هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

وربّما (١) يستعمل في المعاملة الحاصلة بالفعل ولو لم يكن عطاء ، وفي صحته تأمّل (٢)

ثانيها (٣) : أن يقصد كلّ منهما تمليك الآخر ماله بإزاء تمليك ماله إيّاه ،

______________________________________________________

(١) غرضه بيان صورة ثالثة لإنشاء المعاملة ، وهي ما ليس فيها إعطاء حتى من طرف واحد كما تقدم ذكره في التنبيه الثاني ، فالمعاملة الفعلية تتحقق بإيصال العوضين إلى الجانبين من دون إعطاء وأخذ أصلا ، ومثّل له هناك بأخذ البقل والماء من آنية السّقاء ، ووضع العوض في المكان المعدّ له.

(٢) أي : في صحّة التعامل بالإيصال ـ دون الإعطاء ـ تأمّل ، لأنّ المتيقن من الدليل اللبّي على صحّة المعاطاة في البيع هو إنشاء المعاملة بإعطاء الطرفين ، ولا أقلّ من كونه بإعطاء أحدهما ، وأمّا مجرّد الإيصال فلا. ويكفي الشك في قيام السيرة عليه في الحكم بصحته. هذا تمام الكلام في القسم الأوّل أعني به قصدهما التمليك ، وهو يتحقق خارجا تارة بإعطاءين ، وأخرى بإعطاء واحد ، وثالثة بإيصال العوضين.

القسم الثاني : المقابلة بين التمليكين

(٣) محصل هذا القسم هو : أن يقصد كلّ من المتعاطيين تمليك ماله للآخر بإزاء تمليك الآخر ماله إيّاه ، بحيث تكون المعاطاة متقومة بالعطاء من الطرفين كما هو ظاهر باب المفاعلة من اشتراك المبدء بين الطرفين ، فالمقابلة على هذا تكون بين التمليكين ، ولازمه عدم تحقق المعاطاة إن مات الثاني قبل تمليك ماله للأوّل.

والفرق بين هذا القسم وسابقه واضح ، إذ المفروض في القسم الأوّل قصد أحدهما تمليك ماله بعوض ، وقبول الآخر له ، وهو البيع المعهود المتعارف. ولذا يقع البحث في كفاية إنشائه بإعطاء أحدهما وأخذ الآخر ، أو اعتبار التعاطي فيه. بل احتمل إنشاؤه بإيصال العوضين. ولكن المفروض في هذا القسم الثاني قصد كلا المتعاطيين التمليك ، بأن يكون تمليك الأوّل مشروطا بتمليك الثاني ، بحيث لو لم يملّك

٨١

فيكون تمليك بإزاء تمليك (١) ، فالمقابلة بين التمليكين (٢) لا الملكين (٣) ، والمعاملة (٤) متقومة بالعطاء من الطرفين (*)

______________________________________________________

الثاني لانتفى تمليك الأوّل ، فكأنّ مقاولتهما هكذا : «ملّكتك هذا الكتاب على أن تملّكني الدينار» فوقوع هذه المعاملة منوط بصدور التمليك من كليهما ، فلا تنعقد المعاطاة بتمليك أحدهما. هذا بيان الموضوع ، وسيأتي حكم هذا القسم.

(١) لا تمليك مال بإزاء مال ، كما كان في الصورة الأولى.

(٢) وهما فعلان صادران من المتعاطيين.

(٣) كما هو حال البيوع المتعارفة ، للفرق بين «مبادلة مال بمال» و «تمليك مال بإزاء تمليك مال».

(٤) لكون المقابلة بين فعلين ، فلا معاملة بدونهما.

__________________

(*) أورد عليه بما حاصله : «أنّ المعاملة تتحقق بإعطاء أحدهما وقبول الآخر بأخذه من دون حاجة الى إعطاء الثاني ، حيث إنّ الأخذ يوجب صيرورة الأوّل مالكا للتمليك على عهدة الآخذ ، فيجب عليه الوفاء ، فإعطاؤه حينئذ يتصف بالوفاء الخارج عن إنشاء المعاملة المتحققة بالإعطاء والأخذ.

وبالجملة : فيكون القسم الثاني وهو التمليك بإزاء التمليك كالأوّل ـ وهو تمليك مال بمال ـ في تحققه بعطاء واحد ، وعدم الحاجة إلى العطاء الثاني ، فلو مات القابل المتحقق قبوله بالأخذ قبل إعطائه مات بعد تمامية المعاملة في كلتا الصورتين من دون تفاوت بينهما.

ولا يندفع هذا الإيراد بما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من : «أنّ التعاوض والتبادل بين شيئين لا بدّ من أن يكون بلحاظ أمر ، فإذا كان عين عوضا عن عين فلا بد من أن تكون في الملكية. وإذا كان عمل عوضا عن عمل فلا بد من أن يكون في الاستحقاق. وربما يكون التعاوض بين شيئين بلحاظ ذاتهما ، لقبولهما بذاتهما للإضافة كالملكية ،

٨٢

ولو مات (١) الثاني قبل الدفع لم يتحقق المعاطاة.

وهذا (٢) بعيد (٣) عن معنى البيع وقريب (٤) إلى الهبة المعوّضة ، لكون كلّ من

______________________________________________________

(١) هذا متفرع على تقوم المعاملة بالعطاء من الجانبين.

(٢) هذا شروع في بيان حكم القسم الثاني ـ أي التمليك بإزاء التمليك ـ وقد احتمل المصنف فيها وجوها ثلاثة بعد استبعاد كونه بيعا ، أوّلها : الهبة المعوّضة ، ثانيها :

المصالحة المعاطاتية ، ثالثتها : المعاوضة المستقلة.

(٣) وجه بعد كونه بيعا واضح ، لما تقدّم في أوّل الكتاب من أنه يعتبر في مفهومه أن يكون المبيع من الأعيان ، ومن المعلوم أنّ التمليك من الأفعال لا الأعيان ، فلا يقع مبيعا.

(٤) وجه قربه إلى الهبة المعوّضة هو خلوّ كلّ من المالين عن العوض ، لأنّ المقابلة وقعت ـ على الفرض ـ بين التمليكين اللّذين هما فعلان ، لا بين الملكين ، فتكون هذه المعاطاة كالهبة المعوّضة.

