هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيتهما : في أنّ الأصل في القبول هل يكون أحدها ، والآخر بدله ، أم لا؟

أمّا الناحية الأولى فمحصّلها : أنّ مقتضى العبائر التي عرفتها في المتن وغيرها مما لم يذكر عدم الانحصار.

وأمّا الناحية الثانية فمحصّلها عدم ثبوت أصل وبدل في ألفاظ القبول ، لأنّ كلّ لفظ لا يصلح للقبول ، إلّا إذا دلّ على معنى لا يمكن إنشاؤه ابتداء ، سواء أكان بلفظ «قبلت» أم غيره. ولعلّ المراد بالأصل هو كون الدلالة على المعنى القبولي مطابقة منحصرا بلفظ «قبلت» فتأمّل.

ولا بأس بالنظر إلى بعض كلماتهم في ألفاظ القبول ، ففي السرائر (١) ما ظاهره الاقتصار على صيغتي «اشتريت وقبلت» لعدم ذكر غيرهما.

قيل : وقد يدّعى انفهام انحصار ألفاظ القبول فيهما من عبارة الغنية.

وفي جواهر القاضي عبد العزيز بن البراج رحمه‌الله : «مسألة : إذا قال المشتري للبائع بعني بكذا ، وقال البائع : بعتك هل ينعقد البيع أم لا؟ الجواب : لا ينعقد البيع بذلك ، وإنّما ينعقد بأن يقول المشتري بعد ذلك : قبلت أو اشتريت ، لأنّ ما ذكرناه مجمع على ثبوت العقد وصحته به ، وليس كذلك ما خالفه. ومن ادّعى ثبوته وصحّته بغير ما ذكرنا فعليه الدليل. وأيضا فالأصل عدم العقد ، وعلى من يدّعي ثبوته الدليل» (٢).

وفي التذكرة : «والقبول من المشتري قبلت أو ابتعت أو اشتريت أو تملّكت» (٣).

وفي الدروس : «والقبول ابتعت واشتريت وتملّكت وقبلت بصيغة الماضي» (٤).

وفي القواعد : «والقبول وهو : اشتريت أو تملّكت أو قبلت».

وفي جامع المقاصد في شرح هذه العبارة : «كان الأولى أن يقول : كاشتريت ، لأنّ

__________________

(١) : السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٢٥٠

(٢) جواهر الفقه (ضمن الجوامع الفقهية) ، ص ٤٢١

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٤) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩١

٤٠١

ولعلّ الإشكال فيه (١) كإشكال «شريت» (*)

______________________________________________________

(١) أي : ولعلّ الإشكال في إنشاء القبول بصيغة «بعت» هو قلّة الاستعمال في الإيجاب ب «شريت».

__________________

ابتعت ونحوه قبول قطعا» (١).

وجه الأولوية : أنّ ظاهر قول العلّامة : «والقبول هو اشتريت .. إلخ» هو الحصر ، بخلاف التعبير بقوله : «كاشتريت» فإنّه كالصريح في التمثيل ، لا الحصر.

وعن العلّامة الطباطبائي قدس‌سره : القطع بعدم الفرق بين الصيغ المؤدّية للمعنى لا عقلا ولا شرعا.

وفي الجواهر : «ولو توقف النقل على خصوص اللّفظ المعيّن لزم الاقتصار على بعت واشتريت وقبلت ، ولم يجز غيره ، لعدم ثبوته بعينه من نصّ ولا إجماع. ورضيت في القبول أظهر من ملكت وشريت ، وأقرب إلى مفهوم قبلت ، فكان أولى بالجواز منهما» (٢).

وأنت بعد الإحاطة بما ذكرناه من العبائر وغيرها ممّا لم نذكرها تعرف اختلافهم في انحصار ألفاظ القبول في بعض ما ذكر وعدم انحصارها فيه ، فلا إجماع على الانحصار ، فلا بدّ حينئذ من المشي على طبق القواعد. وهي تقتضي جواز إنشاء قبول البيع بكلّ لفظ يكون ظاهرا في ذلك بحيث يعدّ مبرزا له عند أبناء المحاورة ، ويصدق عليه قبول العقد عرفا ، فإنّه مع صدق البيع العرفي عليه تشمله العمومات كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ).

(*) لا يخفى أنّه بعد البناء على كون الشراء من الأضداد ـ وبعد وجود القرينة الدالة على إرادة الإيجاب منه ـ لا ينبغي الإشكال في جواز إنشاء الإيجاب به.

وكذا الإشكال في إنشاء القبول بلفظ «بعت». وغلبة استعماله في إنشاء الإيجاب

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٧

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٧

٤٠٢

في الإيجاب (١).

واعلم أنّ المحكي عن نهاية الأحكام والمسالك «أنّ الأصل في القبول قبلت (٢) ، وغيره (٣) بدل ، لأنّ (*) القبول على الحقيقة ممّا لا يمكن به الابتداء ، والابتداء بنحو اشتريت وابتعت ممكن» (١) وسيأتي توضيح ذلك في اشتراط تقديم الإيجاب.

______________________________________________________

(١) المراد بالإشكال في «شريت» هو ما أفاده المصنف قدس‌سره عند ذكر لفظ «شريت» بقوله : «وربما يستشكل فيه بقلة استعماله عرفا في البيع ، وكونه محتاجا إلى القرينة المعيّنة ، وعدم نقل الإيجاب به في الأخبار وكلام القدماء».

فإشكال «بعت» في القبول ـ وهو قلّة استعماله فيه عرفا ـ نظير الإشكال المزبور في «شريت» الذي يستعمل في الإيجاب.

(٢) قال في المسالك : «وفي الحقيقة : هذه الألفاظ المتقدمة المعدّة قبولا قائمة مقامه ، لا نفسه ، وإنّما القبول على الحقيقة : قبلت ، وهو ممّا لا يصحّ الابتداء به».

(٣) يعني : وغير «قبلت» مثل «اشتريت ، ابتعت» بدل عن «قبلت» والدّليل على أصالة هذه وبدليّة ما سواها هو امتناع تقديم «قبلت» على الإيجاب ، بخلاف «ابتعت واشتريت» فإنّ الابتداء بهما ممكن ، ولذا عدّوهما من صيغ إيجاب البيع أيضا ، فلا تتمحضان في قبوله ، إذ ليس القبول مجرّد الرضا بفعل الغير حتى يمكن سبقه عليه ، بل هو مطاوعة فعل الغير ومتابعته له ، ومن المعلوم امتناع تقدمه على الإيجاب.

