هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

اللّزوم (١) ، لما عرفت من الوجوه الثمانية (٢) المتقدمة.

وأمّا على القول بالإباحة فالأصل (٣) (*) عدم اللزوم ، لقاعدة تسلّط

______________________________________________________

إلّا إذا دلّ دليل خاص على جواز الملك ، فلولاه يبنى على اللزوم الذي اقتضته الأدلة الاجتهادية والأصل العملي.

وبناء على تأثير المعاطاة في الإباحة ينعكس الأمر ، لأنّ الدليل على مشروعيتها قاعدة السلطنة ، ومن المعلوم اقتضاؤها تسلط المالك المبيح على الرجوع عن إباحته ، فله استرداد ماله من المباح له. ولو فرض الشك في إطلاق سلطنة المالك أمكن التمسك باستصحاب سلطنته الثابتة له قبل أن يبيح ماله للمتعاطي الآخر ، ومن المعلوم حكومة هذا الاستصحاب على استصحاب بقاء الإباحة لو تمسّك به المباح له :

وجه الحكومة تسبّب الشك شرعا ـ في بقاء الإباحة للمباح له ـ عن الشك في انقطاع سلطنة المالك المبيح وبقائها ، فلو فرض بقاء سلطنته كان له استرداد ماله قطعا ، ويرتفع الشك تعبّدا في بقاء الإباحة ، هذا.

(١) المراد بأصالة اللّزوم هنا ما يعمّ الأصل اللفظيّ والعمليّ ، بقرينة مستنده الشامل لكلّ من الدليل والأصل كالاستصحاب.

(٢) وهي الاستصحاب ، و «الناس مسلّطون على أموالهم» ، و «لا يحلّ مال امرء إلّا عن طيب نفسه» ، والاستثناء في قوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) والجملة المستثنى منها في هذه الآية ، وما دلّ على لزوم خصوص البيع مثل قوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» ، وقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المؤمنون عند شروطهم» وقد تقدم سابقا أنّ الأقوى كون المعاطاة مفيدة للملك فيما إذا كان المتعاطيان قاصدين له.

(٣) أي : قاعدة السلطنة تقتضي جواز الرجوع عن الإباحة.

__________________

(*) لا يخفى أنّه قد ادّعى بعض كالمحقق النائيني قدس‌سره التنافي بين أصالة عدم اللزوم هنا وبين ما اختاره المصنف قدس‌سره. في الأمر الرابع من «أنّ الأقوى في الإباحة مع العوض هو اللزوم» تقريب المنافاة : أن الوجه في اللزوم مشترك بينهما ، فلا بدّ من كون

١٨١

الناس على أموالهم ، وأصالة (١) سلطنة المالك الثابتة قبل المعاطاة ، وهي

______________________________________________________

(١) هذا وجه آخر لعدم اللزوم ، وحاصله : «أنّ الأصل العملي ـ فضلا عن الدليل الاجتهادي ـ يقتضي الجواز أيضا ، إذ لا مانع من استصحاب سلطنة المالك الثابتة قبل المعاطاة ، حيث إنّه من موارد الشك في رافعية الموجود الذي يكون الاستصحاب فيه حجة قطعا.

__________________

الأصل اللزوم في الإباحة مطلقا.

قال المقرر قدس‌سره : «ووجه اللزوم مطلقا كفاية عموم ـ المؤمنون عند شروطهم ـ لإثبات اللزوم ، فإنّ العقود التسليطية لو خلّيت وطبعها دائرة مدار بقاء التسليط ، إلّا فيما إذا اشترط اللزوم في ضمن عقد لازم أو التزم وتعهّد به ابتداء» (١).

لكنك خبير بعدم المنافاة ، ضرورة أنّ الإباحة ـ في التنبيه الرابع ـ مقصودة لأحد المتعاطيين أو لكليهما. بخلاف المقام ، فإنّهما قاصدان للملك وإن لم يمض الشارع ما قصداه وحكم فيها بالإباحة ، فيجري هناك دليل الشرط ووجوب الوفاء بالعقود ، دون دليل السلطنة ، فضلا عن استصحابها ، لحكومة دليلي الشرط والوفاء عليه. بخلاف المقام ، فإنّ دليلي الشرط والوفاء بالعقد لا يجريان هنا ، لأنّ ما التزما به من الملك لم يتحقق ولم يمضه الشارع ، وما تحقّق ـ وهو الإباحة ـ ممّا لم يلتزما به. فلا منافاة بين ما أفاده في الأمر الرابع من اللزوم وما أفاده هنا.

لا يقال : إنّه لا مانع من كون الإباحة لازمة وإن كانت شرعية ، لإطلاق دليل الإباحة.

فإنّه يقال : إنّ الدليل على الإباحة الشرعية ـ وهو الإجماع ـ لا إطلاق له ، فلا بد من الأخذ بالمتيقن منه ، وهو صورة عدم رجوع المالك عن الإباحة ، بل قد تقدّم سابقا عدم إجماع تعبّدي على الإباحة ، فلاحظ.

__________________

(١) : منية الطالب ، ج ١ ، ص ٨٢

١٨٢

حاكمة (١) على أصالة بقاء الإباحة الثابتة قبل رجوع المالك لو سلّم (٢) جريانها.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ (٣) تلف العوضين ملزم إجماعا على الظاهر المصرّح به (٤) في بعض العبائر (٥).

______________________________________________________

(١) حاصله : أنّ استصحاب سلطنة المالك قبل المعاطاة ـ المقتضية لارتفاع الإباحة ـ حاكم على استصحاب الإباحة قبل رجوع المالك.

تقريب الحكومة : أنّ الشك في بقاء الإباحة وارتفاعها ناش عن الشك في بقاء سلطنة المالك على ماله المباح وارتفاعها ، ومن المقرّر في محله حكومة الأصل الجاري في الشك السببي على الأصل الجاري في المسببي ، فتجري أصالة بقاء السلطنة دون أصالة بقاء الإباحة.

(٢) لعلّ وجه توقفه في جريانها هو تقوّم الإباحة بالإذن ، ومن المعلوم ارتفاع الإباحة بانتفاء الإذن ، هذا.

لكن فيه : أنّه متين بناء على كون الإباحة مالكية لا شرعية كما هو المفروض ، إذ المالكان يقصدان التمليك ، لكن الشارع لم يمضه وحكم بالإباحة.

(٣) بعد أن فرغ المصنف من تأسيس الأصل ـ وبيان مقتضاه على كلّ من الملك والإباحة ـ شرع في عدّ الملزمات ، من التلف والتصرف الناقل والتصرف الخارجي وغير ذلك ، ولكل منها صور سيأتي بيانها بالترتيب إن شاء الله تعالى ، فالملزم الأوّل هو التلف ، والمذكور منه في المتن صور ثلاث ، وهي تلف العوضين معا وتلف أحدهما وتلف بعض أحدهما.

(٤) يعني : أنّ الإجماع ظاهر بعض العبارات وصريح بعضها الآخر ، فضمير «به» راجع الى الإجماع.

(٥) قال في الحدائق : «لا إشكال ولا خلاف عندهم في أنّه لو تلفت العينان في

__________________

وعليه فمقتضى دليلي السلطنة وعدم جواز التصرف في مال الغير بدون إذنه هو عدم جواز تصرف كلّ من المتعاطيين في مال صاحبه بعد الرجوع الدال على عدم رضائه

١٨٣

أمّا على القول بالإباحة فواضح ، لأن (١) تلفه من مال مالكه ، ولم يحصل ما يوجب ضمان كلّ منهما مال صاحبه (*).

______________________________________________________

بيع المعاطاة فإنّه يصير لازما» (١). وقال السيد الفقيه العاملي : «لا إشكال ولا خلاف عندهم في أنه لو تلفت العين من الجانبين صار لازما» (٢). وقال في الجواهر : «بقي الكلام فيما ذكره غير واحد من الأصحاب ـ بل قيل : انه لا خلاف فيه ولا إشكال ـ من لزوم المعاطاة بتلف العين من الجانبين. بل قال الأستاد في شرحه : لا ريب ولا خلاف في أنّ المعاطاة تنتهي إلى اللزوم ، وأنّ التلف الحقيقي أو الشرعي بالنقل بالوجه اللازم للعوضين معا باعث على اللزوم ، وكذا للواحد منهما» (٣).

(١) توضيحه : أنّه ـ بناء على ترتب الإباحة على المعاطاة ـ يجوز لكلّ من

__________________

بتصرف صاحبه في ماله ، والمفروض عدم كون الإباحة الشرعية عقدا حتى تكون لازمة ويجب الوفاء بها.

(*) هذا متين لو كانت الإباحة مالكيّة. لكنّه ليس كذلك ضرورة أنّ الإباحة المترتبة على المعاطاة المقصود بها التمليك شرعيّة ، فلا بد حينئذ من الالتزام بحصول الملكية آنا ما قبل التلف لمن تلف في يده ، جمعا بين الأدلة وهي الإجماع المقتضي لعدم ثبوت الضمان بالمثل أو القيمة ، حيث إنّ المعاطاة لم تفد إلّا الإباحة ، وقاعدة ضمان اليد المقتضية لكون التلف من ذي اليد ، وأصالة بقاء المال على ملك مالكه الأوّل ، فإنّ الجمع بين هذه الأدلة يقتضي حصول الملكية آنا ما قبل التلف ، وبعد حصولها لا بدّ من الحكم بضمان المسمّى ، فيكون كل من المالين مضمونا بالآخر ، هذا محصّل ما يستفاد من تقريرات سيدنا المحقق الخويي قدس‌سره (٤).

__________________

(١) : الحدائق الناضرة ، ج ١٨ ، ص ٣٦٢

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٧

(٣) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٣٠

(٤) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٩٩

١٨٤

وتوهّم جريان قاعدة الضمان باليد هنا

______________________________________________________

المتعاطيين استرداد ماله من الآخر ، لفرض بقاء المال على ملك المعطي لا الآخذ. هذا مع بقاء العينين.

وأمّا إذا تلفتا لزمت المعاطاة ، لامتناع الرجوع إلى العينين.

__________________

لكنه لا يخلو من غموض ، حيث إنّ الجمع بين الأدلة لا يقتضي الملكية الآنيّة ، بل يقتضي كون التلف من مالكه الأوّل ، إذ لا دليل غير الإجماع المقتضي لعدم ضمان المثل أو القيمة ، وأصالة بقاء المال على ملك مالكه. ومقتضى هذين الدليلين هو كون التلف من مال مالكه الأوّل.

ولا يجري عموم «على اليد» هنا حتى يكون الضمان على ذي اليد ونلتزم بالملكية الآنية له ، إذ المفروض كون اليد ـ لأجل الإباحة الشرعية ـ أمانية غير موجبة للضمان.

نعم يكون التلف موجبا للزوم الإباحة ، وعدم جواز رجوع المتعاطي الآخر ـ وهو المالك ـ الى المتعاطي الذي تلف عنده المال.

فما أفاده المصنف قدس‌سره من كون التلف من مال المالك الأوّل في غاية المتانة ، فتدبر جيّدا.

نعم كلامه هنا ـ من عدم جريان قاعدة اليد ـ مناف لما تقدّم منه في مناقشة استبعادات كاشف الغطاء قدس‌سره من الالتزام بجريانها بناء على مسلك المشهور من الإباحة ، واقتضاء الجمع بين اليد والإجماع والاستصحاب للقول بدخول المأخوذ بالمعاطاة في ملك المباح له آنا ما قبل التلف ليقع التلف في ملكه ، فلاحظ قوله هناك : «وأما كون التلف مملّكا للجانبين ، فإن ثبت بإجماع أو سيرة ـ كما هو الظاهر ـ كان كل من المالين مضمونا بعوضه ، فيكون تلفه في يد كلّ منهما من ماله مضمونا بعوضه .. لأن هذا هو مقتضى لجمع بين هذا الإجماع وبين عموم على اليد ما أخذت وبين أصالة عدم الملك إلّا في لزمان المتيقن وقوعه فيه .. إلخ».

١٨٥

مندفع (١) بما سيجي‌ء (٢).

