هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

على القرينة الحاليّة المعيّنة (١) (*). وكذا المشترك المعنوي.

ويمكن أن ينطبق على ما ذكرنا (٢) الاستدلال المتقدّم في عبارة التذكرة بقوله قدس‌سره : «لأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب» (١) إذ ليس المراد أنّ المخاطب لا يفهم منها المطلب ولو بالقرائن الخارجية. بل المراد أنّ الخطاب بالكناية لمّا لم يدل على المعنى المنشأ (٣) ما لم يقصد (**) الملزوم (٤) ، لأنّ (٥) اللّازم الأعم ـ كما هو الغالب بل المطّرد في الكنايات ـ لا تدلّ على الملزوم

______________________________________________________

(١) لأنّ ظهوره في البيع منوط بالقرينة ، ومثاله «التمليك» المشترك بين البيع والهبة كما قيل.

(٢) من عدم جواز الاتّكال على القرينة المقالية السابقة على الإنشاء ، أو الحالية المقارنة له. ومقصوده بقوله : «ويمكن» توجيه استدلال العلّامة قدس‌سره وجعله موافقا لنفسه في مقام الجمع بين كلمات القوم الذي أفاده بقوله : «والأحسن منه أن يقال .. إلخ».

(٣) وهو عنوان المعاملة ـ كالبيع ـ إذا أنشئ بلفظ «نقلت» مثلا.

(٤) وهو عنوان العقد كالبيع ، يعني : ما لم يقصد المنشئ من اللّازم ـ كالنقل الذي كنّي به عن البيع ـ النقل الملازم للمعنى المنشأ وهو البيع. ويرشد إلى هذا التفسير قوله بعد ذلك : «ما لم يقصد المتكلم خصوص .. إلخ».

(٥) تعليل لقوله : «لمّا لم يدلّ».

__________________

(*) هذا مناف لما سيذكر من عدم الخلاف في صحة الإيجاب بلفظ «بعت» إذ لا إشكال في كونه مشتركا لفظيّا بين البيع والشراء. وكثرة استعماله في البيع ليست من القرائن اللفظية. وهذا وجه آخر لعدم صحة ما أفاده من الجمع المزبور.

(**) قصد الملزوم غير دخيل في الدلالة ، ففي العبارة مسامحة. نعم قصد الملزوم دخيل في إنشاء العنوان الاعتباري.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

٣٦١

ما لم يقصد (*) المتكلّم خصوص الفرد الجامع مع الملزوم الخاص ، فالخطاب (١) في نفسه محتمل (٢) لا يدري المخاطب بم خوطب ، وإنّما يفهم بالقرائن الخارجية الكاشفة عن قصد المتكلم ، والمفروض على ما تقرّر في مسألة المعاطاة (**) أنّ النّية بنفسها أو مع انكشافها بغير الأقوال (٣) لا تؤثر في النقل

______________________________________________________

(١) جزاء الشرط في قوله : «لمّا لم يدلّ».

(٢) يعني : أنّ الخطاب ـ المراد به العقد ـ لعدم اشتماله على لفظ يدلّ على عنوان المعاملة محتمل لإرادة معاملة أخرى ، فلا يعلم المخاطب بالعقد بأيّ معنى خوطب به علما مستندا إلى اللفظ ، وإنّما يفهم المراد بالقرائن الخارجية اللفظية الكاشفة عن قصد المتكلم من اللازم الملزوم.

مثلا : إذا قال البائع : «أدخلته في ملكك بكذا» أو : «جعلته ملكا لك بكذا» أو : «مسلّطا عليه بكذا» لم يدلّ بنفسه على إرادة البيع ، لأنّ إدخال المال في ملك المخاطب ـ وكذا جعله مسلّطا عليه ـ لازم أعم من البيع ، لتحققه به وبالهبة وبالصلح ، ومن المعلوم أنّ اللازم الأعم لا يفيد بمجرّده الملزوم الخاص ، إلّا أن يقصد البائع خصوص الإدخال والجعل المجتمع مع البيع ، مع وجود كاشف عن قيده ، حيث إنّه بدون الكاشف يكون خطاب «أدخلته في ملكك» محتملا لعقود متعددة هي ملزومات الخطاب ، ولا يتمكن المخاطب من أن يستفيد خصوص البيع أو الهبة مع قطع النظر عن القرائن الخارجية ، ولا يعلم أنّ دخول المال في ملكه هل تحقّق بالبيع أم بالهبة المعوّضة أم بالصلح؟ مع فرض اختلاف أحكامها.

(٣) كما في المعاطاة ، فإنّها فعل مجرّد عن اللفظ.

__________________

(*) ليست الدلالة تابعة لقصد المتكلم ، ومراده قدس‌سره لا يخلو من خفاء.

(**) قد تقدم آنفا فساد هذه المقايسة.

٣٦٢

والانتقال (١) ، فلم يحصل هنا عقد لفظي يقع التفاهم به.

لكن هذا الوجه (٢) لا يجري في جميع ما ذكروه من أمثلة الكناية.

ثم إنّه ربما يدّعى (٣) أنّ العقود المؤثّرة في النقل والانتقال أسباب شرعيّة توقيفية ، كما حكي عن الإيضاح من أنّ «كل عقد لازم وضع له الشارع صيغة مخصوصة بالاستقراء» (١) فلا بدّ من الاقتصار على المتيقن (٤).

______________________________________________________

(١) هذا أوّل الوجوه الأربعة في معنى قوله عليه‌السلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» حيث قال هناك : «انّ تحريم شي‌ء وتحليله لا يكون إلّا بالنطق بهما ، فلا يتحقق بالقصد المجرّد عن الكلام ، ولا بالقصد المدلول عليه بالأفعال دون الأقوال».

ثمّ إنّ الكناية يكون من الثاني ، لأنّ نية الملزوم ـ الذي هو المقصود فيها ـ قد انكشفت بغير الأقوال ، لانكشافها بالانتقال عقلا من لفظ اللازم إلى المعنى الملزوم.

