هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

أطلق (١) عليه القبول (٢). وهذا المعنى (٣) مفقود في الإيجاب المتأخر ، لأنّ المشتري إنّما ينقل ماله إلى البائع بالالتزام الحاصل من جعل ماله عوضا ، والبائع إنّما ينشئ انتقال الثمن إليه كذلك ، لا بمدلول الصيغة.

وقد صرّح (٤) في النهاية والمسالك ـ على ما حكي ـ «بأنّ اشتريت ليس قبولا حقيقة (٥) وإنّما هو بدل ، وأنّ الأصل (٦) في القبول قبلت ، لأن القبول في الحقيقة ما لا يمكن الابتداء به ، ولفظ اشتريت يجوز الابتداء به» (١).

______________________________________________________

(١) جواب «لمّا كان» وضميرا «وقوعه ، عليه» راجعان إلى الاشتراء.

(٢) فإطلاق القبول ودلالته على المطاوعة إنّما تكون بقرينة المقام ، وهو وقوعه عقيب الإيجاب غالبا. ولا يرد عليه ما في بعض الحواشي من : أنّه إذا لم يدلّ بنفسه على المطاوعة فكيف يدلّ عليها إذا وقع عقيب الإيجاب؟

(٣) يعني : تحقق المطاوعة ومفهوم القبول بسبب التأخّر مفقود في الإيجاب المتأخّر ، لفقد ما يوجبه وهو إنشاء البائع انتقال الثمن إلى نفسه بالمدلول المطابقي للصيغة ، لأنّ الانتقال يكون بالمدلول الالتزامي. كما أنّ نقل المشتري إيّاه إلى البائع ـ وإن تقدّم ـ إنّما هو بالدلالة الالتزاميّة لا المطابقية.

(٤) غرضه من الاستشهاد بكلام النهاية والمسالك هو : أنّ «اشتريت» ليس من ألفاظ القبول بالأصالة ، إذ القبول يعتبر فيه الرّضا بإيجاب الغير ومطاوعته له ، لكونه مبنيّا عليه ، وحيث إنّ «اشتريت» لا يدلّ على هذه الخصوصية لم يكن أصلا في القبول ، بل بدلا عن «قبلت» و «رضيت».

(٥) لعدم كون دلالته على القبول بالمطابقة ، بل لقرينة مقاميّة ، وهي وقوعه عقيب الإيجاب.

(٦) بمعنى كون ما يدلّ على الإنشاء الذي لا يجوز الابتداء به ـ لتفرّعه على إنشاء آخر ـ هو لفظ القبول ، لأنّه وضع للإنشاء المسبوق بإنشاء آخر ، بخلاف لفظ

__________________

(١) : نهاية الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٤٨ ، مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤.

٤٦١

ومرادهما أنّه بنفسه لا يكون قبولا ، فلا ينافي ما ذكرنا من تحقق مفهوم القبول فيه إذا وقع عقيب تمليك البائع. كما أنّ «رضيت بالبيع» ليس فيه إنشاء لنقل ماله إلى البائع إلّا إذا وقع متأخّرا ، ولذا منعنا عن تقديمه. فكلّ من «رضيت واشتريت» بالنسبة إلى إفادة نقل المال ومطاوعة البيع عند التقدّم والتأخر متعاكسان (١).

فإن قلت (٢) : إنّ الإجماع على اعتبار القبول في العقد يوجب تأخير قوله : «اشتريت» حتّى يقع قبولا ، لأنّ إنشاء مالكية مال الغير إذا وقع عقيب تمليك الغير له يتحقق فيه معنى الانتقال وقبول الأثر ، فيكون «اشتريت»

______________________________________________________

«اشتريت» مثلا ، لأنّه مما يمكن الإنشاء به بدون سبق إنشاء عليه ، فيسقط بهذا ما عن بعض : من أنّا لا نفهم معنى لكون الأصل في القبول «قبلت».

(١) توضيحه : أنّ «رضيت» يفيد المطاوعة التي بها يكون إنشاء لنقل ماله إلى البائع ، ولأجل تأخّر المطاوعة امتنع تقدّم «رضيت» على الإيجاب ، فإنشاء النقل مترتب على المطاوعة. بخلاف «اشتريت» فإنّه لا يدلّ على المطاوعة إلّا إذا تأخّر عن الإيجاب ، لكنّه يدلّ على إنشاء نقل ماله.

وبالجملة : «رضيت» يدلّ على المطاوعة ، ولا يدلّ بنفسه على إنشاء النقل إلّا إذا تأخّر ، و «اشتريت» يدلّ على إنشاء النقل ، ولا يدلّ على المطاوعة إلّا إذا تأخّر ، فهما في إفادة المطاوعة والنقل متعاكسان.

(٢) هذا إشكال على ما قوّاه من جواز تقديم القبول إذا كان بلفظ «اشتريت» ونحوه. ومحصّل الإشكال : خلوّ عقد البيع عن القبول ، وانحصار الإنشاء في الإيجاب.

وتوضيحه : أنّ الإجماع على اعتبار القبول يوجب تأخيره عن الإيجاب حتى يقع قبولا ، فدلالة «اشتريت» على القبول إنّما تكون بسبب تأخيره ، وإلّا كان إيجابا لا قبولا ، إذ إنشاء التملّك لا يجعله قبولا إلّا إذا وقع عقيب تمليك الغير.

والشاهد على أعمية إنشاء التملّك من القبول العقدي هو صحة تملك الملتقط للقطة ، وكذا صحة تملّك الحائز ـ للمباحات الأصليّة ـ بالحيازة ، مع أنّه لا تمليك من

٤٦٢

متأخّرا (١) التزاما بالأثر عقيب إنشاء التأثير من البائع ، بخلاف ما لو تقدّم ، فإنّ مجرّد إنشاء المالكية لمال لا يوجب تحقق مفهوم القبول ، كما لو نوى تملك المباحات أو اللقطة ، فإنّه لا قبول فيه رأسا.

قلت (٢) : المسلّم من الإجماع هو اعتبار القبول من المشتري بالمعنى الشامل للرّضا بالإيجاب. وأمّا وجوب تحقق مفهوم القبول المتضمن للمطاوعة وقبول الأثر فلا.