__________________

لا تمنع عن جواز إنشاء القبول به مع القرينة المعيّنة.

(*) هذا التعليل لا يثبت أصالة «قبلت» فقط ، بل مقتضاه أصالة كلّ ما لا يمكن الابتداء به كلفظ «تملّكت ، ورضيت» ونحوهما ممّا يتضمن القبول.

__________________

(١) : نهاية الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٤٨ ، مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤

٤٠٣

ثم إنّ في انعقاد القبول بلفظ الإمضاء والإجازة والإنفاذ وشبهها وجهين (١) (*).

______________________________________________________

(١) لعلّ منشأ المنع عدم كونها صريحة ، لعدم وضعها لعنوان القبول مثل لفظ «قبلت» ولا لعنوان طرف المعاملة ك «اشتريت» وقد اشترطوا الصّراحة في ألفاظ العقود ، مع عدم تصريح منهم بوقوع القبول بها ، فلا ينعقد بها.

ومنشأ الانعقاد أنّ الظاهر اعتبار الصراحة في خصوص ألفاظ الإيجاب دون القبول ، ولذا يكتفى فيه بلفظ «قبلت» من دون ذكر المفعول وهو البيع ، للاستغناء عنه بالاقتران بلفظ الإيجاب «كبعت» فإنّ الاقتران المزبور قرينة مقاميّة على إرادة القبول من لفظ «رضيت وأنفذت» ونحوهما أيضا ، لدلالة الاقتران على كون مضمونه تابعا للإنشاء الإيجابي.

__________________

(*) قال السيد قدس‌سره في حاشيته : «الظاهر أنّ وجه الإشكال استعمال هذه الألفاظ غالبا في مقام إمضاء العقد الواقع مع إيجابه وقبوله كما في إجازة الفضولي ، وإجازة المرتهن بيع الراهن ، وإمضاء الورثة تصرّف الميت في الزائد عن الثلث ، وهكذا. ولكنّ الحق كفايتها في القبول بعد مساعدة معناها عليه ، إذ لا فرق بينها وبين لفظ رضيت كما لا يخفى» (١).

أقول : فيه أوّلا : أنّ عطف «وإمضاء الورثة .. إلخ» على قوله : «في إجازة الفضولي .. إلخ» غير سديد ، لأنّ الوصية بالزائد عن الثلث ليست عنده قدس‌سره من العقود حتى يكون إمضاء الورثة تنفيذا للعقد ، حيث قال ما لفظه : «الوصية العهدية لا تحتاج إلى القبول ، وكذا الوصية بالفكّ كالعتق. وأمّا التمليكية فالمشهور على أنّه يعتبر فيها القبول جزءا. وعليه تكون من العقود. أو شرطا على وجه الكشف أو النقل ، فيكون من الإيقاعات. ويحتمل قويّا عدم اعتبار القبول فيها ، بل يكون الرّد مانعا. وعليه تكون من الإيقاع

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٨٧

٤٠٤

.................................................................................................

__________________

الصريح .. إلخ» (١).

ومع عدم كون الوصية من العقود لا يصح جعلها من العقود التي يتعقّبها الإمضاء والإنفاذ ، لكونها حينئذ من الإيقاعات.

وثانيا : أنّ جعل منشأ الإشكال غلبة استعمال هذه الألفاظ في مقام إمضاء العقد الواقع مع إيجابه غير وجيه ، لعدم صلاحية مجرّد غلبة الاستعمال للمنع عن إنشاء القبول بتلك الألفاظ بعد مساعدة معانيها على صحة إنشائه بها.

ولعلّ غرضه قدس‌سره من غلبة الاستعمال هو كون مورد أدلة الإمضاء المعاملات المتداولة بين العقلاء ، فكلّ ما هو المتداول بينهم يكون مورد الأدلّة ، هذا.

لكن يرد عليه : أنّ التداول لا يمنع عن شمول أدلة الإمضاء لغير الغالب بعد كونه عرفيّا أيضا وإن كان نادرا عندهم ، فمجرّد الغلبة لا يوجب انصراف أدلة الإمضاء عن النادر.

فالأولى توجيه الاشكال بخفاء دلالتها على القبول ، فتدبّر.

وقال المحقق الأصفهاني قدس‌سره : «لا ريب في أنّ عنوان الإمضاء والإجازة والإنفاذ لا يتعلق إلّا بما له مضيّ وجواز ونفوذ. وما يترقّب منه ذلك هو السبب التام وهو العقد ، لتقوّم السبب المترقّب منه التأثير في الملكية بالإيجاب والقبول معا ، فلا معنى للتسبّب بقوله : أمضيت وأجزت وأنفذت إلّا في مثل العقد الفضولي ، لا بالإضافة إلى الإيجاب فقط إلّا بنحو الكناية ، لأنّ النفوذ والجواز والمضي لازم تحقق العقد بلحوق القبول للإيجاب ، فيكون القبول المتمّم للسبب ملزوما للنفوذ والمضي والجواز. فيظهر الرّضا بالإيجاب ـ وهو الملزوم ـ بإنشاء لازمه وهو النفوذ مثلا من حيث إنّه لازم تمامية السبب بالقبول ، وإظهار الرّضا بالإيجاب ، فيبتني وقوع تلك الألفاظ موقع القبول على جواز العقد بالكناية.

مضافا إلى ما سيأتي إن شاء الله تعالى في محلّه من أنّ النفوذ والمضي وشبههما

__________________

(١) : العروة الوثقى ، ج ٢ ، ص ٨٧٧ ، كتاب الوصية : المسألة الأولى.

٤٠٥

.................................................................................................

__________________

معان منتزعة من تأثير السبب أثره ، لا أنّها أمور إنشائية يتسبّب بوجوداتها الإنشائية الى وجوداتها الحقيقيّة. وتمام الكلام فيه في محله» (١).

