هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

كما أنّ خيار المجلس منتف (١)» انتهى (١).

______________________________________________________

(١) ظاهره الجزم بانتفاء خيار المجلس على كلا التقديرين ، وهما : كون المعاطاة معاوضة مستقلة ، أو صيرورتها بيعا. والوجه فيه : أنّ خيار المجلس مختص بالبيع الذي يكون مبنيّا على اللزوم لو لا هذا الخيار.

وليس المراد بالتقديرين لزوم المعاطاة كما عن المفيد ، وجوازها كما عن المشهور ، لوضوح عدم المناسبة حينئذ مع اللزوم ، إذ على مذهب المفيد قدس‌سره يثبت خيار المجلس في المعاطاة قطعا ، لكونه كالبيع بالصيغة مفيدا للملك اللازم من أوّل الأمر. مضافا إلى : أنّ المناسب أن يقول : «على القولين» لا التقديرين.

__________________

وكيف كان فالقول بثبوته قوي جدّا ، والله العالم.

وقد ظهر من جميع ذلك خلوّ أدلة خيار الغبن عن اعتبار لزوم البيع لولاه ، فلو شكّ في اعتبار في ثبوت خيار الغبن فإطلاق أدلته ينفيه ، فلاحظ وتدبّر.

ومحصل ما يمكن أن يقال في المقام : إنّ الخيار المتصور في العقود على ثلاثة أقسام.

الأوّل : أن يكون ثبوته بالجعل والاشتراط ، كاشتراط فعل على أحد المتعاقدين ، أو صفة في أحد العوضين ، فإنّ مرجع الاشتراط حينئذ إلى سلطنة المشروط له على فسخ العقد مع تخلف الوصف أو الشرط ، وليس هذا إلّا معنى الخيار عند التخلف ، فاللزوم منوط بوجود ذلك الفعل أو الوصف ، إذ لو كان المعلّق نفس العقد بحيث توقف أصل العقد عليهما بطل إجماعا ، لكونه من التعليق في العقود ، فلا محالة يكون الموقوف على الفعل أو الوصف لزوم العقد لا نفس العقد ، هذا.

الثاني : أن يكون الخيار للشرط الضمني كاعتبار السلامة في العوضين ، والتساوي بينهما في المالية ، فإنّ كلّا منهما شرط في المعاوضة بمقتضى بناء العقلاء على ذلك. فهذا

__________________

(١) : مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٥١

٢٦١

.................................................................................................

__________________

شرط ضمني ارتكازي عقلائي ، وتخلفه يوجب الخيار ، هذا.

الثالث : أن يكون الخيار للدليل الشرعي المسمّى بالخيار المنجعل ، فإنّ الخيار يثبت تعبّدا لعنوان البيع ، بحيث يكون الموضوع في أدلة الخيار نفس عنوان البيع ، كخياري المجلس والحيوان ، من دون أن يكون ذلك لشرط ضمني أو ارتكازي عقلائي ، كما لا يخفى.

لا ينبغي الإشكال في جريان القسمين الأوّلين من الخيار في المعاطاة بناء على إفادتها الملك الجائز وإن لم تكن بيعا ، بل معاوضة مستقلة ، إذ المفروض عدم اختصاصهما بالبيع ، حيث إنّ دليلهما لا يختص به ، فجريان هذين القسمين من الخيار لا يتوقف على كون المعاطاة بيعا.

والمناقشة في جريان الخيار في المعاطاة تارة بلغوية جعل الخيار ، لكونه تحصيلا للحاصل ، حيث إنّ المعاطاة بذاتها جائزة ، ولا معنى لجعل الخيار فيها ، وهذا إشكال عام لجميع الخيارات ، كما أنّ الاشكال الآتي يختص بخياري المجلس والحيوان.

وأخرى في خصوص خيار المجلس والحيوان بما حاصله : أنّ أدلتهما ظاهرة في كون موضوعهما خصوص البيع المبني على اللزوم لو لا الخياران المزبوران ، لا كلّ ما يصدق عليه البيع ، ومن المعلوم أنّ المعاطاة المفيدة للملك الجائز جائزة بطبعها الأوّلي. مندفعة.

أمّا الأولى ـ التي مرجعها إلى الامتناع الذي هو إشكال ثبوتيّ ـ فبما تقدم في التنبيه الأوّل ، وحاصله : أنّه لا مانع من جعل الخيار في المعاطاة المبنية على الجواز ، وذلك لأنّ جوازها إمّا حقّي وإمّا حكمي كجواز الهبة ، وعلى التقديرين ، إمّا يكون متعلق الجواز نفس العقد ، وإمّا يكون العين المأخوذة بالمعاطاة ، فالصور أربع :

الاولى : أن يكون جواز المعاطاة حقّيا متعلّقا بنفس العقد كتعلق الخيار به. ولا ينبغي الإشكال حينئذ في شمول أدلة الخيارات للمعاطاة ، إذ لا مانع من اجتماع

٢٦٢

.................................................................................................

__________________

الجوازين ، فإذا كان المتعاطيان في مجلس المعاملة كان جواز المعاطاة ثابتا لهما ، فإذا تلفت العينان أو إحداهما قبل الافتراق سقط جواز المعاطاة ، وبقي خيار المجلس. كما أنّه إذا افترقا قبل تلفهما أو إحداهما سقط خيار المجلس وبقي جواز المعاطاة ، كما هو واضح.

الثانية : أن يكون جواز المعاطاة حقّيّا متعلّقا بالعين. والحكم في هذه الصورة أوضح من سابقتها ، لمغايرة متعلق جواز المعاطاة لمتعلق الخيار ، حيث إنّ متعلق جواز المعاطاة هو العين ، ومتعلق الخيار هو العقد.

الثالثة : أن يكون جواز المعاطاة حكميّا متعلّقا بنفس العقد كتعلق الخيار به.