(٢) أي : الوجه الذي ذكره لتطبيق كلام العلامة قدس‌سره ـ من اعتبار كون الدلالة مستندة إلى اللفظ ـ لا يجري في جميع أمثلة الكناية ، لكونه أخصّ من المدّعى وهو إلغاء مطلق الصيغ الكنائية ، وذلك لأنّ القرينة في بعضها ـ مثل : أدخلته في ملكك ـ لفظية ، لأنّ القرينة فيه هو قوله : «في ملكك» وهو لفظ ، فيصدق عليه : العقد اللفظي.

(٣) الغرض من التعرض لكلام فخر المحققين ـ بعد توجيه كلام العلّامة ـ هو رفع مانع آخر عمّا ينافي مختار المصنف من كفاية مطلق اللفظ في مقام إنشاء العقود اللازمة ، وتوضيحه : أنّ فخر المحققين قدس‌سره ادّعى حصر جواز الإنشاء في القدر المتيقّن وهو الاقتصار على الحقائق. ولمّا كانت هذه الدعوى منافية لما أفاده المصنف في الجمع بين الكلمات ـ من جواز العقد بمطلق اللفظ المفيد له إفادة وضعية ولو كان مجازا محفوفا بالقرينة اللفظية الوضعية ـ تعرّض لذكره والإشكال عليه بقوله : «وهو كلام لا محصل له» لمنافاته للروايات وفتاوى العلماء.

(٤) يعني : اللفظ الموضوع لذلك العقد ، مثل «بعت» في البيع ، و «وهبت» في

__________________

(١) : إيضاح الفوائد ، ج ٣ ، ص ١٢

٣٦٣

وهو كلام (١) لا محصّل له عند من لاحظ فتاوى العلماء فضلا عن الروايات المتكثرة الآتية بعضها.

وأمّا ما ذكره الفخر قدس‌سره (٢) فلعلّ المراد فيه من الخصوصية المأخوذة في الصيغة شرعا هي اشتمالها على العنوان المعبّر عن تلك المعاملة به (٣) في كلام الشارع ، فإذا كانت العلاقة الحادثة بين الرجل والمرأة معبّرا عنها في كلام الشارع بالنكاح أو الزوجية أو المتعة فلا بدّ من اشتمال عقدها على هذه العناوين ، فلا (٤) يجوز

______________________________________________________

الهبة ، و «أنكحت» في النكاح ، و «وقفت» في الوقف ، وهكذا سائر العناوين الاعتبارية.

(١) هذا إشكال المصنف على فخر الدين قدس‌سرهما. ومحصله : مخالفة دعواه للفتاوى المتقدمة ، وللنصوص التي تقدم جملة منها ، وسيأتي بعضها الآخر في شرائط الصيغة إن شاء الله تعالى.

(٢) غرضه توجيه ما أفاده الفخر قدس‌سره ـ من وضع الشارع لكل عقد لازم صيغة مخصوصة ـ بما لا ينافي ما تقدّم في الجمع بين الكلمات من قول المصنف قدس‌سره : «والأحسن منه أن يراد باعتبار الحقائق في العقود اعتبار الدلالة اللفظية .. إلخ» فيكون الفخر قدس‌سره موافقا للمصنف لا مخالفا له.

وملخص التوجيه : أنّه يحتمل أن يراد بالصيغة المخصوصة في كلام الفخر اشتمال الصيغة على العنوان المعبّر عن تلك المعاملة به في كلام الشارع بالنكاح أو الزوجية أو المتعة ، فلا بد من إنشاء عقد النكاح بلفظ النكاح ، والبيع بلفظ البيع ، وهكذا سائر العقود.

(٣) أي : المعبّر بذلك العنوان عن تلك المعاملة في كلام الشارع.

(٤) متفرع على لزوم اشتمال الصيغة على العناوين المعبّر عنها في لسان الشارع ، فإنّ «الهبة» ليست مما عبّر بها في لسانه عن النكاح ، ولذا لا يجوز إنشاء النكاح بها.

٣٦٤

بلفظ الهبة أو البيع أو الإجارة أو نحو ذلك (*). وهكذا الكلام في العقود المنشئة للمقاصد الأخر كالبيع والإجارة ونحوهما.

فخصوصية اللفظ من حيث (١) اعتبار اشتمالها على هذه العنوانات الدائرة في لسان الشارع أو ما (٢) يرادفها لغة أو عرفا ، لأنّها (٣) بهذه العنوانات موارد للأحكام الشرعية التي لا تحصى.

وعلى هذا (٤) فالضابط وجوب إيقاع العقد بإنشاء العناوين الدائرة في

______________________________________________________

(١) خبر «فخصوصية» يعني : أنّ خصوصية الصيغة ـ بنظر فخر المحققين ـ تكون لأجل اشتراط العقود والإيقاعات بخصوص هذه الألفاظ أو ما يرادفها.

(٢) معطوف على «العنوانات الدائرة». ولا يخفى أنّ تعميم العنوان للمرادف العرفي واللغوي مبني على توجيه المصنف لكلام الفخر ، وإلّا فعبارة الإيضاح صريحة في الاقتصار على القدر المتيقن ممّا ورد في الأدلة الشرعيّة.

(٣) يعني : لأنّ العقود بهذه العنوانات من البيع والصلح والنكاح وغيرها موضوعات لأحكام شرعيّة ، كموضوعية عنوان «البيع» لخياري المجلس والحيوان وغيرهما من الأحكام. فلا بدّ في تحققها من إنشائها بعناوينها حتى يترتب عليها أحكامها ، فلو أنشئت بغيرها كانت أصالة الفساد المحكّمة في المعاملات مقتضية لعدم ترتب أثر عليها.

(٤) أي : وبناء على كون خصوصية اللفظ لأجل اشتمالها على عناوين العقود فالضابط هو .. إلخ. ومحصّل ما أفاده : أنّ المناط في إنشاء المعاملات هو الألفاظ

__________________

(*) الحق صحة العقد بكل لفظ له ظهور عرفي في مضمونه وإن لم يكن بالألفاظ المعبّر بها عن ذلك المضمون في كلام الشارع ، ضرورة أنّ العمومات تشمله ، فلو شك في اعتبار لفظ خاص في صحة المعاملة فينفى بالعمومات ، فإنّ شمولها لما له ظهور عرفي من الألفاظ ليس بأدون من شمولها للأفعال التي ينشأ بها العقود.