__________________

فإنّها مضافة بذاتها لا بإضافة أخرى ، فمرجع التمليك بإزاء التمليك إلى جعل إضافة الملكية بإزاء إضافة الملكية ، ومقتضى التضايف بين العوضيّة والمعوّضية حصولهما معا وعدم انفكاك أحد المتضايفين عن الآخر» (١).

وفيه ، أنّ التضايف في المقام ملحوظ بين التمليكين اللذين هما فعلان للمتعاملين ، فاتصاف التمليك الصادر من الموجب بالمعوّضية ملازم لاتصاف التمليك الآخر بالعوضية ، وصيرورته على عهدة القابل ، لأنّه بالأخذ صار التمليك على عهدته فيجب عليه الوفاء به ، من دون أن يكون إعطاؤه دخيلا في حصول المعاطاة والتضايف. فدعوى عدم الحاجة الى العطائين وتحقق المعاطاة بين التمليكين بالإعطاء الواحد في غاية القرب. فالإيراد وارد على كلام المصنف قدس‌سره فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٣٩

٨٣

المالين خاليا عن العوض (١).

لكن (٢) إجراء حكم الهبة المعوّضة عليه مشكل ، إذ (٣) لو لم يملّكه الثاني هنا (٤) لم يتحقق التمليك من الأوّل ، لأنّه (٥) إنّما ملّكه بإزاء تمليكه ، فما لم يتحقق تمليك (٦) الثاني لم يتحقق تمليكه.

إلّا (٧) أن يكون تمليك الآخر له ملحوظا عند تمليك الأوّل

______________________________________________________

(١) المقصود بالعوض هنا هو المال ، وإلّا فالعوض بالمعنى الأعمّ منه ومن الفعل ـ وهو التمليك ـ موجود حسب الفرض.

(٢) غرضه تضعيف احتمال كون «التمليك بإزاء التمليك» هبة معوّضة ، كبعد كونه بيعا ، وذلك للفرق بين المقام وبين الهبة ، ومحصّل الفرق : أنّه جعل أحد التمليكين ـ في هذا القسم ـ بإزاء الآخر ، فالإيجاب المنشأ به التمليك المعوّض ينشأ به التمليك العوض أيضا ، فيتم العقد بقبول الآخر من دون حاجة إلى إنشاء التمليك العوض بالاستقلال ، لعدم انفكاك إنشاء التمليك المعوّض عن إنشاء التمليك العوض.

وهذا بخلاف التمليك في الهبة المعوّضة ، فإنّ إيجاب الواهب يتضمن إنشاء تمليكه فقط ، وقبول المتّهب يتمّ العقد المحقّق للتمليك المعوّض. وأمّا التمليك العوض فلا يتحقق إلّا بإنشاء آخر من المتهب ، وقبول من الواهب. وعلى هذا فينفك أحد التمليكين في الهبة المعوضة عن الآخر.

نعم في المقام إن لوحظ تمليك الآخر على نحو الداعي ـ لا على وجه المقابلة ـ انفكّ أحد التمليكين عن الآخر ، وسيأتي توضيحه.

(٣) هذا تقريب الاشكال ، وقد عرفته آنفا.

(٤) يعني : في القسم الثاني ، وهو كون التمليك بإزاء التمليك.

(٥) أي : لأنّ الأوّل إنّما ملّك الثاني بإزاء تمليك الثاني الأوّل.

(٦) المصدر مضاف إلى الفاعل ، يعني : إذا لم يملّك الثاني الأوّل لم يتحقق تملّك الثاني ، ووجه عدم تحقق تملّكه هو : أنّ تمليك الأوّل كان مشروطا بتمليك الثاني ، وإذ ليس فليس.

(٧) ظاهره الاستدراك على قوله : «مشكل» وإمكان إدراج «التمليك بإزاء

٨٤

على نحو الداعي (١) لا العوض ، فلا يقدح (٢) تخلفه.

______________________________________________________

التمليك» في الهبة المعوضة. لكن مقصوده قدس‌سره تصحيح هذا القسم الثاني بتغييره موضوعا وحكما. وبيانه : أنّ المقابلة بين التمليكين تكون على نحو الاشتراط ، أي يقصد كلّ منهما تمليك ماله للآخر بشرط تمليك الآخر ، فلو تخلّف الثاني ولم يملّك ماله لم يكن للأوّل تمليك أيضا. ومثله ليس هبة معوّضة ، إذ تمليك الواهب غير معلّق على شي‌ء ، ولذا يكون تخلّف المتهب موجبا لثبوت الخيار للواهب ، لا لبطلان أصل هبته.

وما أفاده بقوله : «إلّا أن يكون» تغيير في موضوع المقابلة بين التمليكين ، وذلك بأن يكون تمليك الأوّل غير مشروط بتمليك الثاني ، بل يكون قصده تمليك ماله للثاني مطلقا ، وداعيه عليه هو رجاء تمليك الثاني ماله له. ومن المعلوم أنّ تخلّف الداعي غير قادح في صحة المعاملة ، كما إذا باع داره بداعي علاج ولده المريض ، فعوفي الولد بعد البيع وقبل صرف الثمن في المعالجة ، فإنّ البيع صحيح ولا خيار للبائع أصلا ، وذلك لعدم العبرة بتخلّف الداعي إلى المعاملة.

والمقام من هذا القبيل ، فيندرج «التمليك بإزاء التمليك» في قسم آخر من أقسام الهبة المعوّضة ، وهو ما إذا لم يشترط فيها العوض أصلا ، وإنّما يهب المتهب شيئا للواهب تداركا لإحسانه ، بحيث لو لم يهب لم يطلب الواهب عوضا من المتهب.

وقد اتضح من هذا : إلغاء شرطية تمليك الثاني لتمليك الأوّل ، وجعله داعيا له.

كما أنّ الهبة المعوضة المنطبقة على هذا الفرض مغايرة للهبة المعوّضة التي استشكل فيها بقوله : «مشكل». وجه المغايرة : أنّ العوض هنا غير مشروط أصلا ، بل يعطى تداركا لإحسان الواهب.

(١) يعني : فيحتاج إلى إنشاء ابتدائي من الآخذ ، ولا يكفي في إنشائه التمليك المعوّض.

(٢) لخروج الدّاعي عن حاقّ التمليك الأوّل ، ومن المعلوم عدم قدح تخلف الداعي في الصحة.

٨٥

فالأولى أن يقال (١) : إنّها مصالحة (*) وتسالم على أمر معيّن. أو معاوضة مستقلّة.

ثالثها (٢) : أن يقصد الأوّل إباحة ماله بعوض ، فيقبل الآخر بأخذه إيّاه ،

______________________________________________________

(١) بعد أن تعذّر تصحيح «التمليك بإزاء التمليك» بنحو الهبة المعوّضة ـ لفرض كون المقابلة بين التمليكين بالاشتراط لا الداعوية ـ تصدّى قدس‌سره لتصحيحها بأحد وجهين آخرين :

الأوّل : أن يكون من الصلح المعاطاتي ، لأنّهما تسالما على إنشاء تمليك بإزاء تمليك.

الثاني : أن يكون معاوضة مستقلة ، يشملها إطلاق «التجارة عن تراض» فتكون صحيحة.

القسم الثالث : المقابلة بين إباحة أحدهما وتمليك الآخر

(٢) محصل هذا الوجه الثالث هو الإباحة بالعوض ، في مقابل الإباحة مجّانا ، فيكون الفعل الصادر من الموجب إباحة التصرف في ماله مع العوض ، لا بدونه ، والصادر من القابل قبول الإباحة بتمليك ماله للموجب المبيح ، فالموجب يتملّك العوض ، والقابل لا يملك ما أباحه الموجب له ، بل يباح له التصرف فيه مع بقاء رقبته على ملك الموجب. فهذا التعاطي بمنزلة الإباحة القولية ، كأن يقول : «أبحت لك التصرف في الكتاب الفلاني بدرهم ، بمعنى أن يكون الدرهم ملكا لي».

وبالجملة : فيظهر من عبارة المصنف قدس‌سره اعتبار أمرين في هذا القسم.

أحدهما : كون الإباحة مقابلة بالمال ، لا بالتمليك الذي هو فعل الآخر ، كما يشهد به قوله : «أبحت لك كذا بدرهم».

__________________

(١) إن كان التسالم موردا للإنشاء ، وإلّا فلا وجه لكونه صلحا.

٨٦

فيكون الصادر من الأوّل الإباحة بالعوض ، ومن (١) الثاني بقبوله لها التمليك (٢) ، كما لو (٣) صرّح بقوله : أبحت لك كذا بدرهم.

رابعها (٤) : أن يقصد كلّ منهما الإباحة بإزاء إباحة أخرى ، فيكون (٥) إباحة بإزاء إباحة ، أو (٦) إباحة

______________________________________________________

وثانيهما : كون القبول أخذ الطرف المقابل لما دفعه الأوّل إليه على وجه الإباحة ، فيكون إعطاء الدرهم إلى المبيح وفاء بالمعاملة ، لا لتقوم هذه الإباحة المعوّضة بإعطاءين.

(١) معطوف على «من الأوّل» يعني : فيكون الفعل الصادر من المباح له قبول تلك الإباحة في قبال تمليك الدرهم للمبيح.

وعلى هذا فالإباحة تكون تارة مع العوض ، وأخرى بدونه. وعلى الأوّل فإمّا أن يكون العوض إباحة شي‌ء وإما أن يكون تمليكه. ومفروض المتن هذه الصورة الأخيرة ، لا الإباحة مجّانا ، ولا بعوض الإباحة.

(٢) أي : التمليك الضمني ، فإنّ المدلول المطابقي للقبول هو قبول الإباحة ، ومدلوله التضمني هو التمليك ، إذ المفروض كون إباحة المبيح بإزاء تمليك المباح له.

(٣) يعني : لا فرق في مشروعية «الإباحة بعوض التمليك» بين إنشائها باللفظ وبالفعل ، كما هو المفروض.

القسم الرابع : المقابلة بين الإباحتين

(٤) ملخص هذا الوجه هو كون المقابلة بين الإباحتين ـ اللتين هما من الأفعال ـ كالتمليكين في القسم الثاني ، فلا يتحقق الملكيّة حينئذ أصلا ، بل يباح لكل منهما التصرف في المال الذي أخذه من الآخر.

(٥) يعني : فيكون إعطاء كلّ منهما إباحة بشرط إباحة الآخر بنحو المقابلة.

(٦) يعني : أو يكون إعطاء كلّ منهما إباحة بداعي إباحة الآخر.

٨٧

لداعي إباحة (١) ، على ما تقدّم نظيره في الوجه الثاني (٢) من إمكان تصوّره على نحو الداعي وعلى نحو العوضية.

وكيف كان (٣) فالإشكال في حكم القسمين الأخيرين (*) على (٤) فرض قصد المتعاطيين لهما.

______________________________________________________

(١) فلا تقابل حينئذ بين الإباحتين ، لكون إباحة الطرف الآخر داعية إلى إباحة الأوّل ، لا عوضا عنها ، كما تقدم نظير ذلك في الوجه الثاني ، وهو قصد كل منهما تمليك ماله للآخر ، حيث قال : «إلّا أن يكون تمليك الآخر له ملحوظا عند تمليك الأوّل على نحو الداعي لا العوض».

(٢) حيث قال : «أن يقصد كل منهما تمليك الآخر بإزاء تمليك ماله إيّاه».

(٣) يعني : سواء أمكن تصوّر الإباحة بداعي الإباحة ، أم كانت المقابلة بين الإباحتين بنحو العوضية.

وهذا شروع في مقام الإثبات ، وهو بيان حكم الأقسام الأربعة المتقدمة ، وحيث إنّه قدس‌سره أفاد حكم القسمين الأوّلين عند بيانهما ، فلذا خصّ البحث من هنا إلى آخر التنبيه بالقسمين الأخيرين صحّة وفسادا ، وقد ذكر في المتن إشكالين ، أحدهما مشترك بين كلا القسمين ، والآخر مختص بالرابع ، وسيأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.

