هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

.................................................................................................

__________________

أو غصب أو إطارة ريح ، فقصد المعاوضة بلا فعل من كلّ منهما» (١).

وأنت خبير بما فيه ، لأنّ المراد بالعطاء هو ما يتحقق به البيع ويكون سببا لإنشائه ، ومن المعلوم أنّ وضع الماء في مكان معدّ للاستسقاء منه ، وفتح باب الحمّام ليسا كذلك ، إذ لو كانا سببين للإنشاء لزم منه إشكالان :

أحدهما : الفصل بين الإيجاب والقبول غالبا.

ثانيهما : الجهل بالمبيع ، لتفاوت الشاربين وداخلي الحمام في مقدار الماء الذي يستعملونه للارتواء والتنظيف أو الغسل ، إلّا إذا عيّن مالك الماء والحمام كيلا معيّنا للماء الذي يشربه الشارب ، كما يضع السّقاء أحيانا بدل القربة أواني مملوءة من الماء في محلّ لشرب الشاربين منها ، أو يستعمله من يدخل الحمام.

ولكنه خلاف المتعارف ظاهرا ، فإنّ بناءهم على ارتواء الظامي بمبلغ معيّن ، ومن المعلوم اختلاف المقدار الذي يروي الظامي باختلاف مراتب عطشه ، فدعوى كون الأمثلة المتقدمة من المعاطاة المتحققة بالتعاطي من الطرفين غير ثابتة.

والحق أن يقال : إنّ مثالي الشارب والوارد في الحمّام خارجان عن البيع المعاطاتي رأسا ، وداخلان في الإباحة بالعوض ، والدليل على ذلك السيرة القطعية الجارية على ذلك في الأشياء الحقيرة.

أو داخلان في معاوضة خاصة تمليكية. ودليلها قوله تعالى (إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)

أو «كونها من قبيل : أعتق عبدك عني ، فيكون الشارب والوارد في الحمّام وكيلين عن السقّاء ومالك الحمام في إنشاء الإيجاب» كما احتمله سيّدنا الأستاذ قدس‌سره (٢).

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٣

(٢) نهج الفقاهة ، ص ٦٠ و٦١

٦١

.................................................................................................

__________________

لكنه لا يخلو من غموض ، لعدم خطور ذلك في ذهن الحمّامي غالبا حتى يمكن أن يقال بتحقق التوكيل ، والمفروض أنّ الوكالة من العقود المتقومة بالقصد. وليس هنا كلام يتوقّف صحته على التقدير حتى يقال : إنّ دلالة الاقتضاء تقتضي تقديرا ليصح الكلام معه ، ويكون ذلك كاشفا عن الثبوت وهو قصد التوكيل ، إذ لم يصدر هنا إلّا فعل كفتح باب الحمام ، وصحّته لا تتوقّف على فرض قصد التوكيل حتى يكون من قبيل «أعتق عبدك عنّي» وذلك لما عرفت من إمكان كونهما من الإباحة بالعوض.

كما أنّ توهّم «كون مثال الحمام من قبيل الإجارة المعاطاتية ، بدعوى : كون العين المستأجرة نفس الحمام كلّا أو بعضا ، وعدّ المياه المستعملة فيه منفعة له حتى لا يرد عليه : أنّ المياه عين ، وهي تتلف بالانتفاع بها ، وهذا خلاف مقتضى الإجارة من اعتبار بقاء العين المستأجرة لينتفع بها» مندفع بجهالة المدة ، مع أنّ تعيينها من أركان الإجارة.

كما أنّ احتمال كونها مصالحة معاطاتية أو هبة كذلك بشرط العوض ممّا لا مثبت له بعد كون كل منهما عنوانا قصديّا يحتاج ترتيب أحكام كل منهما إلى إحراز عنوانهما.

فالأولى أن يقال : إنّ الأمثلة المذكورة كلّها من قبيل الإباحة بالعوض ، فإنّ مقتضى الاستصحاب بقاء الأعيان المزبورة من الماء والخضروات على ملك مالكيها. وفتح باب الحمام أو دكّان بائع الخضروات ، وكذا وضع السّقّاء قربة الماء أو أوانيه مملوءة من الماء في مكان معدّ لشرب الناس منها إذن وإباحة في التصرف في الماء والخضروات ، فبقاؤهما على ملك مالكيهما محرز تعبّدا ، والإذن محرز وجدانا. وليس هذا إلّا إباحة التصرف الثابتة بقاعدة سلطنة الناس على أموالهم.

ومع هذا الاحتمال الذي يساعده الصناعة لا موجب لجعل الأمثلة المذكورة من قبيل قوله : «أعتق عبدك عنّي» إذ لا دليل على كونها من قبيل ذلك ، فإنّ الالتزام بالوكالة

٦٢

.................................................................................................

__________________

هناك إنّما هو لتوقف صحة الكلام على ذلك ، فهذه قرينة على كون مراد المتكلم توكيل المخاطب في شراء العبد عن نفسه ، ثم إعتاقه عنه. وهذا بخلاف الأمثلة المتقدمة ، فإنّه لا موجب للالتزام المزبور أصلا ، بل قضية الاستصحاب كما عرفت هو بقاء الماء والخضروات على ملك مالكيهما ، وفتح باب الحمام ونحوه مصداق فعلي للإباحة ، فتأمّل في أطراف ما ذكرناه جيّدا ، والله تعالى هو العالم بالصواب.

وأمّا الصورة الرابعة ـ وهي مجرّد الكلام الدال على المقاولة ـ فحاصل البحث فيها : أنّ مراد المصنف قدس‌سره إن كان إنشاء المعاملة بالألفاظ غير الجامعة للشرائط بأن يكون مقصوده قدس‌سره بالمقاولة القول غير الجامع للشروط ـ بقرينة قوله : «ثم إنّه لو قلنا بأنّ اللفظ غير المعتبر في العقد .. إلخ» إذ مقصوده إنشاء البيع باللفظ الفاقد للشرائط ، فالمراد بالمقاولة الإنشاء بالألفاظ التي يتكلّمان بها مع فقدها للشرائط ـ فلا يرد عليه ما في جملة من الحواشي من مغايرة المقاولة مفهوما للبيع ، فلاحظ.

