هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٨

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فالجزئية والشرطية والمانعية منتزعة عن كيفية الأمر ، وليست متأصلة في الجعل ، فلا تجري فيها البراءة ، وإن قلنا بشمول حديث الرفع للأحكام الوضعية ، نعم ترتفع هذه الأمور بإجراء البراءة في مناشئ انتزاعها» انتهى ملخصا (١).

وجه الغموض ما عرفت من : أن دليل اعتبار كون مجرى البراءة حكما شرعيا هو كون الرفع تشريعيّا لا تكوينيّا ، فلا بدّ في صحة إسناد الرفع التشريعي من كون المرفوع قابلا للتشريع نفيا وإثباتا. ومن المعلوم أنّ صحة هذا الإسناد لا تتوقف إلّا على كون المرفوع ممّا يرجع فيه وضعا ورفعا إلى الشارع دون غيره. وبديهي أنّ هذا لا يتوقف على كون المرفوع متأصّلا في الجعل ، بل يكفي في ذلك قابلية منشئه للتشريع.

وعليه فلا فرق في جريان البراءة في الشرطية والسببية والمانعية بين كونها راجعة إلى موضوع الحكم ، وبين كونها راجعة إلى متعلّق الحكم ، لأنّها في كليهما منتزعة عن الدخل الشرعي. وقد عرفت صحة إسناد الرفع إلى الشرطية ونحوها بلحاظ انتزاعها عن الدخل الشرعي ، وعدم توقف صحته على كونها مجعولة بالذات.

ولو لم يكن هذا المقدار مصحّحا لإسناد الرفع التشريعي لم يصح التمسك أيضا بإطلاق الدليل الاجتهادي لنفيها. مثلا إذا شككنا في شرطيّة الماضوية في العقد نتمسّك في نفيها بإطلاق مثل «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وكذا إذا شككنا في وجوب الرجوع إلى الكفاية في الحج. فلا فرق في الرجوع إلى البراءة بين كون مجراها مجعولا بالأصالة وبين كونه منتزعا.

نعم يمنع عن جريان البراءة في الوضعيات باختصاص البراءة بالأحكام الإلزامية الموجبة مخالفتها لاستحقاق العقوبة ، ولذا قيل : إنّ البراءة الشرعية تنفي الملزوم ، والبراءة العقلية تنفي اللازم وهو استحقاق المؤاخذة.

إلّا أن يقال : إنّ استدلال الإمام عليه‌السلام بحديث الرفع على فساد طلاق المكره

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ٧ إلى ١١

٣٢١

.................................................................................................

__________________

وعتاقه يدلّ على جريان البراءة في الوضعيّات.

وكيف كان ففي جريان أصالة العدم في الشرطية ونحوها غنى وكفاية ، وبها يثبت عدم كون المشكوك فيه من أجزاء السبب المؤثّر أو من شرائطه ، ومع هذا الأصل لا يجري أصالة الفساد أي عدم النقل والانتقال ، وإن كانت أصلا تنزيليا حاكما على البراءة التي هي أصل غير تنزيلي. وذلك لأنّ أصل البراءة هنا يكون في مرتبة السبب ، واستصحاب عدم الانتقال في مرتبة المسبّب ، وحديث حكومة الاستصحاب على البراءة إنّما يكون في صورة اتحادهما رتبة.

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أنّه لا مانع من جريان البراءة أو أصالة العدم في الشرطية ، وإثبات عدم كون المشكوك فيه جزءا من السبب المؤثر ، نظير جريان البراءة عن الجزئية والشرطية والمانعية في متعلق التكليف كالصلاة ، إذ المتيقن هو الأقل الجامع بين الأقل والأكثر.

