هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

.................................................................................................

__________________

يجب الدفع من نفس العين التي هي مشتركة بين المالك وبين السّادة أو الفقراء ، فالمبذول حينئذ هو عين مالهم ، وليس من مال المالك أصلا ، كما هو واضح.

ومنها : كون ثمن الهدي مملوكا للناسك كما حكاه المصنف عن الشهيد قدس‌سرهما حيث قال في هذا التنبيه : «وعرفت أيضا : أن الشهيد في الحواشي لم يجوّز إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة وثمن الهدي ، ولا وطي الجارية ، مع أن مقصود المتعاطيين الإباحة المطلقة» وهذه العبارة كالصريح في اعتبار كون ثمن الهدي مملوكا وعدم كفاية إباحته.

لكن فيه : أنّه لم يدلّ دليل على اعتبار ملكية ثمن الهدي ، بل مقتضى إطلاق أخبار الاستطاعة البذليّة (١) ـ وخلوّ روايات وجوب سوق الهدي في حجّ القران (٢) ، ووجوب ذبحه في منى في حج التمتع (٣) عن اعتبار ملك الثمن ـ هو عدم اعتبار كون ثمن الهدي ملكا للناسك ، ففي رواية الفقيه : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساق معه مائة بدنة ، فجعل لعليّ عليه‌السلام منها أربعا وثلاثين ، ولنفسه ستّا وستين ، ونحرها كلّها بيده» الحديث. وهي ظاهرة في عدم اعتبار ملكية ثمن الهدي. ولو شك في اعتبارها فالأصل عدمه.

وعليه فلو جعل المال المباح له ثمنا للهدي كما إذا اشتراه بعينه لنفسه أو أدّى به دينه الذي اشتغلت به ذمّته ، كما إذا جعل ثمن الهدي في ذمّته وأدّاه من المأخوذ بالمعاطاة الذي أبيح له التصرف فيه لم يكن به بأس.

وأمّا ما في تقرير سيدنا الخويي قدس‌سره من : «أنّه لا يتصوّر لإخراج ثمن الهدي من مال الغير معنى معقولا ، وذلك لأنّ المهدي إمّا أن يشتري الهدي بذمّته .. إلى أن قال : وإمّا

__________________

(١) : وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٢٦ إلى ٢٨ ، الباب ١٠ من أبواب وجوب الحج وشرائطه.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ١٤٩ ، الباب ٢ من أبواب أقسام الحج.

(٣) المصدر ، ص ١٦٤ ، الحديث : ٢٥

١٤١

.................................................................................................

__________________

أن يشتريه بشخص مال الغير. وعليه إن قصد الشراء للمالك فالهدي بنفسه يكون للمبيح .. الى أن قال المقرّر : وإن قصد الشراء لنفسه فهو داخل فيما هو معلوم من شراء أحد بمال الغير لنفسه شيئا. ولا معنى لإخراج ملك الغير في ثمن الهدي» (١).

ففيه : أنّه مبني على كون المعاوضة تبادل الإضافتين الملكيتين ، وقد عرفت خلافه ، فيتصور إخراج ملك الغير في ثمن الهدي.

بل على ما ذكرنا في دفع إشكال المعاوضة تكون المعاوضة بمعنى تبادل الإضافتين الملكيتين محفوظة ، حيث إنّ الهدي يصير ملكا لمالك الثمن ، ويباح للمباح له التصرف في الهدي بمقتضى الإباحة المطلقة ، حيث إنّها تقتضي إباحة التصرف في نفس المباح وبدله إذا عوّض بشي‌ء ، وبدل بدله ، وهكذا ، والمفروض عدم قيام دليل على تعيّن إخراج الهدي من ملك الناسك.

ومنها : وطي الجارية كما أشار إليه الشهيد رحمه‌الله ، فإنّه متوقف على الملك أو النكاح أو التحليل ، فلا يجوز وطيها إذا أخذت بالمعاطاة ، لأنّ الإباحة ليست ملكا ولا نكاحا ولا تحليلا ، إذ يعتبر في التحليل الصيغة الخاصة بلا خلاف ، بل الإجماع بقسميه عليه كما تقدّم في كلام الجواهر عند شرح كلام المصنف قدس‌سره : «وصحة الوطي على التحليل بصيغة خاصة لا بمجرّد الإذن» والمراد بالصيغة الخاصة هي قوله : «أبحت لك وطي أمتي» أو «أنت في حلّ من وطي أمتي» هذا.

أقول : ليس الوطي متوقفا على الملك ، بل يتوقف على كون الواطي مالكا للوطي سواء أكان ذلك لكونه مالكا لرقبة الموطوئة أم زوجا لها ، أم ممّن أبيح له وطؤها من ناحية مالكها بألفاظ خاصة بالتحليل ، بناء على تمامية الإجماع على اعتبار تلك الألفاظ الخاصة في التحليل. وإلّا فالأظهر تحقق التحليل بكل لفظ يدل عليه وإن لم يكن عربيّا ، والتفصيل في محلّه.

__________________

(١) : محاضرات في الفقه الجعفري ، ج ٢ ، ص ٩٣

١٤٢

.................................................................................................

__________________

ومنها : المهر ، فإنّه قيل باعتبار كونه ملكا للزوج.

وفيه : أنه لا مجال لهذا التوهم ، بعد كون الزوجين ركنين في العقد ، في مقابل ركنيّة العوضين في العقود المعاوضيّة ، ولذا يجوز تفويض المهر وعدم ذكره في العقد ، بخلاف العقود المعاوضيّة ، فإنّه لا يجوز عدم ذكر العوض فيها. وكذا يجوز جعل المهر على غير الزوج الذي هو أجنبيّ عن المتعاقدين.

فتلخص من جميع ما ذكرناه صحة بعض ما قيل من التوقف على الملك في الموارد المذكورة ، فإنّ بعضها متوقف على الملك ، فتأمّل.