وبالجملة : فوقوع البيع حينئذ مبني على عدم اعتبار سبب خاص في إنشائه ، هذا.

وإن كان مجرّد المقاولة والمساومة فلا ينبغي الارتياب في عدم وقوع البيع بها ، لأنّ المقاولة بهذا المعنى مباينة للبيع.

والظاهر أنّ مراده هو الأوّل ، إذ لا يتوهم أحد أن تكون المقاولة بيعا ، هذا.

ثم إنّه بناء على وقوع البيع بهذه المقاولة لا تندرج في المعاطاة المصطلحة ، لعدم إنشائه بفعل حتى يندرج فيها ، بل هو بيع عرفي أنشئ بألفاظ غير جامعة للشرائط ، فيشمله ما دلّ على صحة البيع إن لم يثبت اعتبار لفظ خاص فيه ، وإلّا فهو بيع باطل ، ولا يفيد الإباحة أيضا ، لخروجه عن مورد السيرة والإجماع ، حيث إنّ موردهما وقوع فعل أو فعلين من المتعاملين. كما لا يشمله قاعدة السلطنة الموجبة للإباحة المالكية ، وذلك لعدم قصدهما للإباحة.

٦٣

الثالث (١) : تمييز البائع من المشتري في المعاطاة

______________________________________________________

التنبيه الثالث : تمييز البائع عن المشتري في المعاطاة

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه هو تمييز البائع عن المشتري في المعاطاة الفعلية ، ومحصل ما أفاده هو : أنّه تارة يكون أحد العوضين من النقدين كالدنانير والدراهم ، وأخرى يكون العوضان من غير الأثمان بأن كانا من العروض كالحنطة والسّكّر مثلا.

ففي الصورة الأولى يكون المشتري باذل النقدين ، إلّا مع التصريح بكونه البائع كأن يقول : «بعتك هذه الليرة مثلا بوزنة من الحنطة» فحينئذ يكون باذل الليرة بائعا.

وفي الصورة الثانية يتصور وجوه :

أحدها : أن يقوّم أحد المالين بنقد دون الآخر ، فالمشتري دافع المقوّم.

ثانيها : أن يقوّم كلاهما ، كأن يقوّم الحنطة بدرهم ، والسّكّر أيضا بدرهم.

ثالثها : أن لا يقوّم شي‌ء منهما بالنقدين ، بأن يقع التبادل بين العروضين أصالة كالحنطة واللحم من دون تقدير شي‌ء منهما بالدرهم والدينار ، بل يقع المبادلة بين وقيّة من الحنطة وبين ربع وقيّة من اللحم مثلا.

وفي هذين الوجهين احتمالات أربعة :

الأوّل : كونه بيعا وشراء بالنسبة إلى كلّ منهما ، فكلّ من المتعاملين بائع ، لأنّه بدّل ماله بمال ، وهو تعريف البيع ـ كما تقدّم في محلّه ـ ومشتر ، لأنّه ترك شيئا وأخذ بغيره.

الثاني : كونه بيعا بالنسبة إلى من يعطي أوّلا ، لصدق الموجب عليه ، وشراء بالنسبة إلى الآخذ ، لكونه قابلا عرفا.

٦٤

الفعلية (١) مع كون أحد العوضين ممّا تعارف جعله ثمنا كالدراهم والدنانير والفلوس المسكوكة واضح ، فإنّ صاحب الثمن هو المشتري ما لم يصرّح بالخلاف (٢).

وأمّا مع كون العوضين من غيرها (٣) فالثمن ما قصدا قيامه مقام المثمن في العوضية ، فإذا أعطى (٤) الحنطة في مقابل اللحم قاصدا أنّ هذا المقدار من الحنطة يسوى درهما هو ثمن اللّحم ، فيصدق (٥) عرفا أنّه اشترى اللّحم بالحنطة. وإذا انعكس انعكس الصدق (٦) ، فيكون المدفوع بنيّة البدليّة عن الدرهم والدينار هو

______________________________________________________

الثالث : كونه مصالحة معاطاتية ، لصدق المصالحة التي هي التسالم عليه.

الرابع : كونه معاملة مستقلة يجب الوفاء به بمقتضى الأمر بالوفاء بكلّ عقد عرفي.

(١) لعلّ التقييد بالفعلية لإخراج الصورة الرابعة مما تقدّم في التنبيه الثاني ، فإنّ المقاولة والإنشاء باللفظ الفاقد لبعض شرائط الصيغة يميّزان البائع عن المشتري ، بخلاف المعاطاة الفعلية ، فإنّه لا بدّ من تمييز أحدهما عن الآخر بالصور المذكورة في المتن.

وبعبارة أخرى : محط البحث في هذا التنبيه هو المعاملة الفعلية الفاقدة للإنشاء اللفظي ، فلو أنشئت باللفظ الملحون كان البادي هو البائع ، والآخر هو المشتري.

(٢) كأن يقول : «بعتك هذا الدينار ـ مثلا ـ بحقّة من اللّحم» فإنّ البائع حينئذ هو صاحب الدينار.

(٣) أي : من غير الدراهم والدنانير والفلوس المسكوكة ، أو كونهما منها كالمعاطاة في بيع الصرف.

(٤) هذا إشارة إلى الوجه الأوّل من الصورة الثانية التي يكون كلا العوضين فيها عروضا ، كمبادلة اللحم بالحنطة ، فيتميّز البائع عن المشتري بأنّ دافع اللحم هو البائع ، وباذل الحنطة هو المشتري ، لكونهما قاصدين إعطاء درهم ـ أو ما يساويه في المالية ـ بعنوان ثمن اللحم ، وعليه يترتب أحكام البائع على باذل اللحم.

(٥) جواب قوله : «فإذا أعطى» وهذا بيان حكم هذه الصورة.

(٦) بأن كان مقصودهما بدليّة اللّحم عن الدّرهم ، فالمعوّض هو الحنطة ، وباذلها

٦٥

الثمن ، وصاحبه (١) هو المشتري.

ولو لم يلاحظ (٢) إلّا كون أحدهما بدلا عن الآخر من دون نيّة قيام أحدهما مقام الثمن في العوضية ، أو لوحظت (٣) القيمة في كليهما بأن لوحظ كون المقدار من اللّحم بدرهم ، وذلك المقدار من الحنطة بدرهم ، فتعاطيا من غير سبق (٤) مقاولة تدلّ على كون أحدهما بالخصوص بائعا ، ففي كونه (٥) بيعا وشراء بالنسبة إلى كلّ منهما بناء (٦) على أنّ البيع لغة

______________________________________________________

هو البائع ، والثمن هو اللحم ، وصاحبه هو المشتري.

(١) أي : صاحب المدفوع ـ بنيّة البدلية عن الدرهم ـ هو المشتري.

(٢) معطوف على قوله : «فالثمن ما قصدا قيامه» وهذا يتضمن الوجه الثاني والثالث من الصورة الثانية ، لأنّ قصد بدليّة أحدهما عن الآخر يكون تارة مع عدم النظر إلى كون الثمن الواقعي درهما حتى يقوّم السّكّر بالدرهم الذي هو الثمن حقيقة. وأخرى مع تقدير كلا العروضين بالأثمان والدراهم ، فالعوضان وإن كانا من العروض ، إلّا أنّ حيثية التقويم بالدرهم ملحوظة فيهما. وقد عرفت تطرّق احتمالات ثلاثة في تمييز البائع عن المشتري فيهما.

(٣) معطوف على «من دون نية» فكأنّه قيل : «ولو لم يلاحظ إلّا كون أحدهما بدلا عن الآخر ولوحظت القيمة في كليهما ..» وهذا بيان الوجه الثالث مما تقدم في الصورة الثانية.

(٤) التقييد بعدم سبق مقاولة واضح ، إذ مع سبق المقاولة على التعاطي يكون سبقها قرينة على أنّ أحدهما بالخصوص بائع ، والآخر مشتر ، فلا يبقى شك حتى تتطرّق فيه الاحتمالات الآتية.

(٥) جزاء لقوله : «ولو لم يلاحظ» وهو خبر مقدّم لقوله : «وجوه» أي : ففي كون التعاطي بيعا وشراء .. إلخ ، وهذا شروع في بيان محتملات المسألة ، والاحتمال الأوّل هو صدق «البائع والمشتري» على كلّ من المتعاطيين.

(٦) حاصله : أنّ هذا الاحتمال الأوّل مبني على أمرين :

أحدهما : كون البيع مبادلة مال بمال ، كما تقدم في تعريف المصباح.

٦٦

كما عرفت (١) «مبادلة مال بمال» (*) ، والاشتراء (٢) «ترك شي‌ء والأخذ بغيره»

______________________________________________________

ثانيهما : كون الشراء بمعنى ترك شي‌ء وأخذ غيره كما في القاموس (١).

وعلى هذا يصدق تعريف البيع والشراء على كليهما ، أمّا صدق البيع فلأنّ كلّا من باذل الحنطة واللّحم بادل ماله بمال آخر.

وأمّا صدق الشراء فلأنّ كلّا منهما ترك شيئا وأخذ غيره.

وما أفاده المصنف قدس‌سره موافق لكلام الراغب ، حيث قال : «إذا كانت المبايعة بين سلعة بسلعة صحّ أن يتصور كل واحد منهما مشتريا وبائعا» (٢).

هذا بناء على تسليم ما ذكر في معنى البيع والشراء ، فلو كان المفهوم منهما أو من أحدهما أمرا آخر لم يصدق «البائع والمشتري» على كل واحد من المتعاطيين ، كما إذا عرّف البيع «بإعطاء المثمن وأخذ الثمن» (٣) ، أو اعتبر في الشراء المطاوعة وقبول إنشاء البائع كما هو كذلك في الجملة بنظر المصنف ، وأنّ التمليك فيه ضمني لا أصلي. وعليه فمجرّد المبادلة بين المالين وأخذ شي‌ء وترك آخر غير كاف في صدق عنوان البائع والمشتري على كل منهما.

(١) يعني : في أوّل كتاب البيع ، حيث قال : «وهو في الأصل ـ كما عن المصباح ـ مبادلة مال بمال».

(٢) بالنصب معطوف على «البيع» يعني : وبناء على أنّ الاشتراء هو مطلق «ترك شي‌ء وأخذ غيره» من دون اعتبار المطاوعة فيه ، ولا اعتبار كون تملّكه أصليا

__________________

(*) لكن مع هذا البناء يصدق البائع والمشتري على كلّ واحد من الطرفين في جميع المقامات ، ولا يختص بهذه الصورة.

__________________

(١) : القاموس المحيط ، ج ٤ ، ص ٣٤٨

(٢) مفردات ألفاظ القرآن الكريم ، ص ٢٦٠

(٣) المصدر ، ص ٦٧

٦٧

كما عن بعض (١) أهل اللغة ، فيصدق (٢) على صاحب اللحم : أنّه باعه بحنطة ، وأنّه اشترى الحنطة ، فحنث (٣) لو حلف على عدم بيع اللّحم وعدم شراء الحنطة (*).

نعم (٤) لا يترتب عليهما أحكام البائع ولا المشتري ،

______________________________________________________

وتمليكه تبعيّا.

(١) كالفيروزآبادي ، حيث قال : «وكلّ من ترك شيئا وتمسّك بغيره فقد اشتراه. ومنه : اشتروا الضلالة بالهدي» (١).

(٢) هذه نتيجة صدق «البائع والمشتري» على كلّ واحد من المتعاطيين.