فقد تبيّن من جميع ذلك (٣) : أنّ إنشاء القبول لا بدّ أن يكون جامعا لتضمن

______________________________________________________

طرف آخر حتى يقبله الملتقط والحائز ، بل هو تملّك ابتدائي.

وعلى هذا فدلالة «اشتريت» على القبول منوطة بتأخره عن الإيجاب ، إذ تقدّمه لا يلازم التملك القبولي. وحيث إنّ «بعت» المتأخر عنه إيجاب العقد ، فيلزم قيام البيع بإيجابين وخلوّه عن القبول ، ومن المعلوم تقوّم العقود بركنين ، إذ هو الفارق بينها وبين الإيقاعات القائمة بإنشاء واحد. ولا مفرّ من هذا المحذور إلّا إنكار تقدم القبول ولو كان بلفظ «اشتريت ، تملكت ، ملكت ، ابتعت».

(١) حال من «اشتريت» وقوله : «التزاما» خبر «فيكون».

(٢) هذا جواب الإشكال المزبور ، ومحصّله : أنّ المتيقن من الإجماع هو الرّضا بالإيجاب ، ولا دليل على اعتبار أزيد من ذلك في القبول كالمطاوعة وغيرها.

(٣) الظاهر أنّ المشار إليه هو ما أفاده في «قلت : المسلّم من الإجماع هو اعتبار القبول .. إلخ».

ومحصله : أن القبول العقدي متقوم بأمرين ، أحدهما : الرضا بالإيجاب ، والآخر : الدلالة على إنشاء نقل العوض إلى الموجب ، وهذان متحققان في القبول المتقدّم على الإيجاب ، إذا كان بلفظ «اشتريت» وأخواته.

ولا يعتبر في القبول أمر ثالث وهو المطاوعة الحقيقية للإيجاب ، ولا إنشاء التأثر من تأثير البائع وتمليكه ، إذ لو كان هذا دخيلا في القبول امتنع تقديمه في جميع ألفاظه.

٤٦٣

إنشاء النقل ، وللرّضا بإنشاء البائع ، تقدّم أو تأخّر ، ولا يعتبر (١) إنشاء انفعال نقل البائع.

فقد تحصّل مما ذكرناه (٢) صحة تقديم القبول إذا كان بلفظ «اشتريت» وفاقا لمن عرفت (٣).

بل (٤) هو ظاهر إطلاق الشيخ في الخلاف (١) ، حيث إنّه لم يتعرّض إلّا للمنع

______________________________________________________

(١) حتى يجب تأخيره عن الإيجاب ، تحقيقا لمعنى المطاوعة والانفعال والتأثر.

(٢) يعني : مما أفاده من أوّل القسم الثالث إلى هنا ، حيث قال : «وإن كان التقديم بلفظ اشتريت .. إلخ». ومقصوده قدس‌سره إثبات أنّ جواز تقديم القبول بلفظ مثل «اشتريت» وإن كان مقتضى الدليل والصناعة ، إلّا أنّه لم يتفرّد به حتى يستوحش من المصير إليه ، بل ذهب جمع من أعيان الفقه إلى جوازه ، كما سيأتي ذكرهم.

(٣) بقوله في أوائل هذه المسألة : «وأمّا في باب النكاح ـ من المبسوط ـ فكلامه صريح في جواز التقديم ـ أي تقديم قبول البيع على إيجابه ـ كالمحقق رحمه‌الله في الشرائع ، والعلّامة في التحرير ، والشهيدين في بعض كتبهما وجماعة ممّن تأخّر عنهما» راجع (ص ٤٣٦).

(٤) أي : جواز تقديم القبول على الإيجاب ظاهر إطلاق شيخ الطائفة في كتاب الخلاف ، حيث إنّه ـ مع كونه في مقام بيان شرائط الصحة ـ لم يمنع إلّا عن الانعقاد بالاستيجاب والإيجاب مثل «بعني ، فيقول بعتك» ومن المعلوم عدم الملازمة بين المنع عن الاستيجاب والإيجاب ، وبين المنع عن تقديم مثل «اشتريت». وجه عدم الملازمة قصور «بعني» عن الدلالة على القبول المعتبر في العقد من جهة عدم دلالة الأمر على الرضا الفعلي بالإيجاب حتى يملّك القابل ماله بعنوان العوضية للموجب. وهذا بخلاف «اشتريت» وأخواته المتكفلة لهذه الجهة.

__________________

(١) : الخلاف ، ج ٣ ، ص ٣٩ ـ ٤٠ ، المسألة ٥٦

٤٦٤

عن الانعقاد بالاستيجاب والإيجاب. وقد عرفت (١) عدم الملازمة بين المنع عنه والمنع عن تقديم مثل «اشتريت».

وكذا السيد في الغنية (١) ، حيث أطلق اعتبار الإيجاب والقبول. واحترز بذلك عن انعقاده بالمعاطاة وبالاستيجاب والإيجاب (٢).

وكذا ظاهر إطلاق الحلبي في الكافي (٢) ، حيث لم يذكر تقديم الإيجاب من شروط الانعقاد (٣).

والحاصل : أنّ المصرّح بذلك (٤) ـ فيما وجدت من القدماء ـ الحلّي

______________________________________________________

(١) لعل مراده قدس‌سره ما تقدّم تارة بقوله : «لأنّ غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة على الرّضا بها ، لكن لم يتحقق بمجرّد الرّضا بالمعاوضة المستقبلة نقل في الحال ..» وأخرى بقوله : «إلّا أن المحقق مع تصريحه في البيع بعدم كفاية الاستيجاب والإيجاب صرّح بجواز تقديم القبول على الإيجاب».

والتصريح بجواز تقديم «اشتريت» وإن لم يذكر في العبارتين ، إلّا إنّ القدر المتيقّن من جواز تقديم القبول على الإيجاب ـ عند الكل ـ هو «اشتريت» وأخواته ، دون «قبلت ورضيت».

(٢) فيستفاد من إطلاق اعتبار الإيجاب والقبول في عقد البيع شرطيتهما المطلقة سواء تقدم الإيجاب أم تأخّر.

(٣) لقوله : «واشترطنا الإيجاب والقبول ، لخروجه من دونهما عن حكم البيع» ولم يشترط تقدم الإيجاب على القبول.

(٤) أي : المنع عن تقديم القبول على الإيجاب.