وأمّا على القول بالملك فلما عرفت من أصالة اللزوم ، والمتيقّن من مخالفتها جواز (٣)

______________________________________________________

فان قلت : لا موجب للزومها بمجرّد تلف العينين ، بل تبقى الإباحة على حالها ، ويرجع كل منهما على الآخر ببدل ماله. والدليل على بقاء الإباحة هو قاعدة اليد ، بتقريب : أنّ كلّا من المتعاطيين وضع يده على مال الآخر ـ لكونه مباحا عنده لا ملكا له ـ ومن المعلوم أنّ للمالك استرداد ماله من المباح له ما دام موجودا ، ولو تلف استقرّ بدله عليه ، فكلّ منهما ضامن لمال الآخر بمقتضى «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» فإذا جاز الرجوع إلى بدل العينين فقد ثبت استمرار الإباحة ، وعدم لزوم المعاطاة بمجرّد تلف العينين ، فإنّ التلف غير مانع من الرجوع إلى البدل.

قلت : نعم ، لو جرت قاعدة اليد هنا لم يكن التلف ملزما. لكنّها لا تجري في ما نحن فيه من جهة انتفاء الموضوع ، وذلك لاختصاص اليد المضمّنة باليد العدوانية ، وهي منتفية في المقام ، إذ المفروض حكم الشارع بإباحة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة ، فاليد السابقة على التلف لم تكن مضمّنة قطعا ، لاستنادها إلى إذن الشارع. وإذا تلفت العين امتنع انقلاب اليد الأمانية إلى العدوانية ، لاستحالة انقلاب الواقع عمّا هو عليه. ولمّا لم تكن اليد مقتضية للضمان ـ حتى يجوز الرجوع إلى البدل ـ فلا بدّ من استناد الضمان إلى موجب آخر ، والمفروض عدمه.

(١) خبر «وتوهم» ودفعه ، وقد تقدم توضيحهما آنفا بقولنا : «فان قلت :

قلت ..».

(٢) بعد أسطر بقوله : «والتمسك بعموم اليد هنا في غير محله بعد القطع بأن هذه اليد قبل تلف العين لم تكن يد ضمان .. إلخ».

(٣) يعني : إمكان التراد. ويدل على كون المتيقن ذلك ما تقدّم عن الحدائق ومفتاح الكرامة والجواهر من «الإجماع على كون تلف العينين ملزما» لدلالته على

١٨٦

ترادّ العينين (١) ،

______________________________________________________

كون امتناع التراد ـ لتلف العينين ـ موجبا للزوم.

(١) محصّل ما أفاده من لزوم المعاطاة بتلف العينين بناء على الملك الجائز هو : أنّ أصالة اللزوم تقتضي لزوم المعاطاة ، والمتيقن من مخالفة عموم دليل اللزوم وتخصيصه في المعاطاة ـ بسبب الإجماع ـ هو صورة إمكان ترادّ العوضين ، فمع امتناعه يرتفع الجواز.

توضيحه : أنّهم قسّموا الجواز في العقود غير اللّازمة إلى حقّي وحكمي ، ومثّلوا للأوّل بالخيار ، لما يظهر من تعريفه بأنّه «ملك فسخ العقد» فالخيار هو السلطنة على إقرار العقد وإزالته ، لقابلية نفس العقد للبقاء في وعاء الاعتبار ، فيثبت حقّ الخيار مطلقا سواء بقي العوضان أم لا. والمرجع في تشخيص موضوعية العقد لهذا الجواز هو أدلّة الخيارات ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (١) الظاهر في سلطنة المتبايعين على حلّ العقد قبل الافتراق ، سواء بقي العوضان أم تلفا ، فان كانا باقيين ردّ كلّ منهما إلى من انتقل عنه ، وإن تلفا ردّ البدل.

ومثّلوا للثاني بجواز رجوع الواهب في العين الموهوبة ما دامت باقية ، وأنّه يجوز له استردادها من المتّهب وإن لم يفسخ العقد قبل الرجوع ، فلو استردّها انحلّ العقد من باب انتفاء الموضوع ، لعودها به إلى ملك الواهب. ولأجل تعلق الجواز باسترداد العين لا بنفس العقد دار الحكم مدار بقائها ، فلو تلفت لزمت الهبة ، ولا يصح للواهب الرجوع إلى بدلها.

ولا فرق في تعلق الجواز بالرجوع والاسترداد بين كون الهبة معوّضة وغير معوّضة. أمّا الثاني فواضح. وأمّا الأوّل فكذلك ، فإنّ المناط في جواز الهبة بقاء العين الموهوبة ، سواء أكان عوضها باقيا أم تالفا. والدليل على موضوعية الرجوع للجواز هو مثل معتبرة جميل والحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٤٦ ، الباب ١ ، من أبواب الخيار ، الحديث : ٣.

١٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أن يرجع ، وإلّا فليس له» (١).

وللجواز الحكمي فرد آخر وهو ما يكون متعلّقه أضيق دائرة من جواز الهبة كما يكون أضيق من الجواز الحقي ، وهو ما ذكروه في باب المعاطاة ـ بناء على عدم القول بالملك اللازم ـ من تعلق الجواز بتراد العينين ، فما دامتا باقيتين بحالهما جاز لكلّ من المتعاطيين استرداد ماله ، ولو امتنع التراد بتلف إحداهما أو بغير التلف ارتفع جواز المعاطاة وصارت لازمة.

والدليل على موضوعية «التّراد» للجواز ـ وعدم تعلقه بالعقد كما في الخيار ولا بالرجوع في عين واحدة كما في الهبة ـ هو : أنّه لا دليل لفظيّ في المقام حتى يؤخذ بإطلاقه ، لانحصار الدليل في الإجماع على جواز المعاطاة ، وحيث إنّه دليل لبيّ يلزم الاقتصار على القدر المتيقن منه في الخروج من عموم أدلة لزوم الملك.

