هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

مأخوذة من اعتبار الاتّصال بين المستثنى والمستثنى منه (١). وقال بعض العامة (٢):

______________________________________________________

والقبول هي تبعية القبول له كتبعية المستثنى للمستثنى منه ، فكأنّ ملاك الاتصال في الاستثناء ـ وهو التبعية ـ جار في جميع التوابع ، فتعدّوا من باب الاستثناء إلى كلّ ما لوحظ فيه التبعية ، وترتّب عليها الآثار الشرعية. وجعلوا العقد من الموارد الملحوظ فيها التبعية ، حيث إنّ القبول تابع للإيجاب ، فيعتبر الاتّصال والموالاة بين الإيجاب والقبول كاعتبارهما بين المستثنى والمستثنى منه.

والحاصل : أنّ تبعية المستثنى للمستثنى منه وشدّة ارتباطه به لمّا كانت في غاية الوضوح ـ بحيث كان الاستثناء من النفي إثباتا ومن الإثبات نفيا ، وكان موجبا لقلب المستثنى منه من المدح إلى الذم ، ومن الصدق إلى الكذب ، ومن الإيمان الى الكفر ، ومن الإقرار إلى الإنكار ، وبالعكس ـ كان اعتبار الموالاة بينهما في غاية الوضوح ، وجعل مأخذا وأصلا لاعتبار الموالاة في سائر الأمور المتّصلة كالعقود.

(١) فلو أقرّ بقوله : «لزيد عليّ خمسون دينارا» وبعد ساعة قال : «إلّا خمس دنانير» لم يسمع منه هذا الاستثناء حتى يكون إقراره بخمس وأربعين ، بل يحمّلونه الخمسين ، ويجعلون استثناء الخمس إنكارا لإقراره بالخمسين ، ومن المعلوم عدم العبرة بالإنكار بعد الإقرار. وهذا بخلاف ما لو اتّصل المستثنى بالمستثنى منه ، فإنّه يقبل منه الاعتراف بخمس وأربعين.

وعليه فسماع الاستثناء عند الاتّصال بالمستثنى منه ـ وعدم سماعه عند الفصل الماحي لوحدة الكلام ـ دليل قطعي على اعتبار الوحدة بين أجزاء الكلام الواحد ، وكذا بين أجزاء كل مركّب اعتباري.

(٢) في الفقه على المذاهب الأربعة في شروط عقد النكاح : «واشترط الشافعية والمالكية الفور ، واغتفروا الفاصل اليسير الذي لا يقطع الفور عرفا» (١).

__________________

(١) : الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ٤ ، ص ٢٤

٥٠١

لا يضرّ (١) قول الزوج بعد الإيجاب : الحمد لله والصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلت نكاحها.

ومنه (٢) الفوريّة في استتابة المرتدّ ، فيعتبر في الحال. وقيل : إلى ثلاثة أيّام (٣).

ومنه (٤) السكوت في أثناء الأذان ، فإن كان كثيرا أبطله.

______________________________________________________

(١) وهو يضرّ بناء على ما سمعته من جامع المقاصد من قوله : «وكذا لو تخلّل بينهما بكلام آخر أجنبي».

(٢) أي : ومن اعتبار الاتصال والتوالي : ما ذكروه في توبة المرتد من حيث اعتبار الفورية فيها عقيب استتابته من طرف الحاكم الشرعي. فلو لم يتب فورا قتل ، هذا بناء على ما نسب إلى المشهور.

وأمّا بناء على إمهاله ثلاثة أيّام لم تكن هذه المسألة من فروع الموالاة ، لأجنبيّتها عنها.

ويدلّ على فوريّة إجابة المرتد بعد الاستتابة عدة نصوص :

منها : ما في معتبرة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام في حديث ، قال : «قلت : فنصرانيّ أسلم ثم ارتدّ؟ قال : يستتاب ، فإن رجع ، وإلّا قتل» (١). وظهورها في وجوب الرجوع فورا وعدم إمهاله ممّا لا ينكر.

(٣) وهو مرويّ أيضا ، مثل ما رواه مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : المرتدّ عن الإسلام تعزل عنه امرأته ، ولا تؤكل ذبيحته ، ويستتاب ثلاثة أيام ، فإن تاب ، وإلّا قتل يوم الرابع» (٢).

(٤) أي : ومن اعتبار التوالي : حكمهم بقدح السكوت في أثناء الأذان.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٥٤٧ ، الباب ٣ من أبواب حدّ المرتدّ ، الحديث : ١ ، ونحوه الحديث ٢ و٣ و٤

(٢) المصدر ، ص ٥٤٨ ، الحديث : ٥

٥٠٢

ومنه (١) السكوت الطويل في أثناء القراءة ، أو قراءة غيرها خلالها (٢). وكذا التشهّد (٣).

ومنه (٤) تحريم المأمومين في الجمعة قبل الركوع ، فإن تعمّدوا أو نسوا حتى ركع فلا جمعة.

واعتبر بعض العامّة تحريمهم معه قبل الفاتحة (٥).

______________________________________________________

واستدلّ في الجواهر على اعتبار الموالاة بين فصول الأذان بوجوه ثلاثة : الأصل ، وفعلهم عليهم‌السلام ، والاستفادة من الأدلّة الخالية عن المعارض (١).

والكلّ مخدوش ، إذ في الأوّل عدم معارضته للإطلاق الدالّ على عدم الاعتبار. وفي الثاني : الإجمال. والاستفادة من الأدلة على خلافه.

فالتحقيق أنّ المعتبر هو عدم انمحاء الصورة عند المتشرعة بسكوت طويل أو أعمال أجنبية ، كانمحاء صورة الصلاة على ما ثبت في محله. فالموالاة بالمعنى المقصود هنا غير معتبرة في الأذان.

(١) أي : ومن اعتبار التوالي : حكمهم بقدح السكوت الطويل الماحي للهيئة الكلامية المعتبرة في صحة كونه كلاما ، وكذا الكلام الأجنبي الماحي.

لكنك خبير بأنّه أجنبي عن الموالاة المعتبرة في شي‌ء ، مع انخفاظ عنوانه ، ضرورة أنّ الماحي مخلّ بعنوان القراءة ، لا بالفورية فقط.

(٢) الضميران راجعان إلى القراءة.

(٣) فإنّ التشهّد عنوان واحد لا يتحقق إلّا باتصال أجزائه.

(٤) أي : ومن اعتبار التوالي. وغرضه ـ ظاهرا ـ هو : أنّ ما دلّ على اعتبار العدد في الجمعة يقتضي اعتبار دخولهم في الصلاة قبل الركوع على وجه يعدّ تمام الصلاة فعلا لجميعهم.

(٥) وهذا أولى من سابقه ، لأنّه أمسّ بالموالاة.

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٩ ، ص ٩٢

٥٠٣

ومنه (١) الموالاة في التعريف بحيث لا ينسى أنّه تكرار. والموالاة في سنة التعريف (٢) ، فلو رجع (٣) في أثناء المدة استؤنف ليتوالى» (١) انتهى.

______________________________________________________

(١) أي : ومن اعتبار التوالي : الموالاة في التعريف. ولعلّ المراد بهذا التعريف هو تعريف اللقطة في أوّلها ، يعني تعتبر الموالاة بين التقاطها وبين تعريفها ، بحيث لا يتخلّل زمان معتدّ به بين الالتقاط وبين التعريف الأوّل.

وكذا يعتبر التوالي بين التعريفات أثناء سنة واحدة ، إذ لو تخلّل زمان طويل بين التعريفات لم يتذكّر السامع أن التعريف الثاني والثالث تكرار للتعريف الأوّل ، واحتمل أنّه تعريف للقطة أخرى غير اللقطة الأولى التي عرّفها مرّة مثلا. وعلى هذا يعتبر التوالي بين التعريفات حتى لا تصير اللقطة نسيا منسيا. قال الشهيد قدس‌سره : «والضابط أن يتابع بينها بحيث لا ينسى اتصال الثاني بمتلوّه» (٢).

(٢) أي : تعريف اللقطة في أثناء السّنة.

(٣) أي : فلو رجع عن التعريف في أثناء السنة استأنف التعريف. وبيانه : أنّه ـ بناء على اعتبار التتابع في التعريف في حول كامل ـ إذا عرّف الملتقط اللّقطة شهرا مع التتابع المعتبر كتعريفها في كلّ أسبوع مرّة مثلا ، ثم ترك التعريف شهرين ، وجب عليه تعريفها سنة كاملة بعد الشّهر الثالث ، وذلك لأنّ التعريف في الشهر الأوّل قد انقطع أثره بفوات الموالاة والتكرار في الشهر الثاني والثالث ، فلو شرع في التعريف في الشهر الرابع لم يكن متابعة للتعريف في الشهر الأوّل. وحيث إنّه يجب التعريف حولا كاملا وجب عليه أن يعرّفها من الشهر الرابع ، وأن يجعله مبدأ سنة التعريف مع رعاية الموالاة بين الدفعات. ولو لم يكن التوالي معتبرا لم يسقط التعريف في الشهر الأوّل عن الأثر ، ولم يقدح تخلّل شهرين بدون التعريف ، وكان يكفيه إلحاق تسعة أشهر بما تقدم حتى يتمّ الحول.

__________________

(١) : القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ٢٣٤ ، رقم القاعدة : ٧٣ ، وتمام كلام الشهيد هذا : «ليتوالى الانجاش ـ أي الإعلان ـ وقيل : يبني».

(٢) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ٨٨

٥٠٤

أقول : حاصله (١) أنّ الأمر المتدرّج شيئا فشيئا إذا كان له صورة اتصالية في العرف ، فلا بدّ في ترتب الحكم المعلّق عليه في الشرع من اعتبار صورته الاتّصالية. فالعقد المركّب من الإيجاب والقبول ـ القائم بنفس المتعاقدين ـ بمنزلة (٢) كلام واحد مرتبط بعضه ببعض ، فيقدح تخلّل الفصل المخلّ بهيئته (٣) الاتصالية. ولذا (٤) لا يصدق المعاقدة إذا كان الفصل مفرطا في الطول كسنة أو أزيد.

وانضباط ذلك (٥) إنما يكون بالعرف ، فهو في كل أمر بحسبه ، فيجوز الفصل بين كلّ من الإيجاب والقبول بما لا يجوز بين كلمات كلّ واحد منهما ، ويجوز بين الكلمات بما لا يجوز بين الحروف ، كما في الأذان والقراءة.

وما ذكره (٦) حسن لو كان حكم الملك واللزوم في المعاملة منوطا بصدق

______________________________________________________

(١) قد تقدّم في (ص ٥٠١) تقريب هذا الحاصل ، فراجع.

(٢) خبر قوله : «فالعقد المركب» وقوله : «القائم» صفة للعقد.

(٣) متعلّق ب «يقدح» والضمير راجع إلى العقد.

(٤) أي : ولأجل قدح تخلّل الفصل المزبور لا يصدق المعاقدة إذا كان الفصل مفرطا في الطول كسنة أو أزيد.

(٥) يعني : وضبط الفصل المفرط ـ المخلّ بالهيئة الاتصالية ـ موكول إلى العرف ، ولا حدّ معيّن له ، فتختلف مراتب الفصل بحسب قصر الزمان وطوله ، فالفصل بالسعال والعطاس بين حروف كلمة واحدة وبين مثل المضاف والمضاف إليه قادح في صدق الكلمة وشبهها. والفصل بين المبتدأ والخبر بالعطاس مثلا ربما لا يكون مخلّا بالهيئة التركيبية. والسكوت دقيقة أو أكثر ربما يكون ماحيا لصورة قراءة السورة مثلا ، وهكذا.

(٦) أورد المصنف على كلام الشهيد قدس‌سرهما بوجوه ثلاثة :

أوّلها : يتعلق بما أفاده من اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول ، من جهة توقف صدق العقد على التوالي بينهما.

٥٠٥

العقد عرفا ، كما هو مقتضى (١) التمسّك بآية الوفاء بالعقود ، وبإطلاق كلمات الأصحاب في اعتبار العقد في اللزوم بل الملك. أمّا لو كان (٢) منوطا بصدق البيع

______________________________________________________

ثانيها : يتعلّق بما أفاده من جعل مبنى شرطيّة الموالاة الرّبط بين المستثنى منه والمستثنى.

ثالثها : في الفروع الّتي فرّعها الشهيد على شرطية الفورية والتتابع.

أمّا الإشكال الأوّل فتقريبه : أنّ ما أفاده الشهيد قدس‌سره حسن لو كان دليل الملك واللزوم الآية المباركة الآمرة بالوفاء بالعقود ، حيث إنّها أناطت ترتب الملك واللزوم بعنوان «العقد» ولا يحرز صدقه إذا انفصل القبول عن الإيجاب بما لا يتسامح عرفا فيه. وأمّا لو كانا مترتبين على عنوان «البيع» أو «التجارة عن تراض» لم يقدح عدم صدق العقد على الإيجاب والقبول ، المنفصل أحدهما عن الآخر ، وذلك لكفاية صدق «البيع والتجارة» عليه ، حيث إنّهما موضوعان ـ في آيتي : (حلّ البيع والتجارة عن تراض) للصحة واللزوم.

وعليه فلا موجب حينئذ لاعتبار الموالاة فيه ، لعدم دوران الصحة واللزوم مدار عنوان العقد حتى نلتزم باعتبار الموالاة فيه. هذا توضيح الإشكال الأوّل.

وأمّا الإشكال الثاني والثالث فسيأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.

(١) يعني : أنّ ما أفاده الشهيد قدس‌سره من دوران الملك واللزوم مدار صدق العقد مستند إلى وجهين. أحدهما : ظهور الآية المباركة في أنّ ما يجب الوفاء به هو العقد.

ثانيهما : إطلاق كلمات الأصحاب ، حيث حكموا بترتب الإباحة على المعاطاة ، وقالوا : «إنّها ليست بيعا ولا عقدا» ومن المعلوم أنّ إطلاق «العقد» محمول على العقد العرفي غير الصادق على ما إذا لم يتصل القبول بالإيجاب فورا.

(٢) هذا هو إشكال المصنف على الشهيد قدس‌سرهما ، وحاصله ـ كما عرفت ـ عدم انحصار دليل الإمضاء في الأمر بالوفاء بالعقود.

٥٠٦

أو التجارة عن تراض فلا يضرّه (١) عدم صدق العقد.

وأمّا جعل المأخذ في ذلك (٢) اعتبار الاتّصال بين الاستثناء والمستثنى منه

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ عدم صدق العقد لا يضرّ الملك واللزوم. ووجه عدم الإضرار عدم التلازم بين العقد والبيع والتجارة ، فيمكن صدقهما وعدم صدق العقد.

(٢) أي : اعتبار الموالاة. وهذا هو الإشكال الثاني على كلام الشهيد. ومقصود المصنف قدس‌سره تحقيق استدلاله على اعتبار الموالاة بقوله : «وهي مأخوذة من اعتبار الاتصال بين الاستثناء والمستثنى منه» وبيانه : أنّه لا ريب في اعتبار الاتصال في الاستثناء ، لكن الكلام في شرطية الاتصال والموالاة في مطلق المركّبات كالعقد والصلاة ، وكذا غير المركبات ، كما في التتابع في تعريف اللقطة في الحول ، ومن المعلوم أنّ الاستثناء جزئي من جزئيات هذه المسألة ، ومجرّد اعتبار الموالاة في هذا الجزئي لا يكفي في تأسيس قاعدة كليّة بعنوان شرطيّة الموالاة في أجزاء الكلام الواحد ، وكذا في غير الكلام ممّا له صورة اتصالية. ووجه عدم الكفاية أنّه استقراء ناقص لا يعوّل عليه في ضرب القانون.

ولا ينحصر استدلال الشهيد ـ بتتبع حال بعض الأفراد على تأسيس الأصل ـ بالمقام ، بل تكرّر منه في كتاب القواعد : «أنّ الأصل كذا» مع أنّه قدس‌سره لم يظفر بدليل عام ، وإنّما توصّل إليه بملاحظة بعض الأفراد ، فاصطاد منها أصلا عاما وقاعدة كلية. ولكن الانتقال من باب الاستثناء إلى اعتبار الموالاة في العقد وغيره لا يخلو من شي‌ء.

ثم تصدّى المصنف قدس‌سره لتوجيه استفادة الفورية والموالاة من باب الاستثناء ببيان آخر ، ومحصله : أنّ ارتباط المستثنى بالمستثنى منه أشدّ وآكد من ربط سائر التوابع والملابسات بمتبوعاتها ، لما عرفت في تقريب كلام الشهيد من دوران صدق الإخبار على إلحاق المستثنى بالمستثنى منه فورا ، بحيث لو لم يلحقه أو لحقه بالتراخي كان المراد الاستعمالي هو المستثنى منه خاصة ، وكان هو مدار الصدق والكذب ، كما إذا قال : «ما دخل في الدار أحد» مع دخول زيد فيها ، فإن لم يتصل به قوله : «إلّا زيد»

٥٠٧

فلأنّه منشأ الانتقال إلى هذه القاعدة (١) ، فإنّ أكثر الكليّات إنّما يلتفت إليها من التأمّل في مورد خاص (٢). وقد صرّح (٣) في القواعد مكرّرا بكون الأصل في هذه القاعدة كذا.

______________________________________________________

حكم العرف بكذب الخبر. وهذا الربط الوثيق غير معتبر في سائر التوابع كالحال وذيه ، فإذا قال : «جاء زيد» ولم يقل «راكبا» كان صادقا في إخباره.

ولمّا كان الرّبط في جملة الاستثناء أقوى منه في اللواحق الأخرى جعلوه مبنى حكمهم باعتبار الموالاة في مطلق التابع سواء أكان من مقولة اللفظ أم أمرا آخر مما يتوقف صدق العنوان على الهيئة الاتصالية بين أجزائه كتعريف اللّقطة في سنة واحدة.

هذا توضيح توجيه المصنف لجعل الاستثناء أساسا لشرطية التوالي مطلقا ، ولكنه قدس‌سره جعله وجها بعيدا ، وسيأتي تقريبه.

(١) وهي اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول.

(٢) يعني : أنّ كثيرا من القواعد الشرعية تستنبط من حكم الشارع في قضية شخصية ، كما أنّ كثيرا منها وردت بلسان ضرب القانون والحكم العام.

