هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

في غير محلّه (١) ، بعد القطع بأنّ هذه اليد قبل تلف العين لم تكن (٢)

______________________________________________________

قاصدا للرجوع إليه وأخذ ماله منه.

والوجه في عدم الفرق بين الصورتين واضح. أمّا إذا كان بانيا على إمضاء المعاطاة فلأنّ المال الموجود يصير عوضا مسمّى عن التالف. ولم تنقلب تلك اليد الأمانية قبل تلف العين إلى يد عدوانية حتى توجب الضمان. وأمّا إذا كان بانيا على استرداد العين الموجودة من المتعاطي الآخر فكذلك لا موجب لصيرورة من تلف عنده المال ضامنا للبدل ، لأنّ الدليل على الضمان منحصر في المقام في اليد ، لانتفاء سائر موجباته ، وقد عرفت أنّ اليد ـ قبل التلف ـ كانت بإباحة الشارع ، ولا تنقلب الى يد عدوانية بمجرّد قصد الرجوع إلى العين الموجودة.

نعم إن أمكن جعل إرادة الرجوع من موجبات الضمان استند إليها لا إلى اليد. لكن ليس رجوع من تلف عنده المال ولا إرادة رجوعه من موجبات الضمان ، سواء أكانا منضمّين إلى اليد أم لا. فالموجب لاشتغال العهدة بمال الغير هو الاستيلاء عليه بغير إذن من مالكه أو من الشارع ، والمفروض في المقام كون يد كلّ واحد من المتعاطيين أمانية خارجة موضوعا عن حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

وبهذا ظهر إشكال المصنف قدس‌سره على صاحب المستند ، حيث فصّل بين إرادة الرجوع وعدمها ، كما أنّه حكم في آخر كلامه باشتغال ذمة من تلف عنده المال ، وجواز رجوعه لاسترداد ماله ، مستدلّا عليه بقاعدتي السلطنة واليد.

وبعد بطلان هذا التوهم يظهر استقرار المعارضة بين استصحاب السلطنة وأصالة البراءة عن بدل التالف ، ولا يبقى وجه لبقاء الإباحة بعد تلف إحدى العينين كما زعمه بعض المشايخ.

(١) خبر «والتمسك» ودفع للتوهم ، وقد تقدم توضيح التوهّم والدفع آنفا.

(٢) لكونها مقرونة بإذن الشارع ، فلا موجب للضمان.

٢٠١

يد ضمان (*) ، بل ولا بعده إذا بنى (١) مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة ، ولم يرد الرّجوع. إنّما الكلام في الضمان إذا أراد الرجوع ، وليس (٢) هذا من مقتضى اليد قطعا (**) ، هذا.

______________________________________________________

(١) يعني : وكذا لا تكون يد من تلف عنده المال مضمّنة إذا قصد استرداد عينه الموجودة عند الطرف الآخر. والوجه فيه واضح ، فإنّ اليد الأمانية لا تختلف حالها بين بقاء العين وتلفها.

والإتيان ب «بل» الإضرابية لأجل كون عدم الضمان ـ عند بناء مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة وإلزامها ـ أوضح وجها مما إذا كان قاصدا للرجوع إلى عينه الموجودة.

(٢) يعني : وليس الضمان ـ عند قصد الرجوع إلى العين الموجودة ـ مسبّبا عن اليد ، لأنّها قبل التلف أمانية ، وبعد التلف لا يد حتى يحكم بالضمان. ومجرّد إرادة الرجوع لا تؤثّر في انقلاب تلك اليد ـ قبل التلف ـ من الأمانية إلى العدوانية.

هذا تمام الكلام في المطلب الثاني وهو إشكال المصنف على بعض مشايخه.

__________________

(*) لا يقال : إنّ نفي الضمان هنا ينافي قوله بعد أسطر : «مع أن ضمان التالف ببدله معلوم» كما ينافي فرض الشك في اشتغال الذمة بالبدل ، حيث جعله مجرى أصالة البراءة. ومن المعلوم أنّ نفي الضمان والعلم به والشك فيه أمور متهافتة.

فإنّه يقال : إنّ المنفي هنا هو الضمان اليدي ، ولا ينافيه اشتغال الذمة لموجب آخر كإقدام كل واحد من المتعاطيين على تسليط الآخر مضمونا بعوضه لا مجّانا ، ومن المعلوم أنّ نفي الضمان من جهة لا ينافي إثباته من جهة أخرى ، فتأمّل.

(**) إلّا أن يقال : إنّ الضمان مقتضى اليد ، لكن بشرط الرجوع ، جمعا بين عموم «على اليد» والإجماع على عدم جواز رجوع صاحب العين الموجودة إلى ماله بلا بدل.

٢٠٢

ولكن (١) يمكن أن يقال : إنّ أصالة بقاء السلطنة حاكمة (٢) (*) على أصالة عدم الضمان بالمثل أو القيمة.

______________________________________________________

(١) استدراك على معارضة أصالتي السلطنة والبراءة. وهذا شروع في المطلب الثالث ممّا أفاده في الصورة الثانية والثالثة بناء على الإباحة. فغرضه قدس‌سره من قوله : «ولكن يمكن أن يقال» تأييد ما استوجهه بعض المشايخ من بقاء الإباحة وضمان صاحب العين الباقية ـ لبدل التالفة ـ بوجوه ثلاثة ، سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

(٢) هذا هو الوجه الأوّل ، ومحصله : منع المعارضة بين أصالة البراءة عن الضمان ، وسلطنة مالك العين الموجودة على إرجاع ماله إلى نفسه ، الموجبة لسقوط أصالة السلطنة المقتضية لجواز المعاطاة.

وجه عدم المعارضة هو حكومة أصالة بقاء السلطنة على أصالة البراءة عن الضمان ، تقريبه : أنّ الشك في ضمان المثل وعدمه مسبّب عن الشك في بقاء سلطنة مالك العين الموجودة وعدم بقائها ، ومن المعلوم حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، فلا تجري أصالة عدم الضمان مع جريان أصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة حتى تتعارضا.

