هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

العين بفسخ (١) (*) ففي جواز التّراد على القول بالملك ،

______________________________________________________

(١) يعني : كان العقد لازما ، ثم حدث حقّ الخيار ـ كما في ظهور الغبن ـ ففسخ المغبون ، أو فسخاه بالإقالة. وكلاهما يوجب سقوط ذلك العقد اللّازم ، فتعود العين إلى ملك المتعاطي كما كانت قبل الناقل اللازم ، فكأنّ الملكية الحاصلة بالمعاطاة باقية لم يطرأ عليها ما يزيلها.

ثم إنّ في تعقيب عود الملك بالفسخ احتمالين :

أحدهما : أن يكون من باب المثال ، وأنّه لا خصوصية في سببية الفسخ لعود الملك ، بل تمام المناط هو عود العين إلى ملك المتعاطي ، فلو عادت بسبب آخر كأن ورثها المتعاطي أو اتّهبها أو أخذها مقاصّة كان كعودها بالفسخ ، قال الفقيه

__________________

(*) قد يقال بالفرق بين الفسخ وبين غيره ـ من العقد المستقل ونحوه من موجبات الملك ـ بما حاصله : أنّ الفسخ اعتبار عود الملك السابق إليه ، ولذا اشتهر أنّه ليس معاملة جديدة ، حيث إنّ الفسخ اعتبار حلّ العقد الموجب لرجوع الملك السابق إلى المالك الأصلي. بخلاف العقد المستقل والإرث ونحوهما ، فإنّها سبب مستقل لملك جديد ، وليس عين الملكية السابقة الحاصلة بالمعاطاة حتى يجوز التّراد ، حيث إنّ جوازه مختص بالملكية الحاصلة بالمعاطاة ، هذا.

لكن الحق وفاقا للمحقق الخراساني (١) عدم الفرق بين الفسخ وغيره ، لأنّ موضوع الجواز ـ وهو الملكية المتحققة بالمعاطاة ـ قد انتفى بخروج العينين عن ملك المتعاطيين ، ودخولهما في ملكهما بالفسخ ملك حادث وإن كان في اعتبار العرف حلّ العقد السابق ، لكنه ليس عين إضافة الملكية الشخصية الحاصلة بالمعاطاة حقيقة ، بل يكون عينها اعتبارا. وقد عرفت أنّ تلف العين الموجب للزوم المعاطاة أعم من تلف ذاتها ووصفها وهو ملكية العينين للمتعاطيين ، والمفروض انتفاء هذا الوصف بانتقال إضافة الملكية إلى غيرهما ، والملكية الحادثة ليست شخص الملكية المتحققة بالمعاطاة.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٢٥

٢٢١

لإمكانه (١) ، فيستصحب (٢) (*) ،

______________________________________________________

المامقاني قدس‌سره : «ذكر الفسخ من باب المثال ، لأنّ عودها بالإرث أو بعقد جديد كالفسخ» (١).

ثانيهما : أن يكون ذكر الفسخ من جهة تقييد العود به ، والاحتراز عن عودها بموجبات أخرى من الإرث ونحوه.

والاحتمال الأوّل أقرب إلى مراد المصنف قدس‌سره ، لارتفاع جواز التراد بالنّقل اللّازم سواء عادت العين إلى المتعاطي بفسخ ذلك النقل اللازم أم بسائر أسباب العود إليه ، فتملّك المتعاطي للعين مرّة أخرى أجنبي عن تملكه بالمعاطاة التي حكمها جواز التّراد.

(١) لأنّ تراد العينين خارجا ـ بعد عود ملكيّتهما إلى المتعاطيين ـ ممكن ، فتصير المعاطاة جائزة.

(٢) أي : يستصحب الجواز ، توضيحه : أن جواز التّراد كان ثابتا قبل النقل ، فبعد العود يشكّ في بقاء ذلك الجواز ، فيستصحب. ومنشأ الشك هو النقل المتخلّل بين المعاطاة وبين الفسخ ، فإنّه يشك في كون هذا النقل رافعا للجواز الثابت للمعاطاة.

وبعبارة أخرى : ثبت بالإجماع جواز التراد في المعاطاة ، وقد حصل مانع عنه وهو انتقال العين إلى غيره ، فإذا زال المانع وعاد المال إلى المتعاطي يشكّ في ارتفاع الجواز ، للشك في رافعية الموجود أي النقل اللازم ، فيستصحب.

__________________

(*) هذا استصحاب تعليقي ، بتقريب : أنّه كان الجواز ثابتا على تقدير الرجوع قبل النقل والفسخ ، والآن كما كان. وهذا الاستصحاب التعليقي معارض بالتنجيزي ، وهو عدم جواز التراد قبل الفسخ ، إذ المفروض عدم بقاء العينين على صفة الملكية للمتعاطيين. ودعوى حكومة التعليقي على التنجيزي غير ظاهرة كما قرّر في محله ، هذا.

وقد يوجّه هذا الاستصحاب «بأنّ موضوع جواز التراد ما يملكه المتعاطيان ،

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٠٩

٢٢٢

.................................................................................................

__________________

وهذا الموضوع محفوظ قبل النقل وبعد الفسخ ، وإنّما الشك في أنّ تخلل النقل رافع للحكم عن موضوعه عند ثبوته ، فلا ينافي ثبوت الحكم لموضوعه ـ عند ثبوته ـ عدمه عند عدمه كما في حال النقل وعدم العود ، كما إذا أمر بإكرام زيد القائم ، وشكّ في أنّ تخلل القعود يرفع الحكم عن موضوعه عند ثبوته. ولا مجال لاستصحاب عدم الجواز الثابت حال النقل ، لأنّ الشك في بقائه مسبب عن الشك في رافعية النقل المتخلل ، لجواز التراد عن موضوعه عند ثبوته ، فاستصحاب بقاء الحكم في ظرف ثبوت موضوعه مقدّم على استصحاب عدم الجواز حال النقل ، فتدبّر جيدا» ).