وفيه : أنّ عنوان الإمضاء والإجازة لا ينحصر تعلّقهما بما فيه مضيّ ونفوذ بنحو السببية التامة كالعقد المتقوم بالإيجاب والقبول كما هو صريح قوله قدس‌سره : «وما يترقّب منه ذلك هو السبب التام وهو العقد» لأنّ هذه الألفاظ تستعمل كثيرا مع عدم كون متعلّقها سببا تامّا للتأثير كإمضاء أحد الورثة العقد الخياري الذي أوقعه مورّثهم ، فإنّ الخيار موروث لجميع الورثة ، وإمضاء أحدهم لا يتعلق بسبب تام للتأثير ، بل تمامية العقد في التأثير اللزومي منوطة بإمضاء سائر الورثة.

وكحدّ القذف الذي يرثه الوراث ، فإن عفى بعضهم لم يسقط حقّ الآخرين. وسائر الحقوق الموروثة مع تعدّد الوارث وإنفاذ البعض.

وبالجملة : فالإمضاء ونحوه لا ينحصر تعلّقه بالسبب التّام ، بل لا معنى لتعلقه به مع فرض إناطة تأثيره بالإمضاء ، لأنّه خلاف سببيّته التامة.

فالأولى أن يقال : إنّ الإمضاء يتعلّق بما فيه اقتضاء التأثير وإن تعلّق بالإيجاب ، فإنّ إمضاءه من القابل عبارة عن إيجاد القبول الذي هو جزء السبب المؤثّر ، فالإنفاذ في العقود والإيقاعات نظير الإيجاب في الواجبات ، فإنّ الموجب قد يسدّ جميع أبواب عدم واجب كالواجب التعييني ، وقد يسدّ بعض أبواب عدم واجب كالواجب التخييري ، فإنّ المشرّع يسدّ أبواب عدمه إلّا عدمه الناشئ عن وجود عدله ، كسدّ أبواب عدم أحد الإبدال في الكفارة إلّا عدمه الناشئ عن وجود غيره من الأبدال.

ففي المقام يكون الإنفاذ كذلك ، فإمضاء الإيجاب لازم وجود القبول ، فدلالته على القبول تكون من باب الكناية ، لدلالة «أمضيت» ونحوه على اللازم ـ أعني النفوذ ـ مطابقة ، وعلى الملزوم وهو تحقق القبول بالالتزام ، لدلالة اللازم على الملزوم ، كدلالة كثرة الرّماد على الملزوم أعني الجود. فما أفاده المحقق المتقدم قدس‌سره من كون دلالة هذه الألفاظ على القبول بالكناية في محله.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٦٨

٤٠٦

فرع : لو أوقعا العقد بالألفاظ المشتركة بين الإيجاب والقبول (١) ، ثم اختلفا في تعيين الموجب والقابل ، إمّا (٢) بناء على جواز تقديم القبول ، وإمّا من جهة اختلافهما في المتقدم ، فلا يبعد الحكم بالتحالف (٣) ، ثم عدم ترتب الآثار المختصة.

______________________________________________________

(١) كلفظ «بعت» فإنّه بناء على ما عن ابن سعيد قدس‌سره يجوز إنشاء قبول البيع به. ويؤيّده ـ بل يدلّ عليه ـ ما تقدّم من كونه من الأضداد ، فيستعمل لفظ «بعت» في كلّ من البيع والشراء. وكلفظ «شريت» المستعمل في كليهما.

(٢) غرضه بيان منشأ الاختلاف ، وهو أحد أمرين :

الأوّل : عدم لزوم تقديم الإيجاب ، فيختلف المتعاقدان ، ويدّعي البادي بالإنشاء بقوله : «شريت» أنّه أراد القبول ، لعدم لزوم تقديم الإيجاب عليه ، ويدّعي غيره أنّك أردت الإيجاب ، أو بالعكس.

الثاني : أنّه يجب تقديم الإيجاب على القبول ، غاية الأمر أنّهما يتنازعان في المتقدم ، وأن البادي بالإنشاء هل هو هذا أم ذاك؟

ثم إنّ هذا النزاع لا يختص بما إذا وقع العقد بالألفاظ المشتركة ، بل يعمّ ما إذا وقع بالألفاظ المختصة ، بأن يختلفا في أنّ المتلفّظ بصيغة الإيجاب هذا أو صاحبه؟ فلا يترتب هذا النزاع على إيقاع العقد بخصوص الألفاظ المشتركة بين الإيجاب والقبول.

(٣) لأنّ كلّا منهما مدّع ومنكر ، حيث إنّه يدّعي كلّ منهما أنّه مشتري الحيوان ، وينكره الآخر.

وتوضيح ما أفاده : أنّ الأثر يترتّب تارة على كلّ من الدعويين ، كما إذا كان العوضان حيوانين كفرس وغنم ، وادّعى كلّ منهما أنّه مشتر ليثبت له خيار الحيوان بناء على اختصاصه بالمشتري ، فيدّعي صاحب الفرس أنّه اشترى الغنم بالفرس ، فهو مشتر ، والغنم مبيع ، ويثبت له الخيار. ويدّعي صاحب الغنم أنّه اشترى الفرس بالغنم ، فالمبيع هو الفرس ، ويكون له خيار الحيوان.

والحكم حينئذ التحالف ، لأنّ كلّا منهما مدّع للشراء ومنكر للبيع ، فكلّ منهما مدّع ومنكر ، وفي مثله يجري التحالف.

٤٠٧

مسألة (١):

______________________________________________________

وأخرى يترتب الأثر على إحدى الدعويين ، كما إذا كان أحد العوضين حنطة والآخر غنما ، فيدّعي أحد المتبايعين أنّه اشترى الغنم بالحنطة ، فهو المشتري ، والغنم مبيع. ويدّعي الآخر أنّ الغنم ثمن ، وباع الحنطة به ، فلا خيار لمن انتقل إليه الحيوان.

وبالجملة : فالتحالف المذكور في المتن متّجه في الصورة الأولى ، دون الصورة الثانية التي هي من باب المدّعي والمنكر ، فإطلاق التحالف ممنوع.

وعليه فالإشكال الوارد على المتن أمران ، أحدهما : حكمه قدس‌سره بإطلاق التحالف. ثانيهما : جعل هذا الفرع متفرّعا على إنشاء العقد بالألفاظ المشتركة ، مع أنّك عرفت عدم اختصاص النزاع بالألفاظ المشتركة.