(٣) غرضه بيان ثمرة مترتبة على الاحتمال الأوّل وهو صدق البائع والمشتري على الطرفين ، وبيانها : أنّه إذا حلف المكلّف على ترك بيع اللّحم وترك شراء الحنطة ، فباعه بها ، فقد خالف الحلف وحصل الحنث ، ووجبت عليه كفارتان ، إحداهما لبيع اللّحم ، والأخرى لشراء الحنطة. وهذا شاهد على إمكان صدق عنوانين متقابلين ـ وهما البائع والمشتري ـ على كلّ منهما ، إذ لو امتنع الانطباق لم يكن وجه لإيجاب كفارتين عليه.

(٤) هذا استدراك على قوله : «فيصدق ..» يعني : أنّه بناء على هذا الاحتمال الأوّل وإن صدق البائع والمشتري على كلّ منهما ، لكنّ الأحكام المختصة بالبائع والمشتري لا تثبت في هذين المتعاطيين. والوجه في عدم ثبوتها أنّ الأدلة المتكفلة

__________________

(*) حنث الحلف تابع لكيفية يمينه ، فلو كان متعلّقا بترك بيع اللحم وشراء الحنطة مطلقا ولو في معاملة واحدة اتّجه ما في المتن من حصول الحنث ببيع اللحم بشراء الحنطة. ولو كان حلفه منزّلا على الغالب ومنصرفا عن هذه الصورة كما ادّعاه في أدلة الأحكام لم تبعد دعوى عدم حصول الحنث فيمن صدق عليه العنوانان في معاملة واحدة.

__________________

(١) : القاموس المحيط ، ج ٤ ، ص ٣٤٨

٦٨

لانصرافهما (١) في أدلة تلك الأحكام إلى من اختصّ بصفة البيع (٢) أو الشراء (٣) ، فلا تعمّ (٤) من كان في معاملة واحدة مصداقا لهما (*) باعتبارين.

أو (٥) كونه بيعا بالنسبة إلى من يعطي أوّلا ،

______________________________________________________

لتلك الأحكام ناظرة إلى ترتب أحكام البائع على من يكون بائعا في معاملة ولا يكون مشتريا فيها ، وكذا ترتّب أحكام المشتري على من يكون مشتريا في معاملة ولا يكون بائعا فيها ، فهذه الأدلة منصرفة عمّن صدق عليه «البائع والمشتري» في معاملة واحدة.

(١) أي : لانصراف البائع والمشتري في أدلة تلك الأحكام إلى خصوص من اختصّ بكونه بائعا ، وإلى خصوص من اختص بكونه مشتريا.

(٢) كقولهم : «تلف المبيع قبل قبضه من مال البائع» (١).

(٣) كقوله عليه‌السلام : «صاحب الحيوان المشتري بالخيار ثلاثة أيام ..» (٢).

(٤) يعني : فلا تعمّ ولا تشمل أدلّة تلك الأحكام من صدق عليه البائع والمشتري في معاملة واحدة.

(٥) معطوف على قوله : «كونه بيعا وشراء» وهذا إشارة إلى الاحتمال الثاني الجاري في الصورتين الأخيرتين ، ومحصّله : تمييز البائع عن المشتري بالتقدّم والتأخر ،

__________________

(*) بناء على عدم مغايرة مفهومي البيع والشراء على نحو التباين ، بأن يكون لكل منهما معنى عام يصدق على كل من البائع والمشتري. لكنه غير ثابت ، فإنّ معنى البيع مباين لمعنى الشراء ، فلا يصدق أحدهما على الآخر في المقام وإن كانا من الأضداد ، إذ المقصود مقابلة العنوانين ، لاختصاص كل منهما بحكم ، هذا.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٥٨ ، الباب ١٠ من أبواب الخيار ، وهو مضمون غير واحد من النصوص.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٤٩ ، الباب ٣ من أبواب الخيار ، الحديث : ٢

٦٩

لصدق الموجب عليه (١) ، وشراء (٢) بالنسبة إلى الآخذ ، لكونه قابلا عرفا.

أو كونها (٣) معاطاة مصالحة (*) ، لأنّها بمعنى التسالم على شي‌ء (٤) (**)

______________________________________________________

فالبائع هو من سبق الآخر بإعطاء سلعته كاللحم في المثال» والمشتري هو الآخذ للّحم والدّافع للحنطة.

(١) أي : على من يعطي أوّلا. وجه صدقه عليه هو : كون الإنشاء الأوّل إيجابا للمعاملة ، والإنشاء الثاني قبولا لها عرفا ، فالمدار في تشخيص الموجب على البادي بالإنشاء.

(٢) معطوف على «بيعا» وضمير «لكونه» راجع الى الآخذ.

(٣) معطوف على «كونه بيعا وشراء» وتأنيث الضمير لرعاية الخبر.

وهذا إشارة إلى الاحتمال الثالث ، وهو عدم كون هذا التعاطي بيعا أصلا ، وإنما هو صلح معاطاتي. لأنّهما تسالما على مبادلة سلعة بسلعة أخرى ، كمبادلة اللحم بالحنطة.

(٤) يعني : والمفروض أنّهما تسالما على المبادلة المزبورة ، فتكون هذه المعاطاة مصالحة معاطاتية.

__________________

(*) لا يناسب ذكر هذا الاحتمال ، لأنه في مقام تمييز البائع عن المشتري ، ويكون ذلك أجنبيا عن كون المعاملة مصالحة. وكذا الحال في احتمال كونها معاوضة مستقلّة.

(**) بحيث يكون نفس التسالم منشأ. وأمّا إذا كان الإنشاء متعلقا بموضوع التسالم كالتبادل بين المالين ، أو تمليك أحدهما مجانا فلا مجال لكونه صلحا ، وإلّا كان جميع العقود صلحا.

فالفارق بين الصلح وغيره من العقود هو : أنّ الإنشاء إن تعلق بالتسالم على أمر كان صلحا ، وإن تعلق بموضوع التسالم كالمبادلة بين المالين أو تمليك أحدهما مجّانا ، أو رهن مال ، أو تمليك منفعة بمال لم يكن صلحا. فاحتمال كون المعاملة في المقام

٧٠

ولذا (١) حملوا الرواية الواردة في قول أحد الشريكين لصاحبه : «لك ما عندك ولي ما عندي» على الصلح (٢) (*).