لكن الشأن كلّه في نهوض الدليل على صحة الإباحة المطلقة حتى بالنسبة إلى التصرفات المتوقفة على الملك ، إذ مع فرض نهوضه عليها لا بدّ من الالتزام بالملك التحقيقي الآني ليقع التصرف المنوط بالملك في ملكه ، فتأمّل.

وكيف كان فمرجع ما استدل به على صحتها وجوه ثلاثة :

أحدها : ما في المتن من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الناس مسلّطون على أموالهم» وقد عرفت عدم دلالته عليه.

ثانيها : ما في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره من السيرة ، فإنّها قد ادّعيت على جواز جعل نثار العرس ثمنا في المعاوضات ، والتصرف فيه بما يتوقف على الملك ، غايته أنّه من الإباحة بلا عوض. كما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام كانوا يتصرفون أنواع التصرفات فيما يهدى إليهم من غير فرق بين التصرفات المتوقفة على الملك وغيرها ، هذا (١).

وفيه : أنّ نثار العرس أجنبي عن المقام ، لأنّ الظاهر أنّه من باب الإعراض الرافع لمنع تملك الغير له ، فإذا أخذ كان الأخذ كأخذ المباح الأصلي في التملّك.

وقد يقال : إن نثار العرس من باب الهبة. لكنه بعيد. وعلى كل حال هو أجنبي عن

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ١٩٦

١٤٣

.................................................................................................

__________________

الإباحة المطلقة ، هذا.

ثالثها : ما في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره أيضا من «أنه قد يستدل لجواز الإباحة المطلقة المزبورة بمسألة الأنفال ، حيث إنّهم عليهم‌السلام أباحوها لشيعتهم. (١). ومن المعلوم أنّ المتصرف في شي‌ء منها يملكه ، وإباحتهم مالكية ، لأنّها من أملاكهم وحقوقهم كالمقام ، إذ الإباحة المطلقة المعاطاتية مالكية أيضا ، لأنّ المفروض قصد المتعاطيين للإباحة لا الملكية. وحكي أن المحقق الثاني أشار الى ذلك في شرح القواعد هذا (٢).

وأجيب عن هذا الاستدلال تارة : بأنّ إباحة الأنفال تكون من باب الإعراض الرافع للملكية أو لموانع التملك ، فيملكه المتصرف.

وأخرى : بالفرق بين المقام وبين الأنفال ، حيث إنّ المطلوب هنا هو إباحة جميع التصرفات حتّى المتوقفة على الملك ، مع بقاء المال على ملك المبيح. بخلاف الأنفال ، فإنّهم عليهم‌السلام رخّصوا في تملّك العين فيها.

وهذا الجواب هو الحق الذي ينبغي المصير إليه ، إذ إباحتهم عليهم‌السلام من باب العطية وجوائز السّلطان ، فكلّ من حاز شيئا من الأنفال ملكه.

وأمّا الجواب الأوّل فيرد عليه : أنّ إباحتهم عليهم‌السلام مختصة بالشيعة ، والإعراض على وجه التقييد غير معقول ، لأنّ الإخراج عن الملك كالضرب الواقع على شخص لا يصلح للتقييد. فكما لا يعقل أن يقول الضارب : ـ اضرب هذا الشخص إن كان معاوية مثلا ، وإلّا فلا أضربه ـ فإنّ من المشاهد وقوع الضرب على المضروب وإن تبيّن أنه طلحة مثلا لا معاوية. وكذا الحال في مسألة التقليد.

لكن إشكال عدم المعقولية المذكور في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره مبني على كون الإعراض بنفسه مخرجا عن الملك وموجبا لصيرورة المعرض عنه مباحا.

__________________

(١) : وسائل الشيعة ج ٦ ص ٣٧٨ ـ الباب ٤ من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام

(٢) غاية الآمال ، ص ١٩٧

١٤٤

.................................................................................................

__________________

وأمّا بناء على كونه رافعا لموانع تملك الغير لمال المعرض فلا وجه لعدم المعقولية ، إذ مرجع الإعراض حينئذ إلى الإذن في تمليك ماله ، ولا مانع من تقييد الإذن لشخص أو طائفة خاصّة كما لا يخفى.

فتلخص مما ذكرنا : أنّ شيئا من هذه الوجوه لا يصلح لإثبات مشروعية الإباحة مع العوض.

نعم يمكن أن يستدل لها بآية التجارة عن تراض. ومنع صدق التجارة عليها مكابرة بعد كون مناط التجارة هو الانتفاع بالمعاملة الموجود في الإباحة مع العوض. نعم منع صدقها على الإباحة المجانية في محله.

وإن أبيت عن ذلك وادّعيت أنّ مفهوم التجارة هو خصوص المعاملة المملّكة دون غيرها ، فلا بأس بالتمسك بقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإنّ عقديّة هذه الإباحة ممّا لا ينبغي الارتياب فيه. والظاهر أن العقد يصدق على كلتا الاباحتين ، وهما الإباحة بالعوض ، والإباحة في مقابل الإباحة.

ثم إنّه إذا ثبت إناطة بعض التصرفات بالملك كالعتق مثلا فلا بد من الجمع بين دليله وبين هذه الإباحة المطلقة بالملك التحقيقي الآني لا التقديري الفرضي ، لأنّ الملكيّة المعتبرة في ذلك التصرف تحقيقية لا تقديرية ، فالالتزام بالملك التقديري ليس جمعا بين الأدلة. بل مقتضى القاعدة إعمال قواعد تعارض العامّين من وجه. إلّا أن يقوم دليل على صحة التصرف المتوقف على الملك ، حيث إنّه شاهد على هذا الجمع ، وإلّا فهو من الجموع التبرعية التي لا سبيل إليها. ومقتضى القاعدة حينئذ التساقط في المجمع والرجوع فيه إلى الأصول التي تقتضي الفساد ، لكون أصالة الفساد محكّمة في المعاملات.