وقد يتوهم اللّغويّة هنا ، إذ المفروض اجتماع الجوازين على موضوع واحد وهو العقد ، فجعل الخيار مع جواز المعاطاة طبعا تحصيل للحاصل.

لكن هذا التوهم فاسد ، لأنّ اللغوية إنّما تلزم إذا لم يمكن انفكاك أحد الخيارين عن الآخر ، والمفروض خلافه ، لما عرفت في الصورة الاولى من انفكاكهما ، وأنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، لاجتماعهما مع وجود العينين قبل التفرق عن المجلس ، وسقوط جواز المعاطاة وبقاء خيار المجلس ، إذا تلفت العينان أو إحداهما قبل التفرق ، وبقاء جواز المعاطاة وسقوط خيار المجلس كما إذا تفرّقا عن المجلس وكانت العينان باقيتين.

الرابعة : أن يكون جواز المعاطاة حكميّا متعلّقا بالعين ، والحكم هنا أوضح من سابقتها ، لتغاير متعلّق جواز المعاطاة لمتعلق الخيار المصطلح.

وبالجملة : فلا مانع ثبوتا وإثباتا من جريان جميع الخيارات في المعاطاة بناء على كونها بيعا جائزا.

وأمّا الثانية الراجعة إلى الإشكال الإثباتي ـ المختص بخياري المجلس والحيوان الذي مرجعه الى قصور الدليل ـ فبما تقدّم أيضا في الأمر الأوّل من : أنّ المعاطاة كالبيع اللفظي مبنيّة ـ بحسب قصد المتعاطيين ـ على اللزوم ، غاية الأمر أنّه قام الدليل من

٢٦٣

والظاهر أنّ هذا (١) تفريع على القول بالإباحة في المعاطاة. وأمّا على القول بكونها مفيدة للملك المتزلزل ، فيلغى (*) الكلام في كونها

______________________________________________________

(١) أي : صيرورة المعاطاة بيعا أو معاوضة مستقلة ، فإنّ الظاهر تفريعهما على

__________________

الخارج على أنّ لزومها يكون بالتصرف ونحوه من الملزمات.

والحاصل : أنّ الجواز العرضي لا ينافي اللزوم الذاتي.

فالمتحصل : مما ذكرنا جريان الخيارات مطلقا حتى خياري المجلس والحيوان في المعاطاة المقصود بها التمليك المفيدة للملك الجائز من دون توهم مانع ثبوتي في كل خيار ، ولا إثباتي في خصوص خياري المجلس والحيوان.

وأمّا المعاطاة المقصود بها التمليك ـ على القول بإفادتها للإباحة ـ فإن أريد بالخيار ردّ العين إلى ملك مالكها الأوّل فلا يثبت فيها ، لأنّ العين لم تخرج من ملك مالكها حتى يثبت له حقّ استردادها. وإن أريد به سلطنة حلّ العقد وفسخه فلا يبعد ثبوته هنا ، لكون المعاطاة على هذا القول أيضا بيعا عرفا وشرعا ، غاية الأمر أنّ الشارع أناط تأثيرها في الملكية بطروء أحد الملزمات ، نظير إناطة الملكية في الصرف والسلم بالقبض ، ففسخ المعاطاة حينئذ يوجب انتفاء الموضوع أعني به العقد ، فتسقط المعاطاة عن قابلية التأثير في الملكية.

وبالجملة : فالخيار بمعنى السلطنة على حلّ العقد وفسخه جار في المعاطاة المقصود بها الملك مع إفادتها شرعا للإباحة ، لكونها بيعا عرفا وشرعا ، غاية الأمر أنّ فعليّة تأثيرها شرعا في الملكية منوطة بطروء أحد الملزمات. ولا يقدح ذلك في صدق البيع الذي هو موضوع أدلة الخيارات ، فلكل واحد من المتعاطيين رفع قابلية المعاطاة للتأثير في الملكية بالفسخ.

فتلخص من جميع ما ذكرناه : جريان جميع الخيارات في المعاطاة المقصود بها الملك المفيدة للملك المتزلزل أو الإباحة ، من دون إشكال ثبوتي ولا إثباتي في ذلك.

٢٦٤

معاوضة مستقلة أو بيعا متزلزلا قبل اللزوم حتى يتبعه حكمها بعد اللزوم ، إذ (١) الظاهر أنّه عند القائلين بالملك المتزلزل بيع ، بلا إشكال في ذلك (٢) عندهم على ما تقدّم من المحقق الثاني (١) ، فإذا (٣) لزم صار بيعا لازما ، فيلحقه أحكام البيع (٤) عدا ما أستفيد من دليله ثبوته للبيع العقدي الذي مبناه على اللزوم لو لا الخيار (٥).

______________________________________________________

القول بالإباحة في المعاطاة ، إذ على القول بإفادة المعاطاة للملك المتزلزل يلغو الترديد بين كونها بيعا أو معاوضة ، إذ الظاهر أنّ القائلين بإفادتها للملك المتزلزل جازمون بكونها بيعا على ما تقدّم في كلام المحقق الثاني ، فإذا لزمت المعاطاة حينئذ بأحد ملزماتها صارت بيعا لازما.

(١) تعليل لقوله : «فيلغى الكلام» وحاصله : أنّ وجه اللّغوية هو عدم الإشكال عند القائلين بكون المعاطاة مفيدة للملك في كونها بيعا. وعليه فالترديد بين كونها بيعا أو معاوضة مستقلّة لغو.

ولا يخفى أنّ في بعض النسخ المطبوعة «فينبغي الكلام في كونها معاوضة ..» ولكنه سهو قطعا ، لمنافاته مع تعليل المصنف بقوله : «إذ الظاهر» فإنّه تعليل لبيعية المعاطاة المفيدة للملك المتزلزل ، ولا يبقى موضوع للترديد بين البيعية والمعاوضة المستقلة حتى يبقى مجال للبحث فيه.

وكتب سيدنا الأستاذ النوري قدس‌سره في هامش نسخته : «الظاهر أن يقال : فلا ينبغي الكلام».

(٢) أي : في كون المعاطاة بيعا عند القائلين بالملك.

(٣) هذا نظر المصنف وليس تتمة لكلام المحقق الثاني.

(٤) من الخيارات التي تثبت للبيع اللازم من غير جهة الخيار ، إذ المفروض لزومها من جهة الملزمات ، فهي لازمة لو لا الخيار.

(٥) فلا يثبت شي‌ء من تلك الخيارات في المعاطاة ، لعدم كونها حينئذ من العقد

__________________

(١) : تقدم كلامه في التنبيه الأوّل في ص ٨

٢٦٥

وقد تقدّم (١) أنّ الجواز هنا لا يراد به ثبوت الخيار.

وكيف كان (٢) فالأقوى أنّها على القول بالإباحة بيع عرفي لم يصحّحه

______________________________________________________

المبني على اللزوم لو لا الخيار ، إذ المعاطاة عقد مبني على الجواز والتزلزل.

(١) أي : في أوائل التنبيه السادس ، حيث قال : «ولم يثبت قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري .. ، فإنّ الجواز فيه بمعنى جواز الرجوع .. إلخ». وقد تقدم نظيره في أواخر التنبيه السادس أيضا ، فراجع.

ثم إنّ هذا دفع توهم ، وهو : أنّ المعاطاة أيضا على القول بالملك بيع مبني على اللزوم لو لا الخيار المعبّر عنه بجواز الرجوع.

وحاصل دفعه : أنّ الجواز في المعاطاة ليس بمعنى الخيار الذي هو حق ، بل هو جواز حكمي أجنبي عن الخيار ، فلا يثبت الخيار المذكور في المعاطاة.

(٢) يعني : سواء أكان جواز الرجوع في المعاطاة حكما كما في الهبة أم حقّا كما في الخيار. أو سواء أكانت المعاطاة المفيدة للملك الجائز بيعا أم معاوضة مستقلة.

وكيف كان فظاهر العبارة منع ما أفاده الشهيد الثاني قدس‌سره من ابتناء الترديد ـ في حكم المعاطاة من كونها بيعا أو معاوضة مستقلة ـ على القول بالإباحة على ما استظهره المصنف قدس‌سره بقوله قبل أسطر : «والظاهر أن هذا تفريع على القول بالإباحة في المعاطاة».

وجه المنع ما تقدم مرارا من أنّ المعاطاة المقصود بها الملك بيع عرفي سواء أفادت الملك المتزلزل أم الإباحة ، فالمفيدة للإباحة الشرعية بيع أيضا وإن كان فاسدا لا يترتب عليه أثره المقصود إلّا بطروء أحد الملزمات ، نظير توقف الملك في بيع الصّرف والسّلم على القبض. وعلى هذا لا بدّ من ترتيب أحكام البيع اللفظي على المعاطاة المفيدة للإباحة ، عدا الحكم المختص بالبيع المنعقد صحيحا أي مفيدا للملك اللازم بحسب طبعه ، فإنّه لا يثبت في المعاطاة ، لفرض إفادتها الإباحة بحكم

٢٦٦

الشارع ولم يمضه إلّا بعد تلف إحدى العينين أو ما في حكمه (١). وبعد التلف يترتب عليه أحكام البيع عدا ما اختصّ دليله بالبيع الواقع صحيحا من أوّل الأمر (٢).

______________________________________________________

الشارع.

ولا يخفى أنّ ترتب أحكام البيع على المعاطاة المبيحة ـ بعد طروء الملزم ـ هو الذي احتمله الشهيد الثاني قدس‌سره في آخر كلامه بقوله : «اللهم إلّا أن تجعل المعاطاة جزء السبب والتلف تمامه» بأن يكون التعاطي مقتضيا للملكية ـ وإن لم تترتب عليه من أوّل الأمر ـ ويتوقف فعلية التأثير على حصول الشرط وهو طروء الملزم.

(١) كالتصرف الاعتباري ، والمزج ونحوهما من الملزمات.

(٢) يعني : لا بعد التلف. وغرضه من ذلك أنّ البيع العرفي على قسمين :

أحدهما : ما هو حكم لخصوص البيع الواقع صحيحا شرعيا من أوّل الأمر كالصيغة الخاصة ، أو مطلق الصيغة على الخلاف.

والآخر : ما هو حكم لمطلق البيع العرفي ، نظرا إلى عدم انفهام الاختصاص من دليل ذلك الحكم ، كالعلم بالعوضين وثبوت الخيارات كلّا أو بعضا ، على الخلاف في أنّ المستفاد من أدلّتها هو الإطلاق ، أو المستفاد من أدلة بعضها الإطلاق كخيار العيب المستند إلى حديث نفي الضرر ، فإنّ دليله لا يختص بالبيع العرفي الواقع صحيحا من أوّل الأمر.

والحاصل : أنّ المراد بالبيع الصحيح من أوّل الأمر هو البيع العرفي الذي يترتب عليه الحكم الشرعي من زمان وقوعه ، والمراد من مقابله هو عدم ترتب الأثر الشرعي عليه إلّا بعد طروء أحد ملزمات المعاطاة ، فهما مشتركان في كونهما بيعا عرفيّا ، ومفترقان في كون أحدهما موضوعا للأثر الشرعي من حين وقوعه ، والآخر من حين طروء أحد الملزمات.