______________________________________________________

(١) يعني : ولأجل كون التسالم على تبديل ماله بمال صاحبه صلحا حملوا الرواية الواردة في قول أحد الشريكين لصاحبه : «لك ما عندك ولي ما عندي» على الصلح ، وهي معتبرة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّه قال : في رجلين كان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي. فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما» (١).

وتقريب الدلالة : أنّ كل واحد من الشريكين جاهل بقدر الطعام الموجود عند الآخر ، فأرادا فسخ الشركة ـ في هذه الحال ـ بالصلح ، بأن يكون لكل منهما ما عنده من الطعام بلا مطالبة الآخر أصلا ، فأجاب عليه‌السلام بأنّ قول أحدهما للآخر «لك ما عندك ولي ما عندي» إن كان مع رضاهما صحّ ذلك ، وإلّا فلا.

والمقام من هذا القبيل ، فإنّ مالك اللّحم يقول لصاحب الحنطة : «أعطيك اللحم وآخذ الحنطة» فيقبل ، فهذا إنشاء التسالم على مبادلة إحدى السلعتين بالأخرى.

(٢) متعلق ب «حملوا».

__________________

صلحا معاطاتيا ضعيف غايته ، ضرورة أنّه لم ينشأ فيه إلّا نفس المبادلة ، دون التسالم عليها كما لا يخفى.

(*) لكنه حمل بلا شاهد ، بل لعلّ حملها على الهبة المعوّضة أولى. وبعد التسليم نقول : بمغايرة مورد الرواية لما نحن فيه ، إذ فيها قرينة على إرادة الصلح ، لكون كل واحد من المالين مجهول المقدار ، لقول السائل : «ولا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه» فإنّ الجهل بالمقدار ربما يكون قرينة على إرادة الصلح. بخلاف المقام ، فلا قرينة فيه على إرادة الصلح منه.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٦٥ ، الباب ٥ من أبواب أحكام الصلح ، الحديث : ١

٧١

أو (١) كونها معاوضة مستقلة لا تدخل تحت العناوين المتعارفة؟ وجوه (٢) ، لا يخلو ثانيها عن قوّة ، لصدق (٣) تعريف «البائع» لغة وعرفا على الدافع أوّلا دون الآخر ، وصدق (٤) المشتري على الآخذ أوّلا دون الآخر ، فتدبّر (٥) (*).

______________________________________________________

(١) معطوف على «كونه بيعا وشراء» وتأنيث الضمير باعتبار الخبر. وهذا هو الاحتمال الرابع في الصورتين الأخيرتين ، ومحصّله : كون هذا التعاطي معاملة مستقلة غير مندرجة في العقود المتعارفة المعهودة ، لعدم انطباق مفهوم البيع والشراء والصلح عليها ، فلا مناص من كونه عقدا مستقلّا يجب الوفاء به بمقتضى الآية الكريمة.

هذه محتملات هذا التعاطي في مقام الثبوت ، وسيأتي استظهار الاحتمال الثاني.

(٢) مبتدأ مؤخر ، وخبره قوله : «ففي كونه».

(٣) هذا وجه ترجيح الاحتمال الثاني واستظهاره في مقام الإثبات ، ومحصّله : أنّ تعريف البائع ب «من يعطي المثمن ويأخذ الثمن» صادق على البادي بدفع سلعته إلى الآخر ، وتعريف المشتري ب «من يأخذ الشي‌ء أوّلا ويترك الآخر» صادق على المشتري ، لأنّه يتسلّم السلعة ثم يدفع بدلها.

(٤) بالجر معطوف على «صدق» في قوله : «لصدق البائع».

(٥) لعلّه إشارة إلى : أنّه مبني على تسليم منع تقديم القبول على الإيجاب ، وأنّ المتقدم هو الإيجاب لا محالة ، لكنّه أخصّ من المدّعى ، لاختصاصه بما إذا تقدّم أحد الإعطائين على الآخر. وأمّا إذا تقارنا فلا يتميّز البائع فيه عن المشتري بذلك ، لفرض الاقتران.

أو إشارة إلى : عدم صحته في نفسه ، وعدم كون مجرّد التقدم موجبا لصيرورة المتقدم موجبا والمتأخر قابلا ، لعدم ندرة تقدم إعطاء الثمن على إعطاء المثمن.

__________________

(*) اعلم أنّ عبارات المصنف قدس‌سره في هذا التنبيه مضطربة ، لظهور بعضها في كون الاختلاف والشبهة في الموضوع والإثبات ، لا المفهوم والثبوت ، كقوله في أوّل التنبيه : «مما تعارف جعله ثمنا كالدراهم والدنانير .. إلخ» فإنّ التعارف يلائم كون الشبهة في

٧٢

.................................................................................................

__________________

المصداق ، وأنّه المرجع في مقام الإثبات وهو المناسب لمقام المرافعة.

وظهور بعضها الآخر في كون الشبهة مفهومية ، وأنّ الاختلاف في مقام الثبوت ، كقوله : «فالثمن ما قصدا قيامه مقام المثمن» وكقوله : «فيكون المدفوع بنية البدلية عن الدرهم والدينار هو الثمن .. إلخ» وكقوله : «ولو لم يلاحظ إلّا كون أحدهما بدلا عن الآخر .. إلخ» لأنّه تعريف لمفهوم الشراء ، من دون نصب طريق لمعرفته في مقام الإثبات الذي هو مقصود المصنف قدس‌سره من عقد هذا التنبيه ، حيث قال : «الثالث تمييز البائع من المشتري .. إلخ».

كما أنّ الاحتمالات التي ذكرها بعد ذلك كلّها راجعة إلى الشبهة المفهومية لا المصداقية التي هي محلّ الكلام.