المبحث الثالث : اعتبار العربية

(١) هذا إشارة إلى المبحث الثالث من الجهة الأولى ـ الباحثة عن خصوصيات موادّ العقود ـ وهو مسألة اعتبار العربية فيها ، وقد نقل المصنف قدس‌سره عنهم أدلة ثلاثة على الاعتبار وناقش فيها ، ثم ذكر فروعا ثلاثة رتّبوها على شرطية العربية.

ومحصّل ما أفاده في أصل الاشتراط هو : أنّ المنسوب إلى جماعة من الفقهاء اعتبار العربية في العقد ، لوجوه :

أحدها : التأسّي بالنبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام ، حيث كان دأبهم على إنشاء العقود والإيقاعات بالألفاظ العربية كما لا يخفى على المتتبع. هذا بحسب الصغرى.

وأمّا من حيث الكبرى فلا ريب في حجية فعلهم كحجية قولهم وتقريرهم عليهم الصلاة والسلام.

وعلى هذا فالتأسّي بهم عليهم الصلاة والسلام يقضي بإنشاء المعاملات بالعربيّة دون اللغات الأخرى الّتي لم تؤثر من الشارع الأقدس.

ثانيها : ما عن تعليق الإرشاد من : أنّ عدم صحة العقد بالعربي غير الماضي ـ كقوله : أبيعك أو : أنا بائع ـ يستلزم عدم صحة العقد بغير العربي بالأولوية ، لكونه

٤٠٨

المحكيّ عن جماعة منهم السيد عميد الدين والفاضل المقداد والمحقق والشهيد الثانيان (١) : اعتبار العربية في العقد (٢) ، للتأسّي كما في جامع المقاصد (٣) ، ولأن (٤) عدم صحته بالعربي غير الماضي يستلزم عدم صحته بغير العربي بطريق أولى.

وفي الوجهين ما لا يخفى (٥).

______________________________________________________

فاقدا لكلّ من العربية والماضوية ، فعدم صحة فاقد إحداهما يستلزم عدم صحة فاقد كلتيهما بالأولوية كما لا يخفى.

(١) الحاكي لكلمات هذه العدّة ـ عدا الفاضل المقداد ، إذ لم ينسب إليه اعتبار العربية ـ هو السيد الفقيه العاملي (١) ، فراجع.

(٢) المراد بالعقد هو البيع ونحوه ، وأمّا النكاح فقد ادّعى شيخ الطائفة والعلّامة قدس‌سرهما اشتراطه بالعربية.

(٣) قال المحقق الثاني قدس‌سره : «لأنّ الناقل هو الألفاظ المخصوصة ، وغيرها لم يدلّ عليها دليل ، ومعلوم أنّ العقود الواقعة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام إنّما كانت بالعربية».

وقال الفاضل الأصفهاني : «لأنّ العقود متلقّاة من الشارع مع الأصل» (٢).

(٤) هذا إشارة إلى الوجه الثاني المذكور بقولنا عن تعليق الإرشاد : «ثانيهما عدم صحة العقد .. إلخ».

(٥) إذ في أوّلهما : أنّ مجرّد عدم تلفّظهم عليهم‌السلام ـ في مقام إنشاء العقود والإيقاعات ـ إلّا باللغة العربية لا يدلّ على عدم جواز إنشائها باللّغات الأخر ، لقوّة

__________________

(١) : لاحظ كلام السيد عميد الدين والمحقق الثاني في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٢ ، والنسبة إلى المحقق والشهيد الثانيين في ص ١٦٤. ولاحظ كلام الفاضل المقداد في التنقيح ، ج ٢ ، ص ١٨٤ وج ٣ ، ص ٧. وكلام المحقق الثاني في جامع المقاصد ج ٤ ، ص ٦٠ ، وج ١٢ ص ٧٤ ، وكلام الشهيد الثاني في بيع الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٥ ، وفي نكاح المسالك ، ج ٧ ، ص ٩٥.

(٢) كشف اللثام ، ج ١ ، كتاب النكاح ، ص ٧

٤٠٩

وأضعف (١) منهما منع صدق العقد على غير العربي مع التمكّن من العربي ، فالأقوى (٢) صحّته بغير العربي.

______________________________________________________

احتمال أن يكون اقتصارهم على اللّغة العربية لأجل عدم الابتلاء باللّغات الأخر ، لا لأجل التشريع الموجب للاقتصار على العربي ، حتى يكون من قبيل مناسك الحج الصادرة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الثابت كونها في مقام التشريع بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذوا عنّى مناسككم».

وعليه فلا يصلح التأسّي المزبور لتقييد إطلاقات الصحة والنفوذ الشاملة لغير العربي.

وفي ثانيهما : منع الاستلزام المزبور ، لأنّ غير الماضي بعيد عن معنى الإنشاء ، بخلاف غير العربي المستعمل في مقام إنشاء العقد على طبق قواعد تلك اللغة.

(١) هذا إشارة إلى ثالث الوجوه التي استدلّ بها على اعتبار العربية في العقد ، وحاصله : منع صدق العقد على ما ينشأ بغير العربي مع التمكّن من العربي ، فالصدق منوط بالعربية ، هذا.

وضعفه في غاية الوضوح ، لمخالفته للوجدان ، بداهة صدق العقد العرفي على كل ما يصح عرفا إنشاؤه به ، وعدم تقوّم مفهوم العقد بإنشائه بالعربية ، وعدم اعتبار العربية في إنشائه عقلا أو شرعا ، فعمومات أدلّة الإمضاء تشمل المنشأ بغير العربي ، كشمولها للمنشإ بالعربي.

وبعبارة أخرى : العقد هو الالتزامان المرتبطان بلا فرق بين كون المتعاقدين عربيين أو عجميّين أو مختلفين ، ومن المعلوم أنّ الالتزام أمر نفساني لا ربط له باللسان حتى يختص بأهل لغة دون أخرى.

(٢) هذا متفرّع على بطلان الوجوه الثلاثة المستدلّ بها على اعتبار العربية ، وحاصله : صحة العقد بغير العربية ، لأنّها مقتضى إطلاقات الصحة. ونسب ذلك إلى المشهور ، لعدم تعرض الأكثر لهذا الشرط ، وإنّما تعرّض له جماعة ، وهم بين مثبت له وناف.