وأنت خبير بما فيه من : أنّ موضوع جواز التراد هو ما يملكه المتعاطيان ملكيّة مستمرة غير منقطعة بنقل إلى غيرهما ، على ما هو قضيّة القدر المتيقن من الإجماع على جواز المعاطاة المقتصر عليه في تخصيص عمومات اللزوم ، فليس موضوع التّراد مطلق ما يملكه المتعاطيان حتى يكون محفوظا قبل النقل وبعد الفسخ. فبعد ارتفاع استمرار الملكيّة بالنقل إلى الغير لا مجال للاستصحاب ، للشك في بقاء الموضوع.

ومنه يظهر عدم الوجه في حكومة استصحاب جواز التراد على استصحاب عدم جوازه ، وذلك لعدم جريان استصحاب الجواز ، للشّكّ في بقاء موضوعه ، فيبقى استصحاب عدم الجواز بلا مانع كما في حاشية السيّد (٢) قدس‌سره.

بل لا مجال لاستصحاب عدم الجواز أيضا ، لكون المقام من التمسك بالعام ، لا استصحاب حكم الخاص.

وكذا الحال في المثال المزبور ، فإنّه لو لم يحرز كون القيام موضوعا كما هو ظاهر كلّ عنوان يؤخذ في حيّز الخطابات كان الشك في بقاء وجوب الإكرام عند ارتفاع القيام من الشك في بقاء الموضوع.

فالمتحصل : أنه بعد انتقال المالين إلى غير المتعاطيين وتحقّق الفسخ وعودهما إلى المتعاطيين لا وجه لجواز التراد.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، للمحقق الأصفهاني قدس‌سره ، ج ١ ، ص ٥٧.

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٨٢

٢٢٣

وعدمه (١) ، لأنّ (٢) المتيقّن من التّراد هو المحقّق قبل خروج العين عن ملك مالكه ، وجهان (٣) أجودهما ذلك (٤) ، إذ لم يثبت في مقابلة أصالة اللزوم جواز التّراد بقول مطلق (٥) ، بل المتيقن منه (٦) غير ذلك ،

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «جواز» وهذا هو الاحتمال الثاني بناء على الملك.

(٢) هذا تعليل عدم جواز التراد ، وحاصله : عدم جريان الاستصحاب هنا لعدم إحراز الموضوع ، ويتعيّن الرجوع إلى عموم أصالة اللزوم.

وبيانه : أنّ المتيقّن من التّراد هو الثابت قبل خروج العين عن ملك مالكه ، لما تقدم من أنّ دليل جواز التراد ـ وهو الإجماع ـ لبّي ، فلا بد من الأخذ بالمتيقن منه وهو بقاء العينين بوصف مملوكيتهما للمتعاطيين ، وفي غير هذه الصورة يتمسك بأصالة اللزوم.

(٣) من استصحاب جواز التراد ، ومن التمسك بأصالة اللزوم ، لعدم إحراز موضوع الاستصحاب.

(٤) أي : عدم الإمكان ، توضيح وجه الأجودية ما أفاده في المتن من كون موضوع جواز التراد غير محرز ، إذ المتيقن من الإجماع على جواز المعاطاة هو صورة عدم انقطاع استمرار ملك المتعاطيين بالنقل إلى غيرهما ، وذلك لأنّ الثابت من التّراد هو استرجاع العين بإزالة ما أحدثاه من الملك ، لا بإزالة كلّ ملك حصل للمتعاطي الآخر في تلك العين ، إذ ليس التسلط إلّا على فعله وهو تمليكه لا تمليك غيره ، فليس إمكان التّراد بقول مطلق ـ ولو مع الانتقال إلى الغير ـ موضوعا للجواز. فإذا كان الموضوع بحسب القدر المتيقن خصوص استمرار ملكية المتعاطيين فلا مجال لاستصحاب الجواز بعد النقل والفسخ ، لعدم إحراز الموضوع بنحو يمكن إبقاء حكمه.

(٥) يعني : حتى مع انقطاع استمرار ملكيّة المتعاطيين.

(٦) يعني : بل المتيقن من الثابت ـ في مقابل عموم أصالة اللزوم ـ هو غير جواز التراد بقول مطلق ، وهذا الغير هو جواز ترادّ العينين بوصف بقائهما على ملك

٢٢٤

فالموضوع غير محرز (١) في الاستصحاب.

وكذا (٢) على القول بالإباحة ، لأنّ التصرف الناقل يكشف عن سبق الملك للمتصرّف (٣) ، فيرجع بالفسخ إلى ملك الثاني (٤) ، فلا دليل على زواله (٥).

بل الحكم (٦) هنا أولى منه على القول بالملك ، لعدم تحقق جواز التّراد في السابق هنا حتى يستصحب.

______________________________________________________

المتعاطيين ، وعدم تخلّل خروجهما عن ملكهما.

(١) لاحتمال كونه استمرار ملكية المتعاطيين ، وكونه أعمّ منه ومن انقطاعها بالنقل إلى غيرهما ، فلا مجال للاستصحاب.

(٢) يعني : أنّ الحكم باللزوم وعدم جواز التّراد كان على القول بالملك ، وهذا الحكم أيضا جار على القول بالإباحة ، لأنّ تصرف المباح له في المال الذي أبيح له ـ بالنقل إلى غيره ـ يكشف عن سبق الملك له آنا ما على التصرف ، إذ لو لم يكن مالكا لم يجز له التصرف الناقل ، فإذا فسخ المباح له رجع الملك إليه لا إلى المبيح ، لأنّ المال يرجع بالفسخ الى الناقل وهو المباح له ، دون غيره وهو المبيح.

(٣) فلا مجال حينئذ لاستصحاب سلطنة المالك الأوّل على ماله ، للقطع بزوالها بانتقال المال الى المباح له آنا ما. ودعوى كون زوال سلطنة المالك الأوّل مراعى بعدم فسخ النقل الى الثالث غير مسموعة ، لعدم بيّنة عليها.

(٤) وهو المباح له ، لأنّه الثاني بالإضافة إلى المبيح.

(٥) أي : على زوال ملك الثاني.

(٦) أي : الحكم بعدم جواز التراد على القول بالإباحة أولى من هذا الحكم على القول بالملك. وجه الأولوية ما أفاده بقوله : «لعدم تحقق .. إلخ» وحاصله : ثبوت جواز التّراد بناء على الملك ، فبعد العود بالفسخ يستصحب ذلك الجواز. بخلاف القول بالإباحة ، فإنّ جواز التراد غير ثابت فيه حتى يستصحب بعد العود إلى المباح له بالفسخ.

٢٢٥

بل المحقّق أصالة بقاء سلطنة المالك الأوّل (١) المقطوع بانتفائها (٢).

نعم (٣) لو قلنا

______________________________________________________

توضيحه : أنّ التراد الملكي عبارة عن سلطنة المالك الأوّل على إخراج ما كان ملكا له عن حيطة ملكيّة المالك الثاني الذي صار مالكا له بالمعاطاة ، فبعد فسخ التصرف الناقل يعود ملكا لمن تملّكه بالمعاطاة. فيتحقق حينئذ أركان الاستصحاب من اليقين بتحقق سلطنة المالك الأوّل على إزالة ملك المالك الثاني وهو المباح له ، ومن الشك في ارتفاعها بالتصرف الناقل ، لاحتمال دخل عدم هذا التصرف في بقاء تلك السلطنة ، مع الغضّ عن إشكال الشّك في الموضوع المردّد بين كونه مطلق إمكان التراد أو خصوص التراد غير الملحق بالتصرف الناقل.

وهذا بخلافه على القول بالإباحة ، لأنّ منشأ جواز التّراد الثابت قبل التصرف الناقل هو السلطنة الأوّليّة الثابتة للمالك في ماله قبل المعاطاة. فالمراد بالتّراد حينئذ هو استرجاع المالك ماله من المباح له ، لا السلطنة الجديدة الحادثة بعد ارتفاع السلطنة الأوّليّة بارتفاع موضوعها وهو كونه مالا للمالك الأوّل بالتصرف الناقل ، لصيرورته ملكا آنا ما للمباح له قبل التصرّف الناقل فيه.

فمراد المصنف قدس‌سره بقوله : «لعدم تحقق جواز التراد في السابق هنا» هو التّراد الملكي الذي قد عرفته. ومن المعلوم فقدان الترادّ بهذا المعنى في المعاطاة على القول بالإباحة ، إذ المفروض بقاء كلّ من المالين على ملك صاحبه ، والتّراد على القول بالإباحة هو الرجوع عن إباحة التصرفات لا إعادة الملكية.

(١) أي : المالك المبيح ، والمالك الثاني هو المباح له الذي صار مالكا آنا ما قبل النقل اللازم.

(٢) حيث إنّ سلطنته ارتفعت بالنقل الرافع لملكية المالك الأوّل.

(٣) استدراك على ما أفاده بقوله : «وكذا على القول بالإباحة» من انتفاء جواز التّراد في مفروض الكلام ، وهو انتقال العين بالعقد اللازم ، ثم عودها إلى المباح له

٢٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بالفسخ. وغرضه تصحيح جواز رجوع المالك المبيح بوجهين. وقوله : «لو قلنا بأن الكاشف» هو الوجه الأوّل ، ولتوضيحه ينبغي تقديم أمرين :

الأوّل : أن «الكاشف» يطلق تارة ويراد به كون شي‌ء طريقا محضا إلى شي‌ء آخر ، من دون أن يكون مؤثّرا في وجود الآخر واقعا ، فيمكن بقاء المنكشف إذا ارتفع الكاشف ، كما هو الحال في الأمارة بناء على حجيتها بنحو الطريقية ، ولهذا يحسن الاحتياط رعاية لهذا الاحتمال.

والحاصل : أن ارتفاع الكاشف لا يستلزم ارتفاع المنكشف.

ويطلق تارة أخرى ويراد به كون شي‌ء علّة لشي‌ء آخر ثبوتا ، فالعلّة كاشفة لمّا عن معلولها ، وليست هذه الكاشفية في مقام الدلالة والإثبات فقط ، بل السبب علّة لوجود مسبّبه ، هذا.

الأمر الثاني : أنّ فسخ العقد الخياري يكون تارة بإنشاء الفسخ قولا بمثل «فسخت» ولا كلام فيه. وأخرى بالتصرف المنوط بالملك فيما انتقل عنه ، كما إذا باع زيد كتابا من عمرو بدينار ، وشرط لنفسه الخيار لمدة معيّنة ، ثم باع هذا الكتاب من بكر أو وهبه إيّاه أو أوقفه ، ونحوها من التصرفات المنافية لمالكيّة عمرو للكتاب ، فإنّهم جعلوا هذا التصرف أخذا بالخيار وفسخا للعقد الواقع بين زيد وعمرو. لكن وقع البحث فيما به يتحقق الفسخ على وجوه أربعة ، نقتصر على اثنين منها تبعا لما في المتن.

أحدهما : أن تكون إرادة تصرف ذي الخيار فسخا فعليا موجبا لعود المال إليه ، فيقع تصرّفه ـ بالبيع والهبة ونحوهما ـ في ملكه. وهذا مختار جماعة منهم المصنف على ما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سرهما (١).

ثانيهما : أن يكون الفسخ حاصلا بنفس التصرف البيعي لا بإرادته ، فإذا باع

__________________

(١) : المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ٢٤٨

٢٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

زيد كتابه ـ في مدة الخيار ـ من بكر كان نفس البيع فسخا للعقد الواقع بينه وبين عمرو.

ويترتّب على هذا التصرّف أمران إنشائيّان طوليّان ، أوّلهما : انتقال الكتاب من عمرو إلى زيد وهو ذو الخيار. والآخر : انتقال الكتاب من زيد إلى بكر.

والفسخ في كلا الوجهين كاشف عن عود المال ممّن عليه الخيار إلى من له الخيار ، لكنّه كاشف محض عن تحقق إرادة التصرف في الوجه الأوّل. بخلافه في الوجه الثاني ، فإنّه سبب لتحقق الفسخ. فلو تبيّن بطلان بيع الكتاب من بكر لم يتحقق فسخ البيع الأوّل بين زيد وعمرو بناء على الاحتمال الثاني ، وهو حصول الفسخ بنفس التصرف لا بإرادته.