(٤) مقصوده قدس‌سره أنّ أصل وقوع المعاطاة بقصد الإباحة لا يخلو من بعد وإن كان محتملا ثبوتا ، إذ المعاطاة المعهودة بين العقلاء والمتشرعة هي ما يقصد بها الملك كالبيع بالصيغة. وعليه فبيان حكم هذين القسمين مبنيّ على فرض قصد الإباحة ، كما يستفاد من بعض كلمات القدماء من كون مقصودهما إباحة التصرف لا التمليك.

__________________

(*) أمّا القسم الأوّل ـ وهو تمليك كل منهما ماله بمال الآخر ـ فلا إشكال فيه أصلا ، لأنّه مصداق حقيقي للبيع ، فيشمله جميع ما دلّ على صحة البيع ونفوذه.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو كون التمليك بإزاء التمليك ، بحيث تكون المقابلة بين

٨٨

.................................................................................................

__________________

الفعلين لا المالين ـ فقد استشكل فيه بوجهين :

أحدهما : ما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره من : «أنّه ليس التمليك بالمعنى المصدري مالا ، بل المال هو الحاصل من المصدر ، وليس هذا الفعل إلّا آلة لحصول اسم المصدر ، فلا يمكن أن يقابل بالمال. فمقابلة التمليك بالمال باطلة ، فضلا عن مقابلة التمليك بالتمليك ، لأنّ التمليك ليس بمال. وفرق بين البيع بإزاء التمليك وبيع المال على أن يخيط له ثوبا ، فإن الفعل في الأوّل آليّ ، بخلاف الثاني فإنّه استقلالي يبذل بإزائه المال» (١).

ومحصل ما أفاده يرجع إلى منع مالية التمليك الموجب لبطلان المعاملة المتقومة بمقابلة المالين ، فمع عدم مالية أحد العوضين ـ فضلا عن كليهما ـ لا تصحّ المعاوضة ، لفقدان ركنها ، هذا.

وقد يورد عليه تارة : بأنّ التمليك مال ، لأنّ مناط المالية المستكشف عنه بتنافس العقلاء عليه موجود في التمليك ، ضرورة أن السلطنة على مال بالتمليك ونحوه ممّا يرغب فيه العقلاء ويتنافسون عليه. فوزان التمليك وزان الخياطة والنجارة ونحوهما من الأفعال التي تعدّ أموالا عند العقلاء ، خصوصا بعد اتحاد المصدر واسمه ذاتا واختلافهما اعتبارا ، فتدبّر.

وأخرى ـ بعد تسليم عدم ماليّته ـ أنّه حقّ قابل للانتقال وأخذ العوض بإزائه ، ومن المعلوم كفاية مثل هذا الحق في صحة المعاملة ، فإنّ سلطنة المالك على نقل تمليك ماله إلى الغير حقّ للمالك. وقد تقدّم سابقا : أن الأصل في الحقوق هو جواز نقلها وإسقاطها. فتوهم كون السلطنة حكما شرعيا غير قابل للنقل فاسد.

لكنك خبير بما فيهما. إذ في الأوّل : أنّ المال هو ما يتنافس العقلاء عليه ، لكن تطبيقه على تمليك التمليك ممنوع ، فإنّ رغبة العقلاء في أمر ليست بلا مناط ، فالعين شخصية كانت أم كلّية بأقسامها مال بلحاظ منفعتها ، وكذا الحال في المنافع المتجددة

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٧١

٨٩

.................................................................................................

__________________

وبعض الحقوق. وأمّا التمليك فلا سبيل لاستكشاف ماليّته. عندهم بعد الاعتراف بعدم تعارف هذا النوع من المعاملة. وقياسه بالأعمال المحترمة كالخياطة والنجارة لا يخلو من تأمّل ، حيث إنّ ماليّتها بلحاظ الأثر المطلوب من إعمال صنعة وتغيير هيئة في القماش والخشب. وهذا بخلاف التمليك ، فإنّ ما يرغب فيه نفس العين الخارجية ذات المنفعة كالدار والدّكّان ، وأمّا التسليط على التسليط فلم يعلم مقابلته بالمال ، ولا أقل من الشك في ماليته عرفا ، وهو كاف في منع عدم شمول أدلة الإمضاء له.

وفي الثاني : أن المالك وإن كان مسلّطا على ماله بمقتضى «الناس مسلّطون على أموالهم» إلّا أنّ المسلّط عليه هو نفس المال ، فلا بدّ من إحراز ماليّة شي‌ء حتى يتحقق موضوع السلطان ، وحيث إنّ مالية التمليك مشكوكة لم يتجه التمسك بالقاعدة لتجويز المقابلة بين تمليكين.

وأمّا ما أفيد من كون السلطنة حقّا للمالك قابلا للنقل إلى الغير فممنوع ، بالفرق بين هذه السلطنة وبين الحق ، لما تقدم في مباحث الحقوق من أنّ الحق القابل للنقل إلى الغير هو ما كان المجعول فيه تفويض الأمر إلى شخص كما في حق القصاص وحق الشفعة والتحجير. وأمّا سلطنة المالك على ماله فمتعلقها نفس المال ، وأمّا سلطنته على التسليط على المال فليست من شؤون المال حتى يشمله إطلاق الحديث.

ولا فرق فيما ذكرناه بين محتملات الحديث من كونه مشرّعا مطلقا أو للمسببات خاصة ، وكونه غير مشرّع أصلا ، بأن كان مدلوله استقلال المالك في أنحاء التصرفات في المال. ووجه عدم الفرق ما ذكرناه من أن موضوع السلطنة المجعولة نفس المال ، لا تفويض تمليكه إلى الغير.

وعليه فالإنصاف تمامية ما أفاده المحقق النائيني في المنع عن مشروعية تمليك التمليك ، هذا.

ثانيهما : ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره بقوله : «ومنها : أنّ أصل المقابلة بين

٩٠

.................................................................................................

