هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

لزومها «بأن الأفعال ليست كالأقوال في صراحة الدلالة» (١). وكذا ما تقدّم من الشهيد رحمه‌الله في قواعده من «أنّ الفعل في المعاطاة لا يقوم مقام القول ، وإنّما يفيد الإباحة» (٢). إلى غير ذلك من كلماتهم الظاهرة في أنّ محلّ الكلام هو الإنشاء الحاصل بالتقابض.

وكذا كلمات العامة (٣) ، فقد ذكر بعضهم : أنّ البيع ينعقد بالإيجاب والقبول وبالتعاطي (١).

ومن (٢) أنّ الظاهر أنّ عنوان التعاطي (*) في كلماتهم لمجرّد (٣)

______________________________________________________

(١) الظاهر في التقابض. وإرادة مطلق الفعل منه ـ ولو مجرّد وصول العوضين ـ محتاجة إلى القرينة.

(٢) معطوف على قوله قبل أسطر : «من أن ظاهر .. إلخ» وهذا ثاني وجهي الاشكال ، ومقصوده تصحيح المعاطاة بمجرّد وصول العوضين ، وعدم توقفها على القبض ولو من طرف واحد.

وحاصله : أنّ عنوان التعاطي لم يقع في حيّز دليل حتى يتبع ذلك بخصوصه. وعليه فاللازم حينئذ ملاحظة دليل صحة المعاطاة ، فإن اقتضى دليلها التعدّي عن التعاطي إلى كلّ فعل يدلّ على الرضا فلا بدّ من التعدّي إليه ، وإلّا فيقتصر على التعاطي ، فنقول : إنّ عمدة الدليل على صحة المعاطاة هي السيرة الموجودة في غير صورة التقابض أيضا ، لوجودها في أخذ الماء والبقل وغير ذلك من الجزئيات من دكاكين أربابها مع عدم حضورهم ، فإنّ بناء الناس على أخذها ووضع الفلوس في الموضع المعدّ لها.

وبالجملة : فعلى هذا يكون المعيار في المعاطاة وصول المالين أو أحدهما مع التراضي بالتصرف.

(٣) خبر قوله : «أن عنوان التعاطي».

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٨

(٢) القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ١٧٨ ، رقم القاعدة ٤٧ والعبارة منقولة بالمعنى.

(٣) تقدم نقل بعض كلماتهم في عدّ الأقوال في المعاطاة ، فراجع ج ١ ، ص ٣٢٩

٣٠١

الدلالة على الرّضا ، وأنّ عمدة الدليل على ذلك هي السيرة (١) ، ولذا (٢) تعدّوا إلى ما إذا لم يحصل إلّا قبض أحد العوضين (٣).

والسيرة موجودة في المقام (٤) ، فإنّ بناء الناس على أخذ الماء والبقل وغير ذلك من الجزئيات من دكاكين أربابها مع عدم حضورهم ، ووضعهم الفلوس في الموضع المعدّ له ، وعلى (٥) دخول الحمام مع عدم حضور صاحبه ، ووضع الفلوس في كوز الحمّامي.

فالمعيار (٦) في المعاطاة وصول المالين أو أحدهما مع التراضي بالتصرف. وهذا (٧) ليس ببعيد

______________________________________________________

(١) قد تكرّرت السيرة في كلمات الأصحاب ، واستدلّ بها المصنف على مدّعاه من إفادة الملك بقوله : «للسيرة المستمرة على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك» (١).

(٢) يعني : ولأجل كون التعاطي لمجرّد الدلالة على الرّضا ـ وعدم خصوصية للتعاطي ـ تعدّوا .. إلخ.

(٣) يعني : حصل إنشاء المعاملة بقبض أحد العوضين ، وكان قبض العوض الآخر بعنوان الوفاء.

(٤) أي : في وصول العوضين ـ بدون التعاطي ـ مع الرضا بالتصرف.

(٥) معطوف على «أخذ الماء» يعني : أنّ بناء الناس على دخول الحمّام مع .. إلخ.

(٦) هذه نتيجة عدم دخل خصوصية التقابض في حصول المعاطاة.

وعليه تمّ إلى هنا إدراج الوجه الرابع في المعاطاة ، لكنّه مقيّد بالمعاطاة المبيحة لا المملّكة. وبهذه العبارة قد وفى المصنف قدس‌سره بما وعده في التنبيه الثاني ـ في حكم انعقاد المعاطاة بمجرّد إيصال المثمن وأخذ المثمن ـ بقوله : «وسيأتي توضيح ذلك في مقامه إن شاء الله تعالى».

(٧) يعني : وحصول المعاطاة بوصول المالين أو أحدهما ـ مع التراضي بالتصرف ـ ليس ببعيد على القول بالإباحة.

__________________

(١) : راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ، ص ٣٧١

٣٠٢

على القول بالإباحة (١) (*).

______________________________________________________

(١) لعلّ وجه هذه التقييد هو : أنّ دليل هذه المعاطاة ـ وهو السيرة ـ لا يساعد على أكثر من القول بالإباحة ، ولا يساعد على القول بالملك.

هذا آخر ما أردنا إيراده من توضيح كلام المصنف قدس‌سره في المعاطاة ، ونرجو من فضله تعالى شأنه أن يمنّ علينا بالقبول ، وأن ينفع به إخواننا المتّقين من أهل العلم والفضل ، زاد الله تعالى في تأييداتهم.

__________________

(*) لا ينبغي الإشكال في حصول الإباحة بذلك ، وعدم توقفها على التقابض. لكن ترتيب آثار المعاطاة عليها مشكل جدّا ، فلا يلزم بما تلزم به المعاطاة ، بل ليس ذلك إلّا إباحة مالكية منوطة بطيب النفس.

وبالجملة : لا يكون ما أفاده المصنف قدس‌سره من الصورة الرابعة ـ وإناطة كونها من المعاطاة بتسليم أمرين ـ ممّا يمكن المساعدة عليه.