(٣) غرضه الاستشهاد بخصوص كلمات الشهيد قدس‌سره في القواعد على الالتفات إلى الحكم الكلّي من تتبع بعض جزئياته ، وقد تكرّر قول الشهيد : «الأصل كذا».

كقوله : «الأصل أنّ كلّا من الواجب والندب لا يجزي عن صاحبه ، لتغاير الجهتين».

وقوله : «الأصل في الأسباب عدم تداخلها إلّا في مواضع».

و «أنّ الأصل في العقود الحلول ..».

و «الأصل أنّ كلّ أحد لا يملك إجبار غيره إلّا في مواضع».

و «الأصل عدم تحمل الإنسان عن غيره ما لم يأذن له إلّا في مواضع» وغير ذلك مما لا يخفى على المتتبع في قواعده قدس‌سره.

وعلى هذا فقوله في مسألتنا : «الموالاة معتبرة في العقود ، وهي مأخوذة .. إلخ»

٥٠٨

ويحتمل بعيدا (١) أن يكون الوجه فيه : أنّ الاستثناء أشدّ ربطا بالمستثنى منه من سائر اللّواحق ، لخروج (٢) المستثنى منه معه عن حدّ الكذب إلى الصدق ، فصدقه (٣) يتوقف عليه ، فلذا كان طول الفصل هناك (٤) أقبح ، فصار أصلا في اعتبار الموالاة بين أجزاء الكلام ، ثم تعدّى (٥) منه إلى سائر الأمور المرتبطة بالكلام لفظا (٦) أو معنى (٧)

______________________________________________________

مبني على استفادة شرطية التوالي ـ في العقود وغيرها ـ من الرّبط الموجود في مورد خاصّ وهو المستثنى منه والمستثنى.

(١) وجه البعد : أنّ اعتبار الاتصال في ما كان الرّبط فيه أشدّ ـ كالاستثناء ـ لا يلازم ثبوته في ما كان الرّبط فيه أخفّ. مع أنّ الشهيد قدس‌سره جعل الاستثناء منشأ لاعتبار الاتصال والتوالي في موارد أخرى مع عدم كون الرّبط فيها بمثابة الاستثناء ، ومن المعلوم أنّه لا أولوية ولا مساواة في البين حتّى يتّجه التعدّي من الأشد إلى الأخف.

(٢) يعني : أنّ الحاجة إلى المستثنى لأجل خروج الخبر عن الكذب إلى الصدق ، وهذا بخلاف سائر التوابع كالحال والصفة والتأكيد ، فإنّ إهمالها في الكلام لا يؤثّر في صدق الخبر وكذبه أصلا.

(٣) يعني : فصدق المستثنى منه يتوقف على وصل المستثنى به فورا.

(٤) أي : الفصل بين المستثنى والمستثنى منه أقبح من الفصل بين مثل الحال وذي الحال ، فإذا كان وصل الحال بذيه لازما كان وصل المستثنى بالمستثنى منه ألزم وآكد. ولأجل هذه الآكدية جعل الشهيد الاستثناء منشأ لشرطية الموالاة في العقود وغيرها. والضمير المستتر في «صار» راجع إلى كون طول الفصل أقبح في باب الاستثناء.

(٥) يعني : تعدّى الشهيد قدس‌سره من باب الاستثناء إلى التوابع ونحوها.

(٦) كالتأكيد اللفظي ، فإنّه ـ مع تخلّل زمان معتدّ به بين المؤكّد والمؤكّد ـ يخرج الكلام عن ضابط التأكيد اللفظي.

(٧) كالمحمول ، فإنّ الفصل الطويل بينه وبين الموضوع يمنع عن حصول الرّبط

٥٠٩

أو من (١) حيث صدق عنوان خاصّ عليه ، لكونه عقدا أو قراءة ، أو أذانا ، ونحو ذلك.

ثم (٢) في تطبيق بعضها على ما ذكره خفاء ، كمسألة توبة المرتدّ ، فإنّ غاية ما يمكن أن يقال في توجيهه : إنّ المطلوب في الإسلام الاستمرار ، فإذا انقطع فلا بدّ من إعادته (٣) في أقرب الأوقات.

وأمّا مسألة الجمعة (٤) فلأنّ هيئة الاجتماع في جميع أحوال الصلاة من

______________________________________________________

المعنوي بينهما.

(١) معطوف على قوله : «لفظا» أي : سائر الأمور المرتبطة بالكلام من حيث صدق عنوان على الكلام ، كعنوان العقد والقراءة والأذان ، والدعاء بالمأثور ممّا له عنوان خاص ، والتشهّد ، وغيرها من صنوف الكلام.

(٢) هذا هو الإشكال الثالث على الشهيد قدس‌سره ، وهو ناظر إلى تطبيق شرطية الموالاة على بعض الموارد ، ومحصل الإشكال : أنّ المرتدّ وإن وجبت عليه التوبة ـ بعد الاستتابة ـ فورا ، لكنه ليس بلحاظ اعتبار الموالاة بين الاستتابة والتوبة ، بل بلحاظ مطلوبية الإسلام من المرتدّ في كل حال حتى حال الاستتابة وقبلها وبعدها ، فيجب عليه الرجوع إلى الدين الحنيف من هذه الجهة ، لا من جهة رعاية الموالاة بين استتابته وتوبته.

هذا لو لم يؤخذ بالأخبار التي تمهله ثلاثة أيّام ، ثم يقتل بعدها لو لم يتب فيها. وأمّا بناء على الأخذ بها فلا يبقى مجال لاعتبار التوالي عرفا بين الاستتابة والتوبة ، لوضوح أنّ الفصل بثلاثة أيّام مخلّ بالتوالي والاتصال قطعا.

(٣) أي : إعادة الإسلام في أوّل الأزمنة ، فليست المسألة من فروع الموالاة.

(٤) هذا مورد ثان جعله المصنف قدس‌سره أجنبيا عن عموم اعتبار الموالاة بين أجزاء مركّب واحد عنوانا ، وحاصله : أنّ انعقاد صلاة الجمعة بتحريم المأمومين قبل الركوع ليس لأجل اعتبار الاتّصال والموالاة بين تحريم الإمام وتحريمهم ، بل لأجل

٥١٠

القيام والرّكوع والسجود مطلوبة ، فيقدح الإخلال بها (١).