__________________

التمليكين فيه غموض وخفاء ، فإنّ التمليك بالإعطاء حال تعلقه بمتعلقه ملحوظ آلي ، وفي جعل نفسه معوّضا يحتاج إلى لحاظ استقلالي ، ولا يعقل اجتماع اللحاظين المتباينين في ملحوظ واحد ، فلا بدّ من أن يكون هذه المعاملة في ضمن معاملة أخرى كالصلح على التمليك بإزاء التمليك ، فيستحق كل منهما التمليك من الآخر بإزاء تمليك نفسه» (١).

توضيحه : أنّ الفعل كاللفظ ملحوظ آلة لمعناه الإنشائي أو الإخباري ، فالإعطاء إن كان ملحوظا آلة لإنشاء تمليك متعلقة فكيف يكون ملحوظا استقلالا كما هو المفروض؟ إذ التمليك المعوّض ملحوظ استقلالا. والجمع بين هذين اللحاظين في ملحوظ واحد جمع بين المتنافيين ، فالتمليك بإزاء التمليك غير معقول.

فلا بد من تصحيح هذه المعاملة مثلا بجعلها في ضمن صلح مثله ، كما إذا صالحه على أن يملّكه تمليك داره على أن يملّكه الآخر تمليك بستانه مثلا حتّى يكون التمليك ملحوظا استقلاليا ، هذا.

لكنك خبير بأنّ التمليك في المقام ليس إلّا ملحوظا بالاستقلال ، لأنّ المعوض ـ وهو التمليك ـ مقصود استقلالي ، كما إذا كان المطلوب نقل إضافة الملكية ، فإن نقلها مقصود بالاستقلال ، ولا تناله يد اللحاظ الآلي أصلا حتى يلزم اجتماع اللحاظ الاستقلالي والآلي اللّذين هما متباينان.

وببيان أوضح : تارة يكون العوضان إضافتي الملكيتين ، فيتعلق الإنشاء بنقل إضافة الملكية من الطرفين وتبديلها ، وهذا هو المبادلة بين المالين المفسّر بها البيع في المصباح. وأخرى : يكون العوضان نقل التمليك بإزاء مثله من الطرف الآخر ، بحيث يكون كلّ منهما ناقلا للتمليك إلى الآخر ، لا ناقلا لنفس المال.

فإذا قال : «ملّكتك الدار بالبستان» كان المنشأ نقل إضافة ملكية الدار بإزاء ملكية

__________________

(١) : حاشية المكاسب : ج ١ ، ص ٣٩

٩١

.................................................................................................

__________________

البستان. وهذا هو أوّل الوجوه المذكورة في كلام المصنف قدس‌سره وهو المسمّى بالبيع ، وإذا قال : «ملّكتك تمليك داري بأن تملّكني تمليك بستانك» كان ممّا نحن فيه ، وهو أجنبي عن تمليك نفس المال ، فإذا أريد إنشاؤه باللفظ فلا محيص من أن يقال : «ملّكتك تمليك داري بأن تملّكني تمليك بستانك» ولا يصح أن يقال : «ملّكتك داري ببستانك».

وعليه فإعطاء العين بقصد أن يملّك تمليكها ، لا بلحاظ كونه آلة لإنشاء ملكية متعلّقه حتى يكون هذا اللّحاظ آليّا ، ولحاظ نفس المال استقلاليا ، بل ليس إلّا لحاظ استقلالي ، هذا.

وأمّا دفع إشكال اجتماع اللحاظين في الفعل بما في كلام بعض الأجلة من «أنّه جار في الألفاظ الدالة بالذات أو الوضع على المعاني ، حيث إنّها آلات لإبراز معانيها ، ومع لحاظها آلة لا يعقل لحاظها استقلالا. وأمّا الأفعال فليست بذاتها أو بالمواضعة آلات لشي‌ء ، فيمكن لحاظ الإعطاء الخارجي المقصود به التمليك مستقلا» فلا يخلو من غموض ، لأنّ الأفعال أيضا تكون آلة لإبراز المقاصد ، غاية الأمر أنّ مبرزيّتها لها إنّما تكون بالقرينة كالمقاولة المتقدمة على المعاملة ، فمجرد عدم دلالتها ذاتا أو بالوضع على المعاني لا يكون فارقا بين الألفاظ وبينها. وإنكار دلالة الأفعال على المعاني وإبرازها عنها مساوق لإنكار المعاطاة في جميع المعاملات.

فتلخص مما ذكرناه : أنّه لا مانع من ناحية اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي عن إمكان التمليك بإزاء التمليك.

ثم إنّ هذه المعاملة ـ أعني بها التمليك بإزاء التمليك ـ قد يقال : إنّها بيع ، حيث إنّ تعريفه ـ وهو المبادلة بين المالين ـ صادق عليها ، لما مرّ من أنّ التمليك بنفسه من الأموال. لكن صدق مفهوم البيع عليها مبنيّ على عدم اعتبار كون المبيع عينا ، وهو في حيّز المنع كما تقدّم في محلّه.

٩٢

ومنشأ الإشكال أوّلا : الإشكال (١) في صحة إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على ملكية المتصرف بأن يقول : «أبحت لك كلّ تصرف» من دون أن يملّكه العين.

______________________________________________________

(١) هذا هو الإشكال المشترك بين القسمين الثالث والرابع ، ومحصّله : عدم الدليل على مشروعية إباحة جميع التصرفات حتّى ما يتوقف منها على ملكيّة المتصرّف كالوقف والعتق والبيع ، بأن يقول : «أبحت لك كل تصرف ، مع بقاء العين على ملكي».

ومنشأ الإشكال : أنّ الدليل على جواز الإباحة قاعدة السلطنة ، وهي ليست مشرّعة ، وإنّما تدل على صحة كل تصرّف ثبت جوازه شرعا بدليل آخر ، فإنّ الناس مسلّطون على أموالهم لا على أحكام أموالهم. ولمّا كان توقف صحة البيع والعتق ونحوهما على الملك حكما شرعيا ـ لا من شؤون سلطنة المالك على ماله ـ لم يكن للمالك أن يبيح للغير كل تصرّف في ماله حتّى ما يناط بملكية المتصرّف ، ولا تكفي الإباحة في نفوذه وصحته. ولا فرق في هذا الإشكال بين كون الإباحة معوّضة وخالية عن العوض ، وكان العوض تمليكا أم إباحة.