__________________

(١) : غنية النزوع في الفروع والأصول (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٥٢٤ ، وقد تقدم كلام السيد في ص ٤٥٢

(٢) الكافي في الفقه ، ص ٢٥٢

٤٦٥

وابن حمزة (١) (١).

فمن التعجب بعد ذلك (٢) حكاية الإجماع عن الخلاف (٢) على تقديم الإيجاب مع (٣) أنّه لم يزد على الاستدلال لعدم كفاية الاستيجاب والإيجاب «بأنّ (٤) ما عداه مجمع على صحته وليس على صحته دليل» ولعمري أنّ مثل هذا ممّا يوهن الاعتماد على الإجماع المنقول.

وقد نبّهنا على أمثال ذلك (٥) في مواردها (٦).

______________________________________________________

(١) قال الأوّل : «فإن كان القبول متقدما على الإيجاب فالبيع غير صحيح». وقال الثاني في عداد شروط صيغة البيع : «والثامن من تقديم الإيجاب على القبول».

(٢) يعني : بعد موافقة جمع ، وإطلاق الشيخ في الخلاف ، وإطلاق السيد والحلبي ، فإنّه بعد هذه الموافقة تكون دعوى الإجماع على اعتبار تقديم الإيجاب على القبول بعيدة جدّا.

(٣) غرضه تضعيف الإجماع بما حاصله : أنّه لا دلالة في كلامه على دعوى الإجماع على ذلك ، لأنّ مفاده دعوى الإجماع على صحة العقد بغير الاستيجاب والإيجاب ، وأين هذا من دعوى الإجماع على اعتبار تقديم الإيجاب؟ والمجدي إنّما يكون هذه الدعوى ، وهي مما لا يدلّ عليه كلام الخلاف.

(٤) متعلق بالاستدلال ، يعني : استدلّ الشيخ بقوله : «انّ ما عداه .. إلخ».

(٥) يعني : أمثال هذا الموهن ، وهو مصير جمع كثير إلى ما يخالف الإجماع ، إذ يستكشف بهذه المخالفة عدم اتفاق الفقهاء على الحكم حتى يحرز به رأي الامام عليه‌السلام.

(٦) كما نبّه في بحث الإجماع المنقول على الإشكال العام في الإجماعات المنقولة ـ بعد توجيه دعاوي الإجماع ونقل كلام المحقق الشوشتري في كشف القناع ـ بما لفظه : «وبالجملة : فالإنصاف بعد التأمّل وترك المسامحة بإبراز المظنون بصورة القطع ـ

__________________

(١) : السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٢٤٣ ، الوسيلة (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٧٤٠

(٢) قد تقدم في ص ٤٣٣ ، والحاكي هو الشهيد في غاية المراد ، والشهيد الثاني في المسالك.

٤٦٦

نعم (١) يشكل الأمر بأنّ المعهود المتعارف من الصيغة تقديم الإيجاب ، ولا فرق بين المتعارف هنا وبينه في المسألة الآتية وهو الوصل بين الإيجاب والقبول ، فالحكم (٢) لا يخلو عن شوب الإشكال.

ثم إنّ ما ذكرنا (٣) جار في كلّ قبول يؤدّى بإنشاء مستقل كالإجارة التي

______________________________________________________

كما هو متعارف محصّلي عصرنا ـ أنّ اتفاق من يمكن تحصيل فتاواهم على أمر كما لا يستلزم عادة موافقة الإمام عليه‌السلام ، كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكلّ من جهة أو من جهات شتّى. فلم يبق في المقام إلّا أن يحصّل المجتهد أمارات أخر من أقوال باقي العلماء وغيرها ، ليضيفها إلى ذلك ، فيحصل من مجموع المحصّل له والمنقول إليه ـ الذي فرض بحكم المحصّل من حيث وجوب العمل به تعبّدا ـ القطع في مرحلة الظاهر باللازم ، وهو قول الامام عليه‌السلام أو وجود دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الإمام عليه‌السلام بهذا الحكم الظاهري المضمون لذلك الدليل .. إلخ» (١) ، فراجع.

(١) استدراك على ما قوّاه من جواز تقديم القبول على الإيجاب ، وحاصل الإشكال : أنّ المتعارف من الصيغة لمّا كان تقديم الإيجاب على القبول كان هذا التعارف مقيّدا لإطلاق وجوب الوفاء بالعقود ، كتقييد تعارف الموالاة بين الإيجاب والقبول لإطلاق الأدلة. ولا فرق بين التعارف في المسألتين ، ولا وجه للتفكيك بينهما بأن يكون موجبا لانصراف الإطلاق في مسألة الموالاة ، ولا يكون موجبا له في مسألة تقدم الإيجاب على القبول. ولذا يشكل الحكم بجواز تقديم القبول على الإيجاب وإن كان التقديم مقتضى الصناعة.

(٢) هذه نتيجة الإشكال في تقديم القبول بلفظ «اشتريت». وبهذا تمّ الكلام في المقام الأوّل وهو حكم تقدم القبول على الإيجاب في خصوص عقد البيع. وسيأتي الكلام في المقام الثاني وهو حكم تقدم القبول في سائر العقود.

(٣) من جواز تقديم القبول إذا كان متضمّنا لإنشاء مستقلّ في نفسه ، مثل «اشتريت ، ابتعت» ونحوهما ، وإن لم يكن قبولا بالمعنى الأخصّ ، وهذا شروع في

__________________

(١) : فرائد الأصول ، ص ٦٣ و٦٤ (طبعة رحمة الله)

٤٦٧

يؤدّى قبولها بلفظ «تملّكت منك منفعة كذا ، أو ملكت» والنكاح الذي يؤدّي

______________________________________________________

المقام الثاني ، والمستفاد من كلامه تقسيم ألفاظ القبول في سائر العقود إلى أقسام ، وأنّه يجوز تقديمه على الإيجاب في بعضها ، دون بعض. وقبل توضيح الأقسام ينبغي التنبيه على أنّ المصنف قدس‌سره ذكر وجهين في أقسام ألفاظ القبول.

أحدهما : ما أفاده بقوله : «ثم إنّ ما ذكرنا جار في كل قبول .. إلى قوله : وقد عرفت أنّ قبلت ورضيت مع التقديم لا يدل ..».

وثانيهما : ما أفاده بقوله : «فتلخّص مما ذكرنا إلى قوله : فتقديم القبول على الإيجاب لا يكون إلّا في القسم الثاني من كلّ من القسمين». ويمكن أن يختلف مفاد الوجهين كما سيأتي ذكره في آخر البحث.

وتوضيح الوجه الأوّل هو : أنّه إمّا أن يكون القبول التزاما بنقل مال أو التعهّد بشي‌ء آخر ـ غير نقل المال ـ بعنوان العوضية ، وإمّا أن يكون مجرّد الرّضا بالإيجاب من دون أن يتضمّن نقل مال إلى الموجب ، أو التعهّد له بشي‌ء آخر.

والأوّل إمّا أن يكون الالتزام القبولي مغايرا للإيجاب ، أو مماثلا له. والثاني إمّا أن يكون القبول مطاوعة للإيجاب ، وإمّا أن يكون مجرّد الرضا به ، فهذه أقسام أربعة.

أمّا القسم الأوّل فكالقبول في بابي الإجارة والنكاح ، فإن أنشئ قبول الإجارة بلفظ «قبلت ورضيت» تعيّن تأخّره عن الإيجاب ، لما تقدم في تأخّره عنه في البيع. وإن أنشئ بلفظ «ملكت أو تملكت منفعة الدار بكذا» جاز تقديمه ، لدلالته على إنشاء نقل الأجرة بعنوان العوضية للمنفعة ، فيكون نظير إنشاء الشراء بلفظ «اشتريت وتملّكت».

وكذا الحال في قبول النكاح ، فإن أنشئ بلفظ «قبلت» لزم تأخيره. وإن أنشئ بلفظ «نكحت ، تزوّجت» جاز تقديمه على إيجاب الزوجة ، لدلالة «تزوّجت» على التعهد بالزوجية وبأحكامها المترتبة عليها ، سواء تقدّم على الإيجاب أم تأخّر.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو كون القبول التزاما بشي‌ء مماثل للإيجاب ـ

٤٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فكالمصالحة المعوّضة ، كما إذا صالح زيد عمروا على الدار بألف دينار ، فكلّ منهما مصالح ومتصالح ، من جهة إنشائهما التسالم على مبادلة الدار بالألف. وحكمه لزوم تأخير القبول عن الإيجاب ، وذلك لأجل تركّب العقد من إيجاب وقبول. ولمّا كان هذا الصلح قائما بهما على السّوية ـ وليس كالبيع والإجارة ـ توقف تمييز القابل عن الموجب بأن ينشأ القبول بلفظ «قبلت» دون «صالحت» وإلّا يلزم تركّب العقد من إيجابين ، وهو ممنوع ، فلا مناص من إنشاء القبول بلفظ «قبلت» ويلزم تأخيره حينئذ عن الإيجاب ، لما تقدم في البيع.

وأمّا القسم الثالث ـ وهو عدم تكفل القبول للالتزام بنقل شي‌ء إلى الموجب ، وإنّما هو مجرّد الرضا بالإيجاب ـ فإن أنشئ بما لا يتضمن المطاوعة جاز تقديمه على الإيجاب ، كإنشاء قبول الهبة والقرض بلفظ «ملكت» فإنّه يدلّ على الرضا بتمليك الواهب والمقرض ، ولا يفهم منه الانفعال بالإيجاب والمطاوعة له ، فلا مانع من تقديمه.

وكذا الحال في الصلح على إسقاط حقّ أو إسقاط دين ، كما إذا كان زيد مديونا لعمرو بدينار فصالحه عمرو على إبراء ذمته ، فلا مانع من سبق قبول زيد على إيجاب عمرو ، لأنّ قبوله محض الرضا بالإيجاب.

وإن أنشئ بما يدلّ على المطاوعة لزم تأخيره عن الإيجاب ، كما في إنشاء قبول الرّهن والهبة والقرض بلفظ «ارتهنت ، اتهبت ، اقترضت» فإنّ قبول هذه العقود وإن لم يدل على الالتزام بنقل شي‌ء إلى الموجب ، بل هو مجرّد الرّضا بالإيجاب ، لكن يمتنع تقديمه من جهة ظهور الهيئة في الانفعال بالإيجاب والمطاوعة له ، فلا بد من سبق فعل من الموجب حتى يصح الانفعال به.

هذا توضيح القسم الثالث من ألفاظ القبول. وقد ظهر به القسم الرابع أيضا ، لأنّ القبول في عقد واحد كالهبة يختلف حكمه من حيث جواز تقديمه إن لم يدل على

٤٦٩

قبوله بلفظ «نكحت وتزوّجت» (١).

وأمّا (٢) ما لا إنشاء في قبوله إلّا «قبلت» أو ما يتضمّنه (٣) ك «ارتهنت» فقد يقال : بجواز تقديم القبول فيه ، إذ لا التزام في قبوله لشي‌ء ، كما كان (٤) في قبول

______________________________________________________

المطاوعة ، وعدم جوازه إن تضمّن المطاوعة.

هذا تقريب ما أفاده المصنف قدس‌سره من أقسام القبول ، وسيأتي تطبيق المتن عليها.

(١) هذا إشارة إلى القسم الأوّل ، ومثاله قبول الإجارة والنكاح إذا كان بلفظ «تملّكت وتزوّجت» لا ما إذا كان بلفظ «قبلت». وحكمه جواز تقديم القبول فيه كجوازه في البيع إذا كان بلفظ «اشتريت». وقد تقدّم توضيحه بقولنا : «أمّا القسم الأوّل فكالقبول في بابي الإجارة والنكاح .. إلخ».

(٢) هذا إشارة إلى قسم آخر من ألفاظ القبول في عدة من العقود ، وهو القبول الذي لا يدلّ على إنشاء مستقل ، لعدم دلالته على التزام بشي‌ء ، على حدّ دلالة «اشتريت» على الالتزام بنقل ماله إلى البائع ، فالمنشأ في هذا القسم الثاني ليس إلّا الرّضا بالإيجاب ، نظير قبول الرّهن والهبة والقرض.

وقد يقال بجواز تقديمه على الإيجاب ، لما مرّ من أن الرّضا كما يجوز تعلّقه بأمر حاليّ كذلك يجوز تعلقه بأمر استقبالي.

لكن المصنف قدس‌سره منع من إطلاق هذا ، وفصّل بين إنشاء القبول بما يدلّ على مجرّد الرّضا بالإيجاب ، وبين ما يدلّ على المطاوعة لإنشاء الغير والانفعال به. وقد تقدّم توضيحه بقولنا : «وأمّا القسم الثالث وهو عدم تكفل القبول للالتزام بنقل شي‌ء للموجب .. إلخ».

(٣) يعني : يتضمّن القبول نفس الرّضا بالإيجاب ، ولا يتضمّن الالتزام بشي‌ء للموجب.

(٤) هذا بيان للمنفي وهو «الالتزام بنقل شي‌ء».

٤٧٠

البيع التزام بنقل ماله إلى البائع ، بل لا ينشأ به معنى غير الرّضا بفعل الموجب. وقد تقدّم (١) أنّ الرّضا يجوز تعلّقه بأمر مترقّب كما يجوز تعلقه بأمر محقّق ، فيجوز أن يقول : «رضيت برهنك هذا عندي» فيقول : «رهنت».

والتحقيق (٢) عدم الجواز ، لأنّ اعتبار القبول فيه من جهة تحقق عنوان المرتهن. ولا يخفى (٣) أنه لا يصدق الارتهان على قبول الشخص إلّا بعد تحقق الرّهن ، لأنّ (٤) الإيجاب إنشاء للفعل (*) والقبول إنشاء للانفعال (*).

وكذا (٥) القبول في الهبة والقرض ، فإنّه لا يحصل من إنشاء القبول فيهما التزام بشي‌ء ، وإنّما يحصل به الرّضا بفعل الموجب.

______________________________________________________

(١) حيث قال : «إنّ الرّضا بشي‌ء لا يستلزم تحققه قبله ، فقد يرضى الإنسان بالأمر المستقيل ..» راجع (ص ٤٤٢).

(٢) غرضه عدم جواز تقديم القبول على الإيجاب في هذا القسم الثاني ، لأنّ القبول إنشاء للانفعال المترتّب على الفعل الذي هو الإيجاب ، فإنّ عنوان «المرتهن ، والمقترض» مثلا لا يتحققان إلّا بعد حصول الإيجاب ، هذا.

وفيه : أنّ عنوان المرتهن يتحقق بالرّضا بحصول الرّهن ، ولا يتوقف على إنشاء القبول بمفهوم يتضمن معنى المطاوعة. وقد تقدم منه قدس‌سره عدم نهوض دليل على اعتبار إنشاء القبول بمفهوم متضمّن لمعنى المطاوعة.

(٣) يعني : ومن المعلوم أنّ «الارتهان» يكون على هيئة «الافتعال» الذي أشرب فيه مطاوعة فعل الغير.

(٤) تعليل لقوله : «لا يصدق إلّا بعد تحقق الرّهن» ومحصله : أنّ إنشاء الرّهن إنشاء للفعل ، وقبول الرهن إنشاء لمطاوعة فعل الراهن.

(٥) يعني : أنّ القبول في عقدي الهبة والقرض يكون كقبول الرّهن في أنّهما من حيث عدم تضمّنهما إنشاء نقل مال إلى الموجب ـ ينبغي جواز تقديمهما على الإيجاب ، لكن مانع تقديم «ارتهنت» وهو المطاوعة مانع عن تقديم «اتهبت واقترضت».

٤٧١

ونحوها (١) قبول المصالحة المتضمنة للإسقاط والتمليك بغير عوض.

وأمّا المصالحة (٢) المشتملة على المعاوضة فلمّا كان ابتداء الالتزام بها

______________________________________________________

(١) يعني : ونحو القبول في الهبة والرّهن والقرض قبول الصلح المتضمّن لإسقاط ما في الذمة ، أو حقّ ، أو المتضمن للتمليك بغير عوض ، إذ ليس في قبولها التزام بشي‌ء ، بل ليس إلّا الرّضا بالإيجاب ، فيجوز تقديم القبول فيها على الإيجاب.

(٢) محصّله : إبداء الفرق بين المصالحة المتضمنة للإسقاط أو التمليك بغير عوض ، وبين المصالحة المشتملة على المعاوضة. وحاصل الفرق بينهما هو : أنّ الالتزام القبولي ليس مغايرا للالتزام الإيجابي ، فالبادي منهما لا محالة يتصف بالإيجاب ، لصدق الإيجاب ـ وهو إنشاء التسالم ـ لغة وعرفا عليه ، فلو كان الإنشاء التسالمي المتأخر مثله لتركّب العقد من إيجابين. والإجماع قام على توقف العقد على القبول ، فلا بدّ من إنشاء القبول بلفظ القبول ونحوه ممّا يفيده حتى يتألف العقد من إيجاب وقبول ، ومن المعلوم اعتبار تأخّر لفظ «قبلت» عن الإيجاب.

وبعبارة أخرى : انّ هنا أمرين يقتضيان إنشاء قبول المصالحة المعوّضة بلفظ «قبلت» ويتعيّن تأخّره عن الإيجاب.

الأوّل : أنّه يجوز لكل واحد من المتصالحين الابتداء بإنشاء الصلح ، فكلّ مصالح ومتصالح. ووجهه : استواء نسبة عنوان «الصلح» إليهما. وليست المصالحة كالبيع في كون أحد طرفي المعاملة بائعا وموجبا ، والآخر قابلا ومشتريا ، فإذا أرادا المصالحة على الكتاب بدينار جاز لكلّ منهما إنشاء المعاملة ، ولا يتعيّن الإيجاب من مالك الكتاب كما كان في البيع.

الثاني : أنّ الإجماع انعقد على توقف عنوان العقد على إيجاب أحد الطرفين وقبول الآخر له ، ولا يحصل عقد بإيجابين وإن كانا مرتبطين.