ودعوى الفرق ـ كما في تقرير سيدنا الخويي تبعا لشيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سرهما ـ بين متعلّق التكليف كالصلاة إذا شكّ في شرطية أو جزئية أو مانعية شي‌ء لها ، وبين الأسباب كالشكّ في شرطية شي‌ء كالماضوية للعقد «بجريان البراءة في الأوّل لكونه شكّا في تعلق الأمر بالمقيّد به ، فيدفع بأصالة البراءة ، وأمّا الأقل أعني به الطبيعي الجامع بين المطلق والمقيد فهو مأمور به قطعا. وعدم جريانها في الأسباب كالشك في شرطية شي‌ء لصحة عقد أو إيقاع ، لانعكاس الأمر فيها ، حيث إنّ ترتب الأثر كالملكية أو براءة الذمة على العقد أو الإيقاع الواجد لذلك الشرط معلوم ، وترتّبه على الفاقد مجهول ، فيدفع بالأصل. وهذا هو الفارق بين الشك في شرطية شي‌ء للمأمور به ، وبين الشك في شرطيّته للعقد أو الإيقاع» (١) خالية عن البيّنة ، إذ مناط البراءة وهو الشك في الحكم الشرعي موجود في كلّ من متعلّقات التكاليف والأسباب.

وأمّا دعوى : «العلم بترتب الأثر في العقد والإيقاع على الواجد لمشكوك الشرطية

__________________

(١) : مصباح الفقاهة ، ج ٣ ، ص ١٠ و١١

٣٢٢

.................................................................................................

__________________

والجهل بترتبه على الفاقد له ، بخلاف متعلّق التكليف ، حيث إنّ الأقل معلوم الوجوب ، فتجري البراءة في الزائد المشكوك فيه».

ففيها : أنّ منشأ العلم بحدود متعلّق التكليف وسببية العقد إنّما هو الأدلة البيانية المبيّنة لما له دخل في متعلق التكليف وفي ترتب الأثر على العقد ، فحينئذ نقول : نعلم بدخل ما قامت عليه الأدلة ، مثلا نعلم بدخل عشرة أشياء في متعلق التكليف كالصلاة ، وبدخل أمور خمسة مثلا في سببيّة العقد للأثر المقصود ، ونشك فيما زاد على العشرة في المتعلّق ، وعلى الخمسة في العقد ، فالشكّ في دخل الزائد شرعا مشترك بين المتعلّقات والأسباب ، حيث إنّا نعلم بتعلق التكليف بالعشرة وبدخل الخمسة في سببية العقد ، ونشك في الزائد ، فينفى بالأصل.

والعلم بترتب الأثر على العقد الواجد لمشكوك الدخل شرعا إنما هو من باب القدر المتيقن ، لا لأجل العلم بكون الواجد بخصوصيته سببا لترتب الأثر.

وإلّا فمقتضى البرهان ترتب الأثر على ما علم دخله في السببيّة بعد نفي مشكوك الشرطية بالأصل ، والعلم بترتب الأثر من باب القدر المتيقن كالعلم بفراغ الذمة عن التكليف كذلك إذا أتى بالأكثر المشكوك فيه في متعلقات التكاليف.

فجعل باب الأسباب على عكس باب متعلّقات التكاليف في غاية الغموض.

ومنه يظهر ما في قوله : «وترتبه على الفاقد مجهول فيدفع بالأصل» وذلك لأنّ أصالة عدم ترتب الأثر مبنية على عدم جريان البراءة في مشكوك الدخل في سببية العقد ، ومع جريانها لا تصل النوبة إلى الأصل المسببي أعني به أصالة الفساد ، فترتب الأثر على الفاقد مجهول وجدانا ومعلوم تعبّدا ، كما أنّ فراغ الذمة عن التكليف بالإتيان بالأقل كذلك.

هذا إذا أريد بأصالة عدم ترتب الأثر ما هو المعروف بينهم من استصحاب عدم النقل والانتقال.

٣٢٣

.................................................................................................

__________________

وأمّا إذا أريد بها أصالة عدم سببية الأقل لترتب الأثر فلا تجري إن قصد بها البراءة ، لعدم الامتنان. بل جريانها يوجب الضيق ، لأنّ اعتبار الماضوية مثلا ضيق على المكلف.

وفي الثاني : أنّ إنكار تسبّب الشك في الفساد عن الشