتبة.

فللأخذ حيثيتان : إحداهما معناه المصدري ، وهي متمّمة للمعاملة ، والأخرى معناه الاسمي ، وهي شرط الصحّة ، ولا مانع من كون إحدى الحيثيتين شرطا لتأثير الأخرى ، ومن المعلوم أنّ الشرط في القرض هو الحصول في اليد ، ولذا لو كان المال المرهون أو الموهوب أو المقترض عند المرتهن والمتهب والمقترض وتحت أيديهم قبل إنشاء هذه العناوين لم يحتج إلى قبض جديد بعد العقد القولي ، إذ لا يتحقق حينئذ العقد المعاطاتي مع فرض كون العين في يد المرتهن ، هذا.

لكنّه لا يخلو من غموض ، لوضوح تعدّد المقتضي والشرط وجودا ، وامتناع تصادقهما على موجود واحد ، فالمقتضي هو ما يترشّح منه وجود المقتضى ، والشرط ما يتمّ به فاعلية الفاعل أو قابلية القابل ، كالنار المقتضية للإحراق ، والمماسة التي هي

١٧٤

.................................................................................................

__________________

شرطه ، وهما متعدّدتان وجودا حقيقة.

وهذا بخلاف باب المصدر واسمه ـ كالإيجاد والوجود ـ فإنّ تعددهما اعتباري محض ، إذ الحدث موجود وحدانيّ ، فإن أضيف إلى فاعله كان مصدرا ، وإن أضيف إلى نفسه كان اسم المصدر. ومن المعلوم أنّ القبض المجعول شرطا في العقود المذكورة هو إعطاء الموجب وأخذ القابل ، ويتوقف صدق الشرط عليه على تحقق المقتضي للصحة قبله ، وحيث لم يتحقق إنشاء قولي ولا غيره ـ كما هو المفروض ـ لزم اتحاد المقتضي والشرط في إنشاء هذه العناوين بالمعاطاة ، فيعود المحذور.

وأمّا الفرع المذكور ـ وهو كفاية كون العين في يد الطرف الآخر ـ فلا يمكن الاستشهاد به على كفاية القبض بمعناه الاسمي في الأبواب المزبورة كلّية ، وإنّما يقتصر به على مورده ، وهو ما إذا أنشئ العقد باللّفظ مطلقا أو بخصوص الصيغة المعتبرة في العقود اللازمة ، فيقال بصحّته وعدم توقفه على ردّ العين إلى المالك كي يقبضها مرّة أخرى. وأمّا في إنشائه بالفعل ، فلا موجب لرفع اليد عن ظهور أدلّة شرطية القبض بمعناه المصدري ، ومقتضاه انسداد باب المعاطاة في مثل الرهن والهبة والقرض.

وأمّا الاستدلال على كفاية الإنشاء الفعلي في الهدية بما ورد في الهدايا التي أرسلت إلى النبي والأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام فليس بذلك الوضوح ، فإنّهم عليهم‌السلام أخذوها وتصرّفوا فيها تصرّف الملّاك في أملاكهم لكن هذا لا يدلّ على انحصار إنشائها بالإرسال والإقباض حتى يكون الفعل الواحد مقتضيا للملك وشرطا فيه ، لبقاء احتمال إنشائها بالكتابة أو بالصيغة الملحونة أو بتوكيل الرّسول في إجراء الصيغة. ولعلّه لذا جزم شيخ الطائفة وابن إدريس قدس‌سرهما باعتبار الصيغة ، وأنّ الهدية الفعلية لا تفيد إلّا إباحة التصرف غير المتوقف على الملك.

نعم يمكن أن يقال : إن حديث مغايرة المقتضي والشرط وجودا مختص

١٧٥

.................................................................................................

__________________

بالموجود العيني دون الاعتباري ، فإنّ الملكية أمر اعتباري ، ويمكن أن يكون منشأ اعتبارها فعلا خارجيا أو أمرا اعتباريا ، ولا مانع من لحاظ حيثيتين في فعل واحد ، فيكون القبض بلحاظ إعطاء الموجب مقتضيا ، وبلحاظ أخذ القابل شرطا.

هذا بحسب مقام الثبوت. وأمّا بحسب مقام الإثبات فيكفي فيه ـ بعد إمكانه ثبوتا ـ إطلاق أدلة الإمضاء والتشريع ، هذا.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ إشكال اعتبار القبض في الصحة في جملة من العقود والإيقاعات لا يمنع جريان المعاطاة فيها ، فتجري في الوقف ، ويكون الوقف المعاطاتي كالقولي لازما ، لشمول أدلّة تشريع الوقف ولزومه له ، كشموله للقولي.