إلّا أن يقال : إنّ غرض المصنف قدس‌سره في هذا التنبيه ليس مجرّد بيان الشبهة المصداقية التي يكون الاشتباه فيها من جهة الأمور الخارجية ، لأنّ ذلك راجع إلى باب المرافعات ، ولا ربط لها بالمقام الذي يكون الغرض منه معرفة البائع والمشتري لترتيب أحكامهما عليهما. بل غرضه بيان مقدار المفهوم سعة وضيقا ، وهذا هو الذي سمّاه المصنف في طهارته بالشك في الصدق. وهذا أيضا من الشبهة المفهومية ، والاحتمالات التي ذكرها كلّها راجعة إلى الشبهة المفهومية.

فالإنصاف أنّ عبارة المصنف قدس‌سره في بيان كون الشبهة مفهومية أو مصداقية مضطربة.

وما ذكرناه من أنّ غرضه رحمه‌الله بيان كون الشبهة مفهومية غير ظاهر أيضا بعد الإحالة إلى التعارف الذي هو طريق إلى معرفة المصداق.

وكيف كان فالحقّ أن يقال : إنّ البيع المسبّبي ـ الذي هو مقابل غيره من العقود كالصلح والإجارة ونحوهما ـ عبارة عن المبادلة بين المالين من غير تقوّمها بالإيجاب والقبول ، لعدم تعقل تقوم المسبّب بسببه ، أو الأمر الاعتباري بموضوع اعتباره ،

٧٣

.................................................................................................

__________________

لاستلزامه تقدم الشي‌ء على نفسه ، فحقيقة البيع المسبّبي ليست إلّا مبادلة مال بمال ، ولا يعقل تقييدها بسبب خاص.

وعلى هذا فالمبادلة لا تتوقف على سبب خاص من إيجاب وقبول ، بل كما تحصل بهما كذلك تتحقق بقول أحدهما : «ملّكتك هذا الكتاب بدرهم» والآخر : «ملّكتك درهما بكتابك هذا». بل تتحقّق بإيجاب بدون قبول ، كقول وكيل المتبايعين : «بادلت بين المالين» وقول سيّد العبد والأمة : «زوّجت عبدي فلانا أمتي فلانة» من دون حاجة إلى القبول.

فتوهّم اعتبار القبول والمطاوعة في البيع لا منشأ له إلّا شيوع إيقاع المعاملات بالإيجاب والقبول ، أو الخلط بين البيع السببي والمسبّبي ، ومن المعلوم عدم صلاحية شي‌ء منهما للاعتبار.

فالمتحصل : أنّ حقيقة البيع ـ وهي المبادلة بين المالين ـ تحصل بالإيجاب والقبول تارة ، وبالإيجاب المجرّد اخرى كالوكيل من الطرفين أو الوليّ عليهما ، وثالثة بالإيجابين كتمليك عين بمال صاحبه ، وبالعكس ، فلا تتقوم ماهية البيع بخصوص الإيجاب والقبول حتى يكون منشئ الأوّل موجبا ومنشئ الثاني قابلا.

وعلى هذا فإذا تبادلا عروضين أو نقدين كان ذلك بيعا عرفيا أي «مبادلة بين مالين» من دون حاجة إلى صدق البائع على أحدهما والمشتري على الآخر.

وإن أبيت عن ذلك ، فلا مانع من صدق البائع والمشتري على كل منهما ، لأنّ كل واحد منهما باعتبار إعطاء سلعته بعوض موجب ، وباعتبار أخذه سلعة الغير قابل. وعليه فلا حاجة في إطلاق البائع عليهما في قوله : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» إلى إعمال عناية التغليب.

نعم في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على البائع والمشتري بعنوانهما يراعى العلم الإجمالي ، فتجري فيها الأصول العملية ، إذ لا تميّز لهما في مقام الإثبات ، إلّا

٧٤

.................................................................................................

__________________

إذا كان إعطاء أحدهما مقدّما على الآخر ، فالمقدّم هو الإيجاب بناء على عدم جواز تقديم القبول عليه.

وبالجملة : فصدق البيع على تبديل العروضين أو النقدين مع تقارن الإعطائين غير خفي بعد صدق التبديل عليهما وإن لم يصدق على المتعاطيين عنوان البائع والمشتري ، لما عرفت من عدم تقوّم البيع المسببي بالإيجاب والقبول حتى يكون أحدهما بائعا والآخر مشتريا.

وإن أبيت عن ذلك بدعوى : عدم إمكان خلوّ البيع عن البائع والمشتري ، فنقول : إنّه معاملة مستقلة تشملها آية التجارة.

ومنع كونه معاملة مستقلة كما في تقريرات المحقق النائيني قدس‌سره بما لفظه : «لأنّ مع قصدهما التبديل لا يكون إلّا بيعا ، فالحق كون أحدهما لا على التعيين بائعا والآخر مشتريا من دون امتياز بينهما واقعا ، فلا يترتّب على كل منهما الآثار الخاصة الثابتة للمشتري والبائع» (١).

لا يخلوا من غموض ، لأنّ المفروض عدم كون مطلق التبديل عنده قدس‌سره بيعا ، بل التبديل المتعقب بالقبول ، دون ما إذا كان الصادر من كلّ من المتعاطيين تبديلا ، فإنّ التبديل حينئذ ليس متعقبا بالقبول ، فلا يكون بيعا ، هذا.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من كون أحدهما لا على التعيين ـ حتى واقعا ـ بائعا والآخر مشتريا ، فيتوجّه عليه ، أنّ الاتصاف بكون المعطي بائعا أو مشتريا منوط بتحقق منشأه ، فإن أنشأ بإعطائه مبدليّة ماله فهو بائع ، وإن أنشأ بدليّته فهو مشتر ثبوتا وإن لم نحرزه إثباتا ، فكون أحدهما لا على التعيين حتى واقعا بائعا والآخر مشتريا ممّا لم يظهر له وجه.

مضافا إلى لغويته ، لعدم كونه موضوعا لأثر شرعي كما اعترف قدس‌سره بذلك ، حيث قال : فلا يترتب على كل منهما الآثار .. إلخ».

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٧٠

٧٥

الرابع (١) : أنّ أصل المعاطاة ـ وهي إعطاء كلّ منهما الآخر ماله ـ يتصور بحسب قصد المتعاطيين على وجوه :

______________________________________________________

التنبيه الرابع : أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين

القسم الأوّل : المقابلة بين المالين في الملكية

(١) الغرض من عقد هذا الأمر بيان أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين ومقام الثبوت. كما كان التنبيه الثاني متكفلا لمقام الإثبات على ما سبق توضيحه هناك.

ثم إنّ أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين وإن كانت كثيرة (*) ، إلّا أنّ المصنف قدس‌سره ذكر منها وجوها أربعة ، لاتّضاح أحكام غيرها منها.

الأوّل : أن يكون كل منهما قاصدا لتمليك ماله بمال الآخر ، فالمقابلة تكون بين المالين لا بين التمليكين ـ كما هو مناط الوجه الآتي ـ فتكمل المعاملة بإعطاء البائع

__________________

(*) لأنّ المبادلة إمّا بين المالين وامّا بين الفعلين وإمّا بين مال وفعل. ثم ما يكون بين المالين إمّا ملكيّة وإمّا إباحة وإمّا مختلف. وما يكون بين الفعلين إمّا تمليك من الطرفين أو إباحة كذلك ، أو تمليك وإباحة. وما يكون بين مال وفعل فصوره أربع ، لأنّ الفعل إمّا تمليك وإمّا إباحة. والمال إمّا يجعل عوضا في كونه ملكا أو في كونه مباحا فإنّ الجميع مما يصدق عليه العقد ويشمله عموم وجوب الوفاء بالعقود ، فتأمّل جيّدا.

٧٦

أحدها : أن يقصد كلّ منهما تمليك ماله بمال الآخر ، فيكون الآخر (١) في أخذه قابلا (٢) ومتملّكا بإزاء ما يدفعه ، فلا يكون في دفعه (٣) العوض إنشاء تمليك ، بل دفع لما التزمه (٤) على نفسه بإزاء ما تملّكه ، فيكون الإيجاب والقبول بدفع العين الاولى وقبضها (٥) ، فدفع العين الثانية خارج عن حقيقة المعاطاة (٦)

______________________________________________________

وأخذ المشتري ، لأنّ الأوّل تمليك والثاني تملّك ، فإعطاء المشتري خارج عن ركني المعاملة ، وإنما هو وفاء بالعقد ، لا إنشاء للقبول ، ولا إنشاء للتمليك ، بل تمت المعاملة بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر ، ولذا لو مات الآخذ قبل دفع ماله مات بعد تمام المعاطاة ، فإطلاق المعاطاة عليه مع عدم حصول التعاطي من الطرفين ـ كما هو ظاهر باب المفاعلة ـ إنّما هو في قبال المعاملة القولية ، وليس إطلاقها عليه من حيث تقوّمها بالعطاء من الطرفين.

ومثل هذا الإطلاق شائع في العقود كالمصالحة ونحوها ، فإنّ إطلاقها ليس باعتبار اشتراك المبدأ بين الطرفين ، ضرورة أنّ المبدء ـ وهو الصلح ـ قائم بواحد منهما ، والقائم بالآخر هو قبول الصلح ، وكذا في المزارعة والمساقاة والإجارة والمضاربة وغيرها في كون المبدء فيها قائما بواحد لا باثنين.

(١) هذا الآخر هو المشتري ، بناء على ما تقدم في التنبيه الثالث من كون البادي في الإعطاء بائعا ، والمتأخر مشتريا.

(٢) يعني : أنّ الفعل الواحد ـ وهو الأخذ ـ قابل لإنشاء التملّك وإن كان متضمنا للتمليك أيضا.

(٣) يعني : فلا يكون إنشاء تمليك في دفع الآخر ـ وهو المشتري ـ العوض إلى الأوّل ، بل يكون دفعه وفاء بالعقد الذي تمّ بالإعطاء والأخذ ، فإعطاء الأوّل إيجاب ، وأخذ الثاني قبول.

(٤) الأولى أن يقال : «لما ألزمه على نفسه ، أو : لما التزم به» إلّا بإشراب معنى «ألزمه» في «التزمه» لوضوح أنّ باب الافتعال لازم غالب لا متعدّ.

(٥) يعني : أنّ الإيجاب يكون بدفع العين الأولى ، والقبول بقبضها.

(٦) بل هو وفاء بالعقد لا إنشاء القبول.

٧٧

فلو مات (١) الآخذ قبل دفع ماله مات بعد تمام المعاطاة.

وبهذا الوجه (٢) صحّحنا سابقا (٣) عدم توقف المعاطاة على قبض كلا العوضين ، فيكون إطلاق المعاطاة عليه (٤) من حيث حصول المعاملة فيه بالعطاء دون القبول ، لا من (٥) حيث كونها متقومة بالعطاء من الطرفين (*).

______________________________________________________

(١) هذا متفرع على تمامية المعاطاة بدفع العين الأولى وأخذها ، وغرضه بيان ثمرة كفاية الإعطاء والأخذ في تحقق المعاطاة ، حيث يجب على ورثة الآخذ تسليم العوض إلى المعطي ، وفاء بالعقد الذي تمّ بأخذ المورّث.

(٢) أي : بحصول المعاطاة بالإعطاء والأخذ الواحد ـ أو كون الإعطاء الثاني وفاء ، لا جزءا للعقد ومتمّما له ـ صحّحنا .. إلخ.

(٣) يعني : في التنبيه الثاني ، حيث قال : «فيكون إقباض أحد العوضين من مالكه تمليكا له بعوض ..».

(٤) أي : على ما تقدم من حصول المعاطاة بإعطاء وأخذ ، وعدم اعتبار إعطائين في تحققها.