إذا اتّضح ما ذكرناه من الأمرين فنقول : في توضيح الوجه الأوّل : إذا تعاطى زيد وعمرو كتابا بدينار ، فبناء على الإباحة يكون الكتاب باقيا على ملك زيد وإن كان بيد المباح له ، والدينار باق على ملك عمرو ، فإذا باع المباح له ـ وهو عمرو ـ الكتاب من بكر كان نفس هذا العقد الناقل سببا لتملكه له ، وتملّك المشتري وهو بكر.

فإذا فرض عود الكتاب إلى عمرو بفسخ هذا البيع الناقل عاد الكتاب إلى ملك مالكه الأوّل ـ وهو زيد الذي أباح كتابه لعمرو ـ ويبقى مباحا بيد عمرو كما يبقى الدينار مباحا بيد زيد ، إذ المفروض أنّ العلّة في انقطاع علقة مالكية زيد الكتاب كانت هي العقد الناقل بين عمرو وبكر ، فإذا انحلّ هذا العقد بالفسخ فكأنّه لم يتملك عمرو الكتاب أصلا.

فإن قلت : إذا انفسخ العقد اللّازم بين عمرو وبكر لم يكن وجه لعود الكتاب الى ملك المبيح ، بل يبقى ملكا للمباح له ، لأنّ ذلك العقد يكشف عن دخول الكتاب في ملك المتصرّف المباح له آنا ما قبل البيع ، فإذا انحلّ البيع عاد إلى ملك عمرو ، لا إلى ملك زيد المبيح.

قلت : ليس كذلك ، إذ المناط في هذا الوجه ـ لإبقاء جواز التراد ـ هو كون نفس العقد اللازم سببا لأمرين طوليّين ، أحدهما : دخول المال في ملك المباح له ،

٢٢٨

بأنّ الكاشف (١) عن الملك هو العقد الناقل ، فإذا فرضنا ارتفاعه بالفسخ عاد الملك إلى المالك الأوّل (٢) وإن كان مباحا لغيره (٣) ، ما لم يستردّ (٤) عوضه ،

______________________________________________________

ثانيهما : تمليكه من بكر. وليس المناط مملّكية إرادة التصرف حتى يجمع بالملكية الآنامّائية.

وإذا تقرّر عود المال إلى المبيح كان مقتضى قاعدة «سلطنة الناس على أموالهم» جواز الرجوع واسترداد الكتاب من عمرو ، وردّ الدينار إليه إن كان باقيا لم يتلف ، وإلّا صارت المعاطاة لازمة من جهة تلف إحدى العينين.

ولا يخفى أنّ جواز التراد مستند إلى سلطنة المالك على ماله ، لا إلى الإجماع على جواز تراد العينين في المعاطاة حتى يشكل فيه بأنّ الإجماع على الجواز دليل لبّى يقتصر على المتيقن منه ، وهو عدم وقوع عقد على أحد العوضين ، وفيما عداه يرجع إلى أصالة اللزوم. هذا توضيح المتن ، وبه يظهر قصور العبارة عن أدائه.

(١) قد عرفت أنّ الكاشف هنا بمعنى السبب ، لا بمعنى الطريق إلى تحقق الملك. والقرينة عليه قوله : «فإذا فرضنا ارتفاعه» لوضوح أنّ الفسخ رافع للعقد ، ولا يرفع إرادة التصرف لو كانت هي الموجبة لدخول المال في ملك المباح له.

وهذا بخلاف ما أفاده قبل أسطر بقوله : «لأنّ التصرف الناقل يكشف عن سبق الملك للمتصرّف» فإنّه مبني على مختار المصنف ـ على ما حكي ـ من مملّكية إرادة التصرف ، وكون التصرّف كاشفا عن تحقق سبب التمليك ، وعدم كون العقد اللّازم مقتضيا للتملّك.

(٢) أي : المبيح ، وهو زيد في المثال المتقدم.

(٣) وهو المباح له ، أعني به عمروا.

(٤) يعني : ما لم يستردّ هذا الغير ـ وهو المباح له ـ عوضه ، أي الدينار الذي هو عوض الكتاب ، فإذا استردّ عمرو الدينار من زيد لم يكن الكتاب مباحا له ، بل وجب عليه إيصاله إلى زيد. ولا أمانة في المقام ، إذ الإباحة تعبدية لا مالكية.

٢٢٩

كان (١) مقتضى قاعدة السلطنة جواز التراد لو فرض كون العوض الآخر باقيا على ملك مالكه الأوّل ، أو عائدا (٢) إليه بفسخ (*).

______________________________________________________

(١) جواب «لو قلنا» وهذا حكم الوجه الأوّل ، وهو بقاء جواز الرجوع للمبيح.

(٢) كما إذا اشترى زيد بالدينار شيئا ، ثم عاد الدينار إليه بفسخ العقد ، فإنّه يجب ردّ الدينار إلى مالكه وهو عمرو حتى يتسلّط على استرداد كتابه منه.

__________________

(*) ويمكن الفرق بين هذا الوجه وسابقه بأنّ الوجه الأوّل ـ وهو كشف التصرف الناقل عن الملك ـ نشأ من الجمع بين الأدلّة المقتضي للملك آنا ما قبل النقل للمتصرف ، من دون أن يكون نفس التصرف علّة أو شرطا متأخرا لتأثير المعاطاة في الملك. ومن المعلوم أنّ مقتضى الفسخ رجوع المال الى المالك الثاني ، لأنّ التصرف الناقل وقع في ملكه ، فالفسخ يوجب العود إليه ، فلا دليل على جواز التراد للمالك الأوّل.

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو سببية العقد الناقل ـ فهو مبني على حدوث الملك للنّاقل بنفس العقد ، بأن يكون شرطا متأخرا لتأثير المعاطاة في الملكية.

ففي الوجه الأوّل يكون التصرف الناقل كاشفا محضا عن مالكية المتصرف ، وفي الوجه الثاني يكون التصرف الناقل موجبا لحدوث الملكية للمتصرف ولغيره ، فيترتّب عليه أمران : أحدهما مالكيّة المباح له ، والآخر مالكية غيره وهو المشتري. نظير ما قيل في التصرف الناقل لذي الخيار ، فإنّ بيعه لما انتقل عنه سبب لتملّكه وتمليكه معا ، فبالشروع في الصيغة يحصل الفسخ الموجب لتملّكه وبتمامها يحصل تمليكه للمشتري.