ونتيجة هذين الأمرين : أنّه يتعيّن إنشاء قبول الصلح بلفظ «قبلت» إذ لو أنشأ كلّ منهما بلفظ «صالحت» ـ بمقتضى جوازه لهما ـ لزم خلوّ عقد الصلح من قبول ،

٤٧٢

جائزا من الطرفين وكان نسبتها إليهما على وجه سواء ، وليس الالتزام الحاصل من أحدهما أمرا مغايرا للالتزام الحاصل من الآخر ـ كان (١) البادي منهما موجبا ، لصدق الموجب عليه (٢) لغة وعرفا. ثمّ لما انعقد الإجماع (*) على توقف العقد على القبول (٣) لزم أن يكون الالتزام الحاصل من الآخر بلفظ القبول ، إذ لو قال أيضا : «صالحتك» كان إيجابا آخر ، فيلزم تركّب العقد من إيجابين (٤). وتحقّق من جميع ذلك (٥) : أنّ تقديم القبول في الصلح أيضا (٦) غير جائز ، إذ لا قبول فيه بغير لفظ : «قبلت ورضيت» وقد عرفت (٧) أنّ «قبلت ورضيت»

______________________________________________________

وتركّبه من إيجابين ، وهو ممنوع. وحيث إنّ لفظ «قبلت» مما يلزم تأخّره عن الإيجاب ـ لأنّه ليس مطلق الرّضا بالإيجاب ، بل هو الرّضا المتضمن للنقل في الحال إلى الموجب ـ تعيّن تأخره عن إيجاب الصلح.

(١) جواب قوله : «فلمّا كان ..» وقد عرفت وجه تعيّن البادي بالإنشاء في الإيجاب ، والمتأخر في القبول.

(٢) أي : صدق الموجب على البادي. ووجهه تصدّيه لإنشاء عنوان الصلح بقوله : «صالحتك» فهو المصالح بحسب اللغة ، لتلبسه بالعنوان ، وكذا بحسب العرف.

(٣) يعني : فلا يجوز إنشاء قبول الصلح مقدّما على الإيجاب ، لعدم دلالته على نقل العوض في الحال ، مع أنّه لا بد في القبول من دلالته عليه.

(٤) ومن المعلوم عدم كون الإيجابين المنضم أحدهما إلى الآخر عقدا.

(٥) المشار إليه قوله : «وأمّا المصالحة المشتملة على المعاوضة» إلى قوله : «فيلزم تركّب العقد من إيجابين».

(٦) يعني : كما لا يجوز في كل عقد معاوضي ينشأ قبوله بلفظ «قبلت ورضيت».

(٧) يعني قبوله : «لأنّ المشتري ناقل كالبائع ، وهذا لا يتحقق إلّا مع تأخّر

__________________

(١) لا يخفى أنّه قد تقدم منه قدس‌سره قريبا كون المتيقن من الإجماع هو اعتبار القبول بالمعنى الشامل للرّضا بالإيجاب ، ومن المعلوم حصول هذا بلفظ «صالحتك» أيضا.

٤٧٣

مع التقديم لا يدلّ على إنشاء لنقل العوض في الحال.

فتلخص ممّا ذكرنا (١) : أنّ القبول في العقود على أقسام ، لأنّه إمّا أن يكون التزاما بشي‌ء من القابل كنقل مال عنه ، أو زوجيّة ، وإمّا أن لا يكون فيه سوى الرّضا بالإيجاب.

والأوّل (٢) على قسمين ، لأنّ الالتزام الحاصل من القابل إمّا أن يكون نظير الالتزام الحاصل من الموجب كالمصالحة ، أو متغايرا كالاشتراء.

والثاني (٣) أيضا على قسمين ، لأنّه إمّا أن يعتبر فيه عنوان المطاوعة كالارتهان (٤) والاتّهاب والاقتراض ، وإمّا أن لا يثبت فيه اعتبار أزيد من

______________________________________________________

الرّضا عن الإيجاب ، إذ مع تقدمه لا يتحقق النقل في الحال ..» راجع (ص ٤٤٣).

(١) يعني : ممّا ذكرناه من قولنا : «والتحقيق أنّ القبول إمّا أن يكون بلفظ قبلت .. إلخ» وهذا التلخيص وجه ثان لبيان أقسام ألفاظ القبول في جميع العقود ، سواء أكانت عهدية ـ معاوضية وغير معاوضية ـ أم إذنية.

ومحصّل هذا التفصيل : أنّ القبول على أربعة أقسام ، لأنّه إمّا التزام يغاير الالتزام الإيجابي كما في الشراء والإجارة والنكاح ، وإمّا موافق له كالصلح المعاوضي ، وإمّا رضا بالإيجاب مع المطاوعة ، أو بدونها.

(٢) وهو ما يكون القبول فيه التزاما بشي‌ء من القابل ، في قبال التزام الموجب.

(٣) وهو ما يكون القبول فيه مجرّد الرّضا بالإيجاب.

(٤) لا يخفى أنّ المصنف قدس‌سره فرّق في الوجه الأوّل بين الرّهن وبين الهبة والقرض ، حيث حكم بتأخير قبول الرهن من جهة اعتبار المطاوعة في «ارتهنت وقبلت» ولكن مقتضى تعليله في الهبة والقرض بأنّه «لا يحصل من إنشاء القبول منهما التزام بشي‌ء ، وإنّما يحصل به الرّضا بفعل الموجب» وكذا تنظير الصلح على الإبراء ـ أو التمليك بغير عوض ـ بالهبة هو جواز تقديم قبول الهبة والقرض على الإيجاب ، وحينئذ يختلف الوجهان المذكوران في حصر ألفاظ قبول العقود ، فمقتضى

٤٧٤

الرّضا بالإيجاب كالوكالة والعارية وشبههما (١) ، فتقديم القبول على الإيجاب لا يكون إلّا في القسم الثاني (٢) من كلّ من القسمين (٣).

______________________________________________________

الوجه الأوّل جواز تقديم القبول في الهبة والقرض. ومقتضى الوجه الثاني لزوم تأخير قبولهما ، هذا.

أقول : لا يبعد أن يكون مقصود المصنف قدس‌سره من تجويز تقديم القبول في الهبة والقرض في الوجه الأوّل هو إنشاء قبولهما بغير لفظ «اتهبت واقترضت» كما إذا أنشأ المتهب والمقترض ب «ملكت وتملكت» فإنّه لا مانع من تقديم هذا القبول ، لأنّه مجرّد الرّضا بالإيجاب ، بلا دلالة على المطاوعة.

ومقصوده قدس‌سره في الوجه الثاني من امتناع تقديم قبول الهبة والقرض هو إنشاؤه بما يدلّ على المطاوعة ، كقول المتهب والمقترض «اتهبت ، اقترضت» فإنّه من جهة ظهوره في الانفعال بالإيجاب يتعيّن تأخّره عنه كتأخر «قبلت».