٢٦٧

والمحكي (١) (١) عن حواشي الشهيد «أنّ المعاطاة معاوضة مستقلّة جائزة

______________________________________________________

(١) الظاهر أنّ غرض المصنف قدس‌سره من نقل كلام الشهيد الأوّل ثم توجيهه دفع ما يرد على قوله : «إذ الظاهر أنه عند القائلين بالملك المتزلزل بيع بلا إشكال» وتوضيح المطلب : أنّ المصنف جعل مصبّ ترديد الشهيد الثاني في المسالك «من صيرورة المعاطاة بعد التلف بيعا أو معاوضة مستقلة» المعاطاة المقصود بها الإباحة ، دون المعاطاة المقصود بها الملك. وعلّل ذلك بأنّ المعاطاة المفيدة للملك المتزلزل بيع عند القائلين به كما صرّح به المحقق الثاني قدس‌سره ، فلا يبقى وجه لأن يتردّد الشهيد الثاني في كونها بيعا أو معاوضة مستقلّة ، وعليه لا بد أن يكون غرض المسالك الترديد في حكم المعاطاة بناء على مشهور القدماء من الإباحة التعبدية ، هذا.

لكن قد ينافي هذا الحمل تصريح الشهيد في حواشي القواعد من «أنّ المعاطاة معاوضة مستقلة جائزة أو لازمه» وجه المنافاة : أنّها لو كانت بيعا عندهم لم يبق مجال للجزم بكونها معاوضة مستقلة ، فهذا الجزم شاهد على عدم تسالمهم على بيعيّتها ، فتختلّ دعوى المصنف «إذ الظاهر أنّه عند القائلين بالملك المتزلزل بيع بلا إشكال» بل هي إمّا معاوضة مستقلة بلا إشكال كما ادّعاه الشهيد ، وإمّا هي بيع على إشكال.

ويترتب على هذا التنافي : إمكان الأخذ بإطلاق كلام المسالك من أنّ الترديد بين البيع والمعاوضة المستقلة جار على كلّ من الملك والإباحة ، ولا وجه لتخصيصه بالإباحة كما ادّعاه المصنف بقوله : «والظاهر أنّ هذا تفريع على القول بالإباحة» ، هذا.

وقد تخلّص المصنف عن هذا الإشكال بمنع التنافي ، وذلك لأنّ جزم الشهيد قدس‌سره بكونها معاوضة مستقلة مبني على مسلكه في المعاطاة من كونها مفيدة لإباحة التصرف غير المتوقف على الملك ، بشهادة منعه عن إخراج المأخوذ بها في خمس وهدي ونحوهما مما يناط شرعا بالملك.

__________________

(١) : الحاكي هو السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٨

٢٦٨

أو (١) لازمة»

والظاهر (٢) أنّه أراد التفريع على مذهبه من الإباحة. وكونها (٣) معاوضة قبل اللزوم من جهة كون كلّ من العينين مباحا عوضا عن الأخرى.

لكن (٤) لزوم هذه المعاوضة لا يقتضي حدوث الملك كما لا يخفى ، فلا بدّ أن

______________________________________________________

وعلى هذا فكونها معاوضة مستقلّة ليس على حدّ سائر العقود المعاوضية الناقلة للأملاك كالبيع القولي والصلح والقرض ونحوها. بل مراده بالمعاوضة هو التعاوض في الإباحة ، لوضوح أنّ الإباحة قد تكون بلا عوض كما في أكل المارّة ، وقد تكون مع العوض ، والمعاطاة عند المشهور تكون من القسم الثاني. فإطلاق المعاوضة عليها بهذا اللحاظ ، لا بلحاظ المبادلة في إضافة الملكية.

فتحصّل : أنّ جزم الشهيد قدس‌سره بالمعاوضة المستقلة ليس منافيا لما نسبه المصنف إلى القائلين بالملك المتزلزل من التصريح ببيعيّتها.

هذا توضيح توجيه كلام الشهيد ، وللمصنف إشكال عليه سيأتي بيانه.

(١) حرف العطف هنا للتنويع لا للترديد ، يعني الجواز قبل الملزم ، واللزوم بعده.

(٢) هذا توجيه المصنف لكلام الشهيد ، وقد أوضحناه بقولنا : «وقد تخلص المصنف عن هذا الاشكال بمنع التنافي». وعليه فالغرض إخراج الشهيد عن مخالفة القائلين ببيعية المعاطاة المفيدة للملك الجائز ، إذ لو كان مقصوده من المعاوضة المستقلّة المبادلة في الملكية كان مخالفا لهم ، ولكن حيث إنّ مختار الشهيد في المعاطاة معلوم وهو الإباحة الخاصة ، فمراده من المعاوضة ليس المبادلة في الملكية.

(٣) دفع لما يتوهم من أنّ جعل مورد كلام الشهيد المعاطاة المفيدة للإباحة ينافي جعلها معاوضة لازمة أو جائزة ، إذ لا تكون المعاطاة حينئذ من المعاوضات.

ومحصل دفعه هو : إنّ إطلاق المعاوضة عليها إنّما هو باعتبار كون كلّ من العينين مباحا عن الأخرى.

(٤) إشارة إلى إشكال على القول بالإباحة ، وهو : أنّه بناء على كون المعاطاة

٢٦٩

يقول بالإباحة اللّازمة ، فافهم (١).

______________________________________________________

مفيدة للإباحة لا وجه لصيرورتها مملّكة بأحد الملزمات ، إذ لا يوجب طروء الملزم حدوث الملكية اللازمة ، بل لا يقتضي عروضه إلّا لزوم المعاطاة ، فإن كانت مفيدة للملك صارت لازمة بمعنى صيرورة الملك لازما ، وإن كانت مفيدة للإباحة صارت الإباحة لازمة بمعنى عدم جواز حلّ الإباحة الشرعية.

وقيل : إنّه لم يظهر من الشهيد قدس‌سره ، خلاف ذلك ، فالتزامه بصيرورة الإباحة لازمة غير بعيد.

(١) لعلّه إشارة إلى : عدم إباء كلام الشهيد عن كون الإباحة لازمة.

أو إلى : أنّ احتمال لزوم المعاطاة المفيدة للإباحة المنافي للإجماع على جوازها مندفع بأنّه مبني على أن يكون قول الشهيد : «جائزة أو لازمة» للترديد. وأمّا إذا كان للتنويع فلا يلزم إشكال أصلا ، لأنّ المعاطاة على هذا تارة تكون لازمة ، وأخرى جائزة ، يعني : أنّ المعاطاة جائزة قبل عروض الملزم ولازمة بعده.