__________________

(*) في الحكومة منع ، لعدم التسبب شرعا ، ضرورة أنّ الضمان ليس من آثار السلطنة شرعا حتى تكون قاعدة السلطنة مثبتة له ، بل أثر السلطنة هو مجرّد جواز الرجوع إلى العين. وأمّا الضمان فليس أثرا شرعيا للسلطنة ، بل هما متلازمان ، ولا معنى لتقدم الأصل الجاري في أحد المتلازمين على أصل الآخر.

وقد يقرّب الحكومة بوجه آخر ، وهو : أنّ الاستصحاب حاكم على البراءة ، لكونه أصلا تنزيليّا دونها ، فإذا جرى في طرف لا تجري البراءة في الطرف الآخر. وقد نسب ذلك إلى جمع من المحققين ، فيجري استصحاب السلطنة ، دون أصالة البراءة ، هذا.

لكن فيه منع ظاهر ، لأنّ حديث الحكومة إنّما هو فيما إذا اتّحد المجرى حتى

٢٠٣

مع (١) أنّ ضمان التالف ببدله معلوم ، إلّا أنّ الكلام في أنّ البدل هو البدل الحقيقي ـ أعني المثل أو القيمة ـ أو البدل الجعلي أعني العين الموجودة ،

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثاني لعدم جريان أصالة البراءة عن الضمان ، وسلامة أصالة السلطنة من المعارض. وحاصل هذا الوجه : أنّ العلم الإجمالي بالضمان ـ على أحد النحوين من الضمان الواقعي والجعلي ـ يمنع عن جريان أصالة البراءة ، فتبقى أصالة بقاء السلطنة بلا معارض.

__________________

يكون إحراز الواقع بالأصل المحرز مغنيا عن إجراء الأصل غير المحرز فيه ، كما إذا كان ماء مشكوك الطهارة والنجاسة مع العلم بطهارته سابقا ، فإنّ الجاري فيه هو استصحاب الطهارة لا قاعدتها ، لحكومة الأوّل عليها.

وأمّا إذا تعدّد المجرى كما إذا علم إجمالا بملاقاة نجاسة لماء أو بوليّة مائع آخر ، فإنّه لا يقال بحكومة أصالة عدم وقوع النجاسة في الماء على قاعدة الطهارة في ذلك المائع ، بل استصحاب عدم وقوع النجاسة يعارض قاعدة الطهارة ، فيتساقطان ، ويرجع إلى ما يقتضيه قاعدة تنجيز العلم الإجمالي من وجوب الاجتناب عن كليهما. ففي المقام يقع التعارض بين قاعدة السلطنة وبين أصالة البراءة عن الضمان.

كما ظهر بما ذكرنا : أنّه لا يلزم حمل أصالة البراءة على استصحاب عدم الضمان حتى تقع المعارضة بين الاستصحابين كما في حاشية المحقق الايرواني وغيره ، بدعوى : «أنّ أصل البراءة بمعناها المعروف أصل حكمي محكوم بالاستصحاب ، فلا يتوقّع من المصنف فرض المعارضة بينهما ، فلا بدّ من حملها على استصحاب براءة الذمة» (١) ، هذا.

وجه عدم اللزوم ما عرفت من أن حديث الحكومة منوط بوحدة المورد ، فلا مجال له مع تعدّده كما في المقام ، فلاحظ.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٧

٢٠٤

فلا أصل (١) (*) هذا.

______________________________________________________

(١) يعني : فلا أصل في المقام يعارض أصالة بقاء السلطنة ، إذ مع العلم الإجمالي بالضمان المردّد بين المسمّى والواقعي لا يجري أصل عدم الضمان. فأصالة البراءة منقطعة بالعلم بالضمان في الجملة ، والشك إنّما هو في تعيين البدل من الجعلي والواقعي ، ولا أصل يعيّن أحدهما.

__________________

(*) عدم جريان أصالة البراءة عن ضمان البدل إمّا لقصور المقتضي وإمّا لوجود المانع.

وتقريب الأوّل : أنّ الأصل العملي متقوّم بالشك ، فمع العلم بأصل الضمان لم يبق احتمال البراءة عنه حتى يتحقق موضوع أصل البراءة.

وتقريب الثاني : أنّ العلم الإجمالي بضمان المسمّى أو الواقعي موجود. وحيث إنّ كلّا من الخصوصيتين مشكوكة كان موضوع الأصل النافي للتكليف محقّقا ، وتصل النوبة إلى معارضة أصالة البراءة عن ضمان البدل الواقعي بأصالة البراءة عن ضمان المسمّى ، وبسقوطهما بالمعارضة يبقى استصحاب سلطنة المالك سليما عن معارضته بأصالة البراءة عن ضمان البدل.

ويمكن استظهار التقريب الأوّل من قوله : «مع ان ضمان التالف ببدله معلوم» يعني : فلا مقتضي لأصل البراءة.

ويمكن استفادة الثاني من قوله : «إلّا أن الكلام في أنّ البدل هو البدل الحقيقي أو البدل الجعلي ..» لظهوره في معارضة الأصل الجاري في كلّ من خصوصيتي المسمّى والواقعي. ولعلّ هذا أوفق بمبنى المصنف في اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز وعدم علّيته له ، وتوقف منجزيته على تعارض الأصول في الأطراف ، كما استفاده بعض المحققين من الرسائل.

٢٠٥

مضافا إلى ما قد يقال (١) من : أن عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» يدلّ على السلطنة على المال الموجود بأخذه ، وعلى المال التالف بأخذ بدله الحقيقي ، وهو المثل أو القيمة ، فتدبّر (٢) (*).

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثالث للحكم ببقاء الإباحة إذا تلفت إحدى العينين ، ومحصّله : أنّه نتمسك بعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» الدال على سلطنة المالك على ماله ، فإن كان موجودا فهو مسلّط على أخذه ، وإن كان تالفا فهو مسلّط على بدله الحقيقي ـ من المثل أو القيمة ـ فيثبت به جواز الرجوع. ومن المعلوم أنّه مع وجود الدليل الاجتهادي لا تصل النوبة إلى التمسّك بأصالة بقاء السلطنة حتى يناقش فيها بالمعارضة ، ولا بأصالة براءة الذمة ، هذا.