كما أن الجمع بالملك الرتبي أو الذاتي المتقدم في كلام صاحب الجواهر غير ظاهر الوجه. إذ لا اعتبار للملكية العقلائية في غير وعاء الزمان. مضافا إلى منافاته لظواهر

١٤٥

.................................................................................................

__________________

الأدلة.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : أنّ الملكية التي يجمع بها بين الأدلة في بيع الواهب وذي الخيار وشراء من ينعتق عليه حقيقيّة آنيّة لا فرضيّة ، لأنّه ليس جمعا بين الدليلين ، وعملا بما دلّ على توقف البيع والعتق على الملك ، ضرورة أنّ الملك المنوط به البيع والعتق هو الملك التحقيقي لا التقديري. نعم يتجه الملك التقديري في الدية ، لعدم قابلية الميت للملك الحقيقيّ.

الثاني : أنّه قد ظهر مما ذكرنا عدم ثبوت جواز تصرف متوقف على الملك ـ لما عرفت مفصلا ـ حتى يستشكل في اقتضاء الإباحة المبحوث عنها في المقام لجواز التصرفات المتوقفة على الملك.

الثالث : أنّ الإباحة سواء أكانت مع العوض كما هو الوجه الثالث أم بدونه ـ كما إذا كانت الإباحة في مقابل الإباحة ـ صحيحة لازمة ، لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لا لدليل وجوب الوفاء بالشروط ، لعدم إحراز شموله للشروط الابتدائية لو لم نقل بعدم شموله لها. وقد تقدّم شطر من الكلام في ذلك في أدلة لزوم المعاطاة.

الرابع : أنّ ما ذكرناه في حكم صور المعاطاة يجري في سائر الصور التي لم يذكرها المصنف ، لشمول العقد لها ، فيجب الوفاء بها ، فإنّ المناط في الجميع هو العقد.

١٤٦

الخامس (١) : في حكم جريان المعاطاة في غير البيع من العقود ، وعدمه.

اعلم : أنّه ذكر المحقّق الثاني رحمه‌الله في جامع المقاصد (١) على ما حكي (٢) عنه :

______________________________________________________

التنبيه الخامس : جريان المعاطاة في غير البيع

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه ـ كما صرّح به في المتن ـ تحقيق أنّ المعاطاة هل تختص بالبيع ، فلا تجري في سائر العقود كما لا تجري في الإيقاعات على ما قيل ، أم لا تختص به فتجري في العقود الأخر أيضا؟ وقد نقل أوّلا كلام المحقق الكركي قدس‌سره حيث نسب إلى بعض الأصحاب القول بالمعاطاة في الإجارة والهبة ، ثم ناقش المصنف فيه وتأمّل في النسبة ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

وعليه يقع البحث في هذا التنبيه في مقامين ، أحدهما في تحقيق كلام المحقق الثاني قدس‌سره ، والآخر في بيان مختار المصنف قدس‌سره ، ويقع الكلام فعلا في المقام الأوّل.

(٢) الحاكي غير واحد من الأصحاب ، منهم السيد الفقيه العاملي (٢) وصاحب الجواهر وغيرهما قدس‌سرهم ، وكذا حكاه الشهيد الثاني من دون التصريح باسم القائل ، ففي المسالك : «ذكر بعض الأصحاب ورود المعاطاة في الإجارة والهبة ، بأن يأمره بعمل معيّن ويعيّن له عوضا ، فيستحق الأجر بالعمل. ولو كان إجارة فاسدة لم يستحق شيئا مع علمه بالفساد ، بل لم يجز له العمل والتصرف في ملك المستأجر ، مع إطباقهم

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٩

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٨ ، جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٣٩

١٤٧

«أن في كلام بعضهم (١) ما يقتضي اعتبار المعاطاة في الإجارة ، وكذا في الهبة ،

______________________________________________________

على جواز ذلك ، واستحقاق الأجر. إنّما الكلام في تسميته معاطاة في الإجارة» (١).

وقال الفقيه المامقاني قدس‌سره : «قد يقال : بورود المعاطاة في الإجارة وسائر العقود عدا النكاح. بل عن بعض من تأخّر ورودها فيه أيضا. وعن تعليق الإرشاد : أنّ من المعاطاة الإجارة ونحوها ، بخلاف النكاح والطلاق ونحوهما ، فلا تقع» (٢).

(١) الظاهر أنّ هذا البعض هو العلّامة قدس‌سره ، إذ المستفاد من كلامه في التذكرة عدم توقف الملك في الهدية على الإيجاب والقبول اللّفظيّين ، خلافا لمن تقدّم عليه كالشيخ والحلّي حيث صرّحوا باعتبار الصيغة فيها ، وأنّه لا يباح التصرف المنوط بالملك في الهدية الفاقدة للصيغة.

وكذا يمكن أن يستظهر من كلامه جريان المعاطاة في الإجارة.

ولما لم تكن عبارة العلّامة في المقامين ـ وهما الهبة والإجارة ـ صريحة في تأثير معاطاتهما في الملك اقتصر المحقق الثاني قدس‌سره على قوله : «ما يقتضي اعتبار المعاطاة ..» ولم يدّع صراحة كلام ذلك البعض في جريان المعاطاة في البابين المذكورين ، ولم يتفرّد المحقق الثاني في هذا الاستظهار ، بل وافقة الشهيد الثاني (٣) والمحقق الأردبيلي قدس‌سرهما أيضا (٤).

والأولى نقل جملة من كلام العلّامة وقوفا على حقيقة النسبة.