إذ في أوّلهما : عدم كون طيب النفس الإنشائي في المعاملات ـ التي منها المعاطاة ـ كافيا في صحتها ، وإن كان ذلك كافيا في جواز التصرفات الخارجية.

وفي ثانيهما : أنّ المتيقن من السيرة ـ التي هي عمدة الدليل على الإباحة المعاطاتية ـ هو التقابض الذي هو المعاطاة المتداولة بين الناس ، والأمثلة المزبورة ليست من المعاطاة ، بل من الإباحة المالكية المتقومة بطيب النفس.

مضافا إلى : أنّ تصحيح هذه الصورة بالسيرة مناف لما تقدّم من الاستدلال بالسيرة على مملّكية المعاطاة ، كمنافاته للخدشة فيها بكونها ناشئة من قلّة المبالاة بالدين.

ووجه المنافاة إنّ السيرة على إنشاء المعاملة بالتقابض إمّا أن تكون مع قصد التمليك أو الإباحة ، ولا تعدّد في عمل العقلاء والمتشرعة حتى يعتمد عليه تارة في إفادة الملك ، وأخرى في الإباحة. ثم لو فرض رمي السيرة بقلة المبالاة لم تكن دليلا على شي‌ء من الملك والإباحة كما لا يخفى ، فتأمّل في كلمات المصنف لعلّك تجد للجمع بينها سبيلا

٣٠٣

مقدمة (١)

______________________________________________________

مقدمة في ألفاظ عقد البيع

(١) قد تعرّض المصنف قدس‌سره في هذه المقدمة لمقصدين.

أحدهما : البحث في اعتبار أصل اللفظ في البيع.

والثاني : في اعتبار الخصوصيات الملحوظة في اللفظ بعد اعتبار أصله.

وقد تضمّن المقصد الأوّل لأمور :

أحدها : أن اعتبار اللفظ في البيع ، بل في جميع العقود اللازمة ممّا نقل عليه الإجماع ، فأصالة اللزوم في الملك وإن اقتضت ترتب ملك لازم على المعاطاة المقصود بها الملك ، إلّا أنّ الإجماع المزبور أوجب الخروج عن عموم أصالة اللزوم ، وأنّ المفيد للملك اللّازم هو الإيجاب والقبول اللّفظيّان ، فالمعاطاة تفيد الملك الجائز ، ويتوقف لزومها على طروء الملزم.

ثانيها : أن القدر المتيقن من الإجماع المتقدم هو صورة قدرة المتبايعين على الإنشاء القولي ، لكونه دليلا لبّيّا. وأما العاجز عن مباشرة اللفظ كالأخرس فلا خلاف ولا إشكال في قيام الإشارة فيه مقام اللفظ ، سواء تمكّن من التوكيل أم لا.

هذا إذا قلنا بأنّ معاطاة الأخرس كمعاطاة المتكلم تفيد ملكا جائزا. وأما بناء على الفرق بينهما ، وأن الإنشاء الفعلي من الأخرس كالإنشاء القولي من غيره فلا يتوقف

٣٠٤

في خصوص (١) ألفاظ عقد البيع.

قد عرفت (٢) أنّ اعتبار اللفظ في البيع ـ بل في جميع العقود ـ ممّا نقل عليه الإجماع (٣) ، وتحقّق فيه الشهرة العظيمة (٤) ، مع الإشارة إليه في بعض

______________________________________________________

لزوم بيعه على الإشارة والكتابة أصلا ، وذلك لأنّ المتيقن من الإجماع على اعتبار اللّفظ في اللزوم هو القادر عليه ، فتكون معاطاته جائزة ، وأمّا العاجز عن اللفظ فيبقى تحت عموم أصالة اللزوم. وسيأتي مزيد توضيح للفرق بين معاطاة الأخرس وغيره.

ثالثها : أنّ الظاهر كفاية الكتابة مع العجز عن الإشارة. وأمّا مع التمكن منها فقد ترجّح الإشارة ، لكونها أظهر في الإنشاء ، هذا إجمال ما أفاده المصنف في المقصد الأوّل.

(١) يعني : الخصوصيات الدخيلة في ألفاظ عقد البيع ، في قبال الإكتفاء بمطلق اللفظ فيه.

(٢) يعني : في أدلة اللزوم. ثم إنّ هذا شروع في المقصد الأوّل.

(٣) حيث قال بعد الفراغ من أدلة اللزوم : «وعن جامع المقاصد : يعتبر اللفظ في العقود اللازمة بالإجماع» ولم أظفر على تصريحه بالإجماع ، وإن تكرّر منه قوله : «العقود اللازمة تتوقف على اللفظ» فقال ـ في اعتبار الماضوية والموالاة والإعراب والبناء في عقد البيع ـ ما لفظه : «وكذا كل عقد لازم ، لأنّ الناقل هو الألفاظ المخصوصة ، وغيرها لم يدلّ عليه دليل» (١).

وقريب منه كلامه في الإجارة والهبة والنكاح ، فراجع. ولعلّه استفيد الإجماع من إرسال الحكم إرسال المسلّمات.

(٤) كما في المسالك ـ في شرح ما أفاده المحقق قدس‌سره من عدم كفاية التقابض في حصول الملك ـ حيث قال : «هذا هو المشهور بين الأصحاب ، بل كاد يكون إجماعا» (٢) ونحوه عبارته في شرح اللمعة.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٦٠

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٤٧ ، الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٢

٣٠٥

النصوص (١). لكن هذا (٢) يختص بصورة القدرة.

أمّا مع العجز عنه كالأخرس ، فمع عدم القدرة على التوكيل لا إشكال ولا خلاف في عدم اعتبار اللفظ ، وقيام الإشارة مقامه (٣).

______________________________________________________

(١) كقوله عليه‌السلام : «إنّما يحلل الكلام ويحرم الكلام» وقال المصنف قدس‌سره في ذيله : «وكيف كان فلا تخلو الرواية عن إشعار أو ظهور» ثم ذكر روايات أخر مشعرة باعتبار اللفظ في عقد البيع (١).

(٢) يعني : أنّ اعتبار اللفظ في العقود مختصّ بحال القدرة. قال المحقق الأردبيلي قدس‌سره : «إنّما يشترط أي اللفظ المعتبر مع الإمكان ، ومع التعذّر يقوم مقامه الإشارة كما في الأخرس ومن بلسانه آفة ، فإنّها بمنزلة تكلمه» (٢).

وفي الروضة : «وتكفي الإشارة الدالّة على الرّضا على الوجه المعيّن مع العجز عن النطق لخرس وغيره ، ولا تكفي مع القدرة» (٣).

وفي مفتاح الكرامة : «قد طفحت عباراتهم بأنّ العاجز عن النطق لمرض وشبهه كالأخرس» (٤).

وكيف كان فالظاهر عدم اختصاص الحكم بالأخرس ، بل موضوع المسألة هو العاجز عن النطق وإن لم يكن أخرس.

وقال في الجواهر : «ودعوى اختصاص ذلك في خصوص الأخرس كما ترى ، ضرورة عدم الفرق بين الجميع ، كما لا يخفى على من أحاط خبرا بمدرك المسألة» (٥).

(٣) لأنّ الإشارة حينئذ ـ كالقول من القادر على التلفظ ـ عهد مؤكّد ، فيشمله

__________________

(١) : تقدم ذكرها في ج ١ ، ص ٥٧٤ و٥٧٦ و٦٠٧ و٦٠٨

(٢) مجمع الفائد والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٤٤ ، ذكر هذا الكلام في شرح قول العلامة : «ولو تعذر النطق كفت الإشارة».

(٣) الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٥

(٤) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٣

(٥) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥١

٣٠٦

وكذا (١) مع القدرة على التوكيل. لا لأصالة عدم وجوبه (٢) ـ كما قيل (٣) ـ

______________________________________________________

قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) توضيحه : أنّ الصادر من القادر على التلفظ قد يكون عهدا غير مؤكّد ، وقد يكون مؤكّدا وهو المسمّى بالعقد ، فللقادر على التكلم سنخان من العهد. وكذلك يتصور هذان السنخان بالنسبة إلى العاجز عن النطق كالأخرس ، فإنّ له أيضا سنخين من العهد بلحاظ قوّة الدلالة على العهد وضعفها ، فإنّ للإشارة منه ـ كاللفظ من غيره ـ دلالة قويّة على العهد.

ولا مجال لتوهم لزوم تحريك لسانه هنا كلزومه في باب القراءة. وذلك لأنّ المطلوب هناك هو القراءة ، وتحريك لسانه بما يناسبها هو المقدار المقدور عليه منها. بخلاف المقام ، فإنّ المطلوب فيه هو الدلالة على تأكّد العهد ، والإشارة من العاجز عن التكلم دالّة عليه ، فلا حاجة إلى تحريك اللسان.

هذا كله مضافا إلى : إطلاق ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود. والمتيقن من الخارج هو القادر على التلفظ مباشرة ، فإنّه يجب عليه الإنشاء اللفظي. وأمّا إذا كان عاجزا عن التكلم مباشرة ـ وإن كان قادرا عليه تسبيبا بالتوكيل ـ فلا يشمله الإجماع ، فمقتضى الإطلاق الإكتفاء بالإشارة ، وعدم توقف صحته على التوكيل.

(١) معطوف على «فمع عدم القدرة على التوكيل».

(٢) ولا لقوله عليه‌السلام : «كلّما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر» لقصوره عن نفي وجوب التوكيل.

(٣) لعلّ القائل المحقق الثاني قدس‌سره فإنّه قال : «يجوز لمن لا يعلم الإيقاع بمقدوره ، ولا يجب التوكيل للأصل. نعم يجب التعلم إن أمكن من غير مشقة عرفا» (١) فاستند قدس‌سره في نفي وجوب التوكيل إلى أصالة عدم وجوبه.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٦٠

٣٠٧

لأنّ (١) الوجوب بمعنى الاشتراط ـ كما فيما نحن فيه ـ هو الأصل (*).

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «لا لأصالة» وغرضه منع جريان أصالة عدم وجوب التوكيل ، بتقريب : أنّ مقتضى الأصل عدم سببية ما شكّ في سببيّته ، من جهة احتمال اشتراطه بشرط مفقود ، فلا يحكم بتحقق المسبب كالملكية إلّا بعد وجود جميع ما يحتمل دخله في سببية السبب.

وبعبارة أخرى : أصالة عدم وجوب التوكيل لا مجرى لها في المقام ، سواء أريد بها الاستصحاب أي أصالة عدم الجعل ، أم أريد بها أصالة البراءة.

وجه عدم الجريان : أنّ المشكوك فيه ليس هو الوجوب التكليفي ـ كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ـ حتّى يدفع بأصالة عدم وجوبه ، بل هو الوجوب الوضعي بمعنى اشتراط صحة بيع الأخرس ـ وسائر معاملاته ـ بالتوكيل عند قدرته عليه ، ومن المعلوم أنّ أصالة الفساد المحكّمة في المعاملات تقتضي الاشتراط ، إذ بدون التوكيل يشك في تأثير إشارة الأخرس في مقام الإنشاء ، فتأمّل.

__________________

(*) كون الأصل هو الاشتراط مبنيّ على عدم عموم أو إطلاق في أدلة المعاملات ، وإلّا فأصالة العموم تنفي الشرطية. ولعلّ مراد القائل بجريان أصالة عدم الوجوب ذلك ، فليس مراده الأصل العملي ، ومعها لا تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وهو أصل عدم السببية أو عدم ترتب الأثر الذي هو المحكّم في المعاملات.