وعلى هذا يكون الفسخ موجبا لعود العين إلى المالك المبيح.

وكذا الحال على الوجه الثالث الآتي بقوله : «وكذا لو قلنا بأن البيع لا يتوقف على سبق الملك .. إلخ» ضرورة أنّ المال حينئذ باق على ملك المبيح ، ولا ينتقل إلى المباح له ، بل ينتقل بالتصرف الناقل إلى المشتري ، فبالفسخ يعود إلى ملك المبيح لا إلى ملك المباح له.

٢٣٠

وكذا (١) لو قلنا بأنّ البيع لا يتوقف على سبق الملك (٢) ، بل يكفي فيه إباحة التصرف والإتلاف ، ويملك (٣) الثمن بالبيع كما تقدّم (٤) استظهاره عن جماعة في الأمر الرّابع.

لكن الوجهين (٥) ضعيفان (٦).

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثاني لتصحيح جواز التراد وبقاء الإباحة الحاصلة بالمعاطاة. ومحصله : أنّه لو قيل بعدم توقف البيع على الملك ـ بل يكفي في صحته إذن المالك في التصرف الناقل ـ صحّ للمباح له بيع الكتاب مع بقائه على ملك المبيح ، ويتملّك المباح له الثمن ، فإذا انفسخ هذا البيع عاد الكتاب إلى ملك زيد المبيح ، فيجوز له استرداده من عمرو ، بمقتضى إطلاق سلطنة الناس على أموالهم.

ولا يخفى ابتناء هذا الوجه على أنّه لا يعتبر ـ في صدق المعاوضة ـ دخول كلّ من العوضين في ملك من خرج عنه ، فيمكن خروج الكتاب عن ملك زيد ودخول عوضه ـ وهو الثمن الذي يأخذه المباح له من بكر ـ في كيس المباح له دون المالك.

(٢) حتى يحلّ كل واحد من العوضين محلّ الآخر في إضافة الملكية.

(٣) أي : ويتملّك المباح له الثمن ، ولا يتملّكه المالك المبيح.

(٤) حيث قال هناك : «ولكن الذي يظهر من جماعة ، منهم قطب الدين والشهيد قدس‌سرهما في باب بيع الغاصب : أن تسليط المشتري البائع الغاصب على الثمن والإذن في إتلافه يوجب جواز شراء الغاصب به شيئا ، وأنه يملك المثمن بدفعه إليه».

(٥) وهما الوجهان المذكوران بقوله قدس‌سره : «نعم لو قلنا بأنّ الكاشف عن الملك هو العقد الناقل .. إلخ» وقوله : «وكذا لو قلنا بأن البيع لا يتوقف .. إلخ».

(٦) أمّا تقريب ضعف الوجه الأوّل فلأنّه مبني على الشرط المتأخر المستحيل.

وأمّا ضعف الوجه الثاني فلأنّه خلاف مفهوم المعاوضة التي حقيقتها دخول

٢٣١

بل الأقوى (١) رجوعه بالفسخ إلى البائع (٢).

ولو كان الناقل عقدا جائزا (٣) (**)

______________________________________________________

كل واحد من العوضين في كيس من خرج عنه العوض الآخر (*).

(١) لأنّ مقتضى الجمع بين الأدلّة هو الالتزام بالملك آنا ما للمباح له ، ثم الانتقال عنه إلى المشتري الذي هو الثالث ، كما تقدم عن المصنف في الجواب عن الاستبعادات التي ذكرها كاشف الغطاء قدس‌سره.

ثم إنّ هذا أوّل الوجوه الثلاثة المذكورة في المتن. ولازمه عدم جريان قاعدة السلطنة بعد الفسخ ، إذ المفروض رجوع المال بالفسخ إلى المباح له الذي هو البائع لا إلى المبيح ، فتصير المعاطاة لازمة بوقوع عقد لازم على إحدى العينين وإن عادت إلى المباح له بفسخ.

هذا تمام الكلام في الصورة الثانية من صور نقل المأخوذ بالمعاطاة ، وسيأتي الكلام في النقل بالعقد الجائز.

(٢) وهو المباح له ، لأنّه المالك قبل العقد ، بالفسخ يرجع الملك إليه.

(٣) أي : عقدا معاوضيا جائزا ، ولو كان الجواز من جهة الخيار الموجود حين

__________________

(*) يمكن منع ذلك بأن يقال : إنّ كون حقيقة المعاوضة ذلك غير ظاهر وإن نسب إلى العلامة قدس‌سره. نعم ذلك مقتضى إطلاق المعاوضة لا حقيقتها.

(**) قد يتوهم التنافي بين ما ذكره في فروع النقل بالعقد اللازم من قوله : «ولو عادت العين بفسخ» وبين ما عنونه هنا من العقد الجائز. وجه المنافاة : أن الفسخ هناك يدلّ على جواز العقد ، مع أنّه جعله لازما في قبال ما جعله هنا من العقد الجائز.

لكن المنافاة مندفعة بما تقدّم هناك من أنّ فسخ العقد اللازم بحدوث سببه بعد العقد لا يمنع من انعقاده لازما ، بخلاف المقام ، فإنّ العقد جائز امّا بالجواز الحقّي لكونه خياريا ، وإمّا بالحكمي لكونه هبة ، فلا منافاة أصلا.

٢٣٢

لم يكن (١) لمالك العين الباقية إلزام الناقل بالرجوع فيه (٢) (*)

______________________________________________________

العقد كخياري المجلس والحيوان في باب البيع ، فإنّه ينعقد جائزا إلى انقضاء المجلس وثلاثة أيّام.

ثم إنّ للنقل الجائز صورتين : إحداهما العقد المعاوضي والأخرى غير المعاوضي كالهبة ، وسيأتي بيانهما.