قال في إجارة التذكرة : «مسألة : لو دفع ثوبا إلى قصّار ليقصّره ، أو إلى خيّاط ليخيطه ، أو جلس بين يدي حلّاق ليحلق رأسه ، أو دلّاك ليدلكه ، ففعل ، وبالجملة : كل من دفع إلى غيره سلعة ليعمل فيها عملا ، ولم يجر بينهما ذكر أجرة ولا نفيها ، فإن كان من عادته أن يستأجر لذلك العمل كالغسّال والقصّار فله أجرة مثل عمله ،

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥١

(٢) غاية الآمال ، ص ٢٠١

(٣) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٢٩

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٨٣

١٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن لم يكن له عادة وكان العمل ممّا له أجرة فله المطالبة ، لأنّه أبصر بنيّته. وإن لم يكن ممّا له أجرة بالعادة لم يلتفت إلى مدّعيها. وللشافعية أوجه ..» (١) ونحوه عبارة القواعد (٢) والإرشاد (٣) ، إلّا أنه أطلق الأجرة في الأخير ولم يقيّده بالمثل.

وأمّا في الهبة فقد جزم العلّامة في القواعد (٤) بعدم كفاية المعاطاة فيها ، ولكنّه مال في التحرير (٥) إلى عدم اشتراط القبول نطقا كما قيل. ويلوح من كلامه في هبة التذكرة كفاية المعاطاة ، حيث إنّه نقل عن بعض العامة ترتب الملك على إرسال الهدية ، ولم يناقش فيه ، وظاهره الركون إليه وإن لم يصرّح به.

قال فيها : «الهبة عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول باللفظ كالبيع وسائر التمليكات. وأمّا الهدية فذهب قوم من العامّة إلى أنّه لا حاجة فيها إلى الإيجاب والقبول اللفظيين ، بل البعث من جهة المهدي كالإيجاب ، والقبض من جهة المهدي إليه كالقبول ، لأنّ الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كسرى وقيصر وسائر الملوك فيقبلها ، ولا لفظ هناك ، واستمرّ الحال من عهده إلى هذا الوقت في سائر الأصقاع ، ولهذا كانوا يبعثون على أيدي الصبيان الّذين لا يعتدّ بعبارتهم. ومنهم من اعتبرهما كما في الهبة والوصية. واعتذروا عمّا تقدّم بأنّ ذلك كان إباحة لا تمليكا. وأجيب بأنّه لو كان كذلك لما تصرّف الملّاك (*) ومعلوم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتصرّف فيه ويملّكه غيره. والصدقة كالهدية في ذلك بلا فصل. ويمكن الاكتفاء في هدايا الأطعمة بالإرسال والأخذ من غير لفظ الإيجاب والقبول جريا على المعتاد بين الناس. والتحقيق مساواة غير الأطعمة لها ، فإنّ الهدية قد يكون

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٢٠

(٢) قواعد الأحكام ، ص ٩٤ (الطبعة الحجرية)

(٣) إرشاد الأذهان ، ج ١ ، ص ٤٢٥

(٤) قواعد الأحكام ، ص ١١٠

(٥) تحرير الأحكام ، ص ٢٨١

١٤٩

وذلك (١) لأنّه إذا أمره (٢) بعمل على عوض معيّن (٣) فعمله ، استحق الأجرة. ولو كانت (٤) هذه إجارة فاسدة لم يجز له العمل

______________________________________________________

غير طعام ، فإنّه قد اشتهر هدايا الثياب والدّواب من الملوك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ مارية القبطية أمّ ولده كانت من الهدايا. وقال بعض الحنابلة : لا يفتقر الهبة إلى عقد ، بل المعاطاة والأفعال الدالة على الإيجاب والقبول كافية ، ولا يحتاج الى لفظ ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يهدي ويهدي إليه ، ويفرّق الصدقة ، ويأمر بتفرقتها ، ولم ينقل في ذلك لفظ إيجاب ولا قبول. ولو كان شرطا لأمر به ..» (١).

واستجوده المحقق والشهيد الثانيان ، ففي جامع المقاصد ـ بعد نقل المضمون ـ : «وهذا قوي متين» (٢).

وفي المسالك بعد نقل نصّ عبارة التذكرة : «وهو حسن» ثم قوّى إفادة الملك لا الإباحة المحضة ، فراجع (٣).

هذا تقريب جريان المعاطاة في الإجارة والهبة.

(١) هذا بيان مستند جريان المعاطاة في الإجارة والهبة ، وهو حكم العلّامة قدس‌سره في التذكرة في كلا البابين ، وقد تقدم مفصّلا.

(٢) أي : أمر الآمر صانعا بعمل على عوض.

(٣) لم يذكر العلّامة أجرة معيّنة ، فالظاهر أنّ المحقق الثاني استظهرها من التعارف والعادة القاضيين بتملّك المأمور لأجرة المثل أو للأجرة المتعارفة.

(٤) هذا استظهار المحقق الثاني من الفرع المذكور في التذكرة وغيرها ، وحاصله : أنّه يتعيّن توجيه استحقاق الأجرة بكفاية المعاطاة في باب الإجارة ، إذ لولاها لم يجز للمأمور التصرف في ثوب الآمر بخياطة وقصارة ، لكونه تصرفا في ملك الغير بلا إذن

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٤١٥

(٢) جامع المقاصد ، ج ٩ ، ص ١٤٢

(٣) مسالك الافهام ، ج ٦ ، ص ١٢

١٥٠

ولم يستحق (١) أجرة مع علمه بالفساد. وظاهرهم (٢) الجواز بذلك. وكذا (٣) لو وهب بغير عقد ، فإنّ ظاهرهم جواز الإتلاف (٤) ، ولو كانت هبة فاسدة لم يجز (٥) ، بل منع من مطلق التصرف. وهو (٦) ملحظ وجيه» انتهى (*).

______________________________________________________

منه ، ولم يستحق أجرة على عمله مع علمه بفساد الإجارة ، لفقد شرطها وهو الإيجاب والقبول اللفظيان.

(١) أمّا عدم استحقاقه للأجرة المسمّاة فلفساد الإجارة. وأمّا عدم استحقاقه لأجرة المثل فلإقدامه على العمل بغير أجرة ، وذلك لعلمه بالفساد.

(٢) أي : والحال أنّ ظاهر الأصحاب جواز عمل المأمور استنادا إلى أمر الآمر ، فلا بدّ من كشف هذا الجواز عن صحة الإجارة المعاطاتية.