٣٦٥

لسان الشارع (*) ، إذ لو وقع بإنشاء غيرها فإن كانت لا مع قصد تلك العناوين ـ كما لو لم تقصد المرأة إلّا هبة نفسها أو إجارة نفسها مدّة الاستمتاع ـ لم يترتب عليه الآثار المحمولة في الشريعة على الزوجية الدائمة أو المنقطعة.

______________________________________________________

الدائرة في لسان الشارع ، لا بمعنى الاقتصار على الصيغ المتيقنة كما ادّعاه فخر المحققين ، بل نقول بأعميتها منها ومما يرادفها لغة أو عرفا ، فإذا أنشأ البيع بقوله : «ملّكت» صح أيضا ، لاقترانه بذكر العوض ، ومن المعلوم أنّ «التمليك على وجه المقابلة بين المالين» هو البيع لا غير. والمفروض أنّ ذكر العوض يدلّ بالدلالة اللفظية الوضعية على ما يراد من «ملّكت» فلو لم تكن الصيغة بنفسها موضوعة للعنوان المنشأ ، ولم تنضم إليها قرينة لفظية دالّة على المراد لم يصح الإنشاء به.

وعلى هذا فإذا أنشأت المرأة الزوجية بقولها : «وهبت نفسي لك بكذا ، أو آجرتك نفسي أو سلّطتك على البضع بكذا» لم تترتب عليها آثار الزوجية الدائمة والمنقطعة سواء قصدت حصول العلقة بينها وبين الرجل أم لا. أمّا مع القصد فلعدم كون هذه الصيغ معهودة من الشارع في مقام إنشاء الزوجية ، بل المعهود منها في لسانه هو التزويج والنكاح والتمتع بالدوام لا التسليط والهبة وشبههما. فهذه كنايات عن التزويج ، لأنّ لازم تحقق الزوجية في وعاء الاعتبار هو سلطنة الزوج على البصع وحلية الاستمتاع ، ولا عبرة بالكناية كما تقدم.

وأمّا بدون القصد إلى الزوجية بأن كان مقصودها من «وهبت نفسي لك» إنشاء عقد الهبة حقيقة كان لغوا ، إذ لا معنى لأن تهب المرأة نفسها لرجل أجنبي.

__________________

(*) بل الضابط ما عرفته من اعتبار كون اللفظ المنشأ به العقد ظاهرا عرفا في مضمون العقد وإن لم يكن بتلك العنوانات الدائرة في لسان الشارع ، فإنّ المنشأ مفاهيم تلك العناوين بأي لفظ كان.

٣٦٦

وإن كانت بقصد (١) هذه العناوين دخلت في الكناية التي عرفت أن تجويزها رجوع إلى عدم اعتبار إفادة المقاصد بالأقوال (٢). فما ذكره الفخر (٣) مؤيّد لما ذكرناه (٤) واستفدناه من كلام والده (٥) قدس‌سرهما.

وإليه (٦) يشير أيضا ما عن جامع المقاصد من «أنّ العقود متلقّاة من

______________________________________________________

(١) يعني : وإن قصدت المرأة عنوان الزوجية الدائمية أو الانقطاعية دخلت صيغة «وهبت نفسي» في الكناية ، التي تقدم أنّ تجويز إنشاء العقود بها رجوع إلى جواز إنشاء مضامين العقود بغير الأقوال الخاصّة.

(٢) بناء على أنّ دلالة الكناية على المراد عقلية وإن كان الانتقال من اللازم إلى الملزوم بسبب اللفظ الموضوع للّازم.

(٣) من اعتبار صيغة مخصوصة من الشارع لكلّ عقد لازم.

(٤) من اعتبار كون الدلالة مستندة إلى الحقيقة سواء أكانت هي التي أنشئ بها العقد أم كانت هي قرينة اللفظ الذي أنشئ به.

وإلى هنا أخرج المصنف فخر المحققين من المخالفين لمختاره ، وأدرجه في الموافقين له. ويستمدّ المصنف من كلمات الشهيد والمحقق الثانيين والفاضل المقداد لتقوية مرامه.

(٥) حيث قال : «لأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب».

(٦) أي : وإلى ما ذكره من الضابط المزبور ـ وهو وجوب إيقاع العقد بإنشاء العناوين الدائرة في لسان الشارع .. إلخ. فإنّ قول جامع المقاصد : «لأنّ العقود متلقّاة من الشارع ، فلا ينعقد عقد بلفظ عقد آخر ليس من جنسه» (١) عبارة أخرى لكلام المصنف قدس‌سره ، إذ المراد باللّفظ الآخر الذي ليس من جنس العقد هي الألفاظ المغايرة للعناوين الدائرة على لسان الشارع ، كمغايرة «هبة النفس» للزوجية ، ومغايرة «الكتابة والخلع» للبيع ، وهكذا.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ٨٣

٣٦٧

الشارع ، فلا ينعقد عقد بلفظ آخر ليس من جنسه» (*). وما (١) عن المسالك من «أنّه يجب الاقتصار في العقود اللّازمة على الألفاظ المنقولة شرعا المعهودة لغة» (١).

ومراده بالمنقولة شرعا هي المأثورة (٢) في كلام الشارع.

______________________________________________________

(١) معطوف على «ما» في قوله : «ما عن جامع المقاصد» يعني : ويشير إلى ما ذكرناه كلام المسالك في إنشاء عقد الإجارة من وجوب الاقتصار في العقود اللّازمة على الألفاظ المنقولة شرعا المعهودة لغة.

(٢) يعني : لا ما يتبادر منها من النقل عن معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية ، إذ لا يراد هذا المعنى من المنقول هنا ، لوضوح أنّها في كلام الشارع ـ كلفظ البيع والصلح والنكاح وغيرها ـ مستعملة في معانيها الأوّلية من دون نقل لها إلى معان أخر.