وقد أورد على المصنف قدس‌سره بوجوه مذكورة في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره ، فراجع (١).

وكيف كان فالمصنف عدل إلى ما استوجهه بعض مشايخه من عدم لزوم المعاطاة في صورة تلف إحدى العينين أو بعض إحداهما بناء على الإباحة.

(٢) لعلّه إشارة إلى : أنّ شمول قاعدة السلطنة للمال التالف ممنوع ، ولذا لم يستدلّ بها أحد على الضمان في الموارد التي تمسّك فيها على الضمان بقاعدتي اليد والإتلاف. هذا تمام الكلام في الملزم الأوّل وهو التلف ، وقد ذكر له صورا ثلاثا ، ولم يذكر الصورة الرابعة ، وهي تلف بعض كلا العوضين ، ويظهر حكمها من الصورة الثانية والثالثة.

__________________

(*) اعلم أنّ التلف الذي جعلوه ملزما للمعاطاة يتصوّر على وجوه ، لأنّ التالف تارة يكون تمام العوضين كما هو مفروض المتن ، وأخرى يكون بعضهما ، وثالثة يكون تمام أحدهما ، ورابعة يكون بعض أحدهما ، فالصور أربع. وعلى التقادير تارة يتكلم بناء على إفادة المعاطاة الإباحة ، وأخرى بناء على إفادتها الملك.

أمّا الصورة الأولى : ـ وهي كون التالف تمام العوضين ـ مع إفادة المعاطاة للإباحة

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٠٧

٢٠٦

.................................................................................................

__________________

فملخص الكلام فيها هو : أنّه بناء على إفادة المعاطاة المقصود بها التمليك للإباحة أو الملك ـ على الخلاف ـ يكون التلف ملزما ، لما عرفت من تسالمهم عليه.

أمّا على الأوّل فلعدم ما يوجب الضمان الذي هو سبب جواز الرجوع ، وذلك لأنّ موجب الضمان لا يتصور هنا إلّا اليد ، وهي لا توجبه ، لأنّ اليد هنا أمانيّة ، لإذن الشارع في التصرفات ، فلا تشملها قاعدة اليد تخصيصا أو تخصّصا ، فكل واحد من المالين قد تلف من مال مالكه. وعلى فرض الشك في الضمان فمقتضى أصالة البراءة عدمه ، هذا.

ثم إنّه قيل بكون لزوم المعاطاة عندهم بالتلف على القول بالإباحة راجعا إلى صيرورتها معاوضة بين العينين ، ولمّا لم يكن التالف قابلا للمعاوضة عليه فلا بد من حمل كلامهم على إرادة المعاوضة قبل التلف آنا ما ليقع تلف كل واحد من المالين في ملك من انتقل إليه ، لا من انتقل عنه هذا.

لكنه لا وجه للالتزام بذلك ، فإنّ ظواهر كلماتهم هي لزوم الإباحة ، لا صيرورة المعاطاة موجبة للملك اللازم بسبب التلف ، ولا يقتضي الجمع بين الأدلة الالتزام بمملّكيتها بالتلف ، إذ لا دليل إلّا أصالة بقاء المالين على ملك مالكيهما ، والإجماع على إباحة التصرف ، وهما لا يقتضيان الملك آنا ما. وأمّا دليل اليد فلا يجري هنا ، لكون اليد أمانيّة ، فتدبّر.

وأمّا على الثاني ـ وهو كون المعاطاة المقصود بها التمليك مفيدة للملك ـ فلأنّ أصالة اللزوم المستفادة من عمومات اللزوم تقتضي اللزوم ، إذ المخصص لبّي ، والمتيقن منه هو الجواز المتعلّق بترادّ العينين المتوقف على بقائهما ، فبتلفهما ينتفي موضوع الجواز. وقد قرر في محله أنّ المرجع عند الشك في المخصّص المجمل هو أصالة العموم فيما عدا المتيقن من الخاص ، لكون الشك حينئذ في التخصيص الزائد. ولا مجال لاستصحاب حكم الخاص بعد دلالة العام على اللزوم في كل زمان ، وكون المتيقّن خروجه هو خصوص الزمان الأوّل.

٢٠٧

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : مع وجود العموم لا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

إنّما الكلام كله في كون الجواز بالمعنى الّذي ذكره المصنف قدس‌سره من أنّه بمعنى التملّك بالأخذ لا بعنوان الفسخ ، حيث إنّ الجواز بالمعنى المزبور قائم بالعينين دون العقد ، مع أنّ اللزوم والجواز قائمان بالعقد. فكما يكون اللزوم قائما بالعقد على ما هو ظاهر مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فكذلك الجواز الذي ينافيه ، إذ الجواز ـ بمعنى الأخذ الموجب للتملّك ـ ينافي قاعدة سلطنة المالك على ماله ، لا أصالة لزوم العقد ، فلا وجه للتمسك لنفيه بأصالة اللزوم ، هذا.

مضافا إلى : أنّ إرادة الجواز بمعنى التملك بالأخذ ـ لا بعنوان الفسخ ـ غير ظاهر ، بل خلاف المقطوع به في كلماتهم ، حيث إنّهم عبّروا بفسخ المعاوضة فلاحظ التحرير ، إذ لا ينبغي الارتياب في أنّ مرادهم بالجواز ما يقابل اللزوم ، ومرادهم بالرجوع الرجوع الاعتباري الإنشائي وهو الفسخ ، لا الرجوع والتراد الخارجي ، ولم يعرف القول بالجواز بالمعنى المذكور لأحد من أصحابنا لا فيما نحن فيه ولا في الهبة ، وإنّما نسب ذلك إلى بعض الشافعية في الهبة. لكنه لا تنهض عليه أدلّته وإن احتمله في الجواهر.