__________________

كما أنّها ليست بهبة معوّضة ، لأنّ العوض فيها يكون بنحو الاشتراط ، لا المقابلة. بخلاف المقام ، فإنّ العوض فيه يكون على وجه المقابلة.

مضافا إلى : أنّه يعتبر في الهبة أن يكون الموهوب عينا. وهو مفقود في المقام ، إذ المفروض كون التعاوض بين التمليكين ، وهما أجنبيان عن العين.

كما أنّها ليست بإجارة أيضا ، لعدم كون التسليط على التمليك منفعة عرفا ، ولعدم كون توقيته بوقت معيّن ، مع أنّ تعيين الأجل ممّا لا بدّ منه في الإجارة.

فالظاهر أنّ هذه المعاملة ـ على تقدير صحتها ـ معاوضة خاصة يشملها دليل التجارة ، ولا يجري فيها الأحكام المختصة بالبيع كخيار المجلس والغرر بناء على اختصاصه بالبيع ، والله العالم.

٩٣

وثانيا (١) : الإشكال في صحة الإباحة بالعوض ، الراجعة إلى عقد مركّب من إباحة وتمليك (٢) فنقول :

أمّا إباحة (٣) جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك فالظاهر أنّها لا تجوز ، إذ التصرف الموقوف على الملك لا يسوغ لغير المالك بمجرّد إذن المالك ، فإنّ إذن المالك ليس مشرّعا ، وإنما يمضى فيما يجوز شرعا. فإذا (٤) كان بيع الإنسان مال غيره لنفسه ـ بأن يملك الثمن مع خروج المبيع عن ملك غيره ـ غير (٥) معقول كما صرّح به العلّامة في القواعد (٦)

______________________________________________________

(١) هذا هو الإشكال الثاني المختصّ بالقسم الثالث ، ومحصّله : أنّ العقد المؤلّف من «إباحة وتمليك» ليس من المعاوضات المعهودة حتى تشملها أدلة الإمضاء مثل الأمر بالوفاء بالعقود والتجارة عن تراض.

(٢) الإباحة من المبيح ، والتمليك من المباح له.

(٣) هذا شروع في تحقيق الإشكال الأوّل ، وأنّه هل يمكن التفصّي منه أم لا؟

وقد أوضحه المصنف قدس‌سره أوّلا ، ثم تصدّى لتصحيح إباحة جميع التصرفات بوجوه ثلاثة سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

(٤) غرضه قدس‌سره الاستشهاد بكلام العلّامة في القواعد على أنّ سلطنة المالك على ماله مقصورة على التصرفات المشروعة بنفسها. ولمّا كان البيع «مبادلة مال بمال» وهي تتوقف على دخول كلّ من العوضين في ملك الآخر ، فلذا لا يصحّ أن يبيح المالك لغيره بيع ملكه من دون أن يصل الثمن إلى مالك المعوّض. وجه عدم الصحة : عدم ثبوت سلطنة المالك على إباحة بيع ماله لغيره ، فلا يكون مجرّد إذنه للغير مصحّحا لكلّ تصرّف منه.

(٥) خبر قوله : «كان بيع الإنسان».

(٦) حيث قال قدس‌سره : «لو قال : بع عبدك من فلان ، على أنّ عليّ خمسمائة ، فباعه بهذا الشرط بطل ، لوجوب الثمن بأجمعه على المشتري ، فليس له أن يملك العين والثمن على غيره. بخلاف : أعتق عبدك وعليّ خمسمائة ، أو : طلّق امرأتك وعليّ مائة ، لأنّه

٩٤

فكيف (١) يجوز للمالك أن يأذن فيه (٢)؟

نعم (٣) يصح ذلك (٤) بأحد وجهين كلاهما في المقام مفقود.

أحدهما (٥) : أن يقصد المبيح بقوله : «أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك»

______________________________________________________

عوض في مقابلة فكّ» (١).

(١) جزاء قوله : «فإذا كان».

(٢) أي : في بيع ملك نفسه مع عدم وصول العوض إليه ، لفرض دخول العوض في ملك المأذون.

(٣) استدراك على قوله : «فكيف يجوز للمالك» وغرضه إبداء الفرق بين إباحة جميع التصرفات وبين إذن المالك لغيره في بيع ماله ، ومحصّله : أنّ إذن المالك لغيره في البيع يمكن تصحيحه بأحد وجوه ثلاثة ، بخلاف إباحة جميع التصرفات ، إذ لا يمكن تصحيحها بها كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

(٤) يعني : يصحّ البيع مع إذن المالك.

(٥) هذا الوجه الأوّل محكي عن بعض الأساطين ، وهو مأخوذ ممّا ذكروه في تصحيح وقوع العتق عن الأمر بالعتق في قوله : «أعتق عبدك عنّي» فيراد تصحيح الإباحة المطلقة بتنظيره بالأمر بالعتق ، ومحصله : أنّ قول المبيح : «أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك» إمّا أن يقصد به إنشاء التوكيل ، وإمّا أن يقصد به التمليك بلسان الإباحة. والتوكيل إمّا أن يكون في بيع المال ثم تملكه بهبة ، وإمّا أن يكون بتملّك المال أوّلا ثم بيعه ، فالصور ثلاث :

الأولى : أن يقصد المبيح بقوله : «أبحت ..» إنشاء التوكيل للمباح له في أمرين :

أحدهما : أن يبيع مال الموكّل المبيح. ثانيهما : نقل الثمن إلى نفسه بالهبة ، يعني يهب المباح له الثمن لنفسه وكالة عن المبيح ، فإذا فعل ذلك كان الثمن ملكا له.

الثانية : أن يقصد المبيح صيرورة المباح له وكيلا في تمليك المال لنفسه ، ثم بيعه ،

__________________

(١) : قواعد الأحكام ، ص ٥٨ (الطبعة الحجرية).