٢٧٠

الثامن (١) : لا إشكال في تحقق المعاطاة المصطلحة ـ التي هي معركة الآراء بين الخاصة والعامة ـ بما إذا تحقّق إنشاء التمليك أو الإباحة بالفعل وهو قبض العينين.

______________________________________________________

التنبيه الثامن : إلحاق الصيغة الملحونة بالمعاطاة

(١) الغرض من عقد هذا الأمر هو : بيان أنّ العقد الفاسد ـ لاختلال شرائط الصيغة ـ هل يرجع إلى المعاطاة أم لا؟ وبعبارة أخرى : المعاطاة التي تتحقق بقبض العينين قطعا هل تنعقد بالصيغة غير الجامعة لشرائط الصحة كما في الجواهر (١) أم لا؟

محصل ما أفاده المصنف قدس‌سره في ذلك هو : أنّه لا إشكال في تحقق البيع اللازم بإنشائه باللفظ المستجمع للخصوصيات الدخيلة فيه من الماضوية والعربية والصراحة ونحوها ، كما لا إشكال في تحقق المعاطاة بما إذا كان إنشاء التمليك أو الإباحة بإقباض العينين.

ويقع الكلام في أنّه إذا حصل إنشاء التمليك بالصيغة الفاقدة لبعض شروط الصحة ، فعلى القول بكفاية الإنشاء القولي بكلّ لفظ مبرز عرفا للاعتبار النفساني وإن لم يكن جامعا لشرائط الصحة ـ بناء على شمول معقد الإجماع على توقف العقود اللّازمة على اللفظ لكل لفظ مبرز عرفا للاعتبار النفساني وإن لم يكن صحيحا ـ

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٣٨

٢٧١

أمّا إذا حصل بالقول غير الجامع لشرائط اللّزوم (*) فإن قلنا بعدم اشتراط اللزوم بشي‌ء زائد على الإنشاء اللّفظي كما قوّيناه سابقا (١) ـ بناء على التخلص بذلك (٢) عن اتفاقهم على توقف العقود اللّازمة على اللّفظ ـ

______________________________________________________

فلا إشكال حينئذ في كون هذا الإنشاء صحيحا لازما.

وعلى القول بمذهب المشهور ـ من اعتبار أمور زائدة على اللفظ ـ ففيه وجوه :

الأوّل : كون هذا الإنشاء بحكم المعاطاة مطلقا.

الثاني : كونه بحكم المعاطاة بشرط تحقق قبض العين معه.

الثالث : كونه فاسدا كغيره من العقود الفاسدة.

(١) حيث قال قبل أسطر من نقل رواية : «إنّما يحلل الكلام ويحرم الكلام» ما لفظه : «نعم الإكتفاء في اللزوم بمطلق الإنشاء القولي غير بعيد» (١).

(٢) أي : بالإنشاء اللفظي غير الجامع للشرائط. وظاهر كلمة «التخلّص» أنّ الإجماع ألجأنا إلى الإكتفاء بمطلق اللفظ في إنشاء العقود اللّازمة ، ولو لا هذا الإجماع لأنكرنا شرطية اللفظ رأسا ، وقلنا بلزوم المعاطاة من أوّل الأمر.

وعلى كلّ فوجه التخلص هو صدق «الإنشاء اللفظي» على الصيغة الملحونة أو الفاقدة لبعض الشرائط ، وبهذا الصدق نخرج عن مخالفة الإجماع المزبور.

__________________

(*) الظاهر كونه غلطا ، والمناسب لما يذكره من قوله : «فان قلنا .. إلخ» تبديل اللّزوم بالصحة.

وكيف كان فملخص الكلام : أنّه إذا حصل إنشاء التمليك بالقول غير الجامع لشرائط الصحة كأن يقول : «بعتك» فعلى القول بكفاية مجرّد الإنشاء اللفظي في اللزوم وعدم الحاجة إلى غيره فلا إشكال في صحّته ولزومه.

وعلى القول بما عن المشهور من اعتبار أمور زائدة على اللفظ في اللزوم ففيه وجوه :

__________________

(١) : راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٥٧٩

٢٧٢

فلا إشكال في صيرورة المعاملة بذلك (١) عقدا لازما.

______________________________________________________

(١) أي : بالقول غير الجامع للشرائط.

__________________

أحدها : رجوع ذلك الإنشاء القولي إلى المعاطاة مطلقا ، أي سواء تحقق معه قبض أم لا.

ثانيها : رجوعه إليها إذا تعقّبه القبض مطلقا ، سواء حصل إنشاء آخر بهذا القبض أم لا.

ثالثها : كونه بيعا فاسدا لا يترتب عليه أثر سواء تحقق قبض بعده أم لا.

التحقيق أن يقال : انّ المعاطاة إن كانت على طبق القاعدة فلا محيص عن الالتزام بكون إنشاء التمليك بالقول الفاقد لبعض شرائط الصحة بيعا لازما ، إذ المفروض عدم نهوض دليل على اعتبار مبرز خاص فيه ، فدليل صحة البيع ونفوذه يقتضي صحة البيع المنشأ بلفظ فاقد لشرائط الصحة ، ولزومه كصحّته إذا أنشئ بكتابة أو إشارة أو إلقاء حصاة أو غير ذلك من كل فعل مبرز لاعتبار نفساني.

وإن كانت على خلاف القاعدة بأن اعتبر في صحة البيع لفظ خاص كما اعتبر في النكاح والطلاق فلا ينبغي الإشكال في فساده إذا أنشئ بغير ذلك اللفظ الخاص ، سواء أكان لفظا أم فعلا ، ويكون الإنشاء بغير ذلك اللّفظ الخاص كالعدم ، والقبض به من صغريات المقبوض بالعقد الفاسد.