فما في المتن من قوله : «والجواز غير معروف في الوقف من الشارع» أجنبي عمّا يدعيه القائل بجريان المعاطاة في الوقف ، لأنّه يقول بلزوم الوقف المعاطاتي ، لكونه مصداقا للوقف ، فتشمله أدلّته المقتضية للزومه كما لا يخفى.

ومنها : النكاح ، فإنّ الظاهر جريان المعاطاة فيه بمعنى إنشاء علقة الزوجية بفعل مباح مبرز للقصد عند العقلاء كذهاب المرأة بجهيزتها إلى دار الرّجل بقصد إنشاء الاعتبار ، وقبول ذلك بفتح باب الدار عليها وأخذ الجهيزة منها بالقصد المزبور ، فالفعل الصادر منها مبرز عقلائي لعلقة الزوجية الاعتبارية وجائز شرعا في نفسه. فمقتضى القاعدة جريان المعاطاة في النكاح ، والمانع منحصر في التسالم على اعتبار اللفظ في حصول العلقة ، فعدم جريان الإنشاء الفعلي في باب النكاح مستند إلى وجود المانع ، لا إلى عدم المقتضي.

نعم في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره المنع عن جريان المعاطاة في النكاح لوجه آخر ، قال مقرر بحثه الشريف : «فإنّ الفعل فيه ملازم لضدّه وهو الزّنا والسّفاح ، بل مصداق للضّد حقيقة ، فإنّ مقابل النكاح ليس إلّا الفعل المجرّد عن الإنشاء

١٧٦

.................................................................................................

__________________

القولي وعمّا جعله الشارع سببا للحلّيّة» (١).

وقريب منه ما في بعض الكلمات : من أنّ جواز الوطي مترتب على الزوجية ترتب المسبّب على سببه ، والحكم على موضوعه ، كما هو ظاهر قوله تعالى (إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ) فلو توقّفت الزوجية على الوطي لزم اتحاد المسبب وسببه ، لتوقف حلية الوطي على الزوجية ، وتوقفها على حلّية الوطي ، إذ لا يؤثر الوطي المحرّم في حدوث علقة الزوجية ، هذا.

لكن يمكن منعه بما عرفت من عدم انحصار سبب الحلّ في ذلك الفعل الخاص حتى يمتنع إنشاء العلقة به.

مضافا إلى : أنّ التسبّب إلى العنوان الاعتباري ـ كالزوجية والملكيّة ـ لا يتوقف على حلية السبب تكليفا. فلا مانع من تأثير السبب المنهي عنه في الأمر الوضعي ، بشهادة حرمة البيع تكليفا وقت النداء وصحّته وضعا.

وعلى هذا ينحصر المانع من إنشاء النكاح ـ بما عدا الصيغة المقرّرة ـ في التعبد الشرعي ، لا إلى قصور الفعل عن التسبب به إليه ، هذا.

وقد يورد على الميرزا قدس‌سره تارة : بأنّ كون الوطي مصداقا أو ملازما للمحرّم إنّما هو بملاحظة حكم الشارع بتوقف عقد النكاح على مبرز خاص ، وذلك أجنبي عمّا هو مبرز عرفا للتزويج الاعتباري.

وأخرى : بأنّ انحصار الإنشاء في الوطي المحرّم لا يمنع عن حصول علقة الزوجية به ، وذلك لإمكانه من باب الاجتماع ، بتقريب : أنّ المحرّم هو المباشرة ، والمؤثّر في تحقق الزوجية هو عنوان السبب ، ومن المعلوم أنّ السبب والمباشرة كالغصب

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٨١

١٧٧

.................................................................................................

__________________

والصلاة في تعددهما عنوانا وحكما ، حيث إنّ أحدهما جائز والآخر منهي عنه ، ولا ريب في أن النهي لا يتجاوز عن متعلقة ـ وهو الوطي ـ إلى عنوان آخر ، وأمّا الزوجية فقد أنيطت بالسبب ، فلا مانع من إنشاء النكاح بفعل محرّم ، ولا يتم منع الميرزا عن جريان المعاطاة في النكاح ، هذا.

لكن الظاهر عدم تمامية الإيرادين ، أمّا الأوّل فلأنّه خروج عن مفروض كلام الميرزا ، وبيانه : أن المصرّح به في عبارته المتقدمة ملاحظة القاعدة الشرعية التأسيسية أو الإمضائية في جواز التسبب بالوطي إلى علقة الزوجية ، بناء على انحصار آلة الإنشاء فيه ، ومع تحريم هذا السبب الخاص شرعا لا معنى للاكتفاء به بما هو سبب عرفي ، إذ مقصوده قدس‌سره بيان القاعدة الأولية الشرعية في كفاية الفعل في مقام الإنشاء وعدمها ، فلا معنى للإيراد عليه بكفاية الفعل الخاص بنظر العرف.