٤١٠

وهل يعتبر عدم اللحن (١) من حيث المادّة (٢) والهيئة (٣) بناء على اشتراط العربي؟ الأقوى ذلك (٤) بناء على أنّ دليل اعتبار العربية هو لزوم الاقتصار على المتيقّن من أسباب النقل.

وكذا (٥) اللّحن في الإعراب. وحكي (٦) عن فخر الدين «الفرق بين ما لو قال : بعتك بفتح الباء ، وبين ما لو قال : جوّزتك بدل زوّجتك ، فصحّح الأوّل دون الثاني ، إلّا مع العجز عن التعلم والتوكيل».

______________________________________________________

(١) هذا الفرع الأوّل من فروع اعتبار العربية ، وحاصله : أنّه بناء على اعتبار العربية هل تعتبر مطلقا ـ أي من حيث المادة والهيئة والإعراب ـ أم لا ، أم يفصّل بين ألفاظ الإيجاب والقبول بالاعتبار فيها ، وبين غيرها كالمتعلّقات بعدم الاعتبار فيها؟ فيه وجوه بل أقوال.

(٢) كإنشاء النكاح بقوله : «جوّزت» بدل «زوّجت» لاختلاف مادتي الجواز والزواج.

(٣) كالإنشاء بلفظ «أبيع وبائع» لتعدد الهيئة مع وحدة المادة.

(٤) أي : الاعتبار ، بناء على كون الدليل في اشتراط العربية هو الاقتصار على المتيقّن من أسباب النقل ، فيجري فيما عداه أصالة عدم ترتب الأثر.

(٥) هذا الفرع من فروع اعتبار العربيّة ، يعني : وكذا يعتبر عدم اللّحن في الإعراب بناء على استناد اعتبار العربية إلى المتيقن من أسباب النقل ، فإذا قال : بعت ـ بفتح التاء ليكون للخطاب ـ لم ينعقد به البيع ، وكذا إذا قال المشتري : «اشتريت أو قبلت» بفتح التاء أو كسرها.

(٦) الحاكي هو السيد العاملي قدس‌سره (١) ، وغرضه حكاية التفصيل في الصحة وعدمها بين اللحن المادّي والصّوري ، فقيل بالصحة في الثاني دون الأوّل ، إلّا مع العجز عن التعلّم والتوكيل ، فقوله : «بعتك» صحيح ، دون «جوّزتك» بدل «زوّجتك».

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٣ و١٦٤

٤١١

ولعلّه (١) لعدم معنى صحيح في الأوّل إلّا البيع ، بخلاف التجويز ، فإنّ له معنى آخر ، فاستعماله في التزويج غير جائز.

ومنه (٢) يظهر أنّ اللغات المحرّفة (٣) لا بأس بها إذا لم يتغيّر بها المعنى (٤).

ثم (٥) هل المعتبر عربيّة جميع أجزاء الإيجاب والقبول كالثمن والمثمن ، أم يكفي عربيّة الصيغة الدالّة على إنشاء الإيجاب والقبول؟ حتى لو قال : «بعتك إين كتاب را به ده درهم» كفى.

______________________________________________________

(١) أي : ولعلّ الفرق بين اللحن المادي والصوري. لمّا كان يتوجه على فخر المحققين قدس‌سره سؤال الفرق فيما حكي عنه بين «بعتك» وبين ما لو قال : «جوّزتك» بدل «زوّجتك» حيث حكم بصحة العقد بالأوّل دون الثاني مع اشتراكهما في اللحن ، غاية الأمر أنّه في الأوّل صوري وفي الثاني مادّي ، تعرّض المصنف قدس‌سره لإبداء الفرق بينهما بما حاصله : أنّه ليس للأوّل معنى صحيح إلّا البيع ، فهو مراد من أنشأ البيع به ، بخلاف الثاني ، فإنّ له معنى آخر صحيحا مغايرا للنكاح ، فلا يجوز استعماله في التزويج ، إذ ليس مبرزا حينئذ للاعتبار النفساني من التزويج ، بعد فرض المغايرة بينهما.

(٢) أي : ومن عدم قدح اللحن الصّوري في صحة الإنشاء يظهر أنّه لا بأس بالإنشاء باللّغات المحرّفة ، ما لم تغيّر المعنى ، حيث إنّها مع هذا التحريف لا تخرج عن كونها موجده أو مبرزة للاعتبارات النفسانية. وكذا الحال في الوصل بالسكون والوقف بالحركة ونحوهما ممّا لا يوجب تغييرا في المعنى المقصود.

(٣) المراد باللغة المحرّفة هي الكلمة التي تتغيّر فيها هيئتها بتضعيف حرف مخفّف أو بالعكس ، أو ضمّ الحرف المفتوح ونحوهما.

(٤) بخلاف ما إذا تغيّر المعنى ، «كقبّلت» فإنّ معناه غير معنى : «قبلت» بالتخفيف.

(٥) هذا الفرع الثالث من فروع اعتبار العربية ، ومحصّله : أنّه هل تعتبر العربيّة

٤١٢

والأقوى هو الأوّل (١) ، لأنّ (٢) غير العربي كالمعدوم ، فكأنّه لم يذكر في الكلام (٣).

نعم (٤) لو لم يعتبر ذكر متعلّقات الإيجاب ـ كما لا يجب في القبول (٥) ـ واكتفى بانفهامها ولو من غير اللفظ صحّ الوجه الثاني (٦).

______________________________________________________

في كل جزء من أجزاء الإيجاب والقبول؟ فلا بد أن يقول البائع : «بعتك هذا الكتاب بدينار» مثلا ، ويقول المشتري «قبلت بيع الكتاب بدينار» أم لا يعتبر ذلك ، وإنّما المعتبر عربيّة نفس صيغتي الإيجاب والقبول ، وإن كان غيرهما فارسيّا أو غيره من اللغات ، فلو قال : «بعتك إين كتاب را به ده درهم» وقال المشتري : «قبلت بيع إين كتاب را به ده درهم» كفى.

(١) وهو اعتبار العربية في جميع أجزاء الإيجاب والقبول.