٩٥

أن ينشأ توكيلا له (*) في بيع ماله ، ثم (١) نقل الثمن إلى نفسه بالهبة ، أو (٢) في نقله أوّلا إلى نفسه ثم بيعه. أو تمليكا (٣) له (٤) بنفسه هذه الإباحة ، فيكون (٥) إنشاء تمليك له ، ويكون بيع (٦) المخاطب بمنزلة قبوله

______________________________________________________

ولا ريب حينئذ في وقوع البيع لنفسه ودخول الثمن في ملكه ، لفرض كون المعوّض ملكه قبل البيع.

الثالثة : أن يقصد المبيح بقوله : «أبحت ..» إنشاء تمليك المال للمباح له كناية ، فليس مقصوده التوكيل أصلا ، بل يكون هذا الإنشاء تمليكا ابتدائيا ، لكنّه لا بالصراحة بل بالكناية ، من جهة ذكر اللازم وهو إباحة بيع المال لنفس الآخذ المباح له ، وإرادة الملزوم وهو التمليك.

هذا توضيح ما أفاده في الوجه الأوّل. وشي‌ء من صور المسألة لا ينطبق على ما نحن فيه وهو إباحة جميع التصرفات ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(١) هذا إشارة إلى الصورة الأولى من الصور الثلاث المتقدمة ، وقد عرفت أنّه يتضمن توكيلين : أحدهما في البيع ، والثاني في الهبة.

(٢) معطوف على «في بيع ماله» وهذا إشارة إلى الصورة الثانية من الصور الثلاث.

(٣) معطوف على «توكيلا» وهذا إشارة إلى الصورة الثالثة من الصور الثلاث.

(٤) أي : تمليكا للمباح له بنفس هذا الإنشاء من دون توكيل في البين أصلا ، فهذا تمليك كنائي ، لا صريح ولا ظاهر.

(٥) يعني : فيكون قوله : «أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك» إنشاء تمليك للمباح له ، ويكون بيع المباح له إنشاء التملّك.

(٦) بل يتحقق القبول بنفسه الأخذ ، من دون حاجة إلى بيع المال في حصول الملكية ، إذ بعد فرض كون العبارة المذكورة كناية عن التمليك ـ لا المبادلة ـ كان أخذ المباح له تملّكا ، ولا يتوقف تملكه وقبوله على بيعه.

إلّا أن يفرض كلام المصنف قدس‌سره فيما إذا لم يتسلّم المباح له المال كي يتحقق قبوله

٩٦

كما صرّح في التذكرة (١) بأنّ «قول الرجل لمالك العبد : أعتق عبدك عنّي بكذا استدعاء لتمليكه ، وإعتاق المولى عنه جواب لذلك الاستدعاء ، فيحصل النقل والانتقال بهذا الاستدعاء والجواب ،

______________________________________________________

بالأخذ ، وحينئذ فيكون إنشاء قبول الإباحة بنفس إنشاء بيع المال.

(١) قال في التذكرة بعد بيان الشروط المعتبرة في صيغة البيع ما لفظه : «فروع الأوّل : إنّما يفتقر إلى الإيجاب والقبول فيما ليس الضمني من البيوع. وأمّا الضمني ـ كأعتق عبدك عنّي بكذا ـ فيكفي فيه الالتماس والجواب ، ولا تعتبر الصيغة المتقدمة إجماعا» (١).

واعتمد صاحب الجواهر على هذه الملكية الآنيّة في تصحيح الصورة الأولى من صور المعاطاة وهي إباحة كل منهما التصرف للآخر على جهة المعاوضة «من غير فرق بين أنواع التصرفات ، ما توقف منها على الملك وغيره. وعلى معنى إباحة إيقاعها للمباح له لا للمبيح ، فتجري عليها أحكام الإباحة المجانية من اللزوم بالتلف ، وأحكام المعاوضة من تعيين العوض بالمسمّى ، وأحكام : أعتق عبدك عنّي ، و : بع هذا المال لك ، ونحوه مما يفيد الملك الضمني بوقوع التصرف بناء على جريانه على القواعد ، ضرورة انحلال الإباحة بالعوض على الوجه المزبور إلى ذلك كلّه ، فليس لها حكم جديد مستنكر» (٢).

واستدل على صحته في موضع آخر بقوله : «وللجمع بين ما دلّ على صحة هذا التصرف في هذا المال المفروض إباحته ، وبين ما دلّ على : أن لا عتق إلّا في ملك ، قدّر الملك ضمنا نحو ما قدّروه في : أعتق عبدك عنّي ، وانعتاق العمودين على المشتري لهما ، ونحو ذلك. ولا حاجة إلى شاهد لهذا الجمع ، بل هو مقتضى الدليلين ، ضرورة أنّ غاية ما دلّ على اعتبار الملك اقتضاء عدم وقوع التصرّف المزبور على غير المملوك

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٢٥

٩٧

ويقدّر وقوعه (١) قبل العتق آنا ما ، فيكون هذا بيعا ضمنيا لا يحتاج إلى الشروط المقرّرة لعقد البيع».

ولا شك (٢) أنّ المقصود فيما نحن فيه ليس الإذن في نقل المال إلى نفسه أوّلا (٣) ، ولا في نقل الثمن إليه ثانيا (٤) ، ولا قصد (٥) التمليك بالإباحة المذكورة ، ولا قصد (٦) المخاطب التملّك عند البيع

______________________________________________________

مثلا ، فيكفي فيه التقدّم الذاتي الذي هو كتقدّم العلة على المعلول ..» (١).

(١) أي : وقوع النقل والانتقال.

(٢) غرضه بيان فقدان الوجه الأوّل الذي أفاده بقوله : «أحدهما : أن يقصد المبيح بقوله : أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك .. إلخ» في المقام.

ومحصله : إنكار الإذن والتوكيل ههنا ، لعدم كونه مقصودا للمتعاطيين ، ومن المعلوم تقوّم الإذن والتوكيل بالقصد ، فليس قول المبيح : «أبحت» من صغريات الإذن والتوكيل بكلتا صورتيه المتقدّمتين.

(٣) هذا نفي التوكيل في التملّك حتى تقع التصرفات في ملك المباح له ، وهي الصورة الثانية من الصور الثلاث.

(٤) هذا نفي التوكيل في البيع عن المالك المبيح ، ثم التوكيل في تملّك الثمن بالهبة ، وهي الصورة الأولى من الصور الثلاث.