(٥) يعني : أنّ صدق المعاطاة ليس لأجل ظاهر هيئة «المفاعلة» من الاشتراك في المبدأ ، كالتعاطي من الجانبين ، بل لأجل مقابلة العقد الفعلي للقولي ، سواء تحقق بإعطاءين أم بإعطاء واحد.

__________________

(*) فجهة البحث في هذا التنبيه هي بيان أقسام المعاطاة المتصوّرة بحسب قصد المتعاطيين. وفي الأمر الثاني هي بيان المبرز الخارجي لما قصده المتعاطيان. فجهة البحث في الأمر الرابع ـ وهي أنحاء المبرز ـ مغايرة للجهة المبحوث عنها في الأمر الثاني وهي بيان المبرز ، لما عرفت. وللجهة المبحوث عنها في الأمر الأوّل التي هي تشخيص صغروية المعاطاة قبل اللزوم للبيع وعدمها ، وللجهة المبحوث عنها في الأمر الثالث التي هي تمييز البائع عن المشتري.

٧٨

ومثله (١) في هذا الإطلاق لفظ المصالحة والمساقاة والمزارعة والمؤاجرة وغيرها (٢).

______________________________________________________

(١) أي : ومثل صدق المعاطاة بإعطاء واحد ـ خلافا لظاهر باب المفاعلة ـ صدق المصالحة والمزارعة والمؤاجرة. حيث إنّ المبدأ في هذه العناوين قائم بالموجب ، وشأن القابل مجرّد القبول. وقد تقدم توضيح قيام عناوين المعاملات بطرفين أو بأحدهما في إطلاقات البيع ، فراجع (١).

(٢) كالمضاربة.

__________________

ثم إنّ مقتضى الترتيب تقديم الأمر الثالث على الأمر الثاني ، لأنّه بعد تشخيص صغروية المعاطاة للبيع يقع الكلام في أنّ أيّ واحد من المتعاطيين بائع وأيّهما مشتر ، والأمر سهل.

وكيف كان فقد أورد على المصنف قدس‌سره بما في تقريرات المحقق النائيني قدس‌سره «من المنافاة بين ما أفاده هنا من تقوم المعاطاة بالعطاء من واحد والأخذ من الآخر وكون دفع العين الثانية دائما خارجا عن حقيقة المعاطاة ووفاء بالعقد ، وبين ما أفاده في التنبيه الثاني من كون المتيقن من مورد المعاطاة هو العطاء من الطرفين.

وجه التنافي واضح ، وهو خروج العطاء الثاني عن حقيقة المعاطاة بناء على ما أفاده هنا ، ودخوله فيها بناء على ما تقدم عنه في التنبيه الثاني ، لكونه المتيقن من مورد المعاطاة» (٢) ، هذا.

وقد دفع هذا التنافي سيدنا المحقق الخويي قدس‌سره على ما في تقرير بحثه من قول المقرّر : «فإنّ العقد وإن تمّ بالإقباض والقبض أوّلا ، إلّا أنّ المتيقن منه قبال العقد اللفظي هو ما تعقّبه الإعطاء من الطرف الثاني أيضا. وإذن فلا تنافي بين الأمرين» (٣).

__________________

(١) : راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٢٦٩ ، ٢٧٠

(٢) منية الطالب ، ج ١ ، ص ٧٠

(٣) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٧٦

٧٩

وبهذا (١) الإطلاق يستعمل المعاطاة في الرهن والقرض والهبة.

______________________________________________________

(١) أي : بما ذكرناه ـ من أن إطلاق المعاطاة في البيع على الإعطاء الواحد يكون لأجل مقابلة البيع المعاطاتي للقولي ، لا للتقوّم بطرفين ـ ظهر وجه إطلاق المعاطاة في عقود أخرى ، وأنّه لا يتحقق من القابل إعطاء أصلا ، بل يكون إنشاؤها بإعطاء الموجب خاصة ، وذلك كالرّهن والقرض والهبة ، فالرّهن المعاطاتي إعطاء العين المرهونة إلى المرتهن وقبض المرتهن لها ، وهو لا يدفع شيئا الى الراهن.

وكذا القرض والهبة ، فإنّ الإقباض من طرف المقرض والواهب ، وليس من المقترض والمتهب إلّا القبول بالأخذ.

__________________

لكنه لا يخلو من غموض ، لأنّ الأخذ من المتعاطي الآخر فعل يصدر منه بعنوان القبول ، وهذا هو القائم مقام القبول اللفظي ، لأنّ الأخذ بقصد التملك قبول عرفي يصلح لأن يكون متمّما للعقد المؤلّف من الإيجاب والقبول. ومع تمامية العقد لا يعقل أن يتصف الإعطاء الثاني بالقبول والمطاوعة ، لكونه تحصيلا للحاصل ، بل لا يصلح إعطاء الثاني لأن يكون تملّكا لما أعطاه الأوّل ، لعدم مناسبة كون إعطائه تملكا لمال الغير ، بل لا بد أن يكون إعطاؤه تمليكا لماله كإعطاء الأوّل.

فلعلّ الأولى في دفع المنافاة أن يقال : إنّ مراد الشيخ قدس‌سره بتيقن التعاطي من الطرفين هو تيقنه من معنى المفاعلة ، لأنّ المتيقن من موارد استعمال هذا الباب هو اشتراك المبدء بين الطرفين ، فهذا الوزن ينادي باعتبار إنشاء المعاملة بالعطاء من الطرفين ، فكما ينشأ الإيجاب بالإعطاء ، فكذلك القبول ، وأخذ الثاني متمّم للإيجاب وليس إنشاء للقبول ، هذا.

لكن قد تقدّم سابقا أنّ المعاطاة لم ترد في دليل من آية أو غيرها حتى يؤخذ بالمتيقن من معناها ، بل المراد هو المعاملة المجرّدة عن الصيغة المتداولة بين الناس. فالمرجع في إنشائها هو العرف ، ومن المعلوم أنّ الأخذ عندهم قبول عرفي ، فيتم به العقد المركّب من الإيجاب والقبول من دون حاجة إلى إعطاء الطرف الآخر.

٨٠