هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

.................................................................................................

__________________

ومن هنا يقال : إنّ الصداق وإن لم يكن ركنا في عقد النكاح إلّا أنّه شرط له ، كقبول الموصى له بناء على عدم كون الوصية التمليكية عقدا ، وليست شرطيّته على حدّ سائر الشروط التي لا تكون قيدا للعقد حتى يبطل العقد بالإخلال بها ، بل الصداق شرط كالقيد ، فإذا لم يقصد الزوج اشتغال ذمته بالصداق ، وقبل النكاح كذلك بطل العقد ، لعدم التطابق بين الإيجاب والقبول ، فإنّ المستفاد من النصوص أنّه لا بدّ في استحلال الفرج من بذل شي‌ء ولو تعليم سورة من القرآن ، إلّا في تحليل الإماء ، لأنّه من شؤون تصرّفات المالك في ملكه وسلطنته على ماله ، غايته أنّ تصرفه في ماله تارة مباشري ، وأخرى تسبّبي ، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في شرطية التطابق ، والله تعالى هو العالم.

٦٠١

ومن جملة الشروط في العقد : أن يقع كلّ من إيجابه في حال يجوز لكلّ واحد منهما الإنشاء (١)

______________________________________________________

المبحث الخامس : اعتبار أهلية المتعاقدين حال العقد

(١) هذا آخر شروط الهيئة التركيبية لصيغة البيع ، وهو أهلية المتعاقدين من حين الشروع في الإيجاب إلى الفراغ من القبول.

وتوضيحه : أنّه لا ريب في توقف صحة العقد على جملة من الأمور الدخيلة فيها عرفا أو شرعا ، فالأوّل كقابلية التخاطب في المتعاقدين ، وعدم سقوطهما عنها بموت أو جنون أو إغماء أو نحوها. والثاني كالبلوغ وعدم الحجر بفلس أو رقّ أو مرض موت. فيبحث عن أنّه هل يكفي اجتماع الشرائط في البائع حال الإيجاب خاصة ، فيصحّ إنشاؤه وإن اختلّ بعضها قبل انضمام القبول ، أو أنّه يعتبر بقاؤها إلى لحوق القبول بالإيجاب؟

وكذا هل يكفي في الصحة أهلية المشتري حين القبول وإن لم يكن أهلا له حال الإيجاب ، أم تعتبر حال إنشاء البائع أيضا؟ أفاد المصنف قدس‌سره ـ تبعا للقوم ـ اشتراط العقد بأهلية كلّ من الموجب والقابل في حال إنشاء الآخر ، لأنّ للعقد حالة وحدانيّة ، فبقاء كلّ واحد من الموجب والقابل على صفة الإنشاء شرط لمجموع العقد ، فانتفاء الشرط من أحدهما حالة الإنشاء يوجب عدم انعقاد العقد ، فالمعاهدة والمعاقدة لا تصدق إلّا مع اتصافهما بالشرائط حال الإنشاء.

٦٠٢

فلو كان المشتري في حال إيجاب البائع غير قابل للقبول ، أو خرج البائع حال القبول عن قابلية الإيجاب لم ينعقد (١).

ثم (٢) إنّ عدم قابليّتهما إن كان لعدم كونهما قابلين للتخاطب كالموت والجنون والإغماء ـ بل النوم ـ فوجه الاعتبار عدم تحقّق معنى المعاقدة والمعاهدة حينئذ.

وأمّا (٣) صحة القبول من الموصى له بعد موت الموصى فهو (٤) شرط حقيقة لا ركن ، فإنّ حقيقة الوصية الإيصاء ، ولذا (٥) لو مات قبل القبول قام

______________________________________________________

والوجه في هذا الشرط فيما إذا كان فقدانه موجبا لعدم قابلية فاقده للتخاطب كالموت والجنون واضح ، إذ لا معنى لمعاهدة العاقل مع المجنون أو النائم أو المغمى عليه.

(١) جواب قوله : «فلو كان» وقد تقدّم آنفا وجه عدم الانعقاد.

(٢) مقصوده أنّ القابلية المعتبرة في المتعاقدين تكون مقوّمة لعقديّة العقد ، سواء أكانت لأجل أهليّة التخاطب ، أم لأجل اعتبار الرّضا في العقد.

(٣) هذا إشكال على اعتبار بقاء كلّ من المتعاقدين على الشرائط إلى تمام العقد ، وحاصله : أنّ الموصى له حين ما يقبل الوصية التمليكية ليس للموجب ـ وهو الموصى ـ أهلية الإنشاء ، لفرض موته ، وهذا دليل على عدم اعتبار أهلية كل منهما حال إنشاء الآخر.

(٤) هذا دفع الإشكال ، وحاصله : أنّ قبول الموصى له ليس ركنا كركنيّة القبول في العقود ، بل قبول الوصية شرط لها لا جزء للعقد ، فإنّ الوصية حقيقة هي الإيصاء الذي هو من الإيقاعات ، لا العقود. ومورد البحث في هذه المسألة هو العقد لا الإيقاع ، فالوصية خارجة عنه موضوعا.

(٥) يعني : ولأجل كون الوصية التمليكية إيصاء ـ أي إيقاعا لا عقدا ـ يقوم الوارث مقامه ، إذ لو كانت عقدا كان القبول ركنا ، واللّازم حينئذ البطلان ، وعدم قيام

٦٠٣

وارثه مقامه. ولو ردّ جاز له القبول (١) بعد ذلك.

وإن كان (٢) لعدم الاعتبار برضاهما فلخروجه أيضا (٣) عن مفهوم التعاهد والتعاقد ، لأنّ المعتبر فيه عرفا رضا كلّ منهما لما ينشئه الآخر حين إنشائه ، كمن

______________________________________________________

الوارث مقام الموصى له ، إذ المفروض انتفاء السبب الموجب للحق ـ وهو العقد ـ بانتفاء جزئه أعني به القبول ، فلم يتحقق سبب تامّ لحقّ الموصى له حتّى ينتقل إلى وارثه. فقيام الوارث مقام الموصى له يكشف عن كون إيجاب الموصى سببا تامّا لثبوت حقّ للموصى له ، فينتقل ذلك الحقّ إلى وارثه ، ولا يصحّ ذلك إلّا إذا كانت الوصية إيقاعا.

(١) يعني : لو ردّ الموصى له جاز لوارثه قبول الوصية بعد موت الموصى له ما دام الموصى حيّا. وهذا يدلّ على عدم كون القبول ركنا ، إذ لو كان ركنا لكان الرّد مانعا عن انضمامه مع الإيجاب ، كما هو كذلك في جميع العقود ، هذا.

ثم إنّ جواز القبول بعد الرّد إنما هو في الرّد الواقع حال حياة الموصى ، أمّا ما كان حال موته وقبل قبول الموصى له فلا خلاف في عدم جواز القبول بعده ، وفي الجواهر «الإجماع بقسميه عليه» (١). وتنقيح ذلك موكول إلى محله.

(٢) معطوف على قوله : «إن كان» وحاصله : أنّ عدم قابلية الموجب والقابل إن كان لعدم العبرة برضاهما كالمحجور بفلس أو سفه ، فوجه اعتبار الأهلية في الموجب والقابل أيضا هو الوجه السّابق ، حيث إنّ عدم الأهليّة يوجب إلغاء رضاهما شرعا ، فكان التعاهد منهما كالعدم في نظر الشارع وإن لم يكن كذلك في نظر العرف ، فهذا العقد عقد عرفي ذو أثر عرفي وإن لم يكن شرعيّا ذا أثر كذلك.

(٣) يعني : كخروج العقد عن مفهوم التعاهد في القسم الأوّل ، وهو عدم أهلية التخاطب.

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٨ ، ص ٢٥٦

٦٠٤

يعرض له الحجر بفلس أو سفه (١) ، أو رقّ لو فرض (٢) ، أو مرض موت.

والأصل (٣) في جميع ذلك أنّ الموجب لو فسخ قبل القبول لغا الإيجاب السابق. وكذا لو كان المشتري في زمان الإيجاب غير راض ، أو كان ممّن لا يعتبر رضاه (٤) كالصغير.

فصحة كلّ من الإيجاب والقبول يكون معناه قائما في نفس المتكلم من أوّل العقد إلى أن يتحقق تمام السبب ، وبه يتمّ معنى المعاقدة ، فإذا لم يكن هذا المعنى قائما في نفس أحدهما ، أو قام ولم يكن قيامه معتبرا (٥) لم يتحقق معنى المعاقدة.

______________________________________________________

(١) لا يخفى : أنّ ذكر الحجر بالفلس وشبهه لا يناسب المقام وهو البطلان ، ضرورة أنّ الحجر بالمذكورات لا ينافي الصحة ، لأنّ تصرف المحجور بها يصحّ بالإجازة. والحمل على رضا المالك بما أنّه مالك لأمر العقد كما ترى.

(٢) كما إذا كان البائع حربيّا ، فاسترقّ قبل قبول المشتري.

(٣) يعني : أنّ منشأ الالتفات إلى وجه اعتبار ما ذكرناه ـ من اعتبار رضا كلّ من المتعاقدين حال إنشاء الآخر في حصول المعاقدة والمعاهدة ـ هو وضوح فساد الإيجاب بفسخ الموجب قبل إنشاء القبول مع عدم رضا القابل بهذا الفسخ ، ففساد الإيجاب يكشف إنّا عن اعتبار رضا كلّ منهما ـ حال إنشاء الآخر ـ في تحقّق المعاهدة. وعليه فلا يتّجه ما أفاده المحقق الإيرواني قدس‌سره «من أنّ هذا عين المسألة المبحوث عنها ، لا أصلها» (١).

(٤) يعني : لا عبرة برضاه شرعا ، وإن كان معتبرا عرفا كما في المميّز.

(٥) كبيع الراهن بدون إذن المرتهن الّذي تعلّق حقّه بالعين المرهونة.

لكن عدم تحقّق المعاهدة عرفا هنا ممنوع ، بل عدم الصحة فيه إنّما هو لأجل تعلق حق الغير بالمعقود عليه ، ولذا يصح إذا تعقّبه الرّضا ممن له الحق.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٢

٦٠٥

ثمّ إنّهم (١) صرّحوا بجواز لحوق الرّضا لبيع المكره ، ومقتضاه (٢) عدم اعتباره من أحدهما حين العقد ، بل يكفي حصوله بعده (٣) فضلا عن حصوله بعد الإيجاب وقبل القبول (٤).

______________________________________________________

ومن هنا يظهر أنّ الحكم بصحة بيع المكره إذا لحقه الرّضا ليس على خلاف القاعدة ، بل على طبقها. فما في المتن «من كون الحكم بالصحة في بيع المكره إذا لحقه الرّضا على خلاف القاعدة للإجماع» غير ظاهر ، بل هو على طبق القاعدة ، لأنّ المفقود حال العقد هو الرّضا الذي لا يعتبر تقارنه مع العقد.

(١) غرضه أنّه لا يرد النقض ببيع المكره الذي لا يكون حين الإنشاء راضيا ، مع أنّ الرّضا دخيل في المعاهدة ، فلا تكون أهليّة المتعاقدين ـ في حال إنشاء كلّ منهما ـ دخيلة في المعاهدة. فصحة بيع المكره دليل على عدم دخل الرّضا حين الإنشاء في الصحة. وعلى هذا تنحصر القابلية في القسم الأوّل وهو أهلية التخاطب.