وللتأمّل في هذه الفروع (٢) وفي صحة تفريعها على الأصل المذكور مجال (٣).

ثم إنّ (٤) المعيار في الموالاة موكول

______________________________________________________

مطلوبية القدوة في جميع أحوال الصلاة من القيام والركوع والسجود والتشهد وغيرها ، فالإخلال بها قادح في تحقق الجماعة ، وأين هذا من اشتراط الجمعة بالموالاة؟

(١) أي : بهيئة الاجتماع ، يعني : أنّ عدم تحريم المأمومين في الجمعة قبل الركوع مخلّ بهيئة الاجتماع ، المطلوبة في جميع أحوال الصلاة.

(٢) يعني : لو سلّمنا اعتبار الهيئة الاتصالية في القراءة وفصول الأذان ونحوهما لم يكن ذلك متفرّعا على شرطية الموالاة ، بل لدليل خاص ، كما تقدّم في مطلوبية التديّن بالإسلام في كل حال ، ومطلوبية هيئة الاجتماع في صلاة الجماعة ، فلو لا هذا الدليل الخاص لأمكن نفي شرطية الاتصال بأصالة البراءة.

(٣) مبتدأ مؤخّر لقوله : «للتأمّل» ووجه مجال التأمل هو ما أفاده في قوله : «ويحتمل بعيدا أن يكون الوجه فيه» الذي حاصله : أنّ اعتبار الاتصال في باب الاستثناء ـ لشدّته وآكديته ـ لا يقتضي اعتباره في مطلق التابع والمتبوع مع عدم وثاقة الرّبط بينهما.

(٤) غرضه من هذا الكلام إلى آخر البحث تعيين المرجع في تحقق التوالي بين شيئين أو أشياء ، وأنّ ما ذا يكون مناط الفصل بينهما أو بينها؟ وقد أفاد أوّلا : أنّ الموالاة لا حقيقة شرعية لها ، فالمرجع في تشخيص مفهومها هو العرف ، ومن المعلوم أنّها تختلف باختلاف مواردها ، فالموالاة في قراءة كلمات آية أضيق دائرة من الموالاة في آيات سورة واحدة.

ثم أفاد ثانيا : أنّ المستفاد من خبر سهل الساعدي ـ الوارد في تزويج امرأة بالصحابي ـ جواز الفصل بين إيجاب النكاح وقبوله بكلام طويل أجنبي عن صيغة

٥١١

إلى العرف (١) كما في الصلاة والقراءة والأذان ونحوها.

ويظهر (٢) من رواية سهل الساعدي المتقدّمة في مسألة تقديم القبول جواز الفصل بين الإيجاب والقبول بكلام طويل أجنبي (٣) ، بناء (٤) على ما فهمه الجماعة من أنّ القبول فيها قول ذلك الصحابي : «زوّجنيها» والإيجاب قوله بعد فصل طويل : «زوّجتكها بما معك من القرآن» (٥).

ولعلّ هذا (٦)

______________________________________________________

النكاح ، بناء على ما اختاره جمع منهم الشهيد الثاني قدس‌سره من أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوّجتكها» إيجاب مؤخّر ، وقول الرجل : «زوّجنيها» قبول مقدّم.

وأمّا بناء على ما اختاره آخرون من توجيه الخبر ، وعدم الأخذ بظاهره تعيّن الرجوع إلى العرف في سعة مفهوم الموالاة وضيقها في كل مورد.

(١) كما أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره أيضا ، حيث قال : «قلت : المدار في هذه الموالاة على العرف ، فإنّه الحافظ للهيئة المتعارفة سابقا في العقد الذي نزّلنا الآية عليه ، فإنّ الظاهر عدم تغيّرها» (١).

(٢) مقصوده من الاستشهاد برواية سهل التوسعة في مفهوم الموالاة تعبدا ، وعدم الاقتصار على تحديدها عرفا.

(٣) المراد بالأجنبي هو الكلام غير المرتبط بالصيغة ومتعلّقاتها من صداق وشرط في ضمن العقد ونحوهما.

(٤) وأمّا بناء على ما فهمه جمع ـ من عدم كون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوّجتكها» إيجابا مؤخّرا ، ولا قول الرجل : «زوّجنيها» قبولا مقدّما ـ كان الخبر أجنبيا عن إلغاء الموالاة بين القبول المقدّم والإيجاب المؤخّر.

(٥) إذ لو لم يكن قول الصحابي : «زوّجنيها» قبولا ـ بأن تحقّق منه القبول بعد الإيجاب بلا فصل ـ كان التوالي محقّقا.

(٦) يعني : ولعلّ لزوم الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول ـ بناء على ما

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٥

٥١٢

موهن آخر (١) للرواية ، فافهم (٢) (*).

______________________________________________________

فهمه الأصحاب من كون قول الصحابي : «زوّجنيها» قبولا بلفظ الأمر مقدّما على الإيجاب من دون وقوع قبول آخر عقيبه ـ موهن آخر للرواية ، ومسقط لها عن الاعتبار.

(١) أشار به إلى موهن آخر تقدّم في بحث تقدم القبول ـ إذا كان بصيغة الأمر ـ بقوله : «وأمّا ما يظهر من المبسوط من الاتفاق هنا على الصحة به فموهون بما ستعرف من مصير الأكثر على خلافه» فإنّ مصير الأكثر إلى خلاف مضمون الرواية يوهن اعتبارها ، ويرفع الوثوق بها ، لأنّه إعراض عنها.

(٢) إشارة إلى : أنّ هذه الرواية إن دلّت على جواز الفصل بين الإيجاب والقبول لزم العمل بها ، لا أنّه موهن لها ، كيف؟ ولم يقم دليل تام على اعتبار الموالاة حتى يكون ذلك موهنا لهذه الرواية ، بل لو لم تنهض هذه الرواية على جواز الفصل كان مقتضى الأصل جوازه.

نعم يمكن أن يكون الموهن ضعف السند.