توضيحه : أنّ المقام يكون من موارد تخصيص العام بمخصّص منفصل مجمل مردّد بين الأقلّ والأكثر ، فالعام هو أدلة لزوم كل ملك ، والمخصّص هو الإجماع المدّعى على جواز المعاطاة. فإن تعلّق الجواز بالعقد ـ كما في باب الخيار ـ كان الجواز باقيا بعد تلف العوضين ، وإن تعلّق بردّ عين واحدة كما في الهبة جاز الرجوع بعد تلف إحدى العينين. وإن تعلّق بالتّراد توقّف على بقائهما معا ، فلو تلفت إحداهما أو بعض إحداهما انتفى الجواز وصار الملك لازما. ولمّا لم يحرز قيام الإجماع على جواز فسخ العقد المعاطاتي ولا على جواز استرداد إحدى العينين تعيّن الاقتصار على المتيقن منه لكونه لبيا ـ بحيث لو لا الاقتصار على المتيقن يلزم طرح الإجماع بالكلّية ـ وهو تعلّقه بالتّراد ، والرجوع إلى أصالة اللزوم عند تعذّره بتلف وشبهه.

فإن قلت : إذا ثبت بالإجماع جواز الملك في المعاطاة قبل التلف ، وشكّ في انتفائه به أمكن إحراز عدم لزوم الملك باستصحاب الجواز ، وهو يمنع عن شمول

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٤١ ، الباب ٨ من أحكام الهبات ، الحديث : ٨

١٨٨

وحيث ارتفع مورد التّراد امتنع (١). ولم يثبت (٢) قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري حتى يستصحب بعد التلف (٣) ، لأنّ ذلك (٤) الجواز من عوارض العقد ، لا العوضين ، فلا مانع من بقائه ،

______________________________________________________

أدلة اللزوم بعد تلف إحدى العينين أو كلتيهما استصحابا لحكم المخصّص.

قلت : لا مجال هنا للاستصحاب ، لوجهين : أحدهما : ما تقدّم آنفا من الفرق بين جواز المعاطاة وبين جواز العقد الخياري ، فإنّه بمعنى الانحلال بالفسخ وهو قائم بالعقد ، ولكن جواز المعاطاة بمعنى التملك بالرجوع في العين ، لا بعنوان الفسخ ، ومن المعلوم أنّ التملك بالأخذ قائم بنفس العوضين لا بفسخ العقد. وعلى هذا يقطع بانتفاء ذلك الجواز بمجرّد التلف ، فلا شك حتى يستصحب الجواز.

ومنشأ هذا الفرق ما تقدم من عدم إحراز تعلّق الجواز ـ في باب المعاطاة ـ بحلّ العقد حتى يستصحب بقاؤه لو شكّ في ارتفاعه بتلف العينين ، فالمتيقن من الدليل تعلّقه بالتّراد ، وينتفي معروض المستصحب بمجرد التلف ، ولا يبقى شك حتى يجري فيه الأصل.

ثانيهما : أنّه لا مجال لهذا الاستصحاب حتّى إذا تردّد جواز المعاطاة بين تعلّقه بالعقد وبين تعلّقه بالتراد ، إذ مع الشّك في الموضوع لا يحرز اتّحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة ، فيدور الأمر بين النقض والانتقاض ، ومثله ليس مجرى للأصل.

(١) يعني : يمتنع التراد بسبب التلف.

(٢) هذا إشارة إلى توهم ، وقد تقدّم آنفا بقولنا : «فان قلت ..» وحاصل التوهم قياس جواز المعاطاة بجواز العقد الخياري في بقائه بعد تلف العوضين.

(٣) أي : ولو كان التالف كلا العوضين ، فإذا فسخ ذو الخيار رجع إلى البدل.

(٤) أي : لأنّ جواز البيع الخياري يكون قائما بالعقد لا بالعوضين ، وهذا تعليل لقوله : «لم يثبت» ودفع التوهم ، وقد تقدم بقولنا : «قلت : لا مجال هنا للاستصحاب ، لوجهين ..».

١٨٩

بل (١) لا دليل على ارتفاعه بعد تلفهما. بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الجواز فيه (٢) هنا بمعنى جواز الرجوع في العين ، نظير (٣) جواز الرجوع في العين الموهوبة ، فلا يبقى (٤) بعد التلف متعلّق الجواز (٥). بل الجواز هنا يتعلّق بموضوع (٦) التراد ، لا مطلق الرجوع (٧)

______________________________________________________

(١) الوجه في الإضراب واضح ، لأنّ مجرّد عدم المانع عن بقاء جواز العقد غير كاف في بقائه بعد تلف العوضين إلّا باستصحاب جواز العقد. ولكنّه قدس‌سره يدّعى كفاية إطلاق دليل التشريع في بقاء حق الخيار حتّى بعد تلفهما ، فلا موضوع للاستصحاب مع وجود الدليل الاجتهادي وإن كانا متوافقين مفادا.

(٢) أي : فإنّ الجواز فيما نحن فيه وهو المعاطاة. وعلى هذا فكلمة «هنا» مستدركة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

(٣) خبر قوله : «فان الجواز» والوجه في تنظير المعاطاة بالهبة ـ مع ما سيأتي من بيان الفارق بينهما ـ هو كون معروض الجواز استرداد العين والرجوع فيها ، وليس معروضه العقد ، وإنّما ينحل العقد بالتبع من باب انتفاء الموضوع.

(٤) يعني : سواء في الهبة والمعاطاة.

(٥) يعني : بل دائرة موضوع الجواز في المعاطاة أضيق من جواز الرجوع في الهبة ، لأنّ موضوع الجواز هنا هو خصوص التّراد المتوقف على بقاء العينين معا. بخلاف الجواز في الهبة ، فإنّه متقوّم ببقاء عين واحدة ، فلو كانت الهبة معوّضة ـ بأن وهب زيد كتابا لعمرو على أن يهبه عمرو دينارا ـ كان جوازها منوطا ببقاء الكتاب سواء بقي الدينار أم تلف. ولو تلف الكتاب لزمت الهبة بلا فرق أيضا بين بقاء الدينار وتلفه.

(٦) فالإضافة بيانية ، فإنّ الجواز متعلق بنفس التراد ، لا بموضوعه وهو العوضان ، لتعلق الحكم بفعل المكلف لا بالأعيان.

(٧) كما في باب الهبة ، والمراد بمطلق الرجوع أنّ العين الموهوبة ما دامت باقية

١٩٠

الثابت (١) في الهبة ، هذا.

مع (٢) أنّ الشّك في أنّ متعلّق الجواز هل هو أصل المعاملة (٣) أو الرجوع (٤)

______________________________________________________

كان الرجوع جائزا ، سواء أكان العوض باقيا أم تالفا ، فموضوع جواز الرجوع نفس العين الموهوبة بالهبة الأولى ، بلا نظر إلى العين الموهوبة بعنوان العوض.

(١) صفة ل «مطلق الرجوع» فجواز الرجوع في المعاطاة مقيّد ببقاء العوضين ، ولكن جواز الرجوع في العين الموهوبة غير مقيّد ببقاء العين الموهوبة بعنوان العوض.

(٢) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من دفع التوهم ، وقد تقدم بقولنا : «ثانيهما : أنه لا مجال للاستصحاب حتى إذا تردّد .. إلخ». وحاصله : أنّه لو لم يكن المتيقن من مخالفة أصالة اللزوم هو صورة إمكان التراد ، وشكّ في تعلق الجواز به أو بالعقد امتنع استصحاب جواز المعاطاة بعد التلف ، لعدم إحراز الموضوع الذي لا بدّ منه في الاستصحاب (*).

(٣) كما في العقد الخياري.

(٤) كما في الهبة.

__________________

(*) ومن هنا يعلم فساد توهم كون المقام من قبيل القسم الثاني من استصحاب الكلي ، بتقريب : أنّ كلّي جواز الرفع ـ الجامع بين فسخ العقد وتراد العينين ـ معلوم ، إذ لا شكّ في وجود جواز رفع الأمر الموجود من الملك والعقد ، وبعد التلف يشك في بقاء كلّيّ الجواز ، فيستصحب. نظير القطع بوجود فرد من حيوان مردّد بين ما هو باق قطعا وبين ما هو زائل كذلك.

وجه الفساد هو : أنّه منشأ الشك في بقاء كلّيّ الجواز الجامع بين الفسخ والتراد هو الشك في بقاء موضوعه ، لأنّ موضوع الجواز إن كان هو التّراد فهو غير باق قطعا ، لتلف العينين. وإن كان نفس العقد فهو باق ، ومع الشك في بقاء الموضوع لا مجال للاستصحاب.

١٩١

في العين أو تراد العينين (١) يمنع (٢) من استصحابه ، فإن (٣) المتيقن تعلّقه بالتّراد ، إذ لا دليل في مقابلة أصالة اللّزوم على ثبوت أزيد من جواز ترادّ العينين الّذي لا يتحقق إلّا مع بقائهما.

______________________________________________________

(١) كما في المعاطاة.

(٢) خبر «أن الشك» وقد تقدم توضيح المنع.

(٣) هذا تعليل لأصل منع جريان الاستصحاب بالنظر إلى الوجه الأوّل ، لصراحة قوله : «فانّ المتيقّن تعلقه بالتراد» في أنّه قد أحرز ـ ببركة عموم أصالة اللزوم ـ تعلق جواز المعاطاة بالتراد ، وأنّه لا يبقى شك في الموضوع ، بل نقطع بانتفاء الموضوع. ولهذا كان الأولى ذكر هذه الجملة قبل قوله : «مع أن الشك». هذا تمام الكلام في الصورة الاولى وهي تلف كلا العوضين.

__________________

فالإشكال في جريان الاستصحاب إنّما هو من ناحية الشك في بقاء الموضوع ، نظير العلم بعدالة زيد أو عمرو إجمالا ، ثم مات زيد ، فإنّه لا يجري استصحاب العدالة الجامعة بينهما ، للشك في بقاء موضوعها ، فإن كانت العدالة ثابتة لزيد فقد ارتفعت قطعا بموته ، وإن كانت قائمة بعمرو فهي باقية قطعا.

فالقسم الثاني من استصحاب الكلي وإن كان جاريا في حدّ ذاته ، لكنّه لا يجري هنا ، للشّك في بقاء الموضوع. فيفترق المقام عن المثال المزبور ، لعدم الشك في بقاء الموضوع هناك ، لأنّ المستصحب ـ أعني به كلّي الحيوان ـ يكون موضوعه وهو الماهية المعروضة للوجود والعدم باقيا كما لا يخفى.

بخلاف المقام ، لتباين الفردين اللّذين يترتب عليهما الأثر ، ولا معنى للجواز الجامع بينهما بعد كون الأثر مترتبا على كل واحد منهما بالخصوص.

وأمّا استصحاب الفرد المردّد فلا مجال له ، لأنّه بما هو مردّد لا ماهية ولا وجود له ، فليس موضوعا لأثر حتى يصح استصحابه.

وبالجملة : فالمقام من صغريات التمسّك بالعام ، لكون الشك فيه في التخصيص الزائد الذي يرجع فيه إلى عموم العام الدال على اللزوم في كل زمان وحال.

١٩٢

ومنه (١) يعلم حكم ما لو تلف إحدى العينين أو بعضها على القول بالملك.

وأمّا على القول بالإباحة (٢) فقد استوجه بعض مشايخنا (٣) وفاقا

______________________________________________________

(١) أي : وممّا تقدّم ـ من كون المتيقن من مخالفة أصالة اللزوم في الملك صورة إمكان ترادّ العوضين ـ يعلم حكم تلف إحدى العينين أو بعض إحداهما ، وهذا إشارة إلى الصورة الثانية والثالثة. وقد بيّن المصنف قدس‌سره حكمهما بناء على كلّ من الملك والإباحة.

ومحصل ما أفاده فيهما هو : أنّه بناء على ترتب الملك الجائز على المعاطاة لا إشكال في لزومه بتلف أحد العوضين أو بتلف بعض أحدهما ، لما عرفت مفصّلا من أنّ موضوع الجواز ترادّ العوضين ، فينتفي بتلف أحدهما أو بعض أحدهما ، كما إذا تعاطيا كتابا بدرهمين فاحترق الكتاب أو ضاع أحد الدرهمين ، فتقتضي أصالة اللزوم لزوم الملك.

وبناء على ترتب الإباحة تعبّدا على المعاطاة ففي لزومها بتلف أحد العوضين أو بعض أحدهما بحث ، فنقل شيخنا الأعظم عن بعض مشايخه المعاصرين ترجيح أصالة عدم اللزوم ، لاستصحاب بقاء سلطنة مالك العين الموجودة ، ثم اعترض المصنف عليه بمعارضته بأصالة براءة ذمته عن بدل التالف ، ثم استدرك على هذه المعارضة بأنّ أصالة بقاء السلطنة حاكمة على أصالة عدم الضمان بالبدل ، فهذه مطالب ثلاثة ، سيأتي توضيح كلّ منها إن شاء الله تعالى.

(٢) يعني : في الصورتين الثانية وهي تلف تمام إحدى العينين ، والثالثة وهي تلف بعض إحدى العينين.

(٣) لا يبعد أن يكون مراده من بعض المشايخ هو السيد المجاهد ، ومن بعض معاصريه الفاضل النراقي قدس‌سرهما.

أمّا السيد فقد قال : «منهل : قد بيّنا أنّ المعاطاة لا تفيد اللزوم ، فيجوز لكلّ من المتعاطيين الفسخ والاسترداد وإن لم يرض الآخر به ، إلّا في مواضع : ومنها : ما إذا

١٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تلف أحد العوضين .. ولكن في المسالك احتمل عدم تحقق اللزوم التفاتا إلى أصالة بقاء الملك لمالكه ، وعموم الناس مسلّطون على أموالهم. وفيه نظر ، لأنّ الوجهين المذكورين إنّما يتجهان إن قلنا إنّ المعاطاة لا تفيد نقل الملك. وأمّا على تقدير إفادتها الملك كما هو المختار فلا» (١).

والمستفاد من الجملة الأخيرة بقاء الإباحة على حالها ، وعدم لزومها بتلف إحدى العينين ، لاقتضاء قاعدتي السلطنة واليد بقاء جواز الاسترداد ، هذا.

وأمّا الفاضل النراقي فقد قال في المستند في المسألة السادسة من مسائل الفصل الأوّل من كتاب البيع : «على القول بتوقف اللزوم على الصيغة فيجوز لكل منهما الرجوع في المعاطاة مع بقاء العينين .. ولو تلفت إحداهما خاصة فلا يجوز الرجوع لصاحب التالفة ، وهل له ردّ الموجودة بلا مطالبة شي‌ء لو أراده لمصلحة وامتنع صاحبها؟ الظاهر نعم ، لأصالة عدم اللّزوم. ولصاحب الموجودة الرجوع إليها لذلك أيضا على الأقوى ، ثمّ الآخر يرجع إلى قيمة التالفة أو مثلها. كذا قالوا. وهو بإطلاقه مشكل. بل الموافق للقواعد أن يقال : لو كان التلف لا من جهة صاحب الموجودة فلا يرجع إليه بشي‌ء ، لأصل البراءة ، وعدم دليل على الاشتغال. وإن كان معه فإن قصد الرجوع قبل الإتلاف فعليه المثل أو القيمة .. وإن لم يقصده قبله فمقتضى الأصول وإن كان براءة ذمته عن المثل أو القيمة ، لعدم كونه غاصبا وجواز رجوعه إلى عينه للأصل. إلّا أنّ الإجماع ونفي الضّرر يمنعان عن الأمرين معا ، فلا بد من أحدهما ـ أي البراءة وعدم الرجوع ، أو الرجوع مع ضمان البدل ـ ولكن تعيين أحدهما مشكل ، وتعيين الاشتغال مطلقا أو على كون المعاطاة إباحة محضة لقاعدة الغصب ، كعدم الرجوع على كونها تمليكا لئلّا يلزم الجمع بين المالين باطل ، لمنع صدق الغصب ، وتسليم جواز جمع المالين إذا اشتغلت ذمته بمثل أحدهما أو قيمته. إلّا أن تعيّن الاشتغال

__________________

(١) : المناهل ، ص ٢٦٩

١٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بإثبات جواز الرجوع بمثل : الناس مسلّطون على أموالهم ، وعلى اليد ما أخذت» (١).

والغرض من نقل هذه العبارة أمور :

الأوّل : أنّ الفاضل النراقي قدس‌سره فصّل في عدم لزوم المعاطاة بتلف إحدى العينين ـ وجواز رجوع مالك العين الموجودة ـ بين أن يكون من تلف عنده العين قاصدا للرجوع إلى ماله الموجود عند الطرف الآخر ، فيجوز الرجوع مع ضمانه لبدل العين التالفة ، وبين أن لا يكون قاصدا للرجوع فلا ، حيث إنّ في جواز استرداد ماله احتمالين :

أحدهما : عدم الجواز مع براءة ذمته عن بدل التالفة.

وثانيهما : جواز الرجوع مع ضمان البدل. ورجّح في آخر كلامه هذا الاحتمال بقوله : «إلّا أن تعيّن الاشتغال بإثبات جواز الرجوع» واستدل عليه بوجهين : أحدهما قاعدة السلطنة ، والآخر قاعدة اليد.

وهذه الجملة الأخيرة هي محطّ نظر شيخنا الأعظم من نسبة القول ببقاء الإباحة بعد تلف إحدى العينين إليه ، مستدلّا عليه باستصحاب سلطنة مالك العين الموجودة. وقد عرفت أنّ الفاضل النراقي قدس‌سره استدل بقاعدة السلطنة لا باستصحابها.

الأمر الثاني : أنّ ما نقلناه من تفصيل الفاضل النراقي قدس‌سره بين قصد الرجوع وعدمه وإن كان بظاهره أجنبيا عمّا نسبه المصنف إليه من القول ببقاء الإباحة استصحابا للسلطنة. إلّا أنّ المقصود من نقله الوقوف على ما سيأتي في المتن من إيراد المصنف على التفصيل بين قصد الرجوع وعدمه ، ولمّا كان دأبنا في هذا الشرح الوقوف على أرباب الأقوال المنقولة في المكاسب ـ مهما أمكن ـ فلذا نقلنا عبارة المستند ليعلم أنّ قول المصنف قدس‌سره : «إذا بنى مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة ولم يرد الرجوع ..» تعريض به.

__________________

(١) : مستند الشيعة ، ج ١ ، ص ٣٦٣

١٩٥

لبعض معاصريه تبعا للمسالك (١) أصالة عدم اللّزوم ،

______________________________________________________

الأمر الثالث : أنّ كلام الفاضل قدس‌سره من تجويز الرجوع إلى العين الموجودة ليس فيه تصريح بابتنائه على إفادة المعاطاة للإباحة ، بل نفى هذا الابتناء بقوله : «وتعيين الاشتغال مطلقا أو على كون المعاطاة إباحة محضة .. باطل» وعليه فما نسبه المصنف إلى الفاضل من القول بأصالة عدم اللزوم ـ بناء على الإباحة ـ مستفاد من إطلاق حكم الفاضل بجواز رجوع مالك العين الموجودة سواء قلنا بالملك الجائز أم بالإباحة المحضة. ولا مانع من هذه الاستفادة ، لأنّ المصنف قدس‌سره بصدد بيان حكم تلف إحدى العينين بناء على الإباحة. وهو لا ينافي اتّحاد حكمه بناء على الملك. ويساعد استفادة المصنف استدلال الفاضل بقاعدتي السلطنة واليد ، لماسبتهما للإباحة.

(١) ظاهر العبارة أنّ الشهيد الثاني استوجه عدم لزوم الإباحة في صورة تلف إحدى العينين أو بعضها ، فتبعه صاحبا المناهل والمستند. لكن في النسبة تأمّل. وبيانه : أنّه قدس‌سره فصّل في المسالك بين تلف إحدى العينين وبين تلف بعض إحداهما ، وذكر في كلّ منهما وجهين ، واختار اللزوم بتلف إحداهما ، والإباحة في تلف بعض إحداهما. وعلى هذا فالمسألتان بنظر الشهيد ليستا متحدتين حكما.

والأولى نقل كلامه وقوفا على حقيقة الحال ، فقال في ثاني مباحث المعاطاة : «لو تلفت العينان معا تحقق الملك فيهما. ولو تلفت إحداهما خاصة فقد صرّح جماعة بالاكتفاء به في تحقق ملك الأخرى ، نظرا إلى ما قدّمناه من جعل الباقي عوضا عن التالف ، لتراضيهما على ذلك. ويحتمل هنا العدم ، التفاتا إلى أصالة بقاء الملك لمالكه ، وعموم : الناس مسلّطون على أموالهم. والأوّل أقوى ، فإنّ من بيده المال مستحق قد ظفر بمثل حقّه بإذن مستحقه فيملكه ، وإن كان مغايرا له في الجنس والوصف ، لتراضيهما على ذلك» وهذا الكلام كما ترى صريح في ترجيح القول باللزوم في تلف عين واحدة ، وأنّ عدم اللزوم مجرّد احتمال لا ينبغي المصير إليه.

وقال في المبحث الثالث : «لو تلف بعض إحداهما احتمل كونه كتلف الجميع

١٩٦

لأصالة (١) (*) بقاء سلطنة مالك العين الموجودة وملكه لها.

______________________________________________________

ـ يعني في تحقق اللزوم ـ وبه صرّح بعض الأصحاب محتجّا بامتناع التراد في الباقي ، إذ هو موجب لتبعّض الصفقة ، وبالضرر ، لأنّ المطلوب هو كون إحداهما في مقابل الأخرى. وفيه نظر .. إلى أن قال : ويحتمل حينئذ أن يلزم من العين الأخرى في مقابلة التالف ، ويبقى الباقي على أصل الإباحة بدلالة ما قدّمناه» (١).

وظاهر هذه الجملة الأخيرة ـ بعد إبطال مستند المحقق الكركي من التمسك بتبعّض الصفقة وبالضرر ـ هو الميل إلى أصالة عدم اللزوم ، وبقاء الإباحة بالنسبة إلى المقدار الباقي من إحدى العينين.

وبما نقلناه عن المسالك ظهر : أنّ الشهيد قدس‌سره مفصّل بين تلف تمام إحدى العينين بترجيح أصالة اللزوم ، وبين تلف بعض إحداهما بترجيح الإباحة. وكان المناسب أن ينبّه المصنف قدس‌سره على هذا التفصيل ، ولا ينسب إلى الشهيد القول بأصالة عدم اللزوم في كلتا المسألتين ، ولعلّه قدس‌سره اعتمد في هذه النسبة على نقل الغير ، والأمر سهل بعد وضوح حقيقة الحال.

(١) هذا إشارة إلى المطلب الأوّل ، أعني به دليل القول ببقاء الإباحة ، وهو استصحاب بقاء سلطنة مالك العين الموجودة – أو مالك بعض العين الموجودة ـ على ماله ، ومقتضى هذا الاستصحاب جواز رجوعه إلى ماله الموجود عند صاحبه ، ومن المعلوم أن المعاطاة لو كانت لازمة لم يكن له الرجوع إلى ماله الموجود.

__________________

(*) لم يظهر وجه عدوله عن قاعدة السلطنة إلى استصحابها ، مع عدم مانع عن جريانها.

إلّا أن يقال : إنّ احتمال بدليّة الباقي عن التالف أوجب الشك في بقاء العين الموجودة على ملك مالكها ، والقاعدة لا تثبت موضوعها ، فلا محيص في إثبات

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٤٩

١٩٧

.................................................................................................

__________________

الموضوع من التمسك باستصحاب بقاء المال على ملك مالكه.

نعم لا حاجة الى إجراء الاستصحاب في بقاء السلطنة بعد إجرائه في الموضوع أعني به بقاء الملكية ، لأنّ الأصل الموضوعي حاكم على الحكمي.

ولنعم ما عبّر به الشهيد الثاني قدس‌سره من قوله : «التفاتا إلى أصالة بقاء الملك لمالكه» إذ استصحاب بقاء الملك على ملك مالكه يغني عن استصحاب بقاء السلطنة التي هي حكم شرعي. وغرض الشهيد الثاني من قوله : «أصالة بقاء الملك لمالكه» إثبات الصغرى ، وهي إضافة الملكية التي هي موضوع قاعدة السلطنة ، ومن قوله : «وعموم : الناس مسلّطون على أموالهم» إثبات الكبرى.

ويظهر مما ذكرنا عدم ورود ما أورده بعض المحشّين على المصنف من «أن عموم دليل السلطنة حاكم على استصحابها ، فلا مجال للاستصحاب مع العموم الذي هو دليل اجتهادي» (١).