__________________

(*) يحتمل قريبا أن يراد بعدم كون اللفظ الآخر من جنسه الألفاظ المجازية المستبشعة ، حيث إنّها لا تصلح لأن تكون آلة لإنشاء مضمون العقد الذي أراده المتعاقدان حيث لا يكون ما ينشأ بها منشأ لانتزاع تلك العناوين في نظر العرف ، لعدم كونها آلة لإنشائها ، ومن المعلوم أنّه لا يصح التمسك حينئذ لصحّتها ونفوذها بالعمومات ، لأنّها منزّلة على العناوين العرفية. وأمّا ما لا يكون ملغى في نظر العرف فيتعيّن البناء على صحة الإنشاء به ، من غير فرق بين الحقيقة والمجاز والمشترك اللفظي والمعنوي ، عملا بالعمومات أو الإطلاقات المقتضية للصحة والنفوذ من غير مخصّص أو مقيّد ، إذ لا منشأ لتوهم التخصيص أو التقييد إلّا توهم دعوى الإجماع على اعتبار لفظ خاص.

لكنّها ممنوعة جدّا ، والكلمات المتقدمة أقوى شاهد على المنع. ومع الغضّ عن شهادتها بعدم الإجماع فلا أقل من عدم ثبوته ، الموجب لمرجعية القواعد العامّة المقتضية للصحة.

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٧٢ ، وعبارة المتن منقولة بالمعنى. وقريب منه كلامه في عقد النكاح ، ج ٧ ، ص ٨٨

٣٦٨

وعن كنز العرفان في باب النكاح «أنّه حكم شرعي حادث ، فلا بدّ له من دليل يدلّ على حصوله ، وهو العقد اللفظي المتلقّى من النص (١) (١) ثمّ ذكر لإيجاب (٢) النكاح ألفاظا ثلاثة ، وعلّلها بورودها في القرآن (*).

______________________________________________________

والشاهد على إرادة المأثور عن الشارع من كلمة «المنقولة» هو كلام الشهيد الثاني في إنشاء الإجارة ب «أكريتك» حيث قال : «فهي من الألفاظ المستعملة أيضا ـ يعني مثل آجرتك ـ لغة وشرعا في الإجارة ، يقال : أكريت الدار فهي مكراة .. إلخ» (٢).

(١) فبدون التلقّي من الشارع تقتضي أصالة الفساد عدم تأثير الإنشاء في العنوان المقصود وهو الزوجية.

(٢) يعني : ذكر الفاضل المقداد لإيجاب النكاح .. إلخ.

__________________

(*) مجرّد الورود في مقام الحكاية عن مفاهيمها تشريعا أو إخبارا ـ كقوله تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٣) ، وقوله تعالى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) (٤) ، وقوله تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) (٥) إلى غير ذلك من الآيات والروايات المتضمنة لألفاظ العقود ـ لا يصلح لتقييد أو تخصيص الإطلاقات أو العمومات ، بعد صدق عناوينها بإنشائها بألفاظ أخر تدلّ عليها دلالة عرفيّة ، فإنّه مع هذا الصدق تشملها أدلة الصحة والنفوذ ، لعدم صلاحيّة مجرّد ورود تلك الألفاظ لتقييد الإطلاقات أو تخصيص العمومات بعد صدق تلك العناوين عرفا بغير ألفاظها ، كإنشاء

__________________

(١) : كنز العرفان للفاضل المقداد ، ج ٢ ، ص ١٤٦

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٧٢

(٣) الطور ، الآية : ٢٠

(٤) القصص ، الآية : ٢٧

(٥) النور ، الآية : ٣٢

٣٦٩

ولا يخفى أنّ تعليله هذا (١) كالصريح فيما ذكرناه من تفسير توقيفية العقود ، وأنّها متلقّاة من الشارع ، ووجوب الاقتصار على المتيقن (٢) (*).

ومن هذا الضابط (**) تقدر على تمييز الصريح (٣) المنقول شرعا المعهود لغة من الألفاظ المتقدمة في أبواب العقود المذكورة من غيره. وأنّ الإجارة بلفظ العارية غير جائزة (***) ، وبلفظ بيع المنفعة أو السكنى مثلا لا يبعد جوازه ،

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ تعليل الفاضل المقداد قدس‌سره ـ لإيجاب النكاح بخصوص ألفاظ ثلاثة ـ بالورود في القرآن الكريم يكون كالصريح فيما ذكرناه .. إلخ.

(٢) المراد بالمتيقّن هو ما دار وتداول في لسان الشارع ، لا المتيقن بحسب الصراحة والظهور لغة.

(٣) المراد بالصريح في نظر المصنف قدس‌سره هو وضوح الدلالة بنفسه أو بضميمة قرينة لفظية تدلّ بالوضع على إرادة المقصود من ذي القرينة. وقد تقدّم هذا بقوله : «إذ لا يعقل الفرق في الوضوح الذي هو مناط الصراحة .. إلخ» راجع (ص ٣٥٩).

__________________

البيع بلفظ «ملّكت» أو «نقلت في ملكك بكذا» ونحو ذلك ممّا له ظهور عرفي في إنشاء البيع.

(*) لا وجه للاقتصار على المتيقّن بعد اقتضاء الأصل اللفظي ـ وهو أصالة العموم ـ عدم الاقتصار على بعض الألفاظ ، وجعل المدار على كل لفظ له ظهور عرفي في إنشاء تلك العناوين الموجب لاندراجها تحت العمومات الدالة على الصحة.

(**) قد عرفت ما هو الضابط ، وأنّه ظهور كل لفظ في إنشاء العناوين.

(***) وجه عدم الجواز عدم ظهور لفظ العارية عرفا في مفهوم الإجارة ، لا كونه خارجا عن الألفاظ المنقولة شرعا.

٣٧٠

وهكذا (١) (*).

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ لسائر العقود ألفاظا مأثورة عن الشارع أيضا ، لكن بعضها يدلّ على العنوان الاعتباري بنفسه ، وبعضها يدلّ عليه بمعونة قرينة ، كدلالة «تصدّقت» على الوقف بمعونة قوله : «لا تباع ولا توهب ولا تورث أبدا» ولا مانع من الإنشاء بكلا القسمين.

هذا تمام الكلام في البحث الكبروي ، وهو أصل اعتبار الصراحة والظهور الوضعي في موادّ ألفاظ العقود ، وسيأتي الكلام في صغريات هذا البحث إن شاء الله تعالى.

__________________

(*) التحقيق في مواد صيغ العقود : أنّ موضوع الحكم في المعاملات سواء أكانت بيعا أم غيره هو المعاملات المسببية ، لأنّها بالحمل الشائع عقد وتجارة وصلح وهبة وغيرها ممّا أخذ عرفا وشرعا موضوعا لأحكام.

وهذا المعنى المسبّبي قد ينشأ بالهيئة التي تؤخذ من المواد الصادقة عليها عناوين المعاملات بالحمل الأوّلي ، نظير : بعت وآجرت وصالحت.

وقد ينشأ ما يكون بالحمل الشائع أحد العناوين المزبورة من البيع وغيره بغير ما ذكر من الألفاظ المأخوذة من المواد الصادقة عليها عناوين المعاملات ، كإنشاء البيع بلفظ «ملّكت» والإجارة بلفظ «سلّطت» وهكذا.

وقد ينشأ بالكنايات والمجازات ، أو بالأفعال والكتابات أحيانا ، إلى غير ذلك.

ولا إشكال في أنّ موضوع وجوب الوفاء عند العقلاء هو المعنى المسبّبي ، فمعنى العقود في قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هي المعاهدات الواقعيّة والنقل الواقعي ، من دون نظر إلى آلات إنشائها وإيجادها ، فالتمليك الواقعي مع العوض هو العقد والتجارة الموضوعان لوجوب الوفاء ، لا ما هو متحقق بعنوان البيع السّببي كلفظ «بعت» فلا وجه لما قيل من لزوم أخذ عناوين المعاملات كالبيع والصلح ونحوهما في الصيغة التي ينشأ بها المسبّبات.

٣٧١

.................................................................................................

__________________

كما لا وجه لتوهم كون موضوع الأدلة الشرعية كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصلح جائز بين المسلمين» (١) هو نفس هذه العناوين بما هي عناوين بالحمل الأوّلى ، إذ الموضوع هي العناوين بالحمل الشائع ، سواء أكانت آلة الإنشاء ألفاظا مشتملة على تلك العناوين كبعت في البيع و «هبت» في الهبة ونحوهما ، أم لا ، فإنّ الجمود على اعتبار إنشائها بالألفاظ الحاوية لموادّ تلك العناوين يقتضي اعتبار إنشاء العقد بلفظ «عاقدت» وإيجاد البيع بخصوص لفظ «بعت» وإنشاء التجارة بلفظ الاتجار. مع أنّه لم يحتمل أحد ذلك.

وهذا يدلّ على عدم اعتبار إنشاء المسبّبات بخصوص ألفاظ عناوينها الأوّلية. فكلّ معاقدة تحقّقت بأيّ سبب عقلائي ـ من لفظ أو فعل أو كتابة أو كناية بحيث يصدق عليها بالحمل الشائع أحد العناوين من البيع والصلح والهبة وغيرها ـ كان موضوعا للأدلة الشرعية ، ولوجوب الوفاء بها. فاللازم بيان الألفاظ التي ينشأ بها تلك العناوين المسبّبيّة ، فنقول :

إنّ تلك الألفاظ مأخوذة تارة من المواد التي تصدق عليها عناوين المعاملات كبعت في إنشاء البيع. وأخرى من ألفاظ الكنايات. وثالثة من ألفاظ مجازية. ورابعة من ألفاظ مشتركة بالاشتراك اللفظي. وخامسة من ألفاظ مشتركة بالاشتراك المعنوي. فهنا أبحاث خمسة :

الأوّل : في الألفاظ المأخوذة من المواد الصادقة عليها عناوين المعاملات. ولا ينبغي الإشكال في صحة الإنشاء بها على جميع الأقوال. وقد تقدّم عن المصنف قدس‌سره نفي الخلاف فيه فتوى ونصّا.

البحث الثاني : في إنشاء العقود بالكنايات. وقد منع عن الإنشاء بها المحقّق النائيني قدس‌سره على ما في تقرير بحثه الشريف.

ومحصّل ما أفاده أمور :

__________________

(١) : وسائل الشيعة ج ١٣ ، ص ١٦٤ ، الباب ٣ من كتاب الصلح ، الحديث : ٢

٣٧٢

.................................................................................................

__________________

أحدها : الفرق بين الحكايات والإيجاديات ، بتأدّي الأولى بكلّ لفظ غير خارج عن أسلوب المحاورة ولو مجازا أو كناية ، وعدم تأدّي الثانية كذلك ، بل بما هو آلة لإيجادها ومصداق لعنوانها ، فلا يكون إيجاد اللّازم أو الملازم إيجادا للملزوم أو الملازم الآخر.

ثانيها : أنّ الكناية ليست من المجاز ، لكون الألفاظ فيها مستعملة في معانيها الموضوع لها ، غاية الأمر أنّ استعمال الألفاظ في معانيها الحقيقية يكون بداعي الانتقال منها إلى ملزومها أو لازمها.

ثالثها : أنّ الأغراض الداعية إلى استعمال الألفاظ خارجة عن حيّز العقود والإيقاعات ، لعدم كون الألفاظ مستعملة في معانيها الموضوعة لها ، ومع عدم الاستعمال فيها لا تصلح تلك الألفاظ لإنشاء العقود بها.

رابعها : انصراف أدلة العقود عن العقود المنشئة بتبعية إيجاد لوازمها ، لكمال ضعف هذا النحو من الإيجاد بحيث تنصرف أدلة العقود عنها ، ومع الشكّ في دخولها تحت العموم ، فالأصل عدم ترتب الأثر عليها (١) ، هذا.

أقول : ما أفاده قدس‌سره لا يخلو من التأمل والغموض ، إذ لا فرق في جواز استعمال الكنايات بين الإخبار والإنشاء. توضيحه : أنّ الألفاظ في باب الكنايات لا تستعمل إلّا في معانيها الحقيقيّة للدلالة على المعنى المكنيّ عنه ، فالأخبار في باب الكناية إخبار حقيقة عن المكنيّ عنه ، لا عن المعنى المستعمل فيه الذي هو الموضوع له ، فقوله : «زيد كثير الرّماد» مثلا ليس إخبارا عن كثرة الرّماد حقيقة ، بل هو إخبار عن جوده.