(٢) تعليل لقوله : «والأقوى هو الأوّل» وحاصله : أنّ الثمن والمثمن من أجزاء العقد ومن مقوّماته ، والإنشاء لا يحصل إلّا بالمجموع ، بحيث لا يصدق على الخالي عنهما اسم العقد حتى تشمله العمومات والإطلاقات ، ولا أقلّ من الشك.

(٣) ولعلّ وجهه كما في بعض الكلمات هو أنّه لا يلزم منه الفصل بين الإيجاب والقبول بالأجنبي ، لأن تلك المتعلقات مرتبطة معنى بالصيغة التي أنشئ بها العقد وإن لم يكن الكلام جاريا على قانون الاستعمال.

(٤) استدراك على قوله : «الأقوى هو الأوّل» وغرضه إقامة الدليل على قوله : «أم يكفي عربية الصيغة» وحاصله : أنّ في مسألة اشتراط صحة العقد بذكر متعلقاته وجهين ، فبناء على الاشتراط لا بدّ من ذكر المتعلّقات بالعربيّة كنفس الصيغة. وبناء على عدم الاشتراط يجوز ذكرها بالفارسية ، فالمسألة مبنائيّة.

(٥) لظهوره في كونه قبولا لما أنشأه الموجب ، فلا موجب لإعادتها في القبول لأنّ المتعلقات من أجزاء الصيغة.

(٦) وهو كفاية عربيّة نفس الصيغة الدالّة على إنشاء الإيجاب والقبول ، ومن

٤١٣

لكنّ (١) الشهيد رحمه‌الله في غاية المراد (١) في مسألة تقديم القبول نصّ على وجوب ذكر العوضين في الإيجاب (*).

______________________________________________________

المعلوم أنّه بناء على عدم اعتبار ذكر متعلّقات الإيجاب ـ كعدم اعتباره في القبول ـ لا ينبغي الإشكال في كفاية العربية في الإيجاب والقبول ، وعدم الحاجة إلى ذكر المتعلقات بالعربية.

(١) فعلى هذا يجب ذكر العوضين في الإيجاب باللغة العربية. ولعلّ وجهه ما عرفت آنفا عند شرح قوله : «لأن غير العربي كالمعدوم» فيجب ذكر العوضين ، لأنّهما ركنان في المعاوضات ، كركنيّة الزوجين في النكاح. ومقتضى الاقتصار على المتيقن هو ذكرهما بالعربية.

__________________

(*) ينبغي تفصيل البحث في اعتبار العربية في صيغ العقود في مقامين :

الأوّل : فيما عدا النكاح من العقود اللازمة ، سواء أكانت بيعا أم غيره.

والثاني : في عقد النكاح.

أمّا المقام الأوّل فمحصّله : أن المنسوب إلى المشهور عدم اعتبار العربية في صيغ العقود اللازمة ، خلافا لجماعة ، حيث إنّهم ذهبوا إلى اعتبار العربية فيها ، لوجوه :

الأوّل : الأصل.

الثاني : التأسّي.

الثالث : أنّ عدم صحة العقد بالعربي غير الماضي يستلزم عدم صحّته بغير العربي بالأولويّة ، لكون غير العربي فاقدا لقيدي العربية والماضوية معا.

الرابع : أنّ غير العربي غير صريح ، فهو من قبيل الكنايات التي وقع المنع عن استعمالها في العقود في كلمات الفقهاء. وهذا الوجه يظهر من كلام العلّامة في التذكرة لأنّه بعد الحكم فيها بعدم الانعقاد بغير العربية عند علمائنا قال : «وهو قولا الشافعي وأحمد ، لأنّه عدل عن النكاح والتزويج مع القدرة ، فصار كما لو عدل إلى البيع والتمليك

__________________

(١) : غاية المراد ، ص ٨١

٤١٤

.................................................................................................

__________________

وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي أيضا : إنّه ينعقد اعتبارا بالمعنى» (١).

الخامس : أنّ العقد بغير العربيّة لا يصدق عليه أنّه عقد.

وزاد بعضهم أنّ غير العربية من اللغات ليست لغة ، لأنّ غير العرب أعجم ، والأعجم هو من لا لسان له ، هذا.

وأنت خبير بما في الكل.

إذ في الأوّل ـ وهو الأصل ـ أنّه لا أصل له مع الدليل ، وهو عموم ما دلّ على نفوذ العقود والبيع والتجارة ، فإنّ صدق هذه العناوين عرفا على ما ينشأ بغير الألفاظ العربية ممّا لا يمكن إنكاره ، ومع هذا الصدق كيف يصح التمسك بأصالة الفساد؟

وفي الثاني : أنّ التأسّي إنّما يصح في الأفعال الواردة في مقام التشريع كأفعال الصلاة والحج ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» و «خذوا عنّي مناسككم». وأمّا إذا ورد فعل بعد ورود دليل عام على صحة شي‌ء ، ثم صدر عمل يكون مصداقا لموضوع ذلك الدليل ، فلا وجه للزوم التأسّي حينئذ حتّى يقال بانحصار المصداق فيما صدر عن التشريع كما في المقام ، فإنّ عموم قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ونحوه يشمل العقد المنشإ بالعربي والفارسي ، فصدور العقود العربيّة منهم عليهم‌السلام لا يدلّ على انحصار العقود النافذة بما أنشئ باللفظ العربي حتى يجب التأسّي.

وفي الثالث : أنّ الماضي لا يختص باللغة العربية حتى يكون غير العربي فاقدا لقيدين ، فلا أولوية في البين ، بل هما سيّان ، لكون كل واحد منهما فاقدا لقيد وواجدا له.

وفي الرابع : أن كون غير العربي من الكنايات ممنوع أشدّ المنع ، بداهة أنّ ترجمة لفظ «بعت» مثلا وهي بالفارسية «فروختم» كنفس «بعت» تدلّ بالوضع على معنى البيع في الزمان.

ولعل المستدل زعم أنّ الماضي مختص باللغة العربية ، وهو معلوم الفساد ، هذا.

وفي الخامس : أنّ تقوّم العقد بالعربية مما يعلم بالضرورة خلافه ، لصدق العقد العرفي على ما ينشأ بغير العربية من اللغات ، فإنّ التشكيك في صدقه عليه خلاف

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨٢

٤١٥

.................................................................................................