(١) هذا حكم الصورة الأولى ـ وهي نقل إحدى العينين بعقد جائز معاوضي كالبيع الخياري ـ بناء على الملك ، وحاصله : لزوم المعاطاة ، وعدم جواز التراد ، وذلك لانتفاء وصف المأخوذ بالمعاطاة من الملكية المتحققة بها ، إذ الملكية المنشئة قد ارتفعت بالنقل إلى الأجنبي ، فليس لمالك العين الموجودة إلزام الناقل بالرجوع فيه ، ولا رجوعه بنفسه إلى عينه. وعليه فالتّراد غير متحقّق هنا ، لصدق «انتقال الملك» فهو كالتلف.

قال في المسالك : «لو نقل أحدهما العين عن ملكه فإن كان لازما كالبيع والهبة بعد القبض والوقف والعتق فكالتلف. وإن كان جائزا كالبيع في زمن الخيار فالظاهر أنّه كذلك ، لصدق انتقال الملك عنه ، فيكون كالتلف. وعودها بالفسخ إحداث ملك آخر بناء على أنّ المبيع يملك بالعقد وإن كان هناك خيار. وأمّا الهبة قبل القبض فالظاهر أنّها غير مؤثرة ، لأنّها جزء السبب المملّك ، مع احتماله ، لصدق التصرف. وقد أطلق جماعة كونها تملك بالتصرف» (١).

(٢) أي : في العين التي باعها المتعاطي من شخص ثالث.

__________________

(*) فلو ألزمه بالرجوع لا يجدي أيضا ، لأنّه بالخروج عن الملك انتفى موضوع الجواز الذي هو إباحة العينين بالمعاطاة ، فإنّ الخروج عن الملك بعد دخوله فيه آنا ما مفوّت له ، والعود إلى الملك بعد الرجوع ملك جديد غير الملك المتحقق بالمعاطاة ،

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٠

٢٣٣

ولا رجوعه (١) بنفسه إلى عينه ، فالتّراد غير متحقق ، وتحصيله غير واجب (٢).

وكذا (٣) على القول بالإباحة ، لكون المعاوضة (٤) كاشفة عن سبق الملك.

نعم (٥) لو كان غير معاوضة كالهبة وقلنا بأنّ التصرف

______________________________________________________

(١) يعني : ولا يجوز لمالك العين الباقية الرّجوع بنفسه إلى المشتري حتى يستردّ عينه منه. ووجه عدم الجواز ما عرفت من انتفاء وصف المأخوذ بالمعاطاة وهو كونه ملكا للمتعاطي.

(٢) لأنّه من تحصيل الموضوع الذي لا يجب قطعا ، لأنّ الحكم مترتب على موضوعه المفروض الوجود اتفاقا ، لا واجب التحصيل ، إذ لا يصلح الدليل لإيجاب تحصيل الموضوع.

(٣) يعني : وكذا الحال في عدم تحقّق التراد بناء على القول بالإباحة ، وذلك لكشف المعاوضة عن سبق الملك للناقل المباح له ـ آنا ما ـ قبل النقل ، لما تقدم من أنّه مقتضى الجمع بين الأدلة.

(٤) أي : العقد المعاوضي الجائز.

(٥) استدراك على قوله : «وكذا على القول بالإباحة» لا على كلا القولين من الإباحة والملك. وهذا إشارة إلى صورة ثانية من النقل بالعقد الجائز ، وهو العقد غير المعاوضي.

ومحصّل وجه الاستدراك هو : أنّ ما ذكرناه على القول بالإباحة ـ من لزوم المعاطاة بنقل إحدى العينين بالعقد الجائز ـ إنّما هو فيما إذا كان الناقل الجائز من المعاوضات كالبيع الخياري. وأمّا إذا كان من غيرها كالهبة الجائزة أمكن ثبوت جواز

__________________

وليس هذا موضوعا لجواز التراد.

ومن هنا يظهر عدم الوجه في جريان الاستصحاب ، للقطع بارتفاع الموضوع ـ وهو إباحة العينين بالمعاطاة ـ فإنّ الخروج عن الملك رافع للإباحة المزبورة ، كما لا يخفى.

٢٣٤

في مثله (١) لا يكشف عن سبق الملك ، إذ لا عوض فيه حتى لا يعقل كون العوض مالا لواحد ، وانتقال المعوّض إلى الآخر (٢) ، بل الهبة ناقلة للملك عن ملك

______________________________________________________

الرّد للمالك المبيح ، بناء على أنّ مطلق تصرّف المباح له في مال المبيح لا يوجب ملكية المتصرّف ـ وإن أطلقه جماعة ـ بل الموجب لها هو التصرف المتوقف جوازه شرعا أو عقلا على مالكية المتصرف كالبيع والعتق ونحوهما.

وأمّا الهبة فليست كذلك ، فلو وهب المباح له مال المبيح لم يقتض دخوله في ملك الواهب آنا ما قبل هبته حتى تقع في ملكه لا في ملك المبيح ، وذلك لصحة الهبة من المباح له كصحتها من المالك ، إذ لم يرد دليل شرعي على اعتبار مالكية الواهب مثل «لا هبة إلّا في ملك» كما ورد في البيع والعتق والوطي.

وكذا لم يدلّ دليل عقليّ على المنع من هبة غير المالك كما دلّ في البيع تحقيقا لمفهوم المعاوضة ، إذ لا عوض هنا حتى يقال بعدم معقولية خروج العوض عن ملك شخص وانتقال المعوّض إلى آخر ، بل الهبة تنقل المال عن ملك المالك إلى المتّهب.

وبناء على هذا يثبت جواز الرجوع للمالك المبيح ، لا للواهب المباح له ، فيجوز التّراد في صورتين :

إحداهما : بقاء العين الأخرى ، ولو تلفت لزمت المعاطاة من جهة ملزميّة تلف إحدى العينين.

ثانيتهما : عود العين الأخرى إلى مالكها بالهبة أيضا ، إذ لو كان عودها بنحو آخر كالفسخ كان بمنزلة التلف.

فالمتحصّل : أنّ المالك هو المبيح دون المباح له ، فالواهب حقيقة هو المبيح ، فيجوز له الرجوع إن كانت العين الأخرى باقية.

(١) أي : في مثل الهبة ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «بناء على أن مطلق تصرف المباح له .. إلخ».