ثم إنّه قد يتوهم : أنّ وجه عدم جريان أصالة عدم الاشتراط هو عدم جريان أصالة البراءة في الأحكام الوضعية ، ولذا دفعه المحقق الإيرواني قدس‌سره بجريانها فيها ، مستدلّا على ذلك باستدلال الامام عليه‌السلام بحديث الرفع على بطلان طلاق المكره وعتاقه ، (١) ، فلاحظ.

لكن الإنصاف أنّه ليس وجه عدم جريان أصالة عدم الوجوب ذلك ، بل ما أفاده المصنف من فحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس ، ومن المعلوم أنّه

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٩

٣٠٨

بل (١) لفحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس ، فإنّ حمله (٢) على صورة عجزه عن التوكيل حمل المطلق على الفرد النادر.

______________________________________________________

(١) معطوف على «لا لأصالة» وغرضه إقامة الدليل على أنّ العاجز عن النطق لا يجب عليه التوكيل حتى تنشأ المعاملة بالإيجاب والقبول اللفظيين.

ومحصل الاستدلال هو : استفادة جواز البيع ـ بالإشارة ـ بالأولوية من حكم الشارع بصحة طلاق الأخرس بالإشارة المفهمة للمقصود ، ففي معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها ، ويضعها على رأسها ، ثم يعتزلها» (١).

ونحوها مرسلة السكوني (٢).

وتقريب الدلالة : أنّ إطلاقهما يشمل صورة التمكن من التوكيل. وحمل هذا الإطلاق على صورة العجز عن التوكيل حمل المطلق على الفرد النادر ، فلا يجوز.

وتعبير المصنف قدس‌سره بالفحوى إنّما هو لأجل اهتمام الشارع في الأعراض أشدّ من اهتمامه في الأموال ، فإذا كان اعتبار التلفظ بالطلاق ـ عند العجز عنه ـ ساقطا حتّى مع التمكن من التوكيل ، فسقوطه في المعاملات المالية التي ليست كالفروج في الأهمية بالأولوية.

(٢) أي : حمل ما ورد في طلاق الأخرس على صورة العجز حمل للمطلق على الفرد النادر ، وهو في عدم الجواز كتخصيص العام بأكثر أفراده.

__________________

مع الدليل الاجتهادي لا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

كما أنّه لا تصل النوبة ، إلى أصالة الفساد المحكمة في المعاملات ، بعد وجود الدليل الاجتهادي على عدم اعتبار التوكيل الحاكم على أصالة الفساد.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٣٠١ ، الباب ١٩ من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، الحديث : ٥

(٢) المصدر ، ص ٣٠٠ ، الحديث : ٣

٣٠٩

مع (١) أنّ الظاهر عدم الخلاف في عدم الوجوب (٢).

ثمّ (٣) لو قلنا بأنّ الأصل في المعاطاة اللزوم ـ بعد القول بإفادتها للملكية ـ

______________________________________________________

(١) إشارة إلى دليل آخر على عدم وجوب التوكيل على العاجز عن التكلم ، وحاصله : أنّ الظاهر نفي الخلاف عن عدم وجوب التوكيل ، ففي مفتاح الكرامة : «ولم ينصّ أحد على وجوب التوكيل في الأخرس ، ولا احتاط به» (١).

(٢) أي : وجوب التوكيل.

(٣) يعني : أنّ العاجز عن مباشرة اللفظ كالأخرس تكون معاطاته لازمة وإن كانت معاطاة المتكلم جائزة. وغرضه قدس‌سره من هذه الجملة التنبيه على أمرين :

الأوّل : الاستدراك على ما أفاده بقوله : «أما مع العجز عنه كالأخرس وقيام الإشارة مقامه ..» حيث إنّ ظاهره توقف لزوم عقد الأخرس على ما يقوم مقام اللفظ من إشارة مفهمة ثم كتابة ، فلا يكفي مجرّد التقابض في لزوم بيعه ، كما لا يكفي من القادر على اللفظ.

ومحصّل الاستدراك : أنّ اعتبار الإشارة في معاملة الأخرس مبنيّ على إفادة المعاطاة للملك الجائز ، فيقال : كما أنّ للقادر على اللفظ نحوين من الإنشاء ، أحدهما لفظي لازم ، والآخر فعلي جائز ، فكذا الأخرس. فإن اقتصر على التقابض كان كمعاطاة المتكلّم مفيدا للملك الجائز. وإن ضمّ الإشارة إلى التقابض كان إنشاؤه مفيدا للملك اللازم.

وأمّا بناء على ما هو الحق من عموم أصالة اللزوم ـ وأنّ الخارج عنها بالإجماع خصوص معاطاة المتمكّن من اللّفظ ـ كانت معاطاة العاجز عنه باقية تحت عموم أصالة اللزوم.

وعلى هذا لا يجب على الأخرس إفهام مقصوده بالإشارة ، ثم بالكتابة ، بل يكفيه التعاطي بقصد البيع. وذلك لما عرفت من أنّ الإجماع على اعتبار اللفظ في

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٤

٣١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

العقود اللازمة دليل لبيّ ، ولم يعلم قيامه على خروج كل عقد فعلي عن عموم أصالة اللزوم ، أو على خروج إنشاء خصوص القادر على اللفظ. وقد تقرّر في الأصول مرجعيّة أصالة العموم ـ عند دوران المخصّص المنفصل المجمل المردّد بين الأقل والأكثر ـ في ما عدا المتيقن من المخصص. فيحكم بالفرق بين معاطاة القادر على التلفظ والعاجز عنه ، بالجواز في الأوّل واللزوم في الثاني.

ونتيجته : أنّه لا يتوقف لزوم عقد الأخرس على الإشارة القائمة مقام اللفظ ، بل كما تصحّ إشارته تصح معاطاته ، وتفيد ملكا لازما.

الثاني : أنّ ظاهر المتن وجود سنخين من الإنشاء في العاجز عن التكلم ، فتارة يأتي بالإشارة المفهمة للمقصود ، فتقوم مقام اللفظ بالنسبة إلى القادر عليه. وأخرى يقتصر على مجرّد الإعطاء والأخذ بقصد التمليك والتملك ، فيكون كالتقابض من المتكلم. ولكن معاطاة القادر على التلفظ والعاجز عنه مختلفان حكما ، فهي من المتكلم جائزة ، ومن العاجز عنه لازمة.

وحيث كانت الإشارة والمعاطاة متمشّية من مثل الأخرس ـ وإن لم يكن بينهما فرق في الحكم ـ توقّف إحراز أحدهما على القرينة المعيّنة.

وهذا المطلب قد أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره أيضا بقوله : «نعم يعتبر وجود القرينة الدالة على إرادة العقد بها ـ أي بالإشارة ـ أو المعاطاة. وبها يحصل الفرق بين المعاطاة والعقد في العاجز» (١).

ولكنه في جملة أخرى من كلامه استفاد من إطلاق كلام الفقهاء ـ من قيام إشارة الأخرس مقام الصيغة ـ أنّهم قائلون بعدم كون المعاطاة بيعا ، قال قدس‌سره : «ولكن قد سمعت سابقا إطلاق الأصحاب قيام الإشارة مقام العقد من غير إشارة إلى بيع المعاطاة. وفيه إشارة إلى عدم كونها بيعا» (٢).

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥١

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥٢

٣١١

فالقدر المخرج (١) صورة قدرة المتبايعين على مباشرة اللفظ.

والظاهر أيضا كفاية الكتابة (٢) مع العجز عن الإشارة ، لفحوى ما ورد

______________________________________________________

وظاهر هذا الكلام أنّ الشارع أقام إشارة الأخرس مقام اللفظ ، وليس له إنشاء آخر بالتقابض ليكون قسيما للإشارة ، بل كل ما عدا اللفظ مشمول لعنوان «الإشارة».

وعلى هذا يشكل ما في المتن من تصوير نحوين من الإنشاء في حقّ الأخرس كالقادر على التلفظ.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بأنّه لا وجه لإنكار المعاطاة من الأخرس ، للفرق بين الإشارة والتقابض. ويمكن توجيه كلام الفقهاء ـ الذي استفيد منه إنكارهم لبيعية معاطاة الأخرس ـ بأحد أمرين :

الأوّل : أنّه مبني على مرامهم من كون المعاطاة إباحة تعبدية لا بيعا. وأمّا بناء على بيعيّتها ـ كما حققناها مفصّلا ـ فلا وجه لاختصاص المعاطاة بالقادر على التكلم بل يمكن صدورها من الأخرس أيضا.

الثاني : أنّهم قدس‌سرهم بصدد بيان ما يقوم مقام الصيغة المعتبرة من المتكلم ، فقالوا بقيام إشارة الأخرس مقامها. وأمّا إنشاء المعاملة بالمعاطاة فلا يختلف فيه القادر على اللفظ والعاجز عنه حتى يحتاج إلى تصريح. وأمّا ترتب الإباحة أو الملك الجائز أو اللازم على المعاطاة فهو أجنبي عن أصل تحقق الموضوع. وقد عرفت أنّ المصنف حكم بلزوم الملك في معاطاة الأخرس تمسكا بأصالة اللزوم. هذا.

(١) يعني : أنّ القدر الخارج ـ بالإجماع ـ عن عموم أصالة اللزوم هو معاطاة القادر على التكلم ، فهي جائزة ، وأما معاطاة الأخرس فباقية تحت العموم.

(٢) هذا إشارة إلى أمر آخر يقوم مقام اللّفظ ـ بالنسبة إلى العاجز عن التكلم ـ وهو الكتابة ، ولكنّها متأخرة رتبة عن الإشارة. فلا تصل النوبة إلى الإنشاء بالكتابة مع تمكّنه من الإشارة المفهمة لمقصوده. واستدلّ المصنف قدس‌سره على صحّة إنشاء البيع

٣١٢

من النص (١) على جوازها في الطلاق.

مع (٢) أنّ الظاهر عدم الخلاف فيه.

وأمّا مع القدرة على الإشارة فقد رجّح بعض (٣) الإشارة.

______________________________________________________

بالكتابة بوجهين ، أحدهما : فحوى جواز إنشاء الطلاق بها ، ثانيهما : الإجماع.

(١) كخبر يونس : «في رجل أخرس كتب في الأرض بطلاق امرأته. قال : إذا فعل في قبل الطهر بشهود ، وفهم منه كما يفهم من مثله ، ويريد الطلاق جاز طلاقه على السنة» (١).

وقريب منه غيره ، فإنّ الإكتفاء بالكتابة في الطلاق ـ مع شدّة اهتمام الشارع بحفظ الفروج ـ يدلّ بالأولوية على كفاية الكتابة في المعاملات المالية.

(٢) يعني : لو فرض عدم وفاء النصّ الوارد في طلاق الأخرس بالكتابة ـ بإثبات جواز إنشاء البيع ـ لم يقدح في الالتزام بجواز إنشاء البيع بالكتابة ، وذلك لتسالم الأصحاب على كفايتها ، كما لا يخفى على من راجع كلماتهم ، قال السيد الفقيه العاملي قدس‌سره : «وأما الكتابة فكالإشارة كما في التحرير وغيره» (٢).

(٣) قال الشهيد قدس‌سره في شرائط صيغة البيع : «ولا ـ أي ولا تكفي ـ الكتابة حاضرا كان أو غائبا. ويكفي لو تعذّر النطق مع الإشارة» (٣) أي الإشارة المفهمة كما صرّح بها في إشارة الأخرس. ونحوه كلام العلّامة في النهاية (٤).

ويظهر أيضا من كاشف الغطاء على ما في الجواهر : «فما في شرح الأستاد من أنّ الكتابة قاصرة عن الإشارة لا يخلو من نظر» (٥).