إلّا أن يقال : إنّه يكفي في الوثوق بها توصيف الشهيد الثاني قدس‌سره لها في المسالك بكونها «مشهورة بين العامة والخاصة ، وأنّه رواها كل منهما في الصحيح».

مضافا إلى : أن بمعناها رواية موصوفة بالصحة ، هدانا الله تعالى إلى أحكامه.

__________________

(*) قد عرفت ذهاب جمع إلى اشتراط صحة العقد بالموالاة المعبّر عنها في بعض الكلمات بالفوريّة ، والمراد بها العرفية ، بمعنى عدم تخلّل الفصل بما يخلّ بوحدة الموجود التدريجي فيما إذا أخذ بقيد وحدته موضوعا لآثار ، وإلّا فلا تتصور الموالاة الحقيقية بين أجزاء الموجود التدريجي المتشابك مع العدم ، لتقومه بالأخذ والترك. هذا بالنسبة إلى موجود واحد وتدريجي.

وأمّا الموجودان المستقلّان كالالتزامين القائمين بشخصين أو الكلامين كذلك فمعنى اتصالهما هو عدم تخلّل زمان بينهما حقيقة أو عرفا. وحيث إنّ المدار على صدق العقد العرفي فلا بدّ من عدم التخلّف بين إيجابه وقبوله ، لتقوّم العقد المعنوي واللفظي

٥١٣

.................................................................................................

__________________

المبرز له بعدم تخلّل زمان معتدّ به عرفا بين جزئية ، فاعتبار الموالاة حينئذ لكونها مقوّمة لعنوان العقد لا للتعبّد.

والتحقيق : أنّ هنا عناوين عديدة :

أحدها : العهد ، وهو الالتزام القلبي أو الجعل المعاملي.

ثانيها : العقد ، وهو ربط أحد الالتزامين بالآخر ، فحيثية العهد غير حيثية العقد ، لأنّ العهد بمنزلة الموضوع للعقد ، حيث إنّ الرّبط بين الشيئين متفرّع عليهما ، وربط أحد الالتزامين بالآخر ليس كارتباط لفظ بلفظ وكلام بكلام حتى يقال : إنّ الارتباط مساوق للاتصال المتقدم وهو الوصل من حيث الزمان.

بل مناط العقدية في مقام السببية إنّما هو بارتباط مدلول أحد الكلامين بالآخر ، بحيث يصلح أن يتسبّب به إلى مبادلة خاصة ، ويكون الآخر قبولا لذلك التسبيب لا لأمر آخر. وربط أحد الالتزامين بالآخر إنّما هو بلحاظ ورودهما على أمر واحد ، وهو كون أحد المالين بإزاء الآخر في الملكية مثلا. فالجامع الرابط بين الالتزامين هو وحدة الملتزم به. ومن المعلوم أنّ هذا المعنى من الارتباط لا يناط بعدم تخلّل الزمان بين الكلامين الدالّين على المدلولين ، بل يناط ببقاء الالتزام الإيجابي على حاله إلى أن يلحقه القبول ، وإن تخلّل زمان معتدّ به بين الإيجاب والقبول ، إذ لا يتحقق الرّبط بين موجود ومعدوم ، ولذا لو أوجب البيع ولم يقبل القابل إلّا بعد مضيّ زمان من الإيجاب ـ ووعظه الموجب بأنّ هذا البيع ينفعك ، وبيّن منافعه ومصالحه حتى قبل المشتري ـ لم يكن مانع من صحة هذا البيع.

نعم لو ألغى الموجب التزامه الإيجابي لغا القبول ، لانتفاء الإيجاب.

فغاية تقريب الموالاة بين الإيجاب والقبول هي : أنّ الإيجاب والقبول لمّا كانا قائمين بأثر واحد فلهما بنظر العرف جهة وحدة ، فكأنّهما كلام واحد يترتب عليه أثر واحد. ومن المعلوم أنّ الاتصال العرفي المساوق للوحدة منوط بعدم تخلّل زمان معتدّ به بين الإيجاب والقبول.

٥١٤

.................................................................................................

__________________

ثالثها : البيع ونحوه من العناوين الإنشائية ، فيمكن أن يقال : إن كان دليل الصحة واللزوم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فلا يشمل البيع والتجارة حتى يقال بكونهما من العقود التي تعتبر فيها الموالاة ، إذ لم يؤخذ في موضوع دليل الصحة واللزوم عنوان العقد ، هذا.

لكن فيه ما لا يخفى ، ضرورة أنّ البيع والصلح والإجارة ونحوها من العقود العرفية بلا إشكال.

نعم يمكن أن لا تكون التجارة عقدا كالتملك بالحيازة ، فتأمّل. لكنه نادر.

فلا فرق في اعتبار الموالاة بين كون دليل الصحة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وبين كونه (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وتجارة عن تراض ، هذا.

ثم إنّه لا بأس بالإشارة إلى الوجوه المستدلّ بها على اعتبار الموالاة في العقد ، وهي بين ما ظاهره كون دخل الموالاة في العقد عرفيا بمعنى تقوّم العقد بالموالاة ، وبين ما ظاهره كون الدخل تعبّديّا ، وبين ما ظاهره كون الدخل عقليّا.

الأوّل : ما عن ابن إدريس وغيره من قاعدة توقيفيّة ألفاظ العقود.

وفيه ما لا يخفى ، إذ الإطلاقات تقضي بعدم اعتبار الموالاة وعدم التوقيفية ، إلّا ما خرج.

الثاني : ما نقله المصنف عن الشهيد قدس‌سرهما. وحاصله : أنّ الموجود التدريجي ـ المركّب من أمرين أو أمور ـ إذا كان له عنوان واحد كالصلاة فلا بدّ في ترتيب الحكم المعلّق عليه من اعتبار صورته الاتصالية الحافظة لوحدته المقوّمة لعنوانه. والعقد المركّب من الإيجاب والقبول من هذا القبيل ، فإنّه وإن كان قائما بشخصين وموجودا بوجودين ، لكنهما لوحدة أثرهما بمنزلة كلام واحد مرتبط بعضه ببعض ، فيقدح في صدق العنوان تخلّل الفصل المخلّ بهيئته الاتصالية ، ولذا لا تصدق المعاقدة إذا كان الفصل بين الإيجاب والقبول كثيرا جدّا ، كسنة أو أزيد.