(٢) يعني : أنّ الالتزام بسبق الملك آنا ما ـ قبل التصرف المتوقف على الملك ـ إنّما هو لاقتضاء ماهيّة المعاوضة. ولمّا لم تكن الهبة معاوضة لم يكن موجب للالتزام بسبق

٢٣٥

المالك (١) إلى المتّهب ، فيتحقق حكم جواز الرجوع بالنسبة إلى المالك ، لا الواهب (*) اتّجه (٢) الحكم بجواز التّراد مع بقاء العين الأخرى ، أو (٣) عودها إلى مالكها بهذا النحو من العود (٤) ، إذ لو عادت

______________________________________________________

مالكية المباح له الذي وهب مال المبيح لشخص ثالث.

(١) فالواهب ـ ظاهرا ـ هو المباح له ، وحقيقة هو المبيح ، كما إذا تعاطى زيد وعمرو كتابا بدينار ، ووهب عمرو الكتاب لبكر ، فبناء على الإباحة يكون الواهب زيدا المبيح للكتاب ، لا عمروا المباح له. وبما أنّ الهبة جائزة حسب الفرض جاز لزيد استرداد الكتاب من بكر إذا كان الدينار باقيا بحاله ليردّه إلى عمرو.

(٢) جواب الشرط في قوله : «لو كان غير معاوضة ..».

(٣) يعني : إذا تصرّف زيد في الدينار فتارة يكون بشراء شي‌ء به ، ثم يفسخ أو يتقايل مع البائع ، وأخرى بأن يهب الدينار لخالد ، ثم يرجع عن هبته ويعود الدينار إلى زيد.

ففي الصورة الأولى تصير المعاطاة لازمة من جهة تخلّل العقد اللازم ، وهو بحكم التلف.

وفي الصورة الثانية يبقى جواز المعاطاة بحالة ، فيجوز لزيد استرداد كتابه من بكر ، وردّ الدينار إلى عمرو.

(٤) أي : بنحو الرجوع في الهبة.

__________________

(*) لا يخفى أنّه ـ بعد عدم توقف الهبة على مالكية الواهب للعين الموهوبة لا عقلا ولا شرعا كتمليك الحرّ عمل نفسه وتمليك الكلّي في المعاملات الذمية ـ يمكن أن يقال : إنّ أدلّة جواز الرجوع ناظرة إلى الواهب ، ومن المعلوم أنّه في المقام هو المباح له ، دون المالك ، إذ المفروض عدم قصد الوكالة عن المالك ، فالواهب حقيقة هو المباح له ، لأنّه العاقد ، فجواز الرجوع ثابت له دون المالك ، فتدبّر.

٢٣٦

بوجه آخر (١) كان حكمه حكم التلف.

ولو باع العين ثالث فضولا (٢) فأجاز المالك الأوّل (٣) ـ على القول بالملك ـ

______________________________________________________

(١) يعني غير الهبة. هذا تمام الكلام في الصورة الثانية من صورتي النقل بالعقد الجائز. وقد تمّت إلى هنا صور أربع من الملزم الثالث ، وهو نقل إحدى العينين أو كلتيهما.

(٢) هذا شروع في صورة خامسة من صور التصرف الاعتباري بنقل إحدى العينين أو كلتيهما. والفرق بينها وبين الصور الأربع المتقدمة هو : أنّ الناقل فيها كان أحد المتعاطيين أو كليهما بالأصالة ، مباشرة أو تسبيبا بالتوكيل. بخلاف هذه الصورة ، إذ الناقل فيها أجنبي عن المتعاطيين. ويتجه البحث حينئذ في أن تصرف الفضول ـ بإنشاء المعاملة على إحدى العينين ـ هل يكون ملزما كتصرف نفس المتعاطيين ، أم هو بحكم العدم ويبقى جواز التراد على حاله؟

فصّل المصنف قدس‌سره بين فروع ، فتارة يجاز عقد الفضول ، والمجيز إمّا من انتقل عنه المال أو من انتقل إليه ، وأخرى يردّ. وثالثة يرجع أحدهما عن المعاطاة ثم يجيز الآخر عقد الفضول. وفي هذا الفرض إمّا يبنى على كاشفيّة الإجازة عن تحقق النقل من حين إنشاء الفضول ، وإمّا على ناقليّتها. هذه فروع المسألة إجمالا ، وسيأتي التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٣) أي : من انتقلت عنه العين بالمعاطاة ، كما إذا تعاطى زيد وعمرو كتابا بدينار ، فباع بكر ـ فضولا ـ الكتاب لأجنبي ، فأجازه زيد.

وحكم هذا الفرع : أنّ رجوع زيد عن المعاطاة لمّا كان جائزا ـ سواء على الملك والإباحة ـ لم يبعد أن تكون إجازته رجوعا عن معاطاته مع عمرو ، يعني : أنّه أرجع الكتاب ـ بهذه الإجازة ـ إلى ملك نفسه ، وباعه إلى من اشتراه من الفضول. فالرجوع بهذه الإجازة يكون نظير ما إذا تصدّى زيد بنفسه لبيع الكتاب أو صلحه أو هبته ، فإنّ هذه التصرفات الناقلة تكشف عن رجوعه عن المعاملة المعاطاتية ، نظير

٢٣٧

لم يبعد (١) (*) كون إجازته رجوعا ، كبيعه وسائر تصرّفاته الناقلة.

ولو أجاز المالك الثاني (٢)

______________________________________________________

تصرف ذي الخيار فيما انتقل عنه بعقد خياري ـ بالتصرف المنافي لذلك العقد ، فإنّه يكشف عن الفسخ وعود المال إليه حتّى يقع التصرف الناقل في ملكه.

(١) لأنّ الإجازة هنا نظير تصرّف ذي الخيار موجبة لعود العين إلى ملك المجيز والمتصرّف.

(٢) أي : من انتقلت إليه العين بالمعاطاة ، وهو عمرو في المثال المتقدم ، وهذا فرع ثان من فروع عقد الفضول ، يعني : لو أجاز عمرو عقد الفضول صحّ بلا إشكال بناء على ترتب الملك المتزلزل على المعاطاة. وجه الصحة : أنّ عمروا مالك بالفعل للكتاب ، ومقتضى سلطنة المالك على ماله نفوذ جميع تصرفاته ، التي منها إجازة عقد الفضول على ماله ، فتكون نافذة ، وبها تصير المعاطاة المتزلزلة لازمة ، كما يصحّ عقد الفضول ، لأنّ من بيده أمر العقد قد نفّذه ، هذا.