وجه عدم ورود النقض : أنّ اعتبار الرّضا وطيب النّفس حال الإنشاء مسلّم ، ولا ينافيه صحة عقد المكره الملحوق بالرّضا ، وذلك لخروجه بالإجماع عن القاعدة المقتضية للغوية الإنشاء الفاقد للرّضا ، هذا. لكنه محلّ تأمّل ، فراجع التعليقة.

(٢) يعني : ومقتضى تصريحهم بجواز لحوق الرّضا ببيع المكره هو عدم اعتبار أصل رضا المتعاقدين حين العقد.

(٣) أي : حصول الرّضا بعد العقد.

(٤) يعني : أنّ صحة عقد المكره ـ الفاقد للرّضا حال الإنشاء ـ تقتضي بالأولوية القطعية صحة العقد الذي تحقق الرّضا فيه بعد الإيجاب وقبل القبول.

ووجه الأولوية : مقارنة القبول لشرط الصحة أي الرّضا بالإيجاب. وعليه فلا وجه لجعل الرّضا من الشرط المقوّم لمفهوم المعاهدة والمعاقدة.

٦٠٦

اللهمّ إلّا أن يلتزم (١) بكون الحكم في المكره على خلاف القاعدة لأجل الإجماع (*).

______________________________________________________

(١) هذا جواب النقض ، يعني : لو لا الإجماع كان اعتبار مقارنة الرّضا للعقد مقتضيا لبطلان عقد المكره.

__________________

(*) وتنقيح البحث في هذا الشرط منوط ببيان جهات.

الأولى : في مورد هذا الشرط ، وأنّه هو العقد أو المتعاقدان.

والثانية : في انقسام عدم أهلية المتعاقدين إلى قسمين.

والثالثة : فيما يقتضيه الأصل مع فرض فقدان الدليل.

أمّا الجهة الأولى فنخبة الكلام فيها : أنّ الظاهر أنّ أوّل من تنبّه لاعتبار هذا الشرط هو المصنف قدس‌سره ، ولم نظفر بمن تعرّض له قبله ، ولعلّ عدم التعرّض له لأجل عدم كونه شرطا زائدا على أصل العقد ، حيث إنّه مقوّم له ، بداهة تقوّم التعاقد بقابلية المشتري حين إيجاب البائع للتخاطب ، وإلّا فلا يتحقق التعاهد بين الموجب وبين من يكون كالجدار أو الحمار ، فهذا من الأمور المحقّقة للموضوع ، ولذا عدّ من شرائط العقد ، لتقوّم مفهوم العقد العرفي بأهلية كلّ من المتبايعين للإنشاء ، ولم يعدّ من شرائط المتعاقدين مع كون عدّه منها أشبه.

وأمّا الجهة الثانية فحاصلها : أنّ عدم أهلية المتعاقدين تارة يكون مانعا عن تحقّق أصل التعاقد ، كأن يكونا غافلين عرفا غير قاصدين لمدلول اللفظ. وأخرى يكون مانعا عن الرّضا بالعقد ، فالكلام يقع في موضعين :

الأوّل : في عدم الأهلية المانع عن تحقق التعاهد.

والثاني : في المانع عن الرّضا المعتبر في العقد.

أمّا الموضع الأوّل ففيه أقوال :

الأوّل : ما اختاره المصنف والمحقّق النائيني قدس‌سرهما من اعتبار واجدية كلّ منهما لجميع القيود المعتبرة في تحقق العقد في حال إنشاء الآخر ، وجعل المحقق النائيني هذا

٦٠٧

.................................................................................................

__________________

الشرط كسابقه من القضايا التي قياساتها معها ، حيث قال مقرّر بحثه الشريف ما لفظه : «لا يخفى أنّ هذا الشرط أيضا كالشرط السابق من القضايا التي قياساتها معها ، بل منشأ اعتباره هو المنشأ لاعتبار الشرط السابق ، لأنّ العقد لا ينعقد إلّا بفعل الاثنين ، فلو فقد حين إنشاء أحدهما شرائط العقد فوجودها سابقا أو لاحقا لا أثر له ، ومجرّد تحقق الشرط حين إنشاء الآخر لا يفيد بعد كون إنشائه جزءا من العقد ، لا إيقاعا مستقلّا ، فلو كان المشتري حين إنشاء البائع نائما لا يصحّ العقد ، وكذلك العكس. والتفصيل بينهما كما في حاشية السيد قدس‌سره لا وجه له ، وما يدّعيه من الصحّة بلا إشكال في العقود الجائزة ، فإنّها في العقود الإذنية لا العهدية» (١).

الثاني : عدم اعتبارها فيهما كما في حاشية المحقق الايرواني قدس‌سره ، حيث قال ـ بعد قول المصنف قدس‌سره : فوجه الاعتبار عدم تحقق معنى المعاقدة ـ ما لفظه : «فيه منع ، فإنّه لا يعتبر في تحقق مفهوم المعاقدة إلّا وجود الشرائط المعتبرة في كلّ من المتعاقدين حال إنشاء نفسه» (٢).

ومحصّله : أنّه إن كان اعتبار هذا الشرط لأجل توقف مفهوم المعاقدة فذلك غير ظاهر ، ضرورة صدق المعاهدة على الإنشائين اللذين كان إنشاء كل من المتعاقدين في حال واجديته لشرائط إنشاء نفسه وإن لم يبق على تلك الشرائط حين إنشاء الآخر ، فلو كان بقاؤه عليها شرطا فلا بدّ أن يكون شرطا تعبّديا ، لا مقوّما لمفهوم العقد كما هو المفروض في الموضع الأوّل.

الثالث : اعتبار واجدية القابل للشرائط في حال الإيجاب ، وعدم اعتبارها بالنسبة إلى الموجب ، نسب ذلك إلى السيد قدس‌سره في بعض الفروض.

الرابع : عكس ذلك ، بأن كان الموجب جامعا للشرائط حين القبول ، من دون اعتبار ذلك في القابل حين إنشاء الإيجاب.

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١٤

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٢

٦٠٨

.................................................................................................