والحاصل : أنّ دخل الموالاة في العقد بناء على هذا التقريب عرفي ومقوّم لمفهومه العرفي. كما أنّ الوجه الأوّل المنسوب إلى ابن إدريس رحمه‌الله ناظر إلى كون دخل

٥١٥

.................................................................................................

__________________

الموالاة في العقد تعبديّا ، هذا.

وفيه ما عرفت آنفا من : أنّ العقد هو الربط بين الالتزامين ، ولا يناط ذلك الرّبط بعدم تخلّل زمان بينهما ، إذ الربط غير الاتصال الزماني ، هذا.

وأمّا ما أجاب به المصنف عن هذا الدليل بأن ما أفاده الشهيد قدس‌سره حسن لو كان دليل الملك واللزوم مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) مما أناطهما بعنوان العقد العرفي. أمّا لو كانا منوطين بصدق البيع أو التجارة عن تراض ، فلا يضرّه عدم صدق العقد ، لكفاية صدق البيع والتجارة عليه ، فلا موجب حينئذ لاعتبار الموالاة فيه ، لعدم إناطة الصحة واللزوم بعنوان «العقد» حتّى يلتزم باعتبار الموالاة فيه.

ففيه أوّلا : أنّ البيع والصلح وغيرهما من العقد العرفي ، لاشتمالها على الإيجاب والقبول اللّذين يتقوم بهما كل عقد.

نعم قد لا يصدق العقد على التجارة كتملّك المباحات ، فإنّه تجارة غير عقد كما قيل.

لكن فيه : عدم صدق التجارة عليه ، بل الصادق عليه هو الفائدة ، فصدق العقد على البيع والتجارة على حدّ سواء.

إلّا أن يقال : إن تملّك العامل للجعل في باب الجعالة تجارة أيضا ، مع عدم كون الجعالة عقدا ، بل هي إيقاع ، فتأمّل.

وثانيا : أنّ العقد هو الرّبط بين الالتزامين. وقد عرفت عدم توقف الربط العقدي على عدم تخلّل زمان معتدّ به بين الإيجاب والقبول ، ومن المعلوم أنّ تخلل زمان بين الإيجاب والقبول الحاكيين عن ذلك الرّبط لا يوجب انفصام الالتزامين القائمين بالنفس ، كما لا يخفى.

ودعوى : وحدة الإيجاب والقبول اللفظيّين الحاكيين عن الالتزامين المرتبطين ، كما ترى ، حيث إنّ مورد اعتبار الموالاة هو العقد لا الكلامان الحاكيان عنه ، فمن ناحية

٥١٦

.................................................................................................

__________________

العقد العرفي لا يمكن الحكم باعتبار الموالاة في العقد.

مع أنّه لو كان التوالي معتبرا في العقد من حيث إنّه عقد عرفي لزم اعتباره في جميع أنواع العقود من اللازمة والجائزة ـ كما هو مقتضى إطلاق كلام الشهيد في القواعد ـ إذ اللزوم والجواز من أحكام العقد لا من مقوّماته. مع أنّ الشهيد الثاني لم يعتبر الموالاة في الوديعة التي هي من العقود الجائزة ، وقال في أوّل وديعة الروضة : «وكيف كان لا تجب مقارنة القبول للإيجاب قوليّا كان أو فعليا» (١).

فلو كان الوجه في اعتبار الموالاة عنوان العقدية فلا بدّ من الالتزام باعتبارها في كل عقد لازما كان أو جائزا.

وكيف كان فقد أورد المحقق النائيني قدس‌سره على ما عرفته من جواب المصنف عن الدليل المذكور ـ الذي استدلّ به الشهيد قدس‌سره ـ بوجوه :

أحدها : أن البيع والصلح والتجارة والنكاح ليست إلّا العقود المتعارفة ، فلا بدّ من الموالاة فيها قضية لعقديّتها.

وفيه : أنّ التعارف لا يوجب انصراف الإطلاق إلى خصوص العقود المتعارفة ، حتى يقال : إنّ دليلي البيع والتجارة بمنزلة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) في كون الموضوع عنوان العقد.

ثانيها : أنّه لا يصح التمسّك بإطلاق دليلي البيع والتجارة لنفي اعتبار الموالاة ، لعدم كونهما في مقام البيان من جميع الجهات ، هذا.

وفيه أوّلا : أنّ التمسك بالإطلاق المزبور لإمضاء الأسباب يكشف عن ورودهما في مقام بيان الجهات.

وثانيا : أنّ الشك في ورودهما في مقام البيان كاف في الإطلاق ، للأصل العقلائي على ما قرّر في محله.

__________________

(١) : الروضة البهية ، ج ٤ ، ص ٢٣٠

٥١٧

.................................................................................................

__________________

ثالثها : أنّه لا يمكن التفكيك بين الصحة واللزوم إلّا بدليل خارجي من الإجماع ونحوه ، من جعل الشارع الخيار للمتعاقدين ، أو جعلهما لأنفسهما أو لأجنبي ، فهذه المعاملة وهي الإيجاب والقبول ـ اللذان تخلّل الفصل بينهما ـ لا يشملها (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الذي هو دليل اللزوم ، ولأجل ذلك لا يحكم بلزومها ، فلا بدّ من البناء على فسادها أيضا ، لما عرفت من عدم التفكيك بين الصحة واللزوم إلّا بدليل على عدم اللزوم ، وذلك الدليل مفقود هنا ، فلا محيص عن الحكم بفسادها ، هذا.

وفيه أوّلا : عدم انحصار دليل لزوم البيع ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لدلالة قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) على اللزوم ، حيث إنّ الأكل بالفسخ ليس تجارة عن تراض ، فيكون من الأكل بالباطل كما تقدّم تفصيله في أدلّة لزوم المعاطاة.

وثانيا : عدم دليل على التلازم بين الصحة واللزوم.

وثالثا : أنّ عدم شمول (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لا يدلّ على عدم اللزوم حتى يحكم ـ بضميمة عدم الفصل ـ بالفساد ، إذ يمكن أن يقال : بكفاية دليل الصحة ـ بضميمة عدم الفصل بين الصحة واللزوم ـ في الحكم باللزوم ، هذا.