وأمّا الثاني فلأنّ المقام أجنبي عن باب الاجتماع الذي موضوعه تركب موضوع الأمر والنهي بنحو الانضمام ، أي استقلال متعلّق كل منهما عن الآخر وجودا. فلو كان التركيب بينهما اتحاديا كان أجنبيا عن مسألة الاجتماع. والسبيبة بهذا العنوان لم يتعلق بها حكم شرعي حتى يكون جواز السبب نظير وجوب الصلاة الواقعة في دار مغصوبة ، بل تنتزع السببية من كل فعل أو قول ينشأ به العنوان الاعتباري ، ولمّا لم يكن عنوان السبب موضوع حكم شرعي لم يندرج المقام في باب الاجتماع ، لفرض كون التركيب اتحاديا لا انضماميا.

ومنها : الطّلاق فإنّه يمكن إنشاؤه عند العقلاء بفعل مبرز له كغضّ بصره عنها أو إلقاء القناع عليها ، ونحوهما مما يناسبه من الأفعال. لكن قام الدليل على انحصار مبرزه بلفظ خاص.

وأمّا الوصية والتدبير والضمان فلا مانع أيضا من إنشائها بفعل مناسب لها

١٧٨

.................................................................................................

__________________

ولو بالكتابة والإشارة ، إذ لا تنحصر المعاطاة بالإعطاء ، لما مرّ من أنّ المعاطاة لم ترد في آية ولا رواية ولا معقد إجماع حتى يؤخذ بظاهرها ، بل المراد بها ما يقابل اللفظ.

فما في تقريرات المحقق النائيني قدس‌سره من «أن الوصية تمليكية كانت أو عهدية ، والتدبير والضمان ، فإنّها لا تنشأ إلّا بالقول ، لعدم وجود فعل كان مصداقا لهذه العناوين ، فإنّ انتقال الدّين من ذمّة إلى أخرى لا يمكن أن يتحقق بالفعل ، ولا العتق ، أو الملكية أو القيمومة بعد موت الموصى» (١) غير ظاهر.

فعلى ما ذكرنا تجري المعاطاة في كل اعتبار نفساني سواء أكان عقدا أم إيقاعا بعد إرادة كل فعل مناسب مبرز لذلك الاعتبار ، إلّا ما قام الدليل فيه على اعتبار لفظ خاص كالنكاح والطلاق أو مطلق اللفظ فيه تعبدا ، والله العالم.

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٨١

١٧٩

الأمر السادس (١) : في ملزمات المعاطاة على كلّ من القول بالملك والقول بالإباحة.

اعلم : أنّ الأصل (٢) على القول بالملك

______________________________________________________

التنبيه السادس : ملزمات المعاطاة

(١) الغرض من عقد هذا الأمر ـ كما صرّح به في المتن ـ البحث عن ملزمات المعاطاة سواء قلنا بمقالة المشهور من ترتب الإباحة عليها تعبدا ، أم بمقالة المحقق الكركي ومن تبعه من ترتب الملك المتزلزل عليها. وعلى هذا لا مجال لهذا التنبيه السادس بناء على مختار المصنف من كون المعاطاة بيعا لازما كالبيع بالصيغة. أمّا أصل إفادتها للملك فلقوله : بعد الفراغ من بيان الأدلّة على الملك : «فالقول الثاني لا يخلو عن قوة» وأمّا إفادتها لخصوص الملك اللازم فلما أفاده في أصالة اللزوم بقوله : «أوفقها بالقواعد هو الأوّل ، بناء على أصالة اللزوم في الملك». وعليه يسقط البحث عن الملزمات. إلّا أن يكون المراد هو اللّزوم مع الغضّ عن الإجماع المدّعى على جواز الملك الحاصل بالمعاطاة.

ثم إنّ المصنف قدس‌سره تعرّض لجملة من الملزمات كتلف كلا العوضين ، أو أحدهما والتصرف الاعتباري ، والتصرف الخارجي كطحن الحنطة وغير ذلك. وقد تعرّض الشهيد الثاني لأكثر هذه الملزمات في المسالك.

وقبل الشروع في تحقيق الملزمات أسّس المصنف قدس‌سره الأصل على كلّ من الملك والإباحة ليكون هو المعوّل عند الشّك في ملزميّة أمر خاص ، كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

(٢) محصّل كلامه في الأصل هو : أنّ مفاده على القول بالملك يختلف عن مفاده على القول بالإباحة ، وبيانه : أنّه بناء على تأثير المعاطاة في الملك يتعيّن القول باللزوم ،

١٨٠