(٣) معطوف على «إذا أمره» وهذا الحكم في الهدية منشأ استظهار المحقق الثاني قدس‌سره جريان المعاطاة فيها وعدم توقف الملك على الصيغة ، وقد تقدم نقل عبارة التذكرة آنفا.

(٤) ومن المعلوم أنّ جواز الإتلاف ـ وسائر التصرفات المتوقفة على الملك ـ من آثار صحة الهبة المعاطاتية ، إذ لو كانت فاسدة كانت العين الموهوبة باقية على ملك الواهب ، ولم يكن تصرف المتهب فيها ـ مطلقا ـ جائزا.

(٥) يعني : لم يجز الإتلاف ، بل يمنع من جميع التصرفات.

(٦) هذا نظر المحقق الثاني قدس‌سره ، يعني : أنّ ما يقتضيه كلام بعضهم ـ من جريان المعاطاة في الإجارة والهبة ـ متين ووجيه.

__________________

(*) وقد استدلّ على جريانها في سائر العقود بوجوه مذكورة في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره :

الأوّل : السيرة المستمرة على إجرائها في غير البيع ، على حدّ جريانها فيه.

الثاني : صدق اسم كل عنوان من عناوين العقود على المعاطاة التي تقوم مقام

١٥١

وفيه (١) : أنّ معنى جريان المعاطاة في الإجارة على مذهب المحقق الثاني

______________________________________________________

(١) شرع المصنّف قدس‌سره في مناقشة ما أفاده المحقق الثاني قدس‌سره من تعميم المعاطاة للإجارة والهبة ، فأورد عليه في ما يتعلق بالإجارة بوجوه ثلاثة ، كما أورد عليه بوجهين في الهبة سيأتي بيانهما تبعا للمتن.

الأوّل : أنّ المحقق الكركي قدس‌سره التزم في معاطاة البيع بالملك المتزلزل ، ونفى مقالة المشهور من ترتب إباحة التصرف عليها. وعلى هذا المبنى يكون معنى جريان المعاطاة في الإجارة صيرورة الأجير ـ وهو المأمور ـ مالكا للأجرة المعيّنة على عهدة المستأجر الآمر ، وصيرورة الآمر مالكا للعمل المعيّن ـ المأمور به ـ على المأمور.

ولكن يرد عليه أنّا لم نجد من صرّح بتحقق الملكية المتزلزلة في هذه الإجارة ، فكيف أسندها المحقق الثاني إليهم؟ على ما هو ظاهر قوله : «إن في كلام بعضهم ما يقتضي اعتبار المعاطاة في الإجارة» ولعلّ هذا البعض يقول بكون المعاطاة مبيحة مطلقا سواء في البيع والإجارة. ومن المعلوم أنّ إباحة المنفعة والأجرة ـ من دون

__________________

اللفظ ، فتشملها أدلة تلك العقود.

الثالث : الهدايا التي أهديت الى المعصومين عليهم‌السلام ، فإنّهم كانوا يعاملون معها معاملة الملك ، مع وضوح خلوّها عن اللفظ.

الرابع : إسناد المحقق الثاني إلى ظاهر الأصحاب جريان المعاطاة في الهبة والإجارة.

الخامس : عدم القول بالفصل بين البيع وغيره. (١)

والكلّ ـ ما عدا الثاني ـ مخدوش ، وإن كان المدّعى حقّا.

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢٠٢

١٥٢

الحكم بملك المأمور الأجر المعيّن على الآمر (١) ، وملك الآمر العمل المعيّن على المأمور ، ولم نجد (٢) من صرّح به (٣) في المعاطاة.

______________________________________________________

الملكية ـ أجنبية عن استحقاقهما المنوط بالملك ، هذا.

الثاني : أنّ أصل استظهار المحقق الثاني جريان المعاطاة في الإجارة بقوله : «ولو كانت إجارة فاسدة لم يجز له العمل» ممنوع ، فلعلّ ذلك البعض قائل بالإجارة المعاطاتية المفيدة للإباحة لا للملك. وجه منع الاستظهار : عدم الملازمة بين فساد الإجارة ومنع الأجير عن العمل ، وذلك لأنّ فسادها غير مانع عن عمل الأجير مطلقا ولو تبرّعا ، لإمكان وجود إذن المالك في التصرف وعدم تقييده بصحّة الإجارة بناء على تعدد المطلوب. وإنما يستلزم المنع عن العمل إذا تقيّد إذن المالك بصحة الإجارة.

والحاصل : أنّ مجرّد جواز التصرف في ملك الآمر لا يدلّ على صحّة الإجارة ، حتى يستظهر من الملازمة بينهما صحة الإجارة المعاطاتية.

الثالث : أنّ مجرّد علم المأمور بفساد الإجارة ـ لخلوّها عن الصيغة المعتبرة فيها ـ لا يمنع عن استحقاق الأجرة ، بل المانع منه هو قصد التبرّع ، لأنّه رافع لحرمة عمله ، فبدون هذا القصد يستحق الأجرة ، لقاعدة احترام عمل المسلم. نعم العلم بفساد الإجارة يوجب علمه بعدم استحقاق الأجرة المسمّاة ، ولا يستلزم بذل عمله مجّانا.

هذه مناقشات المصنف فيما يتعلق باستظهار جريان المعاطاة في الإجارة.

(١) أي : كون الآمر ضامنا للأجرة المعيّنة ، والمأمور ضامنا للعمل المعيّن كخياطة الثوب ونحوها ممّا أمره به.

(٢) هذا أوّل الوجوه الثلاثة ، ومقصود المصنف منع قول المحقق الثاني : «ان في كلام بعضهم ما يقتضي ..». فإنّ عدم الظّفر بالمصرّح يجعل دعوى المحقق الثاني اجتهادا منه ، لا حكاية وإخبارا عن رأي بعض الأصحاب.

(٣) أي : بملك المأمور للأجرة ، وملك الآمر للعمل المعيّن.