الوجه الثالث : ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره على ما في تقرير بحثه الشريف من : «أنّ في المعاملة خلعا ولبسا ، حيث إنّ البائع يخلع ثوب الملكية عن نفسه ويلبسه شخصا آخر ، فتخلّل الفصل بين الإيجاب والقبول يوجب تحقق الخلع مع عدم ثبوت اللّبس ويلزم منه تحقق الإضافة بلا مضاف إليه. أو أنّ في المعاملة إيجاد علقة ، ومع الفصل بين الإيجاب والقبول يلزم تحقق العلقة بلا محل. وكلاهما باطل ، فلا بد من اتّصال القبول بالإيجاب» (١) ، هذا.

وفيه أوّلا : النقض بالزمان القصير المتخلل بين الإيجاب والقبول في جميع

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١١١

٥١٨

.................................................................................................

__________________

الموارد ، إذ لا فرق في هذا المحذور العقلي ـ وهو لزوم قيام الإضافة والعلقة بذاتهما وبلا محلّ وبغير مضاف إليه ـ بين قصر الزمان وطوله.

وثانيا : ـ بعد تسليمه ـ أنّه لا يبقى مجال للتردّد والإشكال في اعتبار الموالاة في بعض العقود ، وهو العقود العهدية غير المشتملة على المعاوضة كالهبة والرهن ، لأنّ اللّبس والخلع موجودان في الهبة أيضا ، إذ إضافة الملكية تخلع من الواهب ، ويكتسيها المتّهب ، فإذا تخلّل الفصل بين الإيجاب والقبول لزم الخلع بلا لبس مدّة من الزّمان.

وثالثا : أنّ الخلع واللّبس الإنشائيين يتحققان بالإيجاب من دون حاجة إلى القبول أصلا ، فالموجب ينشئ تمام ماهية البيع ويملّك المبيع ويتملك الثمن ، والقابل ينفّذ هذا الإيجاب ، فلا ينفصل اللّبس عن الخلع. وأمّا الخلع واللبس الاعتباريان اللذان يحكم بهما الشرع أو العقلاء فلا يحصلان إلّا بالقبول ، فبوجوده يتحققان معا في آن واحد من دون تخلّل لحظة بينهما ، فلا يلزم المحذور العقلي وهو تحقق الإضافة بلا محل ، فابتناء اعتبار الموالاة في العقد على هذه المسألة العقلية ليس في محله.

الوجه الرابع : ما يظهر من حاشية المحقق الإيرواني قدس‌سره وهذا نصّه : «وكأنّ اعتبار التوالي ناش من اعتبار المطابقة بين الإيجاب والقبول ، بتوهم : عدم حصول المطابقة مع التأخّر ، لأنّ الإيجاب أفاد النقل من الحين ، فإذا تأخّر القبول فإمّا أن يكون قبوله قبولا لتمام مضمون الإيجاب ، فيلزم من صحّته حصول النقل من حين الإيجاب كما في الإجازة على القول بالكشف ، فيكون النقل حاصلا قبل حصول تمام العقد ، وذلك باطل. أو يكون قبولا لبعض مضمون الإيجاب أعني النقل من حين تحقق القبول ، فيلزم عدم المطابقة بين الإيجاب والقبول. وهذا المحذور وإن كان يعمّ صورة التوالي أيضا ، لتحقق الفصل هناك أيضا ولو بيسير ، لكن هذا المقدار من التخلف لا يضر بالمطابقة العرفية ، فلا يوجب الحكم بالفساد» (١).

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٩٠

٥١٩

.................................................................................................

__________________

وفيه أوّلا : أنّ الالتزام بصحة العقد من حين الإيجاب بأن يكون القبول كاشفا عن صحته كذلك حقيقة أو حكما ممّا لا مانع عنه ، لما مرّ مرارا من أنّ الموجب ينشئ تمام ماهية العقد ، فالقبول كاشف ـ كالإجازة في الفضولي ـ فيكون القبول قبولا لتمام مضمون الإيجاب من دون محذور.

هذا ما أفيد ، لكنه لا يخلو من تأمّل ، وجهه : أنّ جعل القبول كاشفا لا جزء السبب المؤثّر في المسبب خلاف مقتضى العقد ، لأنّ مقتضاه كون كلا الإنشائين سببا ، لا كون القبول واسطة إثباتية ، وإلّا كان إيقاعا لا عقدا.

وثانيا : أنّ مضمون الإيجاب ليس إلّا مجرّد التمليك أو التبديل بين المالين ، من دون دخل للزمان فيه بأن يكون التبديل مقيّدا بزمان الإيجاب ، إلّا أنّ ترتب الأثر عليه عرفا وشرعا منوط بضم القبول إليه.

وبعبارة أخرى : الزمان ظرف لتحقق المسبّبات لا قيد لها ، فالقبول ـ بعد ضمّه إلى الإيجاب ـ يؤثّر في الأمر الاعتباري العقلائي والشرعي ، فمضمون الإيجاب هو النقل الإنشائي ، وأمّا الأمر الاعتباري فهو يترتب على القبول الذي هو قبول لتمام المضمون في الصورتين ، وهما : كون مضمون الإيجاب النقل من الحين ، أو كون مضمونه مجرّد النقل الإنشائي ، والعلقة الاعتبارية تترتب على القبول ، ففي كلتا الصورتين يكون القبول قبولا لتمام مضمون الإيجاب من دون محذور.

فتحصل من جميع ما ذكرناه أمور :

الأوّل : أنّ العقد والبيع والتجارة والإجارة والصلح وغيرها من أنواع العقود أسام للمسبّبات التي ليست هي من الأمور التدريجية الوجود ، ولا من مقولة الألفاظ حتى تلاحظ فيها الموالاة المقوّمة للهيئة الاتصالية ، فليس العقد هو السبب أعني الإيجاب والقبول حتى يكون مركّبا تدريجيا اعتبر فيه الموالاة ، إذ لازمه انتفاء العقد بوجود القبول ، لانعدام الألفاظ ، ولا معنى لوجود العقد مع انعدامها. وقد تقدّم أنّ العقد هو نفس الرّبط

٥٢٠