وإن شكّ في معنى الجواز وأنّه في المقام بمعنى انحلال العقد بالفسخ أو بمعنى التملّك بالأخذ والرجوع ، فلا دليل على تعيّن أحدهما ، لاستلزام حمله على كلّ من المعنيين تخصيص أحد العامّين أعني عموم قاعدة السلطنة ، وقاعدة لزوم العقد. ومع العلم الإجمالي بتخصيص إحداهما يسقط العامّان معا عن الحجية ، فالمرجع حينئذ أصالة عدم ترتب الأثر على كل من الفسخ والتملك بالأخذ إلّا إذا وقعا معا ، إذ يعلم حينئذ بترتب الأثر ، هذا.

لكن قد عرفت أنّه لا تصل النوبة إلى الشك ، إذ المراد بالجواز الذي يكون مورد الإجماع هو المعنى الأوّل أعني به انحلال العقد بالفسخ ، لأنّه المقابل لأصالة لزوم العقد

٢٠٨

.................................................................................................

__________________

دون التملّك بالأخذ الذي هو مقابل قاعدة سلطنة المالك على ماله ، هذا.

ثم إنّ الظاهر كون الجواز في المعاطاة حكما لا حقّا ، لأنّه مقتضى حصر الملزمات في التلف وغيره مما سيأتي إن شاء الله تعالى ، إذ لو كان إسقاط المتعاطيين أو أحدهما للجواز مسقطا وملزما لعدّوه من الملزمات كما لا يخفى.

مضافا إلى : أنّ مقابلته للزوم العقد تقتضي كون الجواز حكما كاللزوم ، ضرورة أنّه من أحكام العقود التي جعلها الشارع ، فكأنّه قيل : «العقد لازم أو جائز» بعد ضمّ المخصّص إلى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هذا.

وأمّا الصورة الثانية : ـ وهي تلف إحدى العينين مع إفادة المعاطاة للملك ـ فقد تقدم حكمها في الصورة الاولى من أنّ مقتضى أصالة اللزوم هو لزوم المعاطاة بتلف إحدى العينين ، لامتناع التّراد معه ، والمفروض أنّ معقد الإجماع على الجواز هو إمكان التّراد ، فمع امتناعه يتمسّك بعموم دليل اللزوم ، هذا.

وأمّا مع إفادة المعاطاة للإباحة ، فيمكن أن يقال بعدم اللزوم ، لعدم كون المعاطاة المفيدة للإباحة عقدا حتى يشمله (أَوْفُوا) ويقال : إنّ الأصل في كل عقد هو اللزوم إلّا ما خرج وهو المعاطاة قبل تلف إحدى العينين دون ما بعده ، للزومها حينئذ بمقتضى عموم وجوب الوفاء بالعقود. بل لا بدّ من التشبث بقاعدة سلطنة الناس على أموالهم ، إذ المفروض مجرّد إباحة تصرّف كلّ من المتعاطيين في مال الآخر. ومن المعلوم أنّ قضية إطلاق قاعدة السلطنة جواز رجوع مالك العين الموجودة إلى ماله بلا شرط ، فقاعدة السلطنة توجب جواز المعاطاة وعدم لزومها بتلف إحدى العينين ، فيجوز لصاحب العين الموجودة الرجوع إلى ماله بلا بدل للتالف ، هذا.

لكن الإجماع المدّعى على التلازم بين جواز رجوع مالك العين الباقية وجواز رجوع مالك العين التالفة ببدلها يقيّد إطلاق السلطنة ، فيجوز لمالك العين الباقية الرجوع إليها بشرط أداء بدل التالف كما لا يخفى.

٢٠٩

.................................................................................................

__________________

وتحرير البحث : أنّ الإباحة إذا كانت مالكيّة ـ بأن أباح كلّ منهما ماله لصاحبه ، وتلفت إحدى العينين ـ أمكن إجراء قاعدة السلطنة ، لجواز أخذ العين الموجودة لمالكها مع الضمان. أمّا جواز الرجوع فلأنّ المفروض بقاء العين الموجودة على ملك مالكها ، ومقتضى سلطنة المالك على ماله جواز رجوعه إليه. وأمّا ضمان مالك العين الموجودة لبدل التالف فلأنّ مالكه لم يبح التصرف لصاحب العين الموجودة مجّانا بل بالعوض.

وأمّا كون الضمان بالعوض الجعلي وإن كان مغايرا للبدل الواقعي جنسا أو وصفا فلتراضيهما على ذلك كتراضي الدائن والمديون على الوفاء بغير الجنس.

وبالجملة : فلا بأس بالتمسك بقاعدة السلطنة في الإباحة المالكية.

وأمّا إذا كانت الإباحة شرعية كما إذا قصد المتعاطيان التمليك ولم يمضه الشارع لكن حكم بالإباحة ، فإنّ الإباحة حينئذ شرعية لا مالكيّة ، إذ المفروض عدم قصدهما للإباحة ، وإنّما الحاكم بها هو الشارع ، فيشكل التمسّك حينئذ بقاعدة السلطنة ، لأنّ لازمها تغيير الحكم الشرعيّ ، وهي لا تصلح لذلك ، فإنّ الإباحة الشرعية ثبتت على خلاف سلطنة المالك ، فلا ينهض دليل السلطنة على تغيير هذا الحكم الشرعي ، بل هذه الإباحة ثبتت في موضوع عدم رضا المالك بالتصرف ، لأنّه قصد الملك ولم يحصل ، والمفروض عدم جواز التصرف في العقود الفاسدة.

فالمتحصل : عدم جواز التمسك بقاعدة السلطنة لرفع الإباحة الشرعية.

نعم لا بأس بالتشبث بها لإثبات جواز التصرف في العين بنقل ونحوه من التصرفات غير المنافية لبقاء الإباحة التعبدية ما دامت العين باقية ، نظير بيع العين المستأجرة غير المنافي لبقاء حق المستأجر في المنفعة. وعليه فإذا شكّ في ارتفاع الإباحة الشرعية بتلف إحدى العينين أو برجوع المالك فيرجع إلى أصالة بقاء العقد ، بل مقتضى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ذلك. إلّا أن يخدش في صدق العقد العرفي على هذه المعاطاة المقصود بها التمليك المفيدة للإباحة شرعا ، فيرجع حينئذ إلى استصحاب الإباحة الشرعية ، ولازم ذلك بقاء حكم الشارع بالإباحة.

٢١٠

.................................................................................................

__________________

هذا بناء على بقاء المعاطاة على الإباحة وعدم صيرورتها مملّكة بعد تلف إحدى العينين كما عليه جماعة منهم سيدنا الخويي قدس‌سره.

وأمّا بناء على صيرورتها بعد التلف بيعا فلا إشكال في اللزوم ، لعموم وجوب الوفاء بالعقود ، هذا.

وأمّا الصورة الثالثة : ـ وهي تلف بعض إحدى العينين ـ فعن المحقق الثاني لزومها ، قال في جامع المقاصد : «فيجوز التراد ما دام ممكنا ، فمع تلف إحدى العينين يمتنع التراد ، فيتحقق اللزوم ، لأنّ إحداهما في مقابل الأخرى. ويكفي تلف بعض إحدى العينين ، لامتناع الترادّ في الباقي ، إذ هو موجب لتبعّض الصفقة ، وللضرر ، ولأنّ المطلوب هو كون إحداهما في مقابل الأخرى» (١).

وحكي مثله عن صيغ العقود وتعليق الإرشاد (٢).

وفي الروضة في شرح قول الشهيد قدس‌سره : «ويجوز الرجوع فيها مع بقاء العين» ما نصّه : «ويفهم من جواز الرجوع مع بقاء العين عدمه مع ذهابها. وهو كذلك ، ويصدق بتلف العينين وإحداهما وبعض كل واحدة منهما .. إلخ» (٣).

وقطع بذلك بعض الأساطين رحمه‌الله في شرح القواعد.

وقد عرفت من عبارة جامع المقاصد المتقدمة أنّ مناط اللزوم هو امتناع التراد المتحقق بتلف كلتا العينين أو إحداهما أو بعضهما.

وقد جعل كاشف الغطاء في شرح القواعد الجواز مشروطا بإمكان الرّد ، وبالخلوّ عن الضرر المنفي ، واستند في ذلك إلى السيرة القطعية. قال رحمه‌الله : «إنّا نعلم من تتبع كلمات القوم والنظر إلى السيرة القاطعة أنّ الجواز مشروط بإمكان الرد ، وبالخلوّ عن

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٨

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٧

(٣) الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٣

٢١١

.................................................................................................

__________________

الضرر المنفي بحديث الضرر ، فلو تلف كل أو بعض منه أو من فوائده بتصرف العين أو منفعة أو ركوب أو سكنى أو حرث أو دخول في عمل ونحوها أو بيع أو إجارة أو زراعة أو مساقاة ونحوها على وجه لا يمكن فسخها شرعا أو بإتلاف أو تلف سماوي تعذّر الرّد ولم يتحقق مصداقه ، ولو صدق في البعض امتنع أيضا. ومع حصول الضرر بالتبعيض وتغيير الصورة بطحن أو تفصيل أو خياطة أو صبغ ونحوها ، أو دخل تحت الرد جاء به ثبوت الضرر غالبا بتبديل الأوصاف واختلاف الرّغبات. نعم لو بقي الشي‌ء على حاله أو زاده حسنا بصيقل أو إخراج غبار أو إزالة وسخ ونحوها لم يكن فيه ذلك».

وأنت خبير بأنّ إناطة الجواز بالضرر لا تخلو من النظر ، لأنّ الضرر يوجب الخيار ، ولا يكون سببا للّزوم ، وكذا تبعض الصفقة ، فإنّه يقتضي الخيار دون اللزوم.

وكيف كان فعلى القول بإفادة المعاطاة للملك تجري أصالة اللزوم ، لعين ما تقدم في تلف العينين وإحداهما من عدم إمكان التراد.

وعلى القول بالإباحة المالكية تجري قاعدة السلطنة المقتضية لبقاء الجواز إلى زمان تلف بعض إحدى العينين. وعلى القول بالإباحة الشرعية لا تجري قاعدة السلطنة ، لما تقدم آنفا ، بل يجري استصحاب الإباحة.

وأمّا الصورة الرابعة ـ وهي تلف بعض العينين ـ فحكمها بناء على الملك هو اللزوم وارتفاع موضوع الجواز وهو إمكان ترادّ العينين. وبناء على الإباحة الشرعية كذلك أيضا ، لعدم جريان قاعدة السلطنة فيها المقتضية للجواز ، بل مقتضى استصحاب الإباحة هو لزومها.

وبناء على الإباحة المالكية هو الجواز ، لقاعدة «سلطنة الناس على أموالهم» المقتضية للجواز ، فلا مانع من التراد بالنسبة إلى ما بقي من العينين.

وتوهّم جريان قاعدة السلطنة في الإباحة الشرعية أيضا فاسد ، لما مرّ آنفا من محكومية القاعدة بدليل الإباحة كما لا يخفى.

٢١٢

ولو كان (١) أحد العوضين دينا في ذمّة أحد المتعاطيين ، فعلى القول بالملك

______________________________________________________

الملزم الثاني : كون أحد العوضين دينا

(١) بعد أن فرغ المصنف قدس‌سره من بيان صور أوّل ملزمات المعاطاة وهو التلف ـ بناء على كلّ من الملك والإباحة ـ تعرّض لملزم آخر ملحق بتلف إحدى العينين ، وهو كون أحد العوضين دينا في ذمة أحد المتعاطيين.

وقبل توضيحه نقول : لا ريب ـ بمقتضى الإجماع ـ في صحة بيع الدين ممّن هو عليه حتى بناء على إناطة البيع بتمليك كل واحد منهما ماله للآخر على ما صرّح به المصنف في أوّل البيع بقوله : «لأن البيع تمليك الغير» يعني أنّه تمليك من الطرفين كما أوضحناه هناك ، مثلا لو كان زيد مديونا لعمرو منّا من الحنطة ، صحّ بيعها من زيد بدينار ، فيتملّك عمرو الدينار ، ويتملك زيد تلك الحنطة الذمية الكلية آنا ما ، ويترتب على هذا التملّك فراغ ذمّته عن ذلك الدّين ، وقد عبّر المصنف عنه هناك بقوله : «لا مانع من كونه تمليكا فيسقط».

أمّا أنّه يتملك المديون لما في ذمة نفسه آنا ما فلأجل رعاية ماهية البيع المنوطة بحصول المبادلة في الملكية. وأمّا أنّه يسقط الدين عن ذمة المديون بمجرّد البيع ، فلأنّ الملكية الاعتبارية تدور مدار مصحّح الاعتبار عرفا ، ومن المعلوم أنّ العرف لا يعتبر تملّك الإنسان لما في عهدته إلى الأبد ، فالجمع بين الأمرين المتقدمين يقتضي الالتزام بكفاية التملك حدوثا ، وسقوطه بقاء ، هذا ما أفاده هناك.

وعليه نقول في توضيح المتن : أنّه إذا كان زيد مديونا لعمرو دينارا ، ثم اشترى عمرو منه كتابا بذلك الدينار الذي يستحقّه في ذمة زيد ، انتقل الدينار إلى ملك زيد آنا ما ، ويترتب عليه فراغ ذمته عمّا اشتغلت به لعمرو. وتصير المعاطاة لازمة من أوّل تحققها ، لعدم بقاء العوضين على حالهما كما كانا حتى يتحقق التّرادّ الذي هو موضوع الجواز ، لأنّ الدينار الكلّي قد سقط عن ذمة زيد ، والسقوط وإن لم يكن تلفا

٢١٣

يملكه من في ذمّته ، فيسقط عنه (١).

______________________________________________________

حقيقة ، لاختصاص التلف بالموجود الخارجي الذي يعرضه البوار والفناء ، إلّا أنّه بحكم التلف ، من جهة امتناع عود الساقط إلى الملك ، وذلك لأمرين مسلّمين :

أحدهما : أنّ الذمة لا وجود لها بنفسها ، بل تتشخّص بأطرافها من المالك والمملوك والمملوك عليه ، فيقال : إنّ ذمّة زيد مشغولة بمنّ من الحنطة لعمرو ، ولو لا فرض المالك والمملوك لا وجود في وعاء الاعتبار لذمة زيد. وعليه فإذا سقط شخص ما في الذمة ـ كما هو المفروض في بيع الدين ممن هو عليه ـ استحال عود شخص الساقط ، لاستلزام عوده تخلّل العدم في شخص واحد ، وهو محال ، كاستحالة إعادة المعدوم.

ثانيهما : أنّه إذا سقط شخص ما في الذمة استحال فرض بقاء ما في الذمة اعتبارا حتى يمكن اشتغال العهدة بمثل ذلك الساقط. وجه الاستحالة : أنّ الإنسان كما لا يملك شخص ما في ذمته ـ كما هو مبنى المصنف من السقوط بمجرد التملّك ـ فكذلك لا يملك مثل ما في ذمته ، فلو قلنا بعود الساقط وبقاء ما في الذمة لزم اجتماع اعتبارين متنافيين ، أحدهما : اعتبار سقوط ما في الذمة ، والآخر : اعتبار بقاء ما في الذمة أي عدم السقوط ، ومن المعلوم استحالة اجتماع هذين الاعتبارين ، هذا ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره تعليلا لاستحالة عود الساقط بتوضيح منّا (١).

وعليه نقول : بأنّه لا وجه للرجوع إلى العوض الموجود وهو الكتاب ، ودفع بدله إلى عمرو. بل المعاطاة لازمة من أوّل الأمر ، إذ لو جاز لزم عود الدينار الساقط عن ذمة زيد إلى ذمّته مرّة أخرى ، وقد عرفت استحالته.

(١) هذا الضمير وضمير «ذمته» راجعان إلى «من» الموصولة المراد به المديون.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٥٥

٢١٤

والظاهر أنّه في حكم التلف (١) ، لأنّ (٢) الساقط لا يعود (*). ويحتمل (٣) العود ، وهو ضعيف (٤).

______________________________________________________

(١) يعني : فتكون المعاطاة لازمة حينئذ من أوّل الأمر ، لأنّ التلف ـ وما بحكمه ـ كما يكون ملزما للمعاطاة بقاء كذلك يكون ملزما لها حدوثا.

(٢) يعني : بعد أن كان سقوط ما في الذمة بمنزلة التلف فلا وجه لجواز الرجوع ، لأنّ أحد العوضين قد صار بمنزلة التلف الذي لا يعود ، فلا وجه للرجوع الذي موضوعه تراد العينين المفقود هنا بعد كون سقوط ما في الذمة بمنزلة التلف.

(٣) لعل منشأ احتماله ـ كما قيل ـ هو عدم كونه من إعادة المعدوم حتى يستحيل العود ، وذلك لأنّ الذمة أمر باق ، ولذا ينسب إليها الفراغ والخلوّ والاشتغال. وطبيعيّ المنّ من الحنطة مثلا كغيرها من الطبائع لا تلف لها ولا سقوط إلّا بالإضافة إلى دخولها في الذمة وخروجها عنها ، فدخولها فيها وخروجها عنها لا يغيّر الذمة ولا فيما فيها ، فلا يندرج ما في الذمة تحت عنوان إعادة المعدوم حتى يستحيل العود ، هذا.

(٤) وجه الضعف هو : أنّ المقام مندرج في إعادة المعدوم ، وذلك لأنّه لا معنى للذّمة المطلقة ، حيث إنّها ليست من الظروف والأوعية ، بل هي نحو ثبوت الشي‌ء اعتبارا ، فالذمة تتشخّص بأطرافها ، وهي من له ومن عليه وما فيها ، فعودها يكون من إعادة المعدوم. ومع الشك يستصحب عدم العود ، لأنّه قبل الرجوع كان ملكا لمن انتقل إليه ، والأصل عدم عوده بالرجوع.

__________________

(*) هذا التعليل عليل ، لأنّ الموجب لذهاب الحق هو تلف موضوعه المفروض تحققه بسقوط ما في الذمة ، فلا معنى لجواز الرجوع بعد ارتفاع موضوعه وإن فرض عوده ، لأنّ سقوط الحق قد حصل بذهاب الموضوع ، والمعاد وجود آخر غير الوجود الذي كان موضوعا للحق ، فجواز الرجوع حينئذ حق جديد لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه ، إذ الوجود الثاني غير مورد المعاطاة المتحققة سابقا.

٢١٥

.................................................................................................

__________________

لا يقال : إنّ الخيار بعد تلف إحدى العينين في العقد الذي ثبت فيه الخيار باق على حاله ، فليكن الأمر في المقام كذلك.

فإنّه يقال : إنّ الخيار يتعلق بالعقد الذي هو باق بعد تلف العينين فضلا عن تلف إحداهما. بخلاف الجواز في المعاطاة ، فإنّ متعلّقه وإن كان هو العقد أيضا ، إلّا أنّه مقيّد بإمكان تراد العينين الذي هو مفقود هنا ، لما عرفت آنفا من أنّ السقوط بمنزلة التلف.

هذا بناء على السقوط كما أفاده المصنف قدس‌سره. وأمّا بناء على عدم السقوط وكون انتقال ما في الذمة إلى نفس من عليه المال موجبا لتبدل الملكية الاعتبارية بالتكوينية كما التزم به سيدنا الخويي قدس‌سره (١) فالجواز باق على حاله وإن قلنا بكون متعلّق الجواز تراد العينين ، لوضوح بقاء ما في الذمة على حاله وتبدّل ملكيّاته الاعتبارية بالذاتية التكوينية.

إلّا أن يقال : إنّ الموضوع للجواز هو الملكية الاعتبارية المفروض زوالها ، وقيام الملكية الذاتية مقامها ، فيكون ما في الذمة كالتالف في لزوم المعاطاة وإن لم يكن من التالف حقيقة ، فعدم جواز الرجوع مستند إلى تبدل الموضوع ، لأنّ الموجود التكويني غير الاعتباري ، ومن المعلوم أنّ موضوع الجواز هو الثاني الزائل قطعا ، دون الأوّل الموجود فعلا.

لكن أصل تصوير تبدّل الملكية الاعتبارية في بيع الدين بالذاتية لا يخلو من خفاء ، لاستحالة انقلاب المنشأ الاعتباري إلى التكويني ، وأمّا الملكية الذاتية فهي غير قابلة للإنشاء ، وليست مورد البحث في باب البيع الذي هو تبديل ملكية اعتبارية بمثلها ، وقد سبق الإشارة إلى هذا البحث في الجزء الأوّل من هذا الشرح ، فراجع (٢).

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٢٠٧

(٢) هدى الطالب ، ج ١ ، ص ١٠٦ و١٠٧

٢١٦

والظاهر أنّ الحكم كذلك (١) على القول بالإباحة ، فافهم (٢).

ولو نقل (٣) العينين (*) أو إحداهما

______________________________________________________

(١) أي : كون السقوط في حكم التلف في صيرورة المعاطاة لازمة بناء على الإباحة ، فإنّ ظاهره لزوم المعاطاة على القول بالإباحة. لكنّه ليس كذلك ، لأنّ إفادة الإباحة للسقوط لا توجب صيرورة السقوط أعظم من التلف الحقيقي. مع أنّه لا لزوم عنده قدس‌سره على القول بالإباحة في صورة التلف الحقيقي ، لكون أصالة السلطنة جارية في طرف العين الباقية ، والرجوع بالبدل الواقعي في طرف العين التالفة ، فكيف بما هو في حكم التلف؟

بل غرضه أنّه لا معنى لإباحة الدين إلّا سقوطه ، إذ مرجع الإباحة إلى الإبراء والإسقاط ، نظير قوله : «أنت في حلّ ممّا لي عليك» فتأمّل.

(٢) لعلّه إشارة إلى عدم صحة إباحة الدّين ، إذ لا ينتفع به إلّا ببيعه أو جعله ثمنا وعوضا في المعاوضات ، أو احتسابه زكاة ونحوها. وهذه التصرفات يشكل صحة إباحتها مع عدم دليل خاص على صحّتها كما في المقام ، فجريان المعاطاة في الدّين على القول بالإباحة ممنوع ، فلا مسرح للبحث عن لزوم المعاطاة وجوازها في الدّين على القول بالإباحة.

الملزم الثالث : نقل العينين أو إحداهما بعقد لازم أو جائز

(٣) هذا شروع في بيان ثالث ملزمات المعاطاة ، وهو التصرف الاعتباري في كلا العوضين أو في أحدهما. وقد بسط المصنف قدس‌سره الكلام هنا بذكر شقوق عديدة وصور مختلفة ربما تنتهي إلى ثمانية كما سيأتي التنبيه على كلّ منها بتبع المتن إن شاء الله تعالى.

الصورة الأولى : أن ينتقل كلا العوضين عن المتعاطيين ـ أو ينتقل أحد

٢١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

العوضين عن أحدهما ـ بعقد لازم كالبيع والصلح من دون أن يتعقبه خيار ، أو يتعقّبه لكن لم يفسخ ذو الخيار. كما إذا تعاطى زيد وعمرو كتابا بدينار ، فاشترى زيد بالدينار شيئا من بكر ، وباع عمرو كتابه من خالد بإنشاء قولي حتى ينعقد لازما ، فيقع الكلام في أنّ هذا النقل اللازم ملزم لتلك المعاطاة بين زيد وعمرو أم لا؟ مع النظر إلى كلّ من القول بالملك المتزلزل والإباحة التعبدية.

وينبغي تقديم أمرين قبل توضيح كلام المصنف قدس‌سره.