__________________

أقول : تنقيح الكلام في الموضع الأوّل يتوقف على صرف عنان البحث الى مقامات ثلاثة :

الأوّل : في الإيجاب ، والثاني في القبول ، والثالث فيما بينهما.

أمّا المقام الأوّل : فملخّص البحث فيه : أنّه قد استدل ـ كما في المتن ـ لاعتبار واجدية القابل لتلك القيود ـ حين إنشاء الإيجاب ـ بأنّ المعاقدة لا تتحقق بدونها.

وأيّده المحقق الأصفهاني قدس‌سره بما حاصله : أنّ مناط المعاهدة مع الغير يقتضي كونهما معا كذلك في حال الإيجاب والقبول ، إذ معيّة المتعاقدين ليست معيّة جسم مع جسم ، ولا معيّة حيوان مع حيوان ، بل معيّة شاعر ملتفت إلى ما يلتزم للغير ويلتزم الغير له ، وإلّا فلا ينقدح القصد الجدّي في نفس العاقل إلى المعاهدة مع من هو كالجدار أو كالحمار. وعلمه بالتفاته فيما بعد لا يصحّح المعاهدة معه فعلا (١) ، هذا.

وفيه : أنّ حقيقة العقد ليست من مقولة الفعل ، ولا من مقولة اللفظ ، ولا من الاعتبارات النفسانية المحضة ، بل هي ارتباط أحد الالتزامين بالآخر ، والرّابط بينهما ـ كما تقدم سابقا ـ هو وحدة الملتزم به. والالتزام قائم بالنفس ، ولا يسقط عن صلاحية ارتباطه بالتزام آخر بعروض عارض من نوم أو إغماء أو جنون ، فإنّ الالتزامات النفسانية لا تسقط عن الاعتبار بشي‌ء من ذلك.

وتوضيح المقام منوط بتقديم مقدّمتين.

إحداهما : عدم اعتبار التخاطب في شي‌ء من العقود ـ غير النكاح والمعاملات الذمية ـ حتى يلتزم باعتبار الأهلية في المتعاقدين في زمان الإنشائين وما بينهما ، فإنّ البيع مثلا ـ كما تقدّم في صدر الكتاب ـ هو التبديل بين المالين ، أو المبادلة بينهما ، من دون نظر إلى حيثية التخاطب ، فهذه الحيثية أجنبية عن حقيقة البيع ، فإذا قال الدلّال مثلا : «بعت هذا الكتاب بدينار» واستيقظ نائم والتفت إلى هذا الإيجاب وقال : «قبلت»

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٣

٦٠٩

.................................................................................................

__________________

فلا ينبغي الارتياب في صدق البيع عرفا عليه مع عدم الأهلية المصحّحة للتخاطب.

ثانيتهما : كون القبول تنفيذا للإيجاب وإمضاء له كالإجازة في عقد الفضولي ، فكما لا يعتبر في المجيز أهليّته للإجازة حين عقد الفضولي ، فكذلك في القابل ، فالإيجاب هنا بمنزلة عقد الفضولي ، والقبول بمنزلة الإجازة.

وبعد لحاظ هاتين المقدمتين يتّضح عدم اعتبار أهليّة القابل حين إنشاء الإيجاب.

وقد ظهر مما ذكرنا ضعف ما في كلام المحقق المزبور من قوله : «إذ معيّة المتعاقدين إنّما هي معيّة شاعر ملتفت إلى ما يلتزم للغير ويلتزم الغير له ، وإلّا فلا ينقدح القصد الجدي في نفس العاقل .. إلخ».

وجه الضعف : أنّ البيع ونحوه ليس إلّا تبديلا إنشائيا بين شيئين ، وليس البيع من المعاهدة المعتبر فيها وجود الشرائط للمتعاهدين حين التعاهد. والقبول ليس إلّا إمضاء للإيجاب.

وعلى تقدير كون البيع من المعاهدات يمكن أيضا منع اعتبار الشرائط لكلّ منهما حال تحقق المعاهدة ، لصدق المعاقدة العرفية على العهد الذي صدر من أحدهما حال نوم الآخر ، وبعد استيقاضه قبل ذلك العهد ، فإنّه عقد عرفي بلا إشكال ، وهو موضوع للاعتبار العقلائي والشرعي ، هذا.

ولا إشكال في انقداح القصد الجدّي في نفس الموجب مع علمه بلحوق القبول بعد دقيقة من شخص نائم بعد استيقاضه ، فلا يتوقف انقداح القصد الجدّي على التفات شخص خاص إلى إيجابه ووجدانيّة لشرائط الإنشاء حين الإيجاب.

بل يمكن أن يقال : بعدم اعتبار القصد الجدّي في الإنشاء ، وكفاية الإنشاء الإيجابي برجاء لحوق القبول من شخص مّا ، كما تقدم في بحث التنجيز.

وأمّا ما قيل في وجه اعتبار واجديّة القابل للشرائط حال الإيجاب من : «أنّه

٦١٠

.................................................................................................

__________________

لا ريب في أنّه يعتبر في ترتيب العقلاء والشارع الأثر على الالتزام النفساني أن يظهره لمن هو طرفه في المعاملة ، فإذا كان الطرف غير قابل للتخاطب فالإظهار له كلا إظهار ، فلأجل ذلك يعتبر قابلية القابل للتخاطب حال الإيجاب ، فتدبّر ، فإنّه دقيق».

فيتوجه عليه : أنّ المراد بالإظهار إن كان إنشاء الإيجاب بشرط قابلية القابل للتخاطب حينه ، ففيه ما عرفت من منع اعتبار أهلية المتعاقدين للتخاطب ، لخروج التخاطب عن ماهية العقد.

وإن كان مجرّد الإظهار لمن هو طرفه في المعاملة ، فيكفي في صحة القبول اطّلاع القابل على إنشاء الموجب بأيّ نحو كان ولو بعد إفاقته من إغمائه أو جنونه.

وبالجملة : فلا تكون أهلية القابل حين إنشاء الإيجاب ممّا هو مقوّم لمفهوم العقد العرفي كما هو مدّعى الخصم ، هذا.

وأمّا المقام الثاني : ـ وهو اعتبار أهلية الموجب حين إنشاء القبول ـ فقد استدلّ عليه بوجوه :

أحدها : ما تقدم آنفا من قولنا : «وأمّا ما قيل في وجه اعتبار واجديّة القابل للشرائط .. إلخ» وفيه : ما مرّ ، فلاحظ.

ثانيها : أنّ القبول لمّا كان متمّما للعقد ومخرجا لكل من المالين عن ملك مالكه فلا بدّ أن يكون الموجب أيضا في هذا الحال أهلا للتملّك حتى يترتب الأثر على التزامه النفساني ، هذا.

وفيه : أنّ التمليك الإنشائي الذي هو حقيقة البيع قد أنشأه البائع ، وبالقبول يتمّ موضوع الأمر الاعتباري وهو الملكية ، فلو كان الموجب حيّا ملكه ، وإلّا يملكه وارثه إن أمضى هذا العقد ، حيث إنّ المال انتقل قبل القبول إلى الوارث الذي هو يقوم مقام الموجب المالك.

فالمتحصل : أنّ العقد العرفي لا يتقوّم ببقاء الموجب على شرائط الإنشاء إلى

٦١١

.................................................................................................

__________________

زمان القبول ، هذا.

ثالثها : عدم تحقق المعاهدة من جهة انتفاء الالتزام النفساني بالإغماء والجنون مثلا ، فلا يبقى التزام من الموجب حتّى يرتبط بالالتزام القابل ، هذا.

وفيه : عدم زوال الالتزامات النفسانية بالموت فضلا عن النوم والإغماء. ولو كان الموت مزيلا للالتزام النفساني لم يكن فرق بين وقوع الموت قبل لحوق الالتزام القبولي وبعده ، لأنّ ضمّ التزام آخر إلى الالتزام الإيجابي مثلا لا يوجب بقاءه إن كان الموت مزيلا له.

وبالجملة : لا يتقوّم العقد العرفي بواجديّة الموجب لشرائط الإنشاء حال القبول ، هذا.

وأمّا المقام الثالث فقد ظهر حاله ممّا مرّ في المقامين المتقدمين ، فلا يعتبر أهلية المتعاقدين للإنشاء في الزمان المتخلّل بين إنشائهما.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في الموضع الأوّل ـ وهو عدم الأهليّة الموجب لعدم تحقق المعاهدة العرفية ـ أنّ اعتبار واجدية كلّ من المتعاقدين لشرائط الإنشاء مختصّ بحال إنشاء نفسه. ولا دليل على اعتبارها في كلّ منهما في زمان الانشائين وبينهما ، والله العالم.

وأمّا الموضع الثاني ـ وهو اعتبار الشرائط المعتبرة في صحة العقد ونفوذه بعد واجديّتهما لما هو دخيل في تحقق العقد العرفي ـ فاختلفوا فيه أيضا على أقوال.

وملخّص الوجه في اعتبار الشرائط الزائدة على الأمور المقوّمة للعقد العرفي : أنّه قد استدل المصنف قدس‌سره على اعتبارها في المتعاقدين حال كلّ واحد من الإنشائين على ما يستفاد من عبارته بوجهين :

الأوّل : عدم تحقق معنى المعاقدة بدون رضا المتعاقدين أو أحدهما ، كما هو صريح عبارته ، حيث قال : «وإن كان لعدم الاعتبار برضاهما فلخروجه أيضا عن مفهوم

٦١٢

.................................................................................................

__________________

التعاهد والتعاقد ، لأنّ المعتبر فيه عرفا رضا كلّ منهما لما ينشئه الآخر حين إنشائه ، كمن يعرض له الحجر .. إلخ» فإنّه صريح في كون الرّضا دخيلا في مفهوم العقد ، لا أنّه شرط تعبدي في العقد العرفي ، هذا.

ولكن فيه ما لا يخفى ، فإنّه مصادرة واضحة ، لأنّ دخل الرضا في مفهوم العقد العرفي أول الكلام ، بل المعلوم خلافه ، وإلّا لكان عقد المكره والصبي المميّز والرّاهن بدون إذن المرتهن والمفلّس وغيرهم من المحجورين عن التصرف غير قابل للإجازة ، لعدم كونه عقدا عرفيّا على الفرض ، مع القطع بأنّها عقود عرفية قابلة للتأثير بالإجازة.

ودعوى : كون جميعها خارجة بالإجماع كما ترى ، لأنّ الإجماع لا يجعل غير العقد عقدا ، بل يخرج العقد العرفي الباطل شرعا ـ بلسان العموم ـ عن القواعد المقتضية للبطلان ، فيكون الإجماع مخصّصا لعموم ما دلّ على بطلان العقد بعدم الرّضا حقيقة كعقد المكره ، أو تنزيلا كعقد المحجور بفلس أو سفه أو غيرهما ، فإنّ رضاهما كالعدم شرعا.

وما أفاده المحقق الإيرواني في توجيه كلام المصنف قدس‌سره بقوله : «لعلّ المراد أنّ رضاهما بعد أن كان في نظر الشارع كلا رضا ، والمفروض أنّ رضاهما مما يعتبر في تحقق مفهوم التعاهد لا جرم كان تعاهدهما في نظره بمنزلة العدم ، فلا يكون عقدهما عقدا معتبرا شرعا وإن كان عقدا عرفيا ذا أثر عرفي» (١).

لا يخلو من غموض ، لأنّ تنزيل رضا المحجور عليه شرعا بمنزلة العدم في ترتب الأثر الشرعي لا يخرج العقد عن مفهومه العرفي الذي لا يعتبر فيه الرّضا ، ولذا كان عقد المكره عقدا حقيقة مع عدم الرّضا به حين إنشائه.