__________________

الضرورة وما عليه العقلاء.

بل دعوى انصراف العقود إلى المعهودة توجب القطع بعدم اعتبار العربية فيها ، لكون العقود المتعارفة عند كلّ ملّة منشأة بلغاتهم المختلفة.

ويظهر مما تقدّم ضعف احتمال عدم كون غير العربية لغة.

فتلخص مما ذكرناه : عدم دليل على اعتبار العربية فيما عدا النكاح من العقود اللازمة حتى تخصّص به عمومات أدلة النفوذ ، فلو شكّ في اعتباره فمقتضى العمومات عدمه ، فيصحّ إنشاء العقود اللازمة غير النكاح بكلّ لغة ، لصدق العقد عرفا عليها ، وعدم اعتبار العربية فيها شرعا كما لا يخفى.

وأمّا المقام الثاني : وهو عقد النكاح ففي اعتبار العربية فيه خلاف. قال في المبسوط : «فإن عقدا بالفارسية ، فإن كان مع القدرة على العربية فلا ينعقد بلا خلاف ، وإن كان مع العجز فعلى وجهين : أحدهما ، يصحّ ، وهو الأقوى ، والثاني : لا يصح. فمن قال : لا يصحّ قال : يوكّل من يقبلها عنه ، أو يتعلّمها. ومن قال : يصحّ ، لم يلزمه التعلم. وإذا أجيز بالفارسية احتاج إلى لفظ يفيد مفاد العربية على وجه لا يخلّ بشي‌ء منه فيقول الولي : اين زن را به تو دادم به زني ، ومعناه هذه المرأة زوّجتكها ، ويقول الزوج : پذيرفتم به زني ، يعني : قبلت هذا النكاح» (١).

وقال العلّامة قدس‌سره في نكاح التذكرة : «لا ينعقد إلّا بلفظ العربية مع القدرة ، فلو تلفّظ بأحد اللفظين ـ يعني : أنكحت وزوّجت ـ بالفارسية أو غيرها من اللغات غير العربية مع تمكّنه ومعرفته بالعربية لم ينعقد عند علمائنا .. إلى أن قال : وأمّا إذا لم يحسن العربية ، فإن أمكنه التعلم وجب ، وإلّا عقد بغير العربي للضرورة» (٢).

وقال المحقّق قدس‌سره : «ولا يجوز العدول عن هذين اللفظين إلى ترجمتهما بغير

__________________

(١) : المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٤ ، ص ١٩٤

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٥٨٢

٤١٦

.................................................................................................

__________________

العربية إلّا مع العجز عن العربية» (١).

وعن حاشية المحقق الثاني عليها : «لا ريب في وقوع عقد النكاح بالعربية ، فيبطل لو وقع بغيرها. والمراد بالعربي ما يكون لفظه باعتبار مادّته وصورته. ولو غيّر بنية الكلمة أو لحن في إعرابها لم ينعقد مع القدرة على العربي ، كما لو أتى بالترجمة مع العلم بلسان العرب. أمّا لو لم يكن عالما بذلك ولم يمكنه التعلم أو أمكنه بمشقّة العادة فإنّه يكفيه الإيقاع بمقدوره وإن تمكّن من التوكيل. وكذا كلّ موضع يعتبر فيه اللفظ العربي».

وفي القواعد : «ولا يصحّ بغير العربية مع القدرة ، ويجوز مع العجز» (٢).

وقال المحقق الثاني في شرحه : «فلا ينعقد النكاح وغيره من العقود اللازمة بغيره من اللغات كالفارسية ، مع معرفة العاقد ، وتمكّنه من النطق ، ذهب إلى ذلك أكثر الأصحاب. وقال ابن حمزة : إن قدر المتعاقدان على القبول والإيجاب بالعربية عقدا بها استحبابا. والأصحّ الأوّل ، لما قلناه» (٣).

أقول : الذي يتحصل من الكلمات : أن في المسألة صورا :

الأولى : التمكن فعلا من إنشاء النكاح بالعربي كالعالم باللغة العربية.

الثانية : العجز عن ذلك فعلا مع التمكن من التعلم أو التوكيل.

الثالثة : العجز منهما معا.

أمّا هذه الصورة الأخيرة فقد ذكروا فيها عدم الخلاف والإشكال في صحة العقد فيها بغير العربية ، وقالوا : إن مثلها ما لو عجز عن التعلّم وحده مع التمكّن من التوكيل ، لأصالة عدم وجوب التوكيل. وإليه يشير إطلاق كلام العلامة : «وأمّا إذا لم يحسن العربية فإن أمكنه التعلم وجب وإلّا عقد بغير العربي للضرورة»

وأمّا الصورة الثانية فمقتضى الكلام المتقدم عن الشيخ في المبسوط : أنّ فيها قولين :

__________________

(١) : شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٢٧٣

(٢) قواعد الأحكام ، ص ١٤٧ (الطبعة الحجرية).

(٣) جامع المقاصد ، ج ١٢ ، ص ٧٤

٤١٧

.................................................................................................

__________________

أحدهما : أنه يصح بغير العربي ، ولا يجب التعلم ولا التوكيل.

والآخر : أنّه لا يصح بغير العربي ، فيجب التعلم أو التوكيل.

ويستدلّ للأوّل ـ بعد البناء على اعتبار العربية في العقد ـ بأصالة البراءة عن وجوب التعلم والتوكيل ، فيأتي بمقدوره الذي يصدق عليه العقد قطعا ، فيجب الوفاء به ، لقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وبرفع الحرج كما في كشف اللثام (١). وبفحوى الاجتزاء بإشارة الأخرس كما في كشف اللثام أيضا ، حيث إنّ اللفظ غير العربي أولى من الإشارة. ولعدم نصّ يدلّ على الأمر بالعربية ، كما فيه أيضا.

والظاهر أنّ مراده قدس‌سره وجود أمارة على عدم اعتبار العربية ، لأنّ عموم الابتلاء به يقتضي بيان المعصومين عليهم‌السلام له ، فعدم بيانهم عليهم‌السلام ـ مع شدة الحاجة إليه ـ دليل على عدم اعتبار العربية كما هو الشأن في كلّ ما يعمّ به البلوى ، هذا.