والشاهد على ذلك أنّ مناط الصدق والكذب عند أبناء المحاورة في مثل «زيد كثير الرماد» هو مطابقة المعنى المكنيّ عنه للواقع وعدمها ، لا مطابقة المعاني الموضوعة لها للواقع وعدمها ، فلو لم يكن لزيد كثرة الرماد ولا الرّماد أصلا ، ولكن كان جوادا

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٠٥

٣٧٣

.................................................................................................

__________________

كان الإخبار صدقا ، لأنّ الأخبار ليس عن ذلك ، بل عن جوده الموجود بالفرض.

فلو كان المعنى المكنيّ عنه من قبيل الدواعي وكان الإخبار عن كثرة الرماد حقيقة لكان الصدق والكذب تابعين للمخبر به ، وهو كثرة الرّماد وعدمها. مع أنّه ليس كذلك عند أبناء المحاورة ، إذ مناط الصدق عندهم في هذا الكلام هو كون زيد جوادا ، لا ذا كثرة الرّماد حقيقة. فالمعاني التي وضعت لها الألفاظ في باب الكنايات مرادة بالإرادة الاستعمالية دون الإرادة الجدّية ، فإنّ المراد بهذه الإرادة هو المعنى المكنيّ عنه.

هذا حال الأخبار بالكناية. وكذا الحال في الإنشاء بها ، فقوله : «خذ هذا الكتاب وأعطني درهما عوضه» إنشاء بيع كناية ، لأنّ الكناية ليست إنشاء للازم أو إخبارا به حتى يكون الملزوم مرادا بنحو الداعي ، بل المخبر به والمنشأ هو نفس الملزوم بالاستعمال الصوري في المعاني الإفرادية ، فهذا الاستعمال آلة للإخبار والإنشاء.

ومن هنا يظهر الفرق بين المعاني الكنائية والمعاني الالتزامية ، ضرورة أنّه في الدلالة الالتزاميّة يقع الأخبار حقيقة عن الملزوم ، ثم يدلّ المعنى المطابقي ـ وهو الملزوم ـ على اللازم ، فالدالّ على المعنى الالتزامي هو المعنى المطابقي ، فهو من باب دلالة المعنى على المعنى ، فقوله : «طلعت الشمس» ليس إلّا إخبارا عن طلوعها الذي هو يدلّ على وجود النهار ، ومن المعلوم أنّه من دلالة المعنى على المعنى ، لا من دلالة اللفظ على المعنى.

فالمتحصل : أنّه لا مانع عن إنشاء المعاملة المسببية بالكنايات.

نعم يعتبر في الإنشاء بها أن يكون المعنى المنشأ المكني عنه من لوازم أو ملزومات المعاني الموضوع لها التي تستعمل فيها الألفاظ استعمالا صوريّا ، بحيث تكون تلك الألفاظ المستعملة في معانيها آلة لإيجاد المعنى المكنيّ عنه بحسب المحاورات العرفية. وليس هذا شأن كل لازم وملزوم ، مثلا قوله : «خذ هذا المتاع وأعطني درهما عوضه» يكون آلة عند أبناء المحاورة لإيجاد البيع ، بخلاف قوله : «أنت

٣٧٤

.................................................................................................

__________________

مسلّط على هذا المال بدينار» فإنّ مجرّد التسليط ليس لازما للبيع بحيث يكون آلة لإنشاء البيع ، إذ يمكن أن يكون التسليط على العين بإزاء مال إجارتها ، فليس التسليط لازما مساويا للبيع حتى يكون إنشاء له.

ومن هنا يمكن التفصيل بين الكنايات في جواز إنشاء البيع مثلا بها بين اللوازم والملزومات ، بأن يقال : إنّ اللّازم إن كان مساويا للملزوم صحّ إنشاء البيع مثلا به ، وإلّا فلا.

وكذا الحال في الإخبار ، فإنّه يصحّ الإخبار عن جود زيد بأنّه صاحب المضيف ، لأنّ هذه الجملة إخبار عرفا عن جوده وكثرة ضيوفه ، لكون وجود المضيف لازما عرفا للجود ، فيصحّ الإخبار عنه بكونه صاحب المضيف. وفي مثل هذا اللّازم والملزوم يصح الإخبار عن المعنى المقصود بالكناية. وكذا في الإنشاء ، فيصح أن يقال : «عفّر الإناء بالتراب» كناية عن ولوغ الكلب فيه ، بعد تسلّم كون الولوغ ممتازا عن غيره من سائر النجاسات بالتعفير.

ويمكن التصالح بما ذكرناه من التفصيل بين اللوازم بين المحقق النائيني قدس‌سره المانع عن إنشاء العقود بالكنايات وبين غيره ممّن أصرّ على جواز إنشائها بالكنايات ، فيقال : إنّ مقصود الميرزا قدس‌سره من المنع هو الكنايات التي لا تكون المعاني المكنّي عنها ظاهرة من الجمل الكنائية ظهورا عرفيا ، ومقصود غيره هو ما إذا كانت الجمل الكنائية ظاهرة عرفا في المعاني المكنيّ عنها.

وبالجملة : بعد منع توقيفية ألفاظ العقود والإيقاعات إلّا ما خرج لا بدّ من الالتزام بإنشاء كلّ عقد وإيقاع بكلّ لفظ له ظهور عرفي في ذلك ، سواء أكان ذلك اللفظ مشتقا من المصدر الذي يكون اسما لذلك العقد أو الإيقاع أم غيره.

ودعوى : انصراف أدلّة النفوذ عن العقود المنشئة بالكنايات كما ترى ، إذ بعد فرض ظهور الكناية في إنشاء اللّازم بذكر الملزوم أو بالعكس لا وجه للانصراف ، بعد شيوع الإنشاء كذلك ، وعدم خروج مثل هذا الإنشاء عن الأسباب المتعارفة ، مع أنّ الانصراف الناشئ عن ذلك مما لا يعتنى به ، كما ثبت في محله ، هذا.