١٥٣

وأمّا (١) قوله : «لو كانت إجارة فاسدة لم يجز له العمل» فموضع نظر ، لأنّ فساد المعاملة لا يوجب منعه عن العمل ، سيّما (٢) إذا لم يكن العمل تصرفا في عين من أموال المستأجر.

وقوله : «لم يستحق اجرة مع علمه بالفساد» ممنوع (٣) ، لأنّ الظاهر ثبوت أجرة المثل ، لأنّه (٤) لم يقصد التبرّع ، وإنّما قصد عوضا لم يسلم له (٥).

وأمّا مسألة الهبة (٦) فالحكم فيها بجواز إتلاف الموهوب لا يدلّ على

______________________________________________________

(١) هذا ثاني وجوه المناقشة ، وهو منع الملازمة بين صحّة الإجارة وجواز التصرف في ملك الآمر.

(٢) كما إذا أمر شخصا بأن يبني مسجدا أو قنطرة أو غيرهما ـ مما لا يكون ملكا للمستأجر ـ بعوض ، حيث إنّ العمل حينئذ ليس تصرفا في عين أموال المستأجر ، فلا وجه لعدم جوازه من ناحية التصرف في مال الغير. فوجه الخصوصية هو عدم استلزام العمل للتصرّف في مال الغير.

(٣) هذا هو الإشكال الثالث على كلام المحقق الكركي قدس‌سره ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «الثالث ان مجرد علم المأمور بفساد الإجارة .. إلخ».

(٤) أي : لأنّ المأمور لم يقصد التبرّع ، فهو يستحق أجرة المثل من الآمر ، بمناط استيفاء عمله المحترم.

(٥) أي : لم يسلم العوض المسمّى للمأمور من جهة علمه بفساد الإجارة ، لخلوّها عن الصيغة المعتبرة ـ بنظرهم ـ في العقود اللازمة.

(٦) أورد المصنف على جريان المعاطاة في الهبة بوجهين ، أحدهما : ناظر إلى استظهار المحقق الثاني من كلام بعض الأصحاب. وثانيهما : ناظر إلى منع أصل منشأ الاستظهار.

أمّا الأول فتوضيحه : أنّ استكشاف مملّكية الهبة المعاطاتية ـ من حكمهم بجواز إتلاف العين الموهوبة ـ ممنوع ، لعدم كون جواز إتلافها لازما مساويا لصحّة الهبة

١٥٤

جريان المعاطاة فيها ، إلّا (١) إذا قلنا في المعاطاة بالإباحة ، فإنّ (٢) جماعة كالشيخ والحلّي والعلّامة صرّحوا بأنّ إعطاء الهدية ـ من دون الصيغة ـ يفيد الإباحة دون الملك. لكن (٣) المحقق الثاني رحمه‌الله ممّن لا يرى بكون المعاطاة عند القائلين بها

______________________________________________________

الفاقدة للصيغة حتّى يدلّ على جريان المعاطاة فيها ، بل هو أعم من صحتها ، لكفاية الإذن المالكي في جواز الإتلاف مع بقاء الرقبة على ملك الواهب ، كما هو الحال في إباحة الطعام للضيف مع كونه ملكا للمضيف.

وعليه فحكم بعض الأصحاب بجواز إتلاف العين الموهوبة غير كاشف عن التزامه بمملّكية الهبة المعاطاتية ، لما عرفت من أنّ جواز التصرف المتوقف على الملك ـ كالإتلاف ـ لازم أعم لكلّ من الملك والإباحة المالكية.

وأمّا الثاني فتوضيحه : أنّ ما نسبه المحقق الكركي إلى بعض الأصحاب ـ في الهبة ـ ممنوع ، إذ لا أصل له ، لأنّ توقف الملك في الهبة على الإيجاب والقبول اللفظيين كاد أن يكون متّفقا عليه بين الأصحاب ، بل صرّح شيخ الطائفة وغيره بمنع التصرف المنوط بالملك في معاطاة الهدايا ، ومعه كيف نسب المحقق الثاني إلى بعض الأصحاب إفادة معاطاة الهبة للملك؟ فإنّه مخالف للمشهور بل المدّعى عليه الإجماع. وعلى هذا لا أساس للنسبة المزبورة أصلا.

(١) ظاهره الاستثناء من قوله : «بجواز الإتلاف» وغرضه قدس‌سره منع أصل جواز إتلاف العين الموهوبة حتى لو فرضنا الملازمة بين جواز الإتلاف والملك ، وتوضيحه : أن إباحة التصرف في الهبة الفاقدة للصيغة تعبدية لا مالكية ، ومن المعلوم عدم اقتضاء مجرّد الإباحة لمشروعية التصرف المتوقف على الملك كالإتلاف والبيع والعتق والوقف ونحوها ، والدليل عليه تصريح جماعة ـ منهم شيخ الطائفة ـ بحرمة المباشرة مع الجارية المهداة بالهدية الفاقدة للإيجاب والقبول اللفظيين.

(٢) الظاهر أنّه تتمة للمستثنى وتعليل له ، فكأنه قال : «إلّا إذا قلنا في المعاطاة بالإباحة كما ذهب إليه جماعة .. إلخ».

(٣) استدراك على المستثنى وهو قوله : «إلّا إذا قلنا» وحاصله : أنّ المحقق الثاني قدس‌سره

١٥٥

مفيدا للإباحة المجرّدة. وتوقّف (١) الملك في الهبة على الإيجاب والقبول كاد أن يكون متّفقا عليه كما يظهر من المسالك (٢).

وممّا ذكرنا (٣) يظهر المنع في قوله : «بل مطلق التصرف» هذا (*).

______________________________________________________

ذهب إلى إفادة المعاطاة للملك ، لا الإباحة المحضة ، فعلى هذا يكون جواز الإتلاف ـ بنظره ـ من آثار الملك ودالّا عليه ، لا من آثار الإباحة.