والحاصل : أنّ العقد الفاقد للرّضا حقيقة أو تنزيلا عقد عرفي غير مؤثّر شرعا ، فليس الرّضا مقوّما لمفهوم العقد العرفي كما هو واضح.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٣

٦١٣

.................................................................................................

__________________

الثاني : برهان إنّي ، وهو : أنّ لغويّة الإيجاب بفسخ الموجب له قبل تمامية القبول تكشف إنّا عن شرطيّة رضا الموجب إلى زمان القبول المتمّم للعقد الذي هو الموضوع للأمر الاعتباري ، إذ لو لم يكن الرّضا شرطا كذلك لم يؤثّر الفسخ ، حيث إنّ ما يهدمه الفسخ عين ما يعمّره الرّضا ، هذا.

وفيه : ما لا يخفى ، ضرورة أنّ لغوية الإيجاب إنّما هي بسبب الفسخ ، لأنّ الالتزام ينحلّ حقيقة به ، فلا يبقى بعد الفسخ إيجاب حتى ينضمّ إليه القبول ويرتبط به حتى يحصل منهما عقد. فلغوية الإيجاب بفسخ الموجب أجنبية عن المقام ، فلا تكشف عن اعتبار رضا الموجب حال إنشاء القابل ، وعن تحقق معنى التعاقد.

وهذا بخلاف الموت والنوم والإغماء ، فإنّها لا توجب انحلال الالتزام ، ولذا لا تبطل العهود والالتزامات بالموت إلّا ما ليس التزاما حقيقة كالعقود الجائزة ، فلو أوجب البائع ومات ـ فضلا عن الجنون والنوم ـ وقبل المشتري تمّ موضوع الاعتبار ، غاية الأمر أنّ وارث الموجب يقوم مقامه ، لانتقال المال إليه قبل قبول المشتري.

وبالجملة : فالشرط في لحوق القبول بالإيجاب حتى يتحقق العقد هو بقاء الالتزام الإيجابي وعدم انحلاله بالفسخ ، لا بقاء الموجب على شرائط الإنشاء إلى تمامية القبول.

وكذا لا يشترط أهلية القابل لشرائط الإنشاء حين الإنشاء الإيجابي ، فلو كان محجورا لصغر أو فلس أو سفه أو نحوها وزال الحجر بعد إنشاء الإيجاب وقبل الإيجاب كان ذلك عقدا عرفيا. فعدم الأهلية المانع عن اعتبار الرّضا شرعا بالإيجاب حين إنشائه لا يمنع عن تحقق العقد العرفي كما أفاده المصنف قدس‌سره. فلا ينبغي جعل الحجر شرعا مانعا عن تحقق المعاهدة العرفية ، بل هو مانع عن تأثير العقد شرعا.

نعم إذا كان الحجر للجنون أو عدم التمييز فمنع تحقق المعاهدة عرفا في محلّه. وأمّا إذا كان لتعلّق حقّ الغير كحقّ المرتهن والغرماء فمنع المعاهدة العرفيّة غير ظاهر جدّا.

٦١٤

.................................................................................................

__________________

فالمتحصل : أنّه لا يعتبر بقاء أهلية الإنشاء من ناحية الشروط الشرعية في المتعاقدين في زمان الإنشاءين ولا بينهما ، بل العبرة بوجود تلك الشرائط في كل من المتعاقدين حال إنشاء نفسه ، هذا.

وأمّا الجهة الثالثة فملخص الكلام فيها : أنّ وجه اعتبار الشرائط في تمام آنات الإنشائين في كلّ من المتعاقدين إن كان لعدم صدق العقد العرفي فقد عرفت ما فيه.

وإن كان لدليل خاص شرعي ففيه : أنّه لم يقم دليل تامّ على اعتبار أهلية كلّ من المتعاقدين في جميع آنات الإنشائين وبينهما ، فإذا شكّ في اعتبارها شرعا فالمرجع إطلاق أدلة نفوذ العقود.

ودعوى : انصرافها إلى العقود المتعارفة ، وخروج المقام عن العقود المتعارفة ، قد عرفت سابقا ما فيها. نعم بناء على تسليمها يرجع إلى أصالة الفساد.

فتلخص من جميع ذلك : أنّ واجدية المتعاقدين للشروط العرفية المقوّمة لمفهوم العقد العرفي كالحياة والعقل والالتفات معتبرة في حال إنشاء كلّ منهما لنفسه ، وليست معتبرة في جميع آنات الإنشائين وبينهما.

وأمّا الشروط الشرعية المعتبرة في صحة العقد ونفوذه فهي معتبرة فيهما في الجملة ولو بعد العقد ، ولذا يصحّ بيع المكره بعد حصول رضاه وطيب نفسه ، وبيع المحجور عن التصرف لفلس أو رهن أو غيرهما ، إذ لا شبهة في صحته بعد ارتفاع الحجر ، فإنّ سلطنة المالك معتبرة في البيع ولو بعد العقد.

وبالجملة : فالشروط العرفية معتبرة في خصوص حال الإنشاء. وأمّا الشروط الشرعية فهي معتبرة في المتعاقدين في الجملة ولو بعد العقد ، لأنها معتبرة في موضوع اعتبار الشارع ، فهي جزء الموضوع ، وبتحققها يتم الموضوع. واعتبار مقارنتها لنفس العقد محتاج إلى الدليل.

ففرق واضح بين الشروط العرفية المقوّمة للعقد ، وبين الشروط الشرعية المقوّمة لصحته وترتّب الأثر عليه ، فلاحظ وتدبّر.

٦١٥

فرع (١) : لو اختلف المتعاقدان اجتهادا أو تقليدا في شروط الصيغة ، فهل

______________________________________________________

اختلاف المتعاقدين في شروط الصيغة

(١) الغرض من عقد هذا الفرع هو بيان حكم العقد الذي اختلف المتعاقدان في شرائطه صحّة وفسادا.

وتوضيحه : أنّه لا كلام في صحة العقد الذي روعيت فيه الشروط المعتبرة فيه بنظر المتعاقدين ، فإذا اجتهدا في شرطيّة تقدم الإيجاب والفارسية والماضوية وقالا بعدمها ، فعقدا بالفارسي المضارع المقدّم قبوله على إيجابه صحّ. وكذا الحال إذا قلّدا مجتهدا نافيا لاعتبار ما ذكر ، أو قلّد كلّ منهما مجتهدا فاتّفقا في الفتوى.

وأمّا إذا اجتهدا واختلفا في الرأي ، أو قلّد أحدهما من يقول بعدم جواز تقديم القبول وبجواز العقد بالفارسي ، وقلّد الآخر من يقول بالعكس ، بأن جوّز تقديم القبول واشترط العربية ، فيتجه هذا البحث ، وهو : أنّه هل يجوز لكلّ واحد من المتعاقدين العمل برأيه أو برأي مقلّده ، مع فرض بطلانه بنظر الآخر؟ أم تتوقف صحة العقد على رعاية كافة الشرائط حتى يعتقد كلاهما بصحّته ، أفاد المصنف قدس‌سره أنّ في المسألة وجوها ثلاثة :

الأوّل : صحّة العقد في حقّهما مطلقا ، سواء لزم من عمل كلّ منهما على مقتضى مذهبه كون العقد المركّب منهما ممّا لا قائل بسببيّته للنقل ، أم لا.

الثاني : عدم صحة العقد في حقّهما مطلقا.

٦١٦

يجوز أن يكتفي كلّ منهما بما يقتضيه مذهبه (١) أم لا؟ وجوه ، ثالثها : اشتراط عدم كون العقد المركّب منهما ممّا لا قائل بكونه سببا في النقل ، كما لو فرضنا أنّه

______________________________________________________

الثالث : التفصيل بين أن يكون العقد المركّب منهما ممّا لا قائل بسببيته للنقل فيبطل ، وأن لا يكون ممّن لا قائل بسببيّته فيصح.

مثاله : ما لو قال المشتري بجواز تقديم القبول على الإيجاب ، مع قوله بعدم جواز العقد بالفارسي ، وقال البائع بجواز العقد بالفارسيّ ، فقدّم المشتري القبول باللّفظ العربي عملا بمذهبه ، وأوجب البائع بالفارسيّ عملا بمذهبه ، فحصل من ذلك عقد فارسي مقدّم القبول. ومن المعلوم أنّ القائل بالعربية يعتبرها في جميع العقد المركب من الإيجاب والقبول ، فمع كون الإيجاب فارسيّا لا يكون العقد عربيّا ، بل يصدق عليه العقد بالفارسي في الجملة. فالقائل باعتبار العربية يحكم بفساد العقد المزبور من جهة عدم العربية ، والقائل بوجوب تأخير القبول عن الإيجاب يحكم بفساده من جهة تقدّم القبول ، فلا يوجد قائل بسببيّة هذا العقد للنقل.

ومثال ما إذا وجد قائل بسببيته هو : أن يكون القائل باعتبار العربية موجبا ، فأوجب بالعربية ، وقبل الآخر بالفارسية ، فإنّه يوجد قائل بسببيّة هذا العقد ، لأنّ من لا يعتبر العربية يقول بسببيته ، مع فرض تقدّم إيجابه على قبوله.

(١) بمعنى الإكتفاء بما يقتضيه مذهبه بالنسبة إلى خصوص ما يصدر منه ، وأمّا بالنسبة إلى الصادر من الآخر فيعمل بما يقتضيه مذهبه ، لا مذهب نفسه ، فإذا اختلفا في اعتبار العربية ، وكان القائل باعتبارها موجبا كفى صدور الإيجاب منه بالعربية ، وإن كان القبول بالفارسية. فلا يلزم أن يقع القبول بالعربي أيضا ، بل يكتفي في القبول بمذهب القابل ، فيكون كلّ من الإيجاب والقبول صحيحا بمذهب منشئه فقط ، فاجتهاد كلّ واحد منهما أو تقليده حجة على الآخر ، وإلّا فحجية اجتهاد كلّ منهما في تمام العقد تقتضي فساده.

٦١٧

لا قائل بجواز تقديم القبول على الإيجاب ، وجواز (١) العقد بالفارسي. أردؤها أخيرها (٢).

والأوّلان (٣) مبنيّان على أنّ الأحكام الظاهريّة المجتهد فيها بمنزلة (٤) الواقعية الاضطرارية (٥) ،

______________________________________________________

(١) الواو للمعيّة ، ومقصوده التمثيل للوجه الثالث ، وقد عرفته آنفا.

(٢) لأردئيّة وجهه وهو العلم الإجمالي ببطلان هذا العقد القائل بفساده كلّ واحد من المتعاقدين ، ومن المعلوم عدم جواز ترتيب آثار الصحة على عقد لم يقل أحد بصحّته.

وجه الأردئية : أنّ المرجع في العقد مجتهدان ، أحدهما يفتي بجواز العقد الفارسي ، والآخر بجواز تقديم القبول على الإيجاب ، فموضوع فتوى أحدهما مغاير لموضوع فتوى الآخر. نظير ما قيل في العبادات من صحّة صلاة واجدة لتسبيحة واحدة وفاقدة للسورة ، استنادا إلى فتوى من يكتفي بتسبيحة واحدة ومن يفتي بعدم جزئية السورة ، فإنّ هذه الصلاة باطلة برأي كلّ منهما. لكن كلّ واحد منهما مرجع في جزء من الصلاة ، لا في مجموعها حتى يقال : إنّ كلّ واحد منهما قائل ببطلانها.