الأوّل : أنّ جواز التراد في المعاطاة حكم كجواز الرجوع في العين الموهوبة ، وليس حقّا في العوضين حتى يمنع عن نقلهما إلى الغير ، ولا حقّا في حلّ العقد الواقع عليهما حتى يمنع عن لزومه. وعليه لا مانع شرعا من نقل العينين إلى غيرهما بالنواقل الشرعية.

الثاني : أنّ المراد بالنقل اللازم هنا هو اللزوم مطلقا حتى من جهة الخيار ، والقرينة على إرادة هذا المعنى هو جعل العقد الجائز ـ الشامل للجواز الحكمي والحقّي ـ عنوانا مستقلا كما سيأتي في المتن إن شاء الله تعالى. وعليه فالعقد اللازم هنا كالبيع بالصيغة مع إسقاط خيار المجلس فيه حتى ينعقد لازما ، والهبة إلى ذي رحم مع القبض ، ونحوهما.

ولا ينافي كون النقل لازما ثبوت جواز فسخه بعده ، كما هو الحال في الصورة الثانية. وجه عدم المنافاة : أنّ البيع اللازم يمكن فسخه بأمور :

منها : حدوث حقّ الخيار بعده ، كما إذا ظهر الغبن بعد المعاملة بزمان ، وقلنا بأنّه موجب لتزلزلها من حين ظهوره ، لا من حين العقد.

ومنها : الإقالة ، فإنّها توجب فسخ المعاملة اللازمة.

ومنها : غير ذلك.

٢١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا اتضح هذان الأمران قلنا في بيان الصورة الأولى : إنّ نقل العينين أو إحداهما بعقد لازم موجب للزوم المعاطاة ، لامتناع التراد سواء قلنا بالملك أم بالإباحة.

أمّا على الأوّل فلأنّ العينين وإن كانتا باقيتين بحالهما ولم تتلفا حتى تلزم المعاطاة من جهة التلف ، إلّا أنّ متعلّق جواز التراد هو العينان بوصف كونهما مملوكتين للمتعاطيين ، ولم يتعلّق بهما مطلقا حتى إذا خرجتا عن ملكهما ، فيكون تلف وصف العين ـ وهو المملوكية ـ كتلف نفسها. وعلى هذا فلكلا المتعاطيين السلطنة على إخراج المأخوذ بالمعاطاة عن ملكهما. ولا يمنع حكم الشارع بجواز التّراد عن هذه السلطنة ، لما تقدم من أنّ موضوع جواز التّراد هو العينان ، وليس من شأن الحكم حفظ موضوعه. فمقتضى إطلاق «الناس مسلّطون على أموالهم» سلطنة المتعاطيين على نقل العوضين إلى غيرهما.

وأمّا على الثاني ـ وهو الإباحة ـ فكذلك يجوز نقل المالين ، بناء على حكم الشارع بإباحة جميع التصرفات في المأخوذ بالمعاطاة ، سواء أكان التصرّف منوطا بالملك كالبيع والوقف والإيصاء ، أم غير منوط به كلبس الثوب واستخدام المملوك.

وعليه يصح النقل اللازم ، لدخول كلّ من العينين في ملك المباح له آنا ما قبل ذلك التصرف الناقل ، فتخرج العين عن ملك الآخذ ، لا عن ملك الدافع ـ أي المبيح ـ وبالخروج عن الملك ينتفي موضوع جواز التراد ، لعدم بقائهما على ملكهما حتى يتسلّطا على الرجوع.

نعم بناء على اختصاص إباحة التصرف بما لا يتوقف على الملك يبقى جواز التّراد بحاله ، لعدم مشروعية التصرف الناقل للملك حتى ينتفي موضوع جواز الرجوع.

هذا توضيح الصورة الاولى ، وهي نقل إحدى العينين أو كلتيهما بالنقل اللّازم.

٢١٩

بعقد لازم (١) فهو كالتلف (٢) على القول بالملك ، لامتناع التراد.

وكذا على القول بالإباحة إذا قلنا بإباحة التصرفات الناقلة (٣).

ولو عادت (٤)

______________________________________________________

(١) قد عرفت أنّ المراد به اللزوم مطلقا حتى من جهة الخيار.

(٢) كما حكي التصريح به عن كثير ، بل ربما استظهر من بعضهم الإجماع عليه. قال الشهيد الثاني قدس‌سره : «لو نقل أحدهما العين عن ملكه ، فإن كان لازما كالبيع والهبة بعد القبض ، والوقف والعتق فكالتالف» (١). وكأنّه من المسلّمات.

(٣) وأمّا إذا قلنا بما حكي عن حواشي الشهيد قدس‌سره على القواعد من اختصاص الإباحة بما لا يتوقف على الملك ـ بشهادة منعه من إخراج المأخوذ بالمعاطاة في مثل الهدي ـ كان جواز التّراد باقيا بحاله ، وتتوقف لزوم الإباحة على طروء ملزم آخر كالتلف ، لأنّ النقل اللازم وقع على مال المبيح ، فله استرداد ماله ، لكون تصرف المباح له بالنقل اللازم تصرّفا في مال الغير ، فيندرج في الفضولي.

(٤) هذا إشارة إلى الصورة الثانية ـ من صور نقل المأخوذ بالمعاطاة بالناقل اللازم ـ كما إذا باع عمرو الكتاب من بكر ، ثم ظهر غبن أو عيب فيه ، ففسخ المشتري ، وعادت العين إلى عمرو. وقد تعرض المصنف قدس‌سره لحكم هذه الصورة ، بناء على كلّ من الملك والإباحة. فبناء على الملك احتمل أوّلا بقاء جواز التراد ، للاستصحاب. واحتمل ثانيا انقطاع الجواز بتخلّل ذلك العقد اللازم ، ثم قوّى هذا الوجه.

وبناء على الإباحة رجّح لزوم المعاطاة ، ثم ذكر وجهين لبقاء جواز التراد ثم ضعّفهما. هذا إجمال ما أفاده في هذه الصورة ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٠

٢٢٠