(١) هذا هو الإشكال الثاني على المحقق الكركي قدس‌سره ومحصّله : أنّ حصول الملك في الهبة المعاطاتية ـ كما ذهب إليه هذا المحقق ـ ممّا لا وجه له ، لمخالفته لما يظهر من المسالك من أنّ اعتبار الصيغة في الهبة قريب من الإجماع ، فكيف يترتّب الملك على معاطاة الهبة؟

(٢) قال الشهيد الثاني في شرح كلام الشرائع : «وهو يفتقر إلى الإيجاب والقبول» ما لفظه : «وظاهر الأصحاب الاتفاق على افتقار الهبة مطلقا إلى العقد القولي في الجملة. فعلى هذا : ما يقع بين الناس على وجه الهديّة من غير لفظ يدل على إيجابها وقبولها لا تفيد الملك ، بل مجرّد الإباحة» (١).

لكنه قال في آخر كلامه : «يمكن أن يجعل ذلك كالمعاطاة يفيد الملك المتزلزل .. إلخ» فمال أخيرا إلى جريان المعاطاة في الهدية ، وإفادتها الملك المتزلزل.

(٣) أي : من منع جواز الإتلاف ـ لو كانت الهبة فاسدة ـ يظهر المنع عمّا أفاده المحقق الثاني بقوله : «بل منع من مطلق التصرف» وذلك لأنّ الفساد ـ بمعنى عدم ترتب الملك ـ لا يقتضي المنع عن سائر التصرفات ، لجواز التصرف بدون الملك ، كما هو مذهب القائلين بإفادة المعاطاة للإباحة.

__________________

(*) ما أورده المصنف على المحقق الثاني غير ظاهر. أمّا أوّلا : فلأنّ هذا المحقق لم يدّع أزيد من اقتضاء كلام بعض الأصحاب جريان المعاطاة في الإجارة والهبة ،

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٦ ، ص ١٢

١٥٦

.................................................................................................

__________________

وهذه النسبة في محلّها ، لموافقة غير واحد له. خصوصا مع صراحة كلام العلّامة ـ الآتي نقله في المتن ـ من اتحاد الرهن والبيع في حكم المعاطاة منعا وجوازا ، بعد عدم خصوصية في الرّهن في هذا الحكم ، بل هو كسائر المعاملات ، إلّا إذا قام دليل على اعتبار صيغة خاصة في بعضها كالنكاح والنذر والطلاق.

وقد التزم الشهيد الثاني والمحقق الأردبيلي قدس‌سرهما بجريان المعاطاة في الإجارة ، قال في المسالك : «لمّا كان الأمر بالعمل يقتضي استيفاء منفعة مملوكة للمأمور متقوّمة بالمال ، وجب ثبوت عوضها على الآمر كالاستيجار معاطاة» (١).

وقال المحقق الأردبيلي : «هذا الحكم ـ أي استحقاق الأجرة بالأمر بالعمل ـ مشهور ، ويحتمل أن يكون مجمعا عليه. ولعلّ سنده : اقتضاء العرف ، فإنّه يقتضي أن يكون مثل هذا العمل بالأجرة ، فالعرف مع الأمر بمنزلة قوله : اعمل هذا ولك عليّ الأجرة ، فيكون جعالة أو إجارة بطريق المعاطاة ، مع العلم بالأجرة ، ولو كان مثل أجرة الحمّالين ، ويبعد كونها إجارة باطلة» (٢) ويظهر من أوّل كتاب الإجارة التزامه بالمعاطاة في الإجارة كالبيع ، فراجع.

وقال السيد الفقيه العاملي في تصحيح هذه الإجارة ـ بعد المناقشة في السيرة بعدم استمرارها ـ ما لفظه : «فلعلّ الأصل في ذلك أنّه من باب المعاطاة في الإجارة ، وهي كالمعاطاة في البيع ، فيلزمه حينئذ الأجرة المسمّاة لمثل ذلك العمل» (٣).

والحاصل : أنّ استحقاق المأمور للأجرة إمّا أن يستند إلى جريان المعاطاة في الإجارة ، لاجتماع شرائطها من معلوميّة المنفعة كخياطة الثوب وحلاقة الرأس ونحوهما من الأعمال المحترمة ، ومعلومية الأجرة لتعيينها من قبل الآمر ، أو لأجل

__________________

(١) : مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٢٩

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٨٣

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٢٧٥

١٥٧

.................................................................................................

__________________

التعارف والعادة اللّذين هما المرجع في تعيينها ، وإمّا أن يستند إلى قاعدة استيفاء عمل محترم.

وعليه فما في الجواهر من قوله : «لا لأنّها من المعاطاة ، فإن الشرائط فيها مفقودة ، بل من باب الضمان لاحترام عمل المسلم ..» (١) غير ظاهر ، بعد تصريح من عرفت بجريان المعاطاة في الإجارة ، مع كفاية إطلاقات أدلة الإجارة.

إنّما الكلام في كون الضمان بأجرة المثل أو بالمسمّاة. ففي الشرائع والقواعد وغيرهما التصريح بأجرة المثل ، وفي الإرشاد والمسالك إطلاق الأجرة. ولو فرض تعيّن المثل في مورد الإطلاق لم يكشف عن فساد الإجارة ، كي يتجه إنكار مالكية المأمور للأجر المعيّن ، لكفاية التعارف في مقام التعيين ، فينزّل إطلاق قول الآمر : «وعليّ الأجر» ـ وكذا إهماله رأسا ـ على ما هو المتعارف لمثله.

ويمكن توجيهه بما أفاده السيد الفقيه العاملي قدس‌سره : بقوله : «إلّا أن تقول : إنّ الغالب توافقهما ـ أي : أجرة المثل والمسمّى ـ فلا فرق بين العبارتين. أو تقول : إن المسمّى لا يعتبر في معاطاة الإجارة حيث يخالف المثل» (٢).