__________________

(*) وجه بعده عدم الدليل على كون هذه التصرفات رجوعا وفسخا. قال الفقيه المامقاني قدس‌سره في حاشيته : «قال بعض من تأخّر : قد ثبت في الخيار أن التصرفات الناقلة من ذي الخيار رجوع ، فلو باع ما كان له الخيار في استرداده من المشتري كان ذلك رجوعا بالخيار إجماعا. ولكن لم يثبت مثله هنا ، فلا يصح أن يكون مجرّد إجازته رجوعا وفسخا هنا ، فلا بد من سبق ما يدلّ على الفسخ حتى يصح للأوّل نقله إلى الثالث ، إذ لا يصح النقل إلّا من المالك ، والفرض خروج الملك عنه ، فلا يكون صيرورته مالكا سابقه على نقله إلى المشتري الثاني ، فلا وجه حينئذ لجواز الإجازة منه حتى تكون رجوعا.

إلّا أن يلتزم بأحد الأمرين من كون مجرّد الرّضا الباطني إجازة ، وكون الكراهة الباطنية في مقابله ردّا ، ومن كون الفسخ والرجوع يحصل بأوّل حرف من قوله : أجزت البيع

٢٣٨

نفذ بغير إشكال (١).

______________________________________________________

(١) لوجود المقتضي لنفوذ إجازته ، وفقد المانع عنه. أمّا وجود المقتضي فلأنّ المالك الثاني ـ أي من انتقل إليه المال بالمعاطاة ـ مالك للمال حين وقوع عقد الفضول عليه ، فينفذ إجازته وردّه.

وأمّا فقد المانع فواضح ، لعدم وجود شي‌ء من أسباب سلب سلطنة المالك عن التصرف في ماله.

وهذا بخلاف إجازة المالك الأوّل ـ أي من انتقل عنه المال ـ لما عرفت من عدم

__________________

الثاني ، فيصير المال ملكه ، والتمليك للمشتري الثاني يحصل بآخر حرف من قوله المذكور. وهو رحمه‌الله وإن التزم بالأوّل فيما سيأتي من كلامه ، إلّا أنّ التزامه بذلك مخصوص بالقول بالإباحة ، فلا يجري على القول بالملك كما هو مفروض المقام ، فإنّه قال هناك : بل هو على القول بالملك نظير الرجوع في الهبة ، وعلى القول بالإباحة نظير الرجوع في إباحة الطعام ، بحيث يناط الحكم فيه بالرضا الباطني ، بحيث لو علم كراهة المالك باطنا لم يجز له التصرف» (١).

لكن على المبنى المختار من كون المعاطاة بيعا لازما كالبيع اللفظي ليس لغير من انتقل إليه المال إجازة بيع الفضولي ، فإذا أجاز نفذ ، وإن ردّ فالمال باق على ملكه.

وأمّا على القول بالملك الجائز فيمكن أن يقال : إنّ التصرفات المنافية رجوع عرفا وفسخ عندهم ، من غير فرق في ذلك بين الرجوع في المعاطاة وبين الخيار.

وتوهم اختصاص كون التصرفات المزبورة رجوعا بالخيار وعدم كونها رجوعا في المعاطاة ، فاسد ، لعدم الوجه في الاختصاص المزبور ، بعد كون الرجوع من المفاهيم العرفيّة ، وعدّ العرف لتلك التصرفات من مصاديق الرجوع ، فكونها رجوعا فعليّا على طبق القاعدة ، لا للتعبد حتى يدّعى الاختصاص المزبور بالإجماع ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٠٩

٢٣٩

وينعكس الحكم (١) إشكالا ووضوحا على القول بالإباحة.

______________________________________________________

كونه مالكا أصلا ، لا حين وقوع عقد الفضول عليه ولا حين إجازته ، فهو أجنبي عن المال ، ومن المعلوم أنّ المصحّح لعقد الفضول هو إجازة المالك لا إجازة الأجنبي. ويتوقف نفوذ إجازته على إحراز كون إجازته رجوعا عن المعاطاة ، نظير تصرّف ذي الخيار بالبيع والهبة والوقف وغيرها ممّا يتوقف على الملك.

ولكن إلحاق الإجازة بتصرّف ذي الخيار ليس بذلك الوضوح ، لقصور مقام الإثبات ، لأنّ الجمع بين الأدلة المقتضي لتملّك ذي الخيار لماله آنا ما ـ حتى يقع تصرفه في ملكه ـ لا دليل على جريانه في المقام.

ولأجل هذا اختلف تعبير المصنف قدس‌سره في كون إجازة المالك الأوّل رجوعا عن المعاطاة ، وكون إجازة المالك الثاني إمضاء للمعاطاة ، فقال في الأوّل : «لا يبعد» وفي الثاني : «نفذ بغير إشكال».

(١) أي : وينعكس حكم الإجازة في هذا الفرض وضوحا وإشكالا على القول بإفادة المعاطاة للإباحة ، وهذا حكم نفس الفرضين المتقدمين ـ أي إجازة المالك الأوّل والثاني ـ بناء على إفادة المعاطاة للإباحة.

وغرضه : أنّ أصل الحكم ـ وهو نفوذ إجازة المالك الأوّل ـ لا ينعكس ، بل ينعكس من حيث الوضوح والإشكال. وذلك لأنّ كون إجازة المالك الأوّل رجوعا على القول بالإباحة من الواضحات ، ضرورة أنّ العين على هذا القول باقية على ملكه ، فمقتضى قاعدة السلطنة نفوذ إجازته.

وأمّا كون إجازة المباح له نافذة فمشكلة من حيث ثبوت إباحة التصرفات له فتنفذ إجازته ، ومن حيث كون العين للغير فلا تنفذ.

والرّاجح من الوجهين هو الأوّل أي نفوذ إجازة المباح له ، لأنّ الإجازة تصرّف في مال المبيح ، والمفروض حلّيّة جميع التصرفات للمباح له.

٢٤٠