كما أنّه إذا دلّ دليل على اعتبار لفظ خاصّ بكيفية مخصوصة في لزوم العقد فلا ينبغي الإشكال أيضا في صحته جوازا ، إذ المفروض كون المشروط بتلك الخصوصية هو اللزوم لا صحة العقد وجوازه ، فلا بد في الحكم باستمرار جوازه من ملاحظة دليل الجواز.

فإن كان له إطلاق يحكم بجواز العقد دائما على حذو العقود الجائزة بالأصالة ، ومع هذا الإطلاق لا وجه للتمسك باستصحاب الجواز ، لحكومة الدليل الاجتهادي على الأصل العملي ، فلا تصير هذه المعاملة لازمة بطروء ملزمات المعاطاة ، إلّا إذا قام دليل خاص على اللزوم بها.

وإن لم يكن له إطلاق يحكم باللزوم في غير القدر المتيقن ، تمسكا بعمومات

٢٧٣

وإن قلنا (١) بمقالة المشهور ـ من اعتبار أمور زائدة (٢) على اللّفظ ـ فهل يرجع ذلك الإنشاء القولي إلى حكم المعاطاة مطلقا (٣) ، أو بشرط (٤) تحقق قبض العين منه ، أو لا يتحقق (٥) به مطلقا (٦)؟

نعم (٧) إذا حصل إنشاء آخر (*) بالقبض المتحقق بعده تحقق المعاطاة.

______________________________________________________

(١) معطوف على «فان قلنا» وهذا شروع في بيان محلّ النزاع ، وهو إلحاق الصيغة الفاقدة لبعض الشروط بالمعاطاة.

(٢) مثل الماضوية ، وتقدّم الإيجاب على القبول ، والموالاة ، ونحوها.

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الأوّل ، والإطلاق في مقابل قوله : «أو بشرط .. إلخ».

(٤) هذا إشارة إلى الوجه الثاني.

(٥) معطوف على قوله : «فهل يرجع» وهذا إشارة إلى الوجه الثالث. وضمير «به» راجع إلى الإنشاء القولي ، يعني : أو لا يتحقق حكم المعاطاة بالإنشاء القولي.

(٦) يعني : لا يكون الإنشاء القولي المزبور بحكم المعاطاة مطلقا ، سواء تحقق معه قبض أم لا ، فهذا الإنشاء عقد فاسد.

(٧) ظاهره الاستدراك على مورد البحث في هذا التنبيه من أنّ القول الفاقد لبعض الشرائط هل يلحق بالمعاطاة أم لا؟ حيث قال : «فهل يرجع ذلك الإنشاء القولي إلى حكم المعاطاة مطلقا .. إلخ».

__________________

اللزوم ، كما كان الأمر كذلك في المعاطاة المتحققة بقبض العينين المفيدة للملك الجائز. غاية الأمر أنّ الجواز هناك كان بالسيرة والإجماع على ما تقدّم في القول بجواز المعاطاة ، وهنا بدليل خاص لو قيل به.

(*) أو حصل التراضي منهما بالتصرف في العينين ، فإنّه يباح لهما التصرف

٢٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن قوله : «نعم .. تحقق المعاطاة» استثناء منقطع ، وغرضه قدس‌سره بيان صورة أخرى ليست محلّ النزاع ، لكونها بيعا صحيحا ، كما لا ريب في صحة البيع في صورتين ، إحداهما : إنشاؤه بالقول الجامع ، والأخرى : إنشاؤه بقبض العينين فكذا لا ريب في صحّته في صورة ثالثة ، وهي : ما إذا التفت المتبايعان إلى أنّ القول الملحون لا يتحقق به البيع ، فقصدا إنشاء المعاملة بسبب آخر ـ وهو تعاطي العينين ـ وهو يوجب تحقق بيع صحيح ، إذ ليست المعاطاة إلّا إنشاء المعاملة بالفعل في قبال إنشائها بالقول.

__________________

بذلك ، ومن المعلوم أنّ هاتين الصورتين خارجتان موضوعا عن محل النزاع ، وهو جريان حكم المعاطاة على الإنشاء بالصيغة الملحونة. فإذا فرض وقوع نفس المعاطاة بعد ذلك الإنشاء أو الرّضا بالتصرف ولو مع فساد المعاملة ـ بحيث يكون الرضا به مغايرا للرضا المقوّم للمعاملة ـ كان خارجا تخصّصا عن موضوع البحث وعن حرمة التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد.

وإن أريد بقوله : «بشرط تحقق قبض العين» القبض بعنوان الوفاء ـ لا بعنوان المعاطاة ـ ففيه : أنّ القبض بعنوان الوفاء ليس دخيلا في صحة العقد أصلا ، لأنّ المبرز للاعتبار النفساني هو الإنشاء بالصيغة الملحونة ، فالعقد بدون القبض باطل ، فضمّه إلى الإنشاء الباطل لا يصحّحه.

فالمتحصل : أنّ التفصيل بقوله : «أو بشرط تحقق قبض العين» غير سديد ، لأنّه على تقدير كون القبض بنفسه معاطاة خارج عن موضوع البحث ، وهو إجراء حكم المعاطاة على الإنشاء بالصيغة الملحونة ، لأنّ هذا القبض بنفسه معاطاة صحيحة ، ولا يتوهم توقف صحة المعاطاة على عدم سبقها بعقد فاسد.

وعلى تقدير كون القبض وفاء لما أنشئ باللفظ ليس له دخل في صحة العقد ، لفرض بطلانه وعدم دخل القبض في صحته.

٢٧٥

فالإنشاء (١) القولي السابق كالعدم ،

______________________________________________________

نعم تختلف هذه الصورة عن سابقتها بأنّ القبض الإنشائي وقع عقيب قول ملحون ، بخلاف المعاطاة المتعارفة ، فإنّ القبض والإقباض فيها إنشاء البيع من أوّل الأمر من دون سبق صيغة ملحونة عليها. ولكن هذا المقدار غير فارق في حكم الصورتين ، فكلتاهما مصداق للبيع المعاطاتي.