وبهذا لا يبقى منافاة بين الوجهين ، وإن كان الوجه الثاني أوفى بيانا لأقسام قبول العقود ، ولذا تعرّض فيه لتقديم قبول العقود الإذنية كالوكالة ، ولم يتعرض له في الوجه الأوّل.

(١) كالوديعة من العقود الجائزة.

(٢) وهو ما أشار إليه بقوله : «أو متغايرا كالاشتراء» وحاصله : كون الالتزام القبولي مغايرا للالتزام الإيجابي ، فإنّ الالتزام الإيجابي البيعيّ في اعتبار العرف هو نقل المال على أن يكون معوّضا عن مال الغير ، والالتزام الشرائي في اعتبارهم هو نقل ماله على أن يكون عوضا عن مال الغير.

(٣) قد عرفت الوجه الثاني من وجهي القسم الأوّل. وأمّا الوجه الثاني من وجهي القسم الثاني فهو كون القبول مجرّد الرّضا بالإيجاب من دون اعتبار المطاوعة فيه. وقد أشار إليه بقوله : «وإمّا إن لا يثبت فيه اعتبار أزيد من الرضا بالإيجاب .. إلخ».

٤٧٥

ثم (١) إنّ مغايرة الالتزام في قبول البيع لالتزام إيجابه اعتبار عرفيّ ، فكلّ من التزم بنقل ماله على وجه العوضية لمال آخر يسمّى مشتريا ، وكلّ من نقل ماله على أن يكون عوضه مالا من آخر يسمّى بائعا.

وبعبارة أخرى : كلّ من ملّك ماله غيره بعوض فهو البائع ، وكلّ من ملك (٢) مال غيره بعوض ماله فهو المشتري ، وإلّا (٣) فكلّ منهما في الحقيقية يملّك ماله غيره بإزاء مال غيره ، ويملك مال غيره بإزاء ماله.

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره من هذه العبارة إلى آخر البحث ـ بعد تقسيم العقود بلحاظ جواز تقديم القبول على الإيجاب ـ هو تمييز البائع عن المشتري حتى يظهر أنّ قبول البيع إن كان بلفظ «قبلت» لم يصح تقديمه ، وإن كان بلفظ «اشتريت» جاز تقديمه. وهذا المطلب قد سبق بيانه في موضعين ، أحدهما : في ثالث تنبيهات المعاطاة ، والآخر في هذا المبحث في جواز تقديم «اشتريت» على الإيجاب ، حيث قال : «لأنّه ـ أي القبول ـ إنشاء ملكيّته للمبيع بإزاء ماله عوضا ، ففي الحقيقة إنشاء المعاوضة كالبائع ، إلّا أنّ البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بإزاء مال صاحبه ، والمشتري ينشئ ملكية مال صاحبه لنفسه بإزاء ماله .. إلخ».

وعلى هذا فحاصل ما أفاده هنا هو : أنّ الالتزام بالنقل والتمليك متحقق في كلّ من الإيجاب والقبول ، فلا فرق بحسب الدّقة بينهما ، ولكن الفارق بينهما في مقام الإثبات موكول الى العرف ، فمن التزم بنقل ماله إلى الغير على أن يكون عوضا عمّا ملّكه الغير سمّي مشتريا ، ومن التزم بنقل ماله على أن يكون عوضه مال الآخر سمّي بائعا.

(٢) أي : تملّك مال الغير بعوض مال نفسه.

(٣) أي : مع الغضّ عن الاعتبار العرفي يصدق عنوان «البائع والمشتري» على كلّ واحد منهما ، لأنّ البيع «مبادلة مال بمال» والشراء هو «ترك شي‌ء وأخذ آخر» ومن المعلوم انطباق التعريفين على كلا المتبايعين.

٤٧٦

 

______________________________________________________

هذا تمام الكلام في توضيح كلمات المصنف قدس‌سره في بحث تقديم الإيجاب على القبول (*).

__________________

(*) لا يخفى أنّ البحث في هذه المسألة يقع في مقامين :

الأوّل : في الاحتمالات والأقوال المتطرقة فيها.

والثاني : فيما ينبغي المصير إليه والاعتماد عليه.

أمّا المقام الأوّل : فنخبة الكلام فيه : أنّ في المسألة احتمالات خمسة ، بل أقوالا كذلك.

الاحتمال الأوّل : وهو الأشهر ـ كما في المختلف ـ لزوم تقديم الإيجاب على القبول مطلقا. وفي التذكرة في شرائط الصيغة : «تقديم الإيجاب على الأقوى» ونحوه ما في الإيضاح وعن التنقيح. وفي جامع المقاصد وعن صيغ عقوده : «والأصح الاشتراط» (١).

وعن تعليقه على الإرشاد : «انه الأظهر» بل في غاية المراد والمسالك «ادّعى عليه الشيخ في الخلاف الإجماع» (٢) وفي النسبة منع كما في مفتاح الكرامة.

وكيف كان فالدليل على هذا القول أمور ثلاثة ، وهي بين دليل عقلي ونقلي.

أحدها : أصالة عدم ترتب الأثر بدون تقديم الإيجاب على القبول ، بعد البناء على اختصاص عموم أدلة الصحة بهذه الصورة ، هذا.

لكن فيه ما لا يخفى إذ لا منشأ لهذا الاختصاص إلّا غلبة تقدّم الإيجاب على القبول ، وهي لا تصلح للتخصيص ، والانصراف المسبّب عنها أيضا لا ينهض لتخصيص العمومات. وتمسّك الأصحاب بتلك العمومات في دفع ما يشك في اعتباره في العقد أقوى شاهد على عدم سقوط عمومها ـ بالانصراف ـ عن الاعتبار.

__________________

(١) : جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٦٠

(٢) غاية المراد ، ص ٨١ ، مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٣

٤٧٧

.................................................................................................

__________________

الثاني : دلالة العقل على كون القبول فرع الإيجاب ، والفرع لا يتقدّم على الأصل ، وإلّا يلزم الخلاف ، هذا. وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى.

الثالث : الإجماع الذي حكاه الشهيدان قدس‌سرهما في غاية المراد والمسالك عن الشيخ في الخلاف.