٣٧٥

.................................................................................................

__________________

البحث الثالث : في إنشاء العقود بالمجازات. وعن شيخ مشايخنا المحقق النائيني على ما قرّره عنه شيخنا الفقيه الخوانساري قدس‌سرهما التفصيل بين المجاز المشهور وعدمه.

ومحصّل ما أفاده عبارة عن مقدمة وأمرين.

أمّا المقدمة فهي : أنّ البيع وغيره من عناوين العقود والإيقاعات عنوان بسيط غير مركّب من الجنس والفصل ، فيمتنع إيجاده تدريجا ، فالتمليك البيعي والقرضي ونحوهما من الهبة والإجارة ليس جنسا ، والبيعيّة والقرضية ونحوهما فصلا ، فالتمليك في الجميع واحد ، والاختلاف بينها كالاختلاف بين أفراد البيع ، يعني : أنّ الاختلاف بين التمليك البيعي وغيره يكون من قبيل اختلاف أفراد البيع في الخصوصيات والمشخّصات الفردية.

وأمّا الأمران اللذان رتّبهما على هذه المقدمة وجعلهما نتيجة لها

فأحدهما : أنّ المجاز غير المشهور لمّا احتاج إلى قرينة صارفة فلا يمكن إنشاء العقد به ، للزوم التناقض بين معناه الحقيقي المدلول عليه بالدلالة التصورية ، وبين معناه المجازي المدلول عليه بالدلالة التصديقية ، فإذا قال في مقام إنشاء الإجارة : «بعتك منفعة الدّكان الفلاني بكذا في مدّة كذا» لا يقع إجارة ، لأنّ قوله : «بعتك» يدلّ على تمليك العين ، وقوله : «منفعة الدكان» يدلّ على تمليك المنفعة لا العين ، وهما متناقضان ، ولذا قال المشهور بعدم إفادة قوله : «بعتك بلا ثمن ، وآجرتك بلا أجرة» للهبة الصحيحة والعارية مع الاحتفاف بالقرينة الصارفة ، وليس ذلك إلّا لأجل التناقض المزبور.

وثانيهما : عدم جواز إنشاء العقود ببعض المشتركات اللفظيّة والمعنوية ، للزوم إيجاد البسيط بالتدريج ، هذا (١).

وأنت خبير بما فيه.

أمّا في المقدمة فلما فيها من عدم البساطة ، وأن البيع مركّب من جنس اعتباري وهو التمليك وفصل اعتباري وهو كونه مع العوض ، فاختلاف البيع مع القرض والهبة

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ١٠٦

٣٧٦

.................................................................................................

__________________

اختلاف نوعي ، فإنّ مفهوم البيع والقرض والهبة عرفا هو التمليك الجنسي المتفصّل بالفصول المتقدمة ، فاختلافها نوعي لا فردي.

فالحق أنّ ماهيّات العقود مركّبات اعتبارية وليست بسائط. نعم تحقّق الأمر الاعتباري العقلائي منوط بتماميّة أجزاء العقد ، فذلك الاعتبار عند العقلاء دفعي الوجود لا تدريجي الوجود. وهذا شي‌ء آخر لا ربط له بماهيّة العقد المركّب من جنس وفصل اعتباريّين ، فمتى تحقّق إنشاء الموجب الملكيّة بالعوض بدالّين والقبول من القابل اعتبر العقلاء عقيبهما انتقال المبيع إلى المشتري والثمن إلى البائع دفعة لا تدريجا ، فكلّ من الإنشاء والمنشأ تدريجي التحقق بتعدّد الدال والمدلول ، واعتبار النقل بالحمل الشائع دفعي بعد تحقق الإنشاء إيجابا وقبولا ، هذا.

وأمّا الأمران اللذان جعلهما نتيجة للمقدمة المزبورة ففيهما : أنّه لا فرق في إنشاء الماهية بين إنشائها بالحقائق ، وبين إنشائها بالمشتركات اللفظية والمعنوية والمجازات ، فإنّ الكلّ في الإنشاء والاحتياج إلى تعدد الدال والمدلول على حدّ سواء.

وتخيّل التناقض بين ما يوجد بحسب الدلالة التصورية وبحسب الدلالة التصديقية ـ يعني بين المعنى الحقيقي التصوري والمجازي التصديقي ـ في غاية الغموض ، لأنّه إن أريد لزوم التناقض بحسب الواقع ، ففيه منع واضح ، إذ المفروض أنّه لم ينشأ إلّا المعنى المجازي ، وإنّما جعل اللفظ الموضوع للمعنى الحقيقي الذي استعمل فيه آلة لإيجاد المعنى المجازي ، فلا تناقض بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي الذي هو المراد الجدّي.

وإن أريد لزومه بنظر غير المتبايعين ، ففيه : أيضا ما لا يخفى ، لأنّ ظهور الكلام في معناه ـ المتحصل من مجموع القرينة وذيها ـ منوط بتمامية أجزاء الكلام ، فقبل تماميّتها لا ينعقد ظهور في المراد ، وبعد تماميّتها يكون ظاهرا في المعنى المجازي فقط.

ومما ذكرنا ظهر حال البحث الرابع ، وهو إنشاء العقود بالألفاظ المشتركة اللفظية ، والبحث الخامس وهو إنشاء العقود بالألفاظ المشتركة المعنوية ، وأنّه لا مانع من الإنشاء

٣٧٧

إذا عرفت هذا (١) فلنذكر ألفاظ الإيجاب والقبول.

منها (٢) : لفظ «بعت» في الإيجاب ، ولا خلاف فيه فتوى ونصّا. وهو

______________________________________________________

المبحث الثاني : ألفاظ الإيجاب والقبول

أ : لفاظ الإيجاب

(١) أي : ما تقدم من الضابط في صيغ العقود ، وهي شرطية دلالة الصيغة وضعا بنفسها أو بمعونة القرينة اللفظية الدالة على المراد بالوضع. وقد عقد المصنف قدس‌سره هذا المبحث ـ المتعلق بمواد ألفاظ العقود ـ لبيان الألفاظ التي ينشأ بها الإيجاب والقبول ، وقدّم الكلام في ألفاظ الإيجاب ، والمذكور منها في المتن أربعة.