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٣٠٠ ، الباب ١٩ من أبواب مقدمات الطلاق ، الحديث : ٤

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٦٣

(٣) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩٢

(٤) نهاية الاحكام ، ج ٢ ، ص

(٥) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٥١

٣١٣

ولعلّه (١) لأنّها أصرح في الإنشاء من الكتابة.

وفي بعض روايات الطلاق (٢) ما يدلّ على العكس (٣) ، وإليه ذهب الحلي رحمه‌الله هناك (٤) (*).

______________________________________________________

(١) يعني : ولعلّ وجه الترجيح هو كون الإشارة أصرح في الإنشاء من الكتابة ، حيث إنّ الكتابة لا تفيد الإنشاء إلّا بقرينة ، فإنّ الإنسان غالبا يكتب شيئا لغرض آخر غير الإنشاء كامتحان المداد والقلم ، أو حكاية كلام شخص سمعه ، أو غير ذلك ، فلا ظهور للكتابة في الإنشاء.

(٢) كصحيح ابن أبي نصر البزنطي : «قال : سألت الرّضا عليه‌السلام عن رجل تكون عنده المرأة يصمت ولا يتكلّم ، قال : أخرس هو؟ قلت : نعم ، ويعلم منه بغض لامرأته وكراهة لها ، أيجوز أن يطلّق عنه وليّه؟ قال : لا ، ولكن يكتب ويشهد على ذلك.

قلت : فإنّه لا يكتب ولا يسمع كيف يطلّقها؟ قال : بالذي يعرف به من فعاله مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها» (١).

(٣) حيث إنّه قدّم في رواية ابن أبي نصر الكتابة ، ولو كانت متأخرة عن الإشارة كان اللازم تقديم الإشارة على الكتابة.

(٤) أي : في كتاب الطلاق ، حيث قال : «ومن لم يتمكّن من الكلام ـ مثل أن يكون أخرس ـ فليكتب الطلاق بيده إن كان ممّن يحسن الكتابة ، فإن لم يحسن فليؤم إلى الطلاق كما يومي إلى بعض ما يحتاج إليه ، فمتى فهم من إيمائه ذلك وقع طلاقه» (٢).

__________________

(*) ينبغي قبل تحقيق كلام المصنف قدس‌سره ، بيان مقدمة ، وهي : أنّ الاعتبارات النفسانية ـ العقدية أو الإيقاعية ـ تتصور ثبوتا على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تكون مع الغض عن إبرازها بمبرز ـ قولي أو فعلي ـ موضوعا لآثار شرعية ، كإنكار النّبوّة أو ضروري من ضروريات الدّين ، أو الاعتقاد بشريك له تعالى ، فإنّ

__________________

(١) : وسائل الشيعة ج ١٥ ، ص ٣٠٠ ، الباب ١١ من أبواب مقدمات الطلاق ، الحديث : ١

(٢) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٦٧٨

٣١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن يظهر من جماعة منهم ابن زهرة والمحقق الأردبيلي والشهيد الثاني وغيرهم قدس‌سرهم عدم الترتيب بين الإشارة والكتابة ، وأنّهما في رتبة واحدة ، بل كلّ ما يفهم منه الطلاق يجوز إنشاؤه به ، ويظهر ذلك أيضا من صاحب الجواهر ، حملا لما في حسنة البزنطي ـ من ذكر الكتابة ـ على كونها أحد أفراد ما يقع به الطلاق (١) ، فلا تدلّ الحسنة على تعيّن تقديم الكتابة على الإشارة ، فلاحظ.

__________________

مجرّد الإنكار النفساني ـ ولو بدون إبرازه بفعل أو قول ـ يوجب الارتداد الذي هو موضوع لأحكام شرعية.

وكالتوبة ، حيث إنّ حقيقتها الندم القلبي والعزم على ترك المعاصي من دون اعتبار إبرازها بمبرز قولي وإن كان أحوط.

وكالعهد ـ على احتمال ضعيف ـ فإنّه قد احتمل بعض كفاية النيّة في ترتيب آثار العهد عليها. لكنّه في غاية الضعف كما ثبت في محله.

ثانيها : أن تكون موضوعيّتها للآثار الشرعية منوطة بإبرازها سواء أكان مبرزها قولا أم فعلا ، كما في جملة من العقود والإيقاعات كالوكالة والإجارة والهبة والرّهن والقرض والبيع وغيرها.

ثالثها : أن تكون موضوعيتها للآثار الشرعية منوطة بإبرازها بمبرز خاصّ كالطلاق والنذر والنكاح ، فإنّ مبرزها لا بدّ أن يكون قولا بنحو خاص. وكالإسلام ، فإنّ إبرازه بالشهادتين موضوع للآثار الشرعية.

وربما تكون أكثر الملكات كذلك ، فإنّ ملكة العدالة أو الاجتهاد مثلا لا يترتب عليها الأثر الشرعي إلّا إذا أبرزت. وكذلك الملكات الرذيلة ، فإنّ الحسد مثلا وإن كان بنفسه مذموما ، لكن موضوعيته للحرمة منوطة بالإبراز ، كما يدلّ عليه حديث الرفع ،

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ٦١

٣١٥

.................................................................................................

__________________

فيكون المبرز جهة تقييديّة.

إذا عرفت هذه المقدمة ، فاعلم : أنّ الكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في ما يقتضيه الدليل الاجتهادي من اعتبار المبرز وعدمه.

والثاني : في ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في اعتبار أصل المبرز ، أو في اعتبار مبرز خاص.

أمّا المقام الأوّل فإشباع الكلام فيه منوط بتتبع تامّ في أدلة تشريع الأحكام للاعتبارات النفسانية في كلّ مقام ، فإن ثبت بتلك الأدلة أنّ الموضوع ذلك الاعتبار النفساني من حيث هو وإن لم يبرز بمبرز فلا كلام. وإن ثبت بها أنّ الموضوع ذلك الاعتبار النفساني أو الصفة النفسانية بوصف الإبراز ـ بحيث يكون الإبراز جهة تقييديّة ـ فإن دلّت تلك الأدلة على إطلاق المبرز ، وأنّه لا فرق فيه بين كونه قولا وفعلا ، أو دلّت على دخل مبرز خاصّ من قول متخصّص بخصوصيات مادية وهيئيّة كصيغتي الطلاق والنكاح ـ على المشهور ـ فلا إشكال في ذلك.

وأمّا المقام الثاني فمحصل الكلام فيه : أنّ الشك في اعتبار المبرز يتصور على وجهين :

الأوّل : أن يكون الشك في اعتبار أصل المبرز ، كما إذا شك في أنّه هل يعتبر في ترتيب آثار العدالة ـ بناء على كونها ملكة ـ وجود مبرز أم لا.

الثاني : أن يكون الشك في اعتبار مبرز خاص بعد دلالة الدليل على اعتبار أصل المبرز ، كما إذا دل الدليل على اعتبار إبراز البيع مثلا بالقول ، ثم شكّ في اعتبار كيفيّة خاصة فيه كالماضوية والعربية ، أو دلّ على اعتبار القول مطلقا وشكّ في تحققه بالفعل أيضا.

أمّا الوجه الأوّل فملخّص الكلام فيه : أنّ الشك فيه يرجع إلى الشك في جعل الحكم الشرعي ، فيرجع فيه إلى أصالة البراءة ، لكونه من الشبهة الحكمية الناشئة من فقد

٣١٦

.................................................................................................

__________________

الدليل ، فإذا شككنا في جعل ملكة العدالة ـ بوجودها الواقعي أو بوجودها العلمي ـ موضوعا لأحكام تجري البراءة في تلك الأحكام إن كانت إلزاميّة ، وأصالة العدم إن كانت غير إلزامية كما لا يخفى.

وأمّا الوجه الثاني فمحصل البحث فيه : أنّه إن كان الشّك في اعتبار كيفية خاصة ـ كالماضوية مثلا ـ فمع إطلاق دليل صحة ذلك الأمر الاعتباري كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و «الصلح جائز بين المسلمين» وغير ذلك ، فلا إشكال في الرجوع إلى ذلك الإطلاق المقتضي لنفي اعتبار الكيفية الخاصة ، وعدم دخلها في موضوعية ذلك الاعتبار النفساني ، فيحكم بجواز إبرازه بالقول مطلقا وإن لم يكن بهيئة الماضي مثلا.

ومع عدم إطلاق دليل صحة ذلك الاعتبار يحكم بعدم دخل كيفية خاصة في ترتب الأثر الشرعي ، لأصالة البراءة أو أصالة العدم. وإن كان الشك في موضوعية ذلك الاعتبار إذا أبرز بغير ما دلّ الدليل على مبرزيّته كما إذا دلّ دليل ـ من إجماع أو غيره ـ على اعتبار إنشاء البيع بالقول ، وشككنا في أنّه إذا أنشئ بالفعل ـ من إشارة أو غيرها ـ فهل يترتب عليه ما يترتّب على إنشائه بالقول من الآثار الشرعية أم لا؟ فهذا يتصور على وجهين :

أحدهما : أن يكون الشك في اعتبار خصوص القول تعبّدا مع كون الفعل مصداقا لذلك الاعتبار كالبيع مثلا ، بحيث يكون صدق البيع عرفا على المنشأ بالفعل كصدقه كذلك على المنشأ بالقول.

والآخر : أن يكون الشك في صدق العنوان الاعتباري على الفعل ، كما إذا شكّ في صدق البيع على التمليك المنشأ بالفعل. وهذا أحد المسلكين في عدم إفادة المعاطاة اللزوم ، حيث إنّه قيل بعدم كون الفعل مصداقا لعنوان من عناوين العقود ، فيكون قاصرا عن إفادة التمليك فضلا عن اللزوم ، ولذا ذهبوا إلى إفادتها الإباحة.

والمسلك الآخر هو : إفادة المعاطاة للإباحة ، لا لعدم مصداقيّتها للبيع ، بل للإجماع

٣١٧

.................................................................................................

__________________

المدّعى على اعتبار اللفظ في اللزوم ، مع صدق العقد عليها على حدّ صدقه على القول ، وإفادتها الإلزام والالتزام كإفادة اللفظ.

فإن كان الشك على الوجه الثاني ـ وهو الشك في صدق عنوان العقد ـ فيرجع الشك إلى وجود سبب الانتقال ، ومن المعلوم أنّ قضيّة الاستصحاب عدم الانتقال ، وبقاء المالين على ملك مالكيهما. والمراد بأصالة الفساد هو هذا الاستصحاب.

وإن كان الشك على الوجه الأوّل ـ وهو دخل مبرز خاص تعبّدا كالقول على وجه مخصوص في ترتّب الأثر الشرعي على الاعتبار النفساني ، مع فرض صدق العقد على الفعل ـ فالأصل يقتضي عدم الاعتبار ، لأن دخل المبرز الخاص إنّما يكون بالتعبّد ، فالشكّ فيه شكّ في الجعل الشرعي ، ومقتضى الأصل عدمه. فإنشاء الأمر الاعتباري بالفعل كإنشائه بالقول ممّا يترتب عليه الأثر الشرعي ، لأنّ الشك في ترتب الأثر الشرعي عليه نشأ من احتمال دخل مبرز خاصّ فيه تعبّدا ، وقد نفي ذلك بالأصل. وقد حقّق في محلّه جريان أصل البراءة في الوضعيات كجريانه في التكليفيّات.

فلا يصغى إلى ما قيل من : «أنّ الأصل في المقام يقتضي عدم ترتّب الأثر ، لأنّه يشكّ في ترتّبه على المبرز المزبور ، ومقتضى الاستصحاب عدمه ، فكلّ من المالين باق على ملك مالكه. وهذا مرادهم بكون الأصل في العقود الفساد».

وذلك لأنّ الشك في ترتب الأثر ناش عن الشك في دخل المشكوك اعتباره.

ولمّا كان الدخل تعبديّا جرى فيه البراءة أو أصل العدم ، وبعد جريان الأصل في الشك السببي لا يجري في الشك المسببي حتى يقال : إنّ الأصل الجاري فيه هو أصالة الفساد ، فإنّ جريان أصالة الفساد منوط بأمور :

أحدها : عدم جريان أصالة البراءة في الجزئية والشرطية والسببية والمانعية ، إمّا لعدم تأصّلها في الجعل وكونها منتزعة عن الأحكام التكليفية ، وإمّا لاعتبار كون مجرى أصالة البراءة الشرعية حكما إلزاميّا حتى توجب مخالفته استحقاق العقوبة عقلا الذي ينفيه البراءة العقلية. ولذا قيل : إنّ البراءة الشرعية تنفي الملزوم وهو الحكم ، والعقلية

٣١٨

.................................................................................................

__________________

تنفي اللازم وهو استحقاق العقوبة ، ومن المعلوم أن الحكم الوضعي ـ كالتكليفي غير الإلزامي ـ لا يوجب استحقاق العقوبة ، فلا تجري فيه البراءة ، فهي تختص بالحكم الإلزامي.

ثانيها : عدم تسبب أحد الشكين ـ أعني الشك في الفساد ـ عن الآخر ، وهو الشك في الشرطية.

ثالثها : عدم حكومة الأصل السببي على المسببي.

رابعها : عدم جريان البراءة في المحصّلات ، بناء على كون الإنشاء القولي والفعلي في المعاملات منها.

خامسها : أنّ أصالة البراءة لا تثبت كون الفاقد لمشكوك الدخل موضوعا للأثر المترتب على الاعتبار النفساني المبرز إلّا على القول بالأصل المثبت.

توضيحه : أنّه إذا شككنا في دخل الماضوية مثلا في البيع بحيث لا يكون إنشاؤه وإبرازه بغير صيغة الماضي موضوعا للأثر الشرعي ، فنفي اعتبار الماضوية بأصالة البراءة لا يثبت سببيّة الفاقد لها للأثر الشرعي إلّا بناء على حجية الأصول المثبتة.

لكن الكلّ كما ترى.

إذ في الأوّل : أنّ أصالة البراءة تجري في الوضعيات كجريانها في التكليفيّات ، لوجود المناط وهو كون المشكوك فيه قابلا للوضع والرفع التشريعيين في الوضعيات كوجوده في التكليفيّات.

ودعوى اعتبار كون مجرى البراءة متأصّلا في الجعل ممّا لا شاهد له ، بل الشاهد على خلافها ، حيث إنّ الرفع في مثل حديثه لمّا كان تشريعيّا كان من الضروري صحّة إسناد الرفع إلى ما له شأنيّة التشريع ، والرجوع فيه إلى الشارع بحيث لا يكون المرجع فيه إلّا الشارع ، فاعتبار تأصّله في الجعل قيد زائد ينفى بإطلاق أدلة البراءة. فلا فرق في مورد البراءة بين المتأصّل في الجعل وغيره.

٣١٩

.................................................................................................

__________________

وعلى هذا فتجري البراءة في الحكم الوضعي مطلقا سواء أكان متأصّلا في الجعل كالملكية والزوجية ونحوهما ، أم منتزعا عن حكم تكليفي كالجزئية التي تنتزع عن الأمر المتعلّق بعدّة أمور بنحو الارتباطيّة بأن كانت تلك الأمور مؤثّرة في ملاك واحد. أو عن دخل شي‌ء في موضوع الحكم كدخل الاستطاعة في موضوع وجوب الحج ، فإذا شككنا في دخل الرجوع إلى الكفاية في وجوبه أيضا ، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن الدخل ، فنفي شرطية الرجوع إلى الكفاية يمكن بالبراءة ، لأجل كون منشأ انتزاعها دخل الشارع ذلك في وجوب الحج. كما يمكن بإطلاق الدليل لو كان لفظيّا أو مقاميّا.

ولو لم يكن هذا الدخل شرعيّا لما جاز التمسك لنفيه بالإطلاق ، إذ لا فرق بين الدليل والأصل في كون موردهما ممّا يقبل التشريع. فشرطيّة مثل الرجوع إلى الكفاية لوجوب الحج منتزعة عن دخل الشارع له في موضوع وجوبه.

لكن الحق عدم جريان البراءة في دخل الرجوع إلى الكفاية في وجوب الحج ، لفقدان الامتنان الذي هو شرط لجريان البراءة ، لا لعدم المجعولية.

ومن هنا يظهر غموض ما في تقرير سيدنا المحقق الخويي قدس‌سره من «انقسام الأحكام الوضعية إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون متأصّلا في الجعل كالملكية والزوجية والرقية ونحوها.

الثاني : أن يكون الحكم الوضعي راجعا الى الحكم نفسه كالسببيّة والشرطيّة والمانعية للوجوب مثلا ، فالسببية والشرطية والمانعية منتزعة عن جعل الحكم ولحاظه مقيّدا بقيد وجودي أو عدمي.

الثالث : أن يرجع الحكم الوضعي إلى متعلق التكليف كالجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به ، فإنّها منتزعة من كيفية الأمر المتعلق بأشياء عديدة ، فإنّه ينتزع الجزئية لكل واحد من تلك الأشياء ، كما ينتزع الشرطية من الأمر المتعلق بشي‌ء مقيّدا بوجود شي‌ء آخر كالاستقبال والستر ، والمانعيّة من الأمر بشي‌ء مقيّدا بعدم شي‌ء آخر ، كتقيّد الصلاة بعدم استصحاب المصلّي أجزاء ما لا يؤكل لحمه.

٣٢٠