وأيّده الجواهر «بعدم عثوره على الخلاف في جواز العقد بغير العربي للعاجز عنه ولو مع التمكن من التوكيل. فما عن بعضهم من الإكتفاء بذلك مع العجز عن التوكيل لا يخلو من نظر» (٢). انتهى ملخّصا.

وفي الكلّ ما لا يخفى.

إذ في الأوّل : أنّه بناء على اعتبار العربية فإن كان له إطلاق بحيث يكون ظاهرا في الشرطية المطلقة فيجب التعلم ، ولا مجال للبراءة. وإن لم يكن له إطلاق فيتشبّث في ذلك بإطلاق أدلة نفوذ العقود الذي هو دليل اجتهادي. ومعه لا تصل النوبة إلى أصل البراءة كما لا يخفى.

وفي الثاني ـ بعد فرض جريانه في الأحكام الوضعية كما هو الأصحّ ـ أنّه أخص من المدّعى.

وفي الثالث : أنّه لا مجال للأولوية في الأحكام التعبديّة ، لعدم خروجها عن

__________________

(١) : كشف اللثام ، ج ١ ، كتاب النكاح ، ص ٧

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٠ و٢٥١

٤١٨

.................................................................................................

__________________

القياس الممنوع إعماله في الأحكام الشرعية.

وفي الرابع : أنّه وإن كان متينا في نفسه ، لكنه ينافي ما بنى عليه من اعتبار العربية في العقد.

وأمّا الصورة الأولى ـ وهي التمكن الفعلي من إنشاء النكاح بالعربي كالعالم باللغة العربية ـ فقيل : إنّه لا ريب في مصير الأكثر والمعظم إلى اعتبار العربية فيها ، بل لم يحصل لنا دراية ولا رواية عثور على مخالف في المسألة عدا أبي جعفر محمد بن علي بن حمزة ، فإنه قال في كتاب النكاح من الوسيلة : «وإن قدر المتعاقدان على القبول والإيجاب بالعربية عقدا بها استحبابا. وإن عجزا جاز بما يفيدها من اللغات» (١) ومراده بالاستحباب إمّا الاحتياط الاستحبابي وإن كان خلاف الظاهر ، وإمّا استحباب التبرّك بألفاظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ استدلّوا على اعتبار العربية مع التمكن فعلا منها بوجوه خمسة تقدمت في المقام الأوّل.

وزادوا عليها وجها سادسا ، وهو : أنّ الاحتياط في الفروج يقتضي اعتبار العربية ، ذكره في كشف اللثام (٢).

وجوابه : أنّ الاحتياط أصل عملي ، وإطلاق الأدلة النافي لاعتبار العربية دليل اجتهادي ، ومعه لا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

التحقيق أن يقال : إنّ النكاح من الأمور العقلائية المتداولة بين الناس ، كما يرشد إليه قولهم عليهم‌السلام : «لكل قوم نكاح» وعدم كونه من الماهيات المخترعة ، فكل ما يصدق عليه عنوان النكاح يندرج في إطلاق أدلة نفوذ النكاح ، وتقييده بالعربية منوط بدليل مفقود. ولو سلّم فإنّما هو بالنسبة إلى القادر فعلا على العربية ، وإن كان ذلك مخدوشا أيضا ، لأنّه ليس إلّا الإجماع المدّعى ، مع مخالفة ابن حمزة في الوسيلة. ومع احتمال

__________________

(١) : الوسيلة ضمن الجوامع الفقهية ، ص ٧٥٢

(٢) كشف اللثام ، ج ١ ، كتاب النكاح ، ص ٧

٤١٩

.................................................................................................

__________________

استنادهم إلى الوجوه المذكورة التي قد عرفت حالها.

ومخالفة كلام المحقق الثاني ، حيث قال : «ذهب إلى ذلك أكثر الأصحاب» لقول العلّامة : «لم ينعقد عند علمائنا» فإن الظاهر من الأوّل عدم الاتفاق ، وظاهر الثاني الاتّفاق ، لظهور «عند علمائنا» في الإجماع كما قرر في محلّه.

ومع الغض عن ذلك فالمتيقن منه هو صورة القدرة فعلا على الإنشاء العربي ، فيقيّد الإطلاق بهذه الصورة فقط.

وبالجملة : فكل لفظ يكون مبرزا للاعتبار النفساني ـ المعبّر عنه بالزواج والنكاح ونظائرهما ـ يشمله إطلاق أدلة صحة النكاح ، لكونه عقدا عرفيا. فالقول بعدم اعتبار العربية مطلقا حتى بالنسبة إلى القادر عليها فعلا ـ لعدم دليل معتدّ به على تخصيص عموم أدلة وجوب الوفاء بالعقود ـ هو الأقوى ، وإن كان الأحوط شديدا مراعاتها للقادر عليها ، والله العالم.

ثم إنّه على تقدير اعتبار العربية هل يعتبر فيها عدم اللّحن مطلقا ، أي مادّة وهيئة وإعرابا أم لا؟ الحق هو الأوّل بناء على كون الدليل الاقتصار على المتيقن.

وأمّا بناء على كونه غيره فالمتجه هو العربية المتداولة بين الناس بحيث تكون عندهم مبرزة للاعتبار النفساني ، وإن كانت مخالفة للقواعد العربية وغلطا بالنظر إليها ، فالعربيّة الدارجة ممّا يصح الإنشاء بها كما لا يخفى.

فعلى هذا لا فرق في اللّحن بين أن يكون في المادّة ك «جوّزت» بدل «زوّجت» وبين أن يكون في الصورة ك «أبيع وبائع» مثلا بدل «بعت» وبين أن يكون في الإعراب ك «بعت» بعد فرض كون الكل مفهما للمعنى المقصود في اللغة العربية الدارجة.

وأمّا اللغات المحرفة فإن كانت مفهمة للمعنى المقصود عند العرف الحاضر فلا بأس بها ، وإلّا فلا ، إذ لا بدّ من الإنشاء بما يكون مبرزا عند العرف. فالضابط في صحة الإنشاء بالألفاظ العربية ـ بناء على اعتبار العربية ـ هو أن تكون مبرزة عرفا للمعنى المقصود ، من غير فرق بين أنحاء اللّحن واللّغات المحرّفة.

٤٢٠