(٥) معطوف على «ليس الإذن» وغرضه أجنبية المقام عن الصورة الثالثة ، وهي إنشاء التمليك بلفظ الإباحة كناية. ووجه عدم تحقق هذا التمليك الكنائي في المقام هو : توقف التمليك على القصد والاعتبار ، فمع قصد الإباحة المعوّضة ـ أو المجرّدة عن العوض ـ لا يبقى مجال للحمل على إنشاء التمليك ، لفرض كون المالك مبيحا للعين لا مملّكا لها.

(٦) هذا متمّم لنفي التمليك الكنائي الذي أفاده بقوله : «ولا قصد» وحاصله : أنّ

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٣٢

٩٨

حتى يتحقق تمليك ضمنيّ مقصود للمتكلم والمخاطب كما (١) كان مقصودا ـ ولو إجمالا (٢) ـ في مسألة «أعتق عبدك عنّي» ولذا (٣) عدّ العامة والخاصة من الأصوليين دلالة هذا الكلام على التمليك من دلالة الاقتضاء التي عرّفوها بأنّها دلالة مقصودة للمتكلم يتوقف صحة الكلام عقلا أو شرعا عليه (٤) ، فمثّلوا للعقلي بقوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) وللشرعي بهذا المثال (٥) ، ومن المعلوم بحكم الفرض (٦) أنّ المقصود فيما نحن فيه ليس إلّا مجرد الإباحة.

______________________________________________________

حمل الإباحة هنا على التمليك ممنوع من جهتين : الأولى : عدم قصد المبيح تمليك ماله. الثانية : عدم قصد المخاطب التملّك ، فلو فرض قصد المبيح للتمليك امتنع تحققه من جهة انتفاء قصد التملك من المخاطب.

(١) يعني : أنّ قصد التمليك وإن لم يتوقف على قصده بالاستقلال ، إلّا أنّ قصده ضمنا ممّا لا بدّ منه ، كما كان هذا التمليك الضمني مقصودا في الوكالة المتحققة بقول الآمر لمالك العبد : «أعتق عبدك عنّي» حيث يقصد الآمر الموكّل تملّك العبد ، ويقصد المأمور تمليك عبد نفسه للآمر ، ثم عتقه عنه. والمفروض في المقام انتفاء قصد التمليك والتملّك.

(٢) المراد بالقصد الإجمالي هو : أنّ الآمر لو التفت إلى توقف العتق الصحيح على تملّكه للعبد المعتق لوكّل سيّده في التمليك.

(٣) أي : ولأجل القصد الإجمالي عدّوا دلالة هذا الكلام على التمليك من دلالة الاقتضاء التي هي مقصودة للمتكلّم ، وتتوقف صحة الكلام عقلا عليها كسؤال القرية ونحوها من الجمادات ، أو شرعا كالمثال المذكور ، وهو قوله : «أعتق عبدك عنّي» ومن المعلوم أنّ قصد التمليك ولو إجمالا مفقود في المقام ، إذ ليس قصد المبيح غير الإباحة ، فدلالة الاقتضاء هنا مفقودة.

(٤) أي : على دلالة الاقتضاء ، والأولى تأنيث الضمير.

(٥) أي : بقول الآمر : «أعتق عبدك عنّي».

(٦) إذ المفروض كون الوجهين الأخيرين ـ وهما الإباحة في مقابل المال ،

٩٩

الثاني (١) : أن يدلّ دليل شرعي على حصول الملكية للمباح له بمجرّد

______________________________________________________

والإباحة في مقابل الإباحة ـ في قبال الوجهين الأوّلين ، فالمقصود بالأخيرين منحصر في الإباحة من دون قصد التمليك أصلا.

فتحصل : أنّ الوجه الأوّل ـ من إنشاء التوكيل أو إنشاء التمليك كناية ـ غير جار في المقام ، ولا يندفع به الإشكال.

(١) هذا هو الوجه الثاني لتصحيح بيع المباح له للمال الذي أبيح له ، ومحصله : قيام دليل شرعي على حصول الملك للمباح له ـ تعبّدا ـ بمجرد الإباحة ، لكن لمّا لم يكن المبيح قاصدا للتمليك ـ لقصده الإباحة المحضة ـ فلا بدّ من الالتزام بالملكية الآنيّة ، إمّا في حقّ المبيح ، أو المباح له. وعليه يمكن تقريب هذا الدليل الشرعي الدال على مالكية المباح له بأحد وجهين :

الأوّل : أن يكون المال باقيا على ملك المبيح إلى زمان إرادة التصرف المنوط بالملك كالبيع ، فيحكم بانتقال المباح إلى ملك المباح له ـ شرعا ـ في آن إرادة التصرف ، ونتيجته وقوع البيع في ملكه لا في ملك المبيح.

الثاني : أن يكون المال باقيا على ملك المبيح حتى في الآن الذي يريد المباح له بيعه ، فيكون البيع تصرّفا في ملك المبيح ، لعدم انتقاله إلى المباح له بعد ، فإذا باعه دلّ الدليل على انتقال الثمن الى ملك المبيح ـ تحقيقا لمفهوم المعاوضة من دخول العوض في ملك من خرج المعوّض عنه ـ آنا ما ، ثم ينتقل إلى المباح له. ومن المعلوم أنّ قيام الدليل التعبدي على هذه الملكية الآنية في المقام غير مستبعد ، لوجود نظيره في الشرع ، كما ذكروه في مسألة دخول العمودين آنا ما في ملك المشتري ، وانعتاقهما عليه قهرا.

واعلم أنّ الفارق بين هذا الوجه الثاني المبني على الملكية الآنيّة ـ بكلا تقريبية ـ وبين الوجه الأوّل المتقدم بقوله : «أحدهما أن يقصد المبيح بقوله .. إلخ» هو : أنّ الملكية في ذلك الوجه مقصودة إمّا بالتوكيل وإما بالإنشاء الكنائي. بخلافه في هذا الوجه الثاني ، إذ الملكية غير مقصودة أصلا ، وإنّما تحصل الملكيّة قهرا بجعل

١٠٠