(٣) وهما الصحة مطلقا والفساد كذلك.

(٤) خبر قوله : «أن الأحكام» أي : هل تكون بمنزلة .. إلخ.

(٥) المراد بها هي السببيّة ، يعني : أنّ مبنى الصحة والفساد هو الخلاف في كون الأمارات حجة على الموضوعية أو على الطريقيّة. وعلى الأوّل يكون قيام الأمارة على شي‌ء موجبا لحدوث مصلحة في المؤدّى موجبة لتشريع الحكم على طبقها وإن كان مخالفا للحكم الواقعي الأوّلي ، فتكون الأمارة من العناوين الثانوية المغيّرة لأحكام العناوين الأوّلية.

وعلى الثاني ـ وهو الطريقية ـ تكون مؤدّياتها أحكاما عذريّة.

فعلى الموضوعية يصحّ العقد ، وعلى الطريقية لا يصحّ.

٦١٨

فالإيجاب (١) بالفارسية من المجتهد القائل بصحّته ـ عند من يراه باطلا ـ بمنزلة (٢) إشارة الأخرس ، وإيجاب العاجز عن العربية ، وكصلاة (٣) المتيمّم بالنسبة إلى واجد الماء؟ أم (٤) هي أحكام عذريّة (٥) لا يعذر فيها إلّا من اجتهد أو قلّد فيها (٦). والمسألة محرّرة في الأصول.

هذا (٧) كلّه إذا كان بطلان العقد.

______________________________________________________

(١) هذا متفرّع على سببيّة الأمارات ، لأنّ صحّة الإيجاب الفارسي عند القائل بصحّته حكم واقعي ثانوي ، فيكون صحيحا عند القائل باعتبار العربية ، لكون الإيجاب الفارسيّ عند من يعتبر العربية بمنزلة إشارة الأخرس ، إذ لا شبهة في كون إشارة الأخرس إيجابا أو قبولا صحيحا عند من يرى اعتبار العربية مثلا كصحة ايتمام المتوضّي بالمتيمّم.

(٢) خبر قوله : «فالإيجاب».

(٣) فإنّ صحة صلاة المتيمّم حكم واقعي ثانوي ، وصحة صلاة المتوضّي حكم واقعي أوّلي.

(٤) معطوف على «الأحكام المجتهد فيها».

(٥) هذا هو الطريقية ، فمؤدّيات الأمارات حينئذ أحكام عذرية مختصة بمن اجتهد أو قلّد فيها ، إذ يمكن أن يكون الحكم العذري موضوعا للأثر بالنسبة إلى الغير ، مثل ما دلّ على «أنّ لكلّ قوم نكاحا» حيث إنّ نكاح كل قوم حكم عذري ، لا يجوز للغير تزويجها لنفسه أو لغيره.

(٦) يعني : فيختصّ الإجزاء بذلك المجتهد ومقلّده ، دون غيره ، فلا ينفذ بالإضافة إلى شخص آخر.

(٧) أي : ابتناء المسألة على السببية والطريقية. وغرضه الإشارة إلى تفصيل بين الشروط. ومحصّله : أنّ ابتناء المسألة على كون الأحكام الظاهرية أحكاما اضطرارية أو عذريّة إنّما يكون في غير الشروط الثلاثة من الصّراحة والعربية

٦١٩

عند كلّ (١) من المتخالفين مستندا إلى فعل الآخر كالصراحة والعربية والماضويّة والترتيب (٢).

وأمّا الموالاة والتنجيز وبقاء المتعاقدين على صفات صحة الإنشاء إلى آخر العقد ، فالظاهر أنّ اختلافها يوجب فساد المجموع (٣) ، لأنّ بالإخلال بالموالاة أو التنجيز أو البقاء على صفات صحة الإنشاء يفسد عبارة من يراها شروطا ، فإنّ الموجب إذا علّق مثلا أو لم يبق على صفة صحة الإنشاء إلى زمان القبول باعتقاد (٤) مشروعية ذلك (٥) لم يجز من القائل ببطلان هذا تعقيب هذا الإيجاب

______________________________________________________

والماضوية ونحوها ممّا يستند بطلان العقد فيه إلى فعل أحد المتعاقدين. وأمّا الشروط التي توجب فساد العقد عند كليهما كالموالاة وغيرها فلا يبتني بطلان العقد بها على المبنى المزبور من طريقية الأمارات وسببيّتها ، بل يبطل مطلقا.

(١) الظاهر أنّ الصحيح أن تكون العبارة هكذا : «عند أحد المتخالفين» بدل «كلّ من المتخالفين».

(٢) ليس الترتيب وما تقدّمه من الشروط الثلاثة مما يوجب فساد العقد عند كلّ من المتعاقدين ، إذ القائل بعدم اعتبارها لا يذهب إلى اعتبار عدمها.

(٣) أي : فساد مجموع جزئي العقد ، وهذا قرينة على لزوم بدليّة «أحد» عن لفظ «كل» في العبارة المتقدمة ، لأنّ فساد المجموع عبارة أخرى عن فساده عندهما معا ، وهذا الفساد عند كلّ منهما ناش عن فعل الآخر.

(٤) متعلق بقوله : «علّق ، لم يبق».

(٥) أي : الإيجاب التعليقي ، أو الإيجاب الذي لم يبق موجبه على صفة صحّة الإنشاء إلى زمان القبول ، فإنّ الموجب إذا أنشأ الإيجاب المعلّق أو المنجّز لكن لم يبق على صفة الإنشاء إلى آخر زمان القبول ـ مع اعتقاد الموجب مشروعية الإيجاب وصحّته في هاتين الصورتين ـ لم يجز وضعا للقابل الذي يرى بطلان هذا الإيجاب أن ينشئ القبول ، لاعتقاده لغويّة الإيجاب وكونه كالعدم ، ومع هذا الاعتقاد يصير

٦٢٠