وبعبارة أخرى : القبض الواقع بعد الإنشاء القولي الفاقد لبعض الخصوصيات يقع تارة بعنوان الوفاء بالعقد ، وأخرى بعنوان إنشاء البيع بإنشاء جديد ، للعلم بعدم تأثير ذلك القول الناقص.

والصورة الأولى هي محل النزاع في هذا التنبيه من كونها بحكم المعاطاة وعدمه. وأمّا الصورة الثانية فهي معاطاة صحيحة قطعا ، ولا شبهة فيها ، وخارجة عن حريم النزاع.

(١) هذا أجنبي عن قوله : «نعم» وراجع إلى قوله : «فهل يرجع ذلك الإنشاء القولي إلى حكم المعاطاة ..» ويمكن أن يدفع

به توهم ، بأن يقال : إنّ إنشاء المعاملة وإن كان باللفظ الناقص الذي لا يؤثّر عند المشهور في النقل والانتقال ، إلّا أنّه قد تعقّبه القبض والإقباض من البائع والمشتري ، فيمكن أن يلحقه حكم المعاطاة ، لتحقق التعاطي من الطرفين حسب الفرض ، مع زيادة ـ على المعاطاة المتعارفة ـ وهي الإنشاء القولي الناقص.

وعليه فالصيغة الناقصة التي يلحقها التقابض لا تقلّ عن المعاطاة المعهودة ، فلا مجال لهذا البحث الطويل الذيل من جريان حكم المعاطاة على القول الناقص مطلقا أو بشرط القبض.

وحاصل الدفع : منع مقايسة القول الفاقد ـ المتعقب بالقبض ـ بالمعاطاة المعهودة ، وبيانه : أنّه يعتبر في مقام إنشاء العناوين الاعتبارية ـ من العقود

٢٧٦

لا عبرة به ولا بوقوع القبض بعده (١) خاليا عن قصد الإنشاء ، بل بانيا (*)

______________________________________________________

والإيقاعات ـ القصد إلى العنوان والتسبّب إليه باللّفظ أو الفعل ، أو إبرازه بأحدهما ، على الخلاف في حقيقة الإنشاء. فإن أنشئت المعاملة بالإيجاب والقبول اللفظيين اعتبر تحقق قصد التمليك مقترنا بهما ، وتترتب آثار البيع على هذا الإنشاء القولي ، فيجب الوفاء به بتسليم المبيع للمشتري ، والثمن للبائع ، ولا يقصد المتبايعان إنشاء التمليك بالقبض والإقباض ، وإنّما قصداه بالقول.

وإن أنشئت المعاملة بالمعاطاة اعتبر القصد إلى التمليك والتملك حين التعاطي ، لفرض التسبّب به إلى العنوان البيعي.

وعلى هذا فإذا كان الإنشاء بالقول الملحون ، وزعم المتبايعان تأثيره في النقل والانتقال كان قبض العينين خاليا عن قصد الإنشاء ـ كما يقصدانه في المعاطاة ـ بل هو مبني على وجوب الوفاء بذلك الإنشاء القولي الملحون ، كما إذا كان ذلك اللفظ جامعا للشرائط والخصوصيات ، حيث إن القبض المترتب عليه متمحض في الوفاء به ، وليس هناك قصد ثانوي لإنشاء المعاملة بالتقابض.

ولمّا كان الإنشاء الملحون ساقطا عن التأثير عند المشهور ـ وكان القبض بعنوان الوفاء لا بعنوان الإنشاء الجديد ـ فلا محالة لم يتحقق سبب قولي ولا فعلي للتمليك. وهذا بخلاف المعاطاة المتعارفة ، فإنّ التعاطي إنشاء التمليك ، ويشمله إطلاق دليل إمضاء البيع.

(١) أي : بعد القول غير الجامع الشرائط اللزوم. وجه عدم العبرة بهذا القبض هو خلوّه عن قصد الإنشاء ، لأنّ المتعاملين زعما تأثير ذلك القول ، واعتقدا وجوب الوفاء به ، ضرورة كون الوفاء بالعقد الصحيح حقّا على كلا المتعاملين ، فأقبض كلّ منهما ماله للآخر أداء لهذا الحق ، لا إنشاء جديدا للمعاملة. وحيث إنّ أصل الإنشاء باطل ، فالقبض المتأخر عنه كذلك.

٢٧٧

على كونه حقّا لازما ، لكونه (١) من آثار الإنشاء القولي السابق ، نظير القبض في العقد الجامع للشرائط.

ظاهر (٢) كلام غير واحد من مشايخنا المعاصرين (٣) الأوّل (٤) تبعا لما يستفاد من ظاهر كلام المحقق والشهيد الثّانيين. قال المحقق في صيغ عقوده ـ على ما حكي عنه ـ بعد ذكره الشروط المعتبرة في الصيغة : «انّه لو أوقع البيع بغير ما قلناه وعلم التراضي منهما كان معاطاة» (٥) (١) انتهى.

______________________________________________________

(١) أي : لكون القبض حقّا لازما ، وجه لزومه كونه من آثار الإنشاء القولي ، ووفاء لما التزما به من الإنشاء السابق.

(٢) هذا متعلق بقوله : «فهل يرجع ذلك الإنشاء» وغرضه بيان الأقوال في المسألة ، وأنّ لكلّ من الوجوه الثلاثة قائلا.

(٣) كالسيد المجاهد والفاضل النراقي وصاحب الجواهر ، قال في المناهل : «منهل : إذا كان إيجاب البيع وقبوله بغير العربية من الألفاظ الفارسية وغيرها ، فلا إشكال حينئذ في صحة البيع ، وإفادته إباحة التصرف ونقل الملك ، بناء على المختار من إفادة المعاطاة ذلك ، لظهور عدم القائل بالفصل بين الأمرين ، ولفحوى ما دلّ على إفادة المعاطاة أو عمومه الملك. وهل يفيد ذلك اللّزوم كما إذا كان الإيجاب والقبول عربيّين أو لا؟ بالثاني صرّح المحقق الثاني في حاشية الإرشاد وجامع المقاصد .. إلخ».