وجه عدم الورود : قصور دليل السلطنة عن شموله للشك في الموضوع وهو بقاء الملكية ، لكون التمسّك به حينئذ تشبّثا بالدليل في الشبهة المصداقية.

وفي المقام احتمال آخر وهو : أن يكون المستصحب ـ أعني به السلطنة ـ بمعنى الملك كما ورد تفسيره بها في بعض كلمات المصنف قدس‌سره. وعلى هذا فيكون قوله بعده : «وملكه لها» عطف تفسير للسلطنة ، فالمستصحب هو الموضوع ، لا الحكم الشرعي المدلول عليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الناس مسلّطون على أموالهم» ومعه لا يبقى مجال للإيراد المتقدم ، وهو : أنّه مع الشك في الموضوع ـ أي الملكية ـ كيف أجرى الأصل في الحكم وهو السلطنة؟ وجه عدم المجال : أنّه بناء على ما احتملناه تكون السلطنة موضوعا ، لكونها بمعنى الملكية ، لا حكما حتى يشكل استصحابه عند الشك في الموضوع.

__________________

(١) : لاحظ حاشية السيد الطباطبائي ، ص ٨٢ ، وحاشية المحقق الايرواني ، ج ١ ، ص ٨٧

١٩٨

وفيه (١) : أنّها معارضة بأصالة براءة

______________________________________________________

(١) هذا هو المطلب الثاني ، أعني به مناقشة المصنف في دليل القائل ببقاء الإباحة عند تلف إحدى العينين. توضيحه : أنّ أصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة التي هي سند أصالة عدم اللزوم ـ المقتضية لجواز الرجوع إلى العين الموجودة ـ معارضة بأصالة براءة ذمة من تلف عنده مال صاحبه عن مثله أو قيمته ، وبسقوطها بالمعارضة لا يبقى دليل على بقاء الإباحة. مثلا إذا كانت المعاوضة بين كتاب زيد ودينار عمرو ، وتلف الكتاب عند عمرو وبقي الدينار عند زيد ، فصاحب العين الموجودة ـ وهو الدينار ـ مسلّط على أخذها من زيد مع عدم ضمانه لبدل الكتاب لزيد.

فإن قلت : لا معارضة بين أصالة براءة ذمة مالك الدينار عن بدل الكتاب ، وبين أصالة بقاء سلطنته على أخذ الدينار من زيد ، لعدم التنافي بينهما ، وعليه يمكن الجمع بين جواز استرداد الدينار وبين عدم ضمانه لبدل الكتاب ، ولا يسقط استصحاب السلطنة بالمعارضة.

قلت : المعارضة بين الحجتين تكون تارة بالذات كما في المتباينين والعامّين من وجه. وأخرى بالعرض أي بواسطة دليل ثالث ، ومثّلوا له بالخبرين الدال أحدهما على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة ، والآخر على وجوب صلاة الجمعة ، إذ لا منافاة بين الدليلين بلحاظ المدلول المطابقي والتضمني ، إلّا أنّ الإجماع على عدم وجوب فريضتين قبل صلاة العصر يوجب التنافي بين الخبرين ، فيعلم إجمالا بكذب أحدهما.

والمقام من هذا القبيل ، فإنّ أصالة بقاء سلطنة المالك تقتضي جواز استرداد الدينار شرعا ، والرجوع ملازم لضمان بدل التالف من المثل أو القيمة ، فالمعارضة بين أصالة بقاء السلطنة وبين أصالة براءة الذمة تكون بملاحظة الملازمة بين جواز الرجوع واستلزامه لضمان التالف.

والوجه في الملازمة أمّا القطع بعدم مجانية التالف ، وإمّا لما حكي عن بعض تلامذة المصنف من الإجماع المركب على التلازم بين جواز رجوع مالك العين الباقية وجواز رجوع مالك العين التالفة ببدلها.

١٩٩

ذمّته (١) عن مثل التالف عنده أو قيمته (٢).

والتمسّك (٣) بعموم «على اليد» هنا

______________________________________________________

هذا توضيح إشكال شيخنا الأعظم على كلام بعض مشايخه من الحكم ببقاء الإباحة بتلف إحدى العينين أو بعض إحداهما.

(١) هذا الضمير وضمير «عنده» راجعان الى مالك العين الموجودة.

(٢) أي : قيمة التالف ، إن كان قيميّا.

(٣) إشارة إلى توهّم وجوابه ، ومقصود المتوهم إبطال المعارضة التي أوقعها المصنف بين أصالتي بقاء السلطنة وبراءة الذمة. توضيح التوهم : أنّه لا تصل النوبة إلى المعارضة المزبورة ، وذلك لوجود الدليل الاجتهادي ـ الحاكم على أصالة البراءة ـ وهو قاعدة اليد ، حيث إنّ كلّ واحد من المتعاطيين وضع يده على مال الآخر ، إذ بناء على الإباحة ـ كما هو مفروض البحث ـ يكون المال باقيا على ملك الدافع ، إذ لم يدخل في ملك الآخذ ، فتكون يد الآخذ مضمّنة ، فإذا تلف وجب عليه أداء المثل أو القيمة. ومع هذه القاعدة الاجتهادية لا موضوع لأصالة براءة ذمة من تلف عنده المال عن البدل ، حتى تكون معارضة لأصالة بقاء السلطنة.

وعليه تكون نتيجة الجمع بين قاعدة اليد واستصحاب سلطنة مالك العين الموجودة هي عدم لزوم الإباحة بتلف إحدى العينين ، فيجوز له استرداد عينه ودفع بدل العين التالفة إلى مالكها ، هذا.

وقد دفع المصنف قدس‌سره هذا التوهم بما حاصله : أنّ الضمان ـ بناء على تسليمه ـ ليس مستندا إلى اليد قطعا ، لأنّها معدومة عند الحكم بالضمان وهو حال التلف. واليد السابقة على التلف لم تكن يد ضمان ، لكونها بإذن الشارع أو المالك ، إذ لو كانت يد ضمان لكانت موجبة للضمان في الصورة السابقة ، وهي تلف العينين.

ولا فرق في عدم اقتضاء «على اليد» لضمان بدل التالف بين أن يكون قاصدا لإمضاء المعاطاة وعدم استرداد ماله الموجود من المتعاطي الآخر ، وبين أن يكون

٢٠٠