لكن فيه أوّلا : أنّ إرادة الإجماع المصطلح من عبارة الخلاف مشكلة ، لظهورها في إرادة القدر المتيقن ، كتيقّن الطهارة مع الامتزاج في تطهير المياه. وتيقّن صحة الصلاة مع التسبيحات الأربع ثلاث مرات ، فإنّ التيقن في مقام تحصيل العلم بالصحة غير الإجماع على اعتبار ما شكّ في اعتباره ، كما لا يخفى.

إلّا أنّ الإنصاف ظهور كلام الشيخ في الإجماع لا في القدر المتيقّن ، وذلك بقرينة قوله : «ان ما اعتبرناه مجمع» كما ذكرناه في التوضيح في (ص ٤٣٤).

وثانيا : أنّ الإجماع مع اختلاف الفقهاء وتعدّد الأقوال غير حاصل.

وثالثا : ـ بعد تسليم الإجماع ـ أنّه ليس بحجة ، لكونه من الإجماع المنقول كما ثبت في محله.

ورابعا : بعد تسليم حجية المنقول ـ أنّه يكون حجة إذا لم يكن مدركيا ، وفي المقام يحتمل أن يكون مستند المجمعين أصالة الفساد ، أو تفرّع القبول على الإيجاب. ومع هذا الاحتمال لا يكون إجماعا تعبديّا كاشفا قطعيا عن السّنة ، هذا.

الاحتمال الثاني في المسألة : عدم اعتبار التقدّم مطلقا ، وهو خيرة الشيخ في نكاح المبسوط ، والمحقق في الشرائع ، حيث قال فيه : «وهل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؟ فيه تردد ، والأشبه عدم الاشتراط» (١). والعلّامة في التحرير ، قال فيه : «والأقرب عدم اشتراط تقديم الإيجاب» (٢). والشهيدين في بعض كتبهما كاللّمعة والرّوضة ، حيث

__________________

(١) : شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٣

(٢) تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ١٦٤

٤٧٨

.................................................................................................

__________________

قالا فيهما : «ولا يشترط تقديم الإيجاب على القبول وإن كان تقديمه أحسن» (١).

وقال في الدروس : «ولا ترتيب بين الإيجاب والقبول على الأقرب وفاقا للقاضي رحمه‌الله» (٢).

وجعله الشهيد الثاني في المسالك هو الأقوى (٣).

وفي الكفاية : «وهل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؟ الأقرب العدم» (٤).

وفي مجمع البرهان «أنّه الأظهر» (٥).

وقال الشيخ قدس‌سره في نكاح المبسوط : «وأمّا ان تأخّر الإيجاب فسبق القبول ، فإن كان في النكاح صحّ بلا خلاف ، لخبر الساعدي. وإن كان هذا في البيع فقال : بعنيها ، فقال :

بعتكها صحّ عندنا وعند قوم من المخالفين» (٦).

والوجه في هذا القول أمران :

أحدهما : الإطلاقات السليمة عن المقيّد ، وقد عرفت في وجوه القول الأوّل عدم صلاحية تلك الوجوه لتقييد الإطلاقات ، ومن المعلوم صدق البيع والتجارة والعقد على ما تقدّم فيه القبول على الإيجاب ، فتشمله العمومات والإطلاقات ، هذا.

ثانيهما : الروايات الواردة في باب النكاح الدالة على جواز تقديم القبول تارة بلفظ المضارع ، كما في خبر أبان المتقدم المتضمن لقول الرّجل : «أتزوّجك على كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» الحديث. وأخرى بصيغة الأمر كما في خبر سهل بن سعد

__________________

(١) : الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢٥

(٢) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩١

(٣) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٥٤

(٤) كفاية الأحكام ، ص ٨٩

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٤٤

(٦) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٤ ، ص ١٩٤

٤٧٩

.................................................................................................

__________________

الساعدي : «انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءت إليه امرأة فقالت : يا رسول الله انّي قد وهبت نفسي لك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا إربة لي في النساء. فقالت : زوّجني بمن شئت من أصحابك ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوّجنيها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل معك شي‌ء تصدقها ، فقال والله ما معي إلّا ردائي هذا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أعطيتها إيّاه تبقى ولا رداء لك ، هل معك شي‌ء من القرآن؟ فقال : نعم سورة كذا وكذا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زوّجتكها على ما معك من القرآن (١).

بناء على كون القبول فيهما هو قول أبان : «أتزوّجك» وقول ذلك الصحابي : «زوّجنيها» والإيجاب قول المرأة : «نعم» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فصل طويل : «زوّجتكها على ما تحسن» أو «على ما معك من القرآن» وإلّا لا يصحّ الاستدلال بهما كما لا يخفى.

وإشكال اختصاصهما بالنكاح مندفع بأولوية غير النكاح منه ، وبدعوى الجزم بعدم الفرق بين الماضي والمضارع والأمر ، وأنّ كلّ من قال بجواز التقديم في الأمر قال به في الماضي. بخلاف العكس ، لأنّ بعض من قال بالجواز في الماضي قال بالعدم في الأمر ، بل هذا أحد الأقوال في المسألة كما سيجي‌ء إن شاء الله تعالى.

أقول : العمدة في إثبات القول الثاني ـ أعني به عدم الاشتراط مطلقا ـ هو الوجه الأوّل أي الإطلاقات ، لما تقدم من منع أولوية غير النكاح منه. كما أنّ دعوى الجزم بعدم الفرق بين الماضي وغيره ممنوعة ، إذ لا منشأ لها مع احتمال دخل الخصوصية كما لا يخفى. فالأولى الاقتصار على الوجه الأوّل ، وهو كاف في إثبات المدّعى.

الاحتمال الثالث : في المسألة هو التفصيل بين النكاح وغيره ، بالجواز في الأوّل مطلقا وإن كان بغير الأمر ، والعدم في الثاني وإن كان بالأمر.

ولعلّ وجهه بالنسبة إلى الجواز في النكاح منع الإطلاق في الأدلّة العامة في النكاح وغيره ، لكونها في مقام التشريع ، لا لبيان خصوصيات العقود ، واختصاص دليل الجواز كروايتي أبان وسهل المتقدمتين بالنكاح ، فالمرجع في غيره من سائر العقود

__________________

(١) : عوالي اللئالي ، ج ٣ ، ص ٣١٢ ، الحديث : ١٤٤

٤٨٠