وقال في الجواهر : «لكن قد عرفت سابقا : أنّ قصد التمليك العقدي غير مشخص ، مع فرض تحقق البيع بالمعاطاة التي منها الصيغة الملحونة مثلا» (٢).

(٤) وهو كونه بحكم المعاطاة مطلقا.

(٥) وقال بعده على ما حكي عنه : «لا يلزم إلّا بذهاب العينين».

__________________

(١) : رسالة صيغ العقود والإيقاعات (ضمن مجموعة رسائل المحقق الكركي) ج ١ ، ص ١٧٨ ، والحاكي لهذه العبارة هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ج ٤ ، ص ١٥٩

(٢) المناهل ، ص ٢٧٠ ، مستند الشيعة ، ج ٢ ، ص ٣٦١ و٣٦٢ ، المسألة الخامسة من مسائل الفصل الأوّل. جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٧

٢٧٨

وفي الرّوضة في مقام عدم كفاية الإشارة مع القدرة على النطق : «انّها تفيد المعاطاة مع الإفهام الصريح» (١) (١) انتهى.

وظاهر الكلامين (٢) صورة وقوع الإنشاء بغير القبض ، بل يكون القبض من آثاره (٣).

وظاهر (٤) تصريح جماعة منهم المحقق والعلّامة بأنّه «لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملك وكان مضمونا عليه» هو (٥) الوجه الأخير (٦) ، لأنّ (٧)

______________________________________________________

ثم إنّ هذا الكلام من المحقق الثاني صريح في كون الإنشاء القولي الملحون معاطاة ، فيجري فيه ما يجري فيها من لزومه بتلف العينين ، وجواز التراد قبله.

(١) وجه دلالة هذا الكلام على كون الصيغة الفاقدة للشرائط ـ التي هي مورد البحث ـ بحكم المعاطاة هو : أنّ المناط في إجراء حكم المعاطاة على الإشارة هو إفهام المقصود صريحا ، ومن المعلوم وجود هذا المناط في موضوع البحث.

(٢) حيث إنّ رجوع الضمير ـ الذي هو اسم «كان» في قول المحقق قدس‌سره «كان معاطاة» ـ إلى : إيقاع البيع بغير ما قلناه ـ ممّا لا ينبغي إنكاره.

وكذا قول الشهيد في الروضة : «إنّها تفيد المعاطاة» فإنّ ضمير «إنّها» راجع إلى الإشارة. ومن المعلوم أنّ المستفاد منهما كون نفس الإنشاء الملحون والإشارة معاطاة.

(٣) أي : آثار الإنشاء بالقول الملحون ، فلا يتحقق الإنشاء بالقبض حتى يتوهم تحقق المعاطاة بهذا التقابض.

(٤) مبتدء معطوف على قوله قبل أسطر : «ظاهر كلام غير واحد من .. إلخ». وهذا بيان القائل بالوجه الثالث ، أي : كون الإنشاء القولي الملحون بحكم العدم.

(٥) خبر «وظاهر».

(٦) وهو عدم جريان حكم المعاطاة على الإنشاء القولي الفاقد للشرائط.

(٧) هذا تقريب الظهور ، ومحصله : أنّ مرادهم ظاهرا بالعقد الفاسد الذي صرّحوا فيه بالضمان وعدم الملكية هو الإنشاء القولي الفاقد للشرائط الذي هو مورد بحثنا.

__________________

(١) : الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، ج ٣ ، ص ٢٢٥

٢٧٩

مرادهم بالعقد الفاسد إمّا خصوص ما كان فساده من جهة مجرّد اختلال شروط الصيغة (١) ، كما ربّما يشهد به (٢) ذكر هذا الكلام بعد شروط الصيغة وقبل شروط العوضين والمتعاقدين. وإمّا (٣) يشمل هذا وغيره كما هو الظاهر (٤).

______________________________________________________

وجه الظهور : أنّهم ذكروا هذا الكلام وهو قوله : «لو قبض ما ابتاعه .. إلخ» بعد شروط الصيغة وقبل شروط العوضين والمتعاقدين ، فيكون قولهم : «لو قبض ما ابتاعه» تفريعا على فساد العقد لأجل فقدان شروط الصيغة ، لا لفقدان شروط أخر.

ولو سلّمنا شمول العقد الفاسد لما إذا كان منشأ الفساد اختلال شروط العوضين والمتعاقدين أيضا لم يقدح ذلك فيما نحن بصدده من كون الصيغة الملحونة موضوعا للبحث والنزاع في جريان حكم المعاطاة فيها وعدمه. فكلامهم المزبور أعني به : «لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملك .. إلخ» شامل للإنشاء القولي الملحون.

ومن هذا البيان ظهر وجه تعبير المصنف ب «ظاهر تصريح» فإنّ المحقق والعلّامة صرّحا بحكم المقبوض بالعقد الفاسد من حيث عدم التملك والضمان ، ولم يصرّحا بمنشإ الفساد ، فاستظهر المحشّون ـ من إطلاق الفساد ـ عدم تأثير الصيغة الملحونة.

(١) كتقدم الإيجاب على القبول ، والماضوية بناء على اعتبارها ، والموالاة بين الإيجاب والقبول ، والتطابق بينهما.

(٢) أي : بكون منشأ الفساد مجرّد اختلال شروط الصيغة.

(٣) معطوف على «إمّا خصوص».

(٤) لشمول إطلاق «الفاسد» لجميع موجبات الفساد من اختلال شروط الصيغة والعوضين والمتعاقدين ، فالمراد ب «غيره» هو الفساد من جهة اختلال شروط المتعاقدين كعدم بلوغ أحدهما ، والعوضين ، وككون أحدهما مجهول الوصف.

٢٨٠