(٢) أي : من ألفاظ الإيجاب والقبول ، وهذا أوّل صيغ البيع.

__________________

بها بعد كون الإنشاء بها بتعدّد الدال والمدلول.

ودعوى «انصراف الإطلاقات كما في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره عن كل لفظ مجازيّ أو مشترك لفظي أو معنوي أفاد معنى البيع ولو بالقرينة ، لقرب احتمال انصرافها إلى المتعارف» غير مسموعة ، لما ثبت في محله من عدم صلاحية التعارف للانصراف المعتدّ به.

فالمتحصّل من جميع ما ذكر : أنّه لا مانع من إنشاء العقود والإيقاعات بكلّ لفظ يكون ظاهرا عرفا في ذلك ، من غير فرق بين الكنايات والمجازات بأقسامها ، والألفاظ المشتركة اللفظية والمعنوية ، لما عرفت من أنّ الأحكام تتعلّق بحقائق المسبّبات من غير أن تتقيّد بتحققها بسبب خاص ، مثلا وجوب الوفاء تعلق بالعقد الواقع بين المتعاقدين ، وهو من مقولة المعنى ، ولا دخل للألفاظ فيها إلّا دخالة الإيجاد. كما أنّ المناسبة بين الحكم والموضوع تقتضي كون موضوع وجوب الوفاء هو العقد بما هو قرار محترم ، لا بما هو موجد باللّفظ الكذائي كما لا يخفى.

٣٧٨

وإن كان من الأضداد (١) بالنسبة إلى البيع والشراء ،

______________________________________________________

ولا خلاف في صحة إنشاء الإيجاب به ، بل اقتصر بعضهم عليه كما هو ظاهر ابن إدريس (١).

وقد يقال : إنّه يفهم من عبارة الغنية حصر الإيجاب في «بعت» والقبول في «اشتريت وقبلت» وعليه فيكون الحصر معقد الإجماع الذي ادّعاه فيها. لكنه ليس كذلك ، لعدم ظهور عبارته في الحصر المدّعى ، حيث قال في الغنية : «واعتبرنا حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري تحرّزا عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري والإيجاب من البائع ، وهو أن يقول : بعينه بألف ، فيقول : بعتك ، فإنّه لا ينعقد بذلك ، بل لا بدّ أن يقول المشتري بعد ذلك : اشتريت أو قبلت حتى ينعقد .. إلى أن قال : يدلّ على ما قلناه الإجماع المشار إليه. وأيضا فما اعتبرناه مجمع على صحة العقد به ، وليس على صحته بما عداه دليل» (٢).

والظاهر أنّ منشأ فهم الحصر هو الفقرة الأخيرة ، بتخيّل أنّ قوله : «فما اعتبرناه» إشارة إلى «بعتك» من البائع و «اشتريت أو قبلت» من المشتري.

لكنّك خبير بأنّ قوله : «فما اعتبرناه» إشارة إلى ما سبق في أوّل الكلام من اعتبار حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري ، لا خصوص لفظ «بعتك» فلاحظ.

(١) قال في المصباح : «باعه يبيعه بيعا ومبيعا فهو بائع وبيّع ، وأباعه بالألف لغة ، قاله ابن القطاع. والبيع من الأضداد مثل الشراء. ويطلق على كل واحد من المتعاقدين : أنّه بائع. ولكن إذا أطلق البائع فالمتبادر إلى الذهن باذل السّلعة» (٣).

وعن شرح القاموس : التصريح بكونه من الأضداد. بل عن مصابيح العلّامة الطباطبائي قدس‌سره : «نفي الخلاف عن وضعه للمعنيين ، فيثبت أنّه مشترك لفظا

__________________

(١) : السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٢٥٠

(٢) غنية النزوع في الأصول والفروع (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٥٢٤.

(٣) المصباح المنير ، ص ٦٩

٣٧٩

لكن كثرة استعماله (١) في وقوع البيع به تعيّنه.

ومنها (٢) : لفظ «شريت» لوضعه له ، كما يظهر من المحكيّ عن بعض أهل

______________________________________________________

بينهما» (١) (*).

(١) لمّا كان «البيع» مشتركا لفظيا بين إنشاء الموجب والقابل توقّف جواز الإيجاب به على قيام قرينة معيّنة لأحد المعنيين ، وقد أشار المصنف إلى قرينية كثرة استعمال «بعت» في الإيجاب ، فيتعيّن له ، دون القبول.

ويؤيّده ما في المصباح من أنه إذا أطلق «البائع» تبادر إلى الذّهن باذل السلعة. ويستفاد من كلامه مسألة أصولية ، وهي : أنّ اشتهار المشترك في أحد معنييه يصير قرينة على تعيّنه (**).

(٢) أي : ومن ألفاظ الإيجاب والقبول لفظ «شريت» وهذا ثاني ألفاظ

__________________

(*) فما أفاده السيد بقوله : «يمكن أن يقال : إنّه مشترك معنوي بين البيع والشراء .. فيكون بمعنى التمليك بالعوض أعم من الصّريح كما في البيع ، أو الضمني كما في الشراء» (٢). لا يخلو من غموض.

إذ فيه أوّلا : ما عرفته من أنّه من الأضداد.

وثانيا : أنّ التمليك الضمني خارج عن حدود البيع ، كما تقدّم في تعريفه.

لكن هذا الاشكال المذكور في تقريرات سيدنا الخويي قدس‌سره (٣) لا يخلو من غموض ، لأنّ طبيعة التمليك بالعوض تنطبق على فرديها ، وهما التمليك الأصلي المسمّى بالبيع ، والتمليك الضمني المسمّى بالشراء على نسق واحد ، ويتميّز أحد الفردين عن الآخر في مقام الإنشاء بالقرائن كجامع الطلب بالنسبة إلى الوجوب والندب.

(**) لكن خالف فيه المحقق القميّ قدس‌سره ـ في البحث عن حال الفرد المحلّى ـ لوجهين :

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٤

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٨٧

(٣) مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٢٠

٣٨٠