وعليه فقول المصنف قدس‌سره : «ولم نجد من صرّح به» ممنوع إن كان مقصوده نفي أصل استظهار المحقق الثاني من كلام البعض. وإن كان الغرض منه عدم نصوصية كلام البعض في جريان المعاطاة في الإجارة فهو وإن كان حقّا ، إلّا أنّ المتبع في مقام الاستظهار والاحتجاج ظهور الكلام ـ ولو بالملازمة العرفية ـ في نسبة المضمون إلى قائله ، ولا تعتبر الصراحة أصلا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إنكار المعاطاة في الإجارة والهبة هنا ينافي ما تقدّم من المصنف في أدلّة مملكية المعاطاة من الاستناد إلى الإجماع المركّب بين البيع والإجارة والهبة.

__________________

(١) : جواهر الكلام ، ج ٢٧ ، ص ٣٣٧

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٧ ، ص ٢٧٥

١٥٨

.................................................................................................

__________________

إذ لو كان الأصحاب متّفقين على الإباحة في البابين لم يبق موضوع لعدم القول بالفصل ، بل كان اتّفاقهم على منع المعاطاة في الإجارة والهبة موهنا لاستفادة الملك من إطلاق أدلة البيع أيضا ، ولازمه القول بالإباحة المحضة تعبدا في الجميع ، وهو ضدّ مقصود المصنف من إثبات الملك في معاطاة البيع بالاستعانة من إطلاقات الإجارة والهبة.

وبعبارة أخرى : الاستدلال بعدم القول بالفصل بين البيع وبينهما يتوقف على ذهاب جمع إلى مملّكية معاطاتهما ، وجمع إلى الإباحة ، حتى يتجه إلحاق معاطاة البيع بهما ، فلو كان الملك فيهما منوطا بالإنشاء القولي ـ عند الكلّ ـ أشكل الأخذ بإطلاقاتهما ، ولزم تقييدها بالعقد المملّك ، ولا يبقى حينئذ مجال لاستفادة مملّكية البيع المعاطاتي ، هذا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ مقصود المحقق الثاني قدس‌سره مجرّد استظهار تعميم المعاطاة لبابي الإجارة والهبة ـ من كلام البعض ، بلا نظر إلى كونها مفيدة للملك أو للإباحة ، فغرضه قدس‌سره كفاية إنشائهما بالفعل كما في البيع ، وأمّا إمضاء الشارع لما قصداه أو ترتّب الإباحة عليه تعبدا فذاك مقام آخر لا يلازم أصل الجريان ، هذا ما أفاده المحقق الإيرواني (١).

وهو وإن كان حقّا في نفسه ، فإنّ الغرض كفاية إنشاء العناوين الاعتبارية بالفعل ، لا ترتب خصوص الملك ، ومعنى كفايته ترتب الأثر المقصود من كلّ عنوان معاملي على إنشائه بالفعل ، وعدم توقفه على الصيغة المعهودة ، فقد يكون الأثر ملك العين كما في البيع والهبة والصلح على عين ، وقد يكون ملك المنفعة كما في الإجارة والصلح على المنفعة ، وقد يكون فكّ الملك وتحريره كما في وقف المساجد ، وقد يكون الوثيقة للدّين كما في الرّهن ، وقد يكون غير ذلك كما في النكاح والطلاق والعارية والوديعة والوكالة والعتق.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨٦

١٥٩

ولكن الأظهر (١) ـ بناء على جريان المعاطاة في البيع ـ جريانها في غيره

______________________________________________________

(١) هذا شروع في المقام الثاني ممّا تعرّض له المصنف قدس‌سره في التنبيه الخامس ، وغرضه إثبات كفاية الإنشاء الفعلي في مطلق العناوين الاعتبارية ، وأنّ المعاطاة ليست مخالفة للقاعدة حتى تختص بباب البيع. وقد أفاد أوّلا جريانها في خصوص الإجارة والهبة ، ثم تمسّك ثانيا بالإجماع المركب بينه وبين غيره من المعاملات ، فهنا وجهان :

أحدهما : أنّ المناط في صحة المعاطاة في البيع هو قابلية الفعل لإنشاء «تمليك عين بمال» به كإنشائه بالصيغة ، وحيث كان «الإعطاء والأخذ بقصد التمليك بالعوض» مصداقا لعنوان البيع العرفي كان المناسب التعدّي عنه إلى باب الإجارة والهبة أيضا ، إذ المقصود فيهما الملك أيضا ، فإقباض العين في الإجارة ـ كالدار ـ تمليك لمنفعتها بعوض ، وإقباض العين في الهبة تمليكها للمتّهب.

وعليه فلا وجه لحصر المعاطاة بالبيع ، إذ المقصود فيه التمليك ، فإن كان الفعل صالحا لإنشاء التمليك به لم يفرّق فيه بين البيع والإجارة والهبة ، لاشتراك الكلّ في جامع التمليك. وإن لم يكن الفعل قابلا لإنشاء لزم منع البيع المعاطاتي أيضا ، لفرض

__________________

إلّا أنّه قد يشكل بما أورده المحقق الثاني قدس‌سره ـ بما سيأتي في المتن ـ على العلّامة من الفرق بين معاطاة البيع والرّهن بقيام الإجماع على جريانها في البيع ، وعدم قيامه عليها في الرّهن. وظاهره أنّ المعاطاة خلاف الأصل ، فيقتصر فيها على المتيقن ، وهو البيع ، دون غيره من المعاملات.

لكن لو كان هذا مبنى العلّامة قدس‌سره لم يتم استظهار المحقق الثاني منه جريانها في الإجارة والهبة أيضا ، وقوفا فيما خالف الأصل على مورد اليقين ، فاستفادة التعميم منوطة بعدم كون المعاطاة خلاف الأصل ، وعدم اعتبار الإجماع على خروج البيع عنه ، لاحتمال مدركيته ، وأنّ المناط في إفادة المعاطاة للملك إطلاق الأدلة الإمضائية ، وهذا الإطلاق موجود في سائر العناوين أيضا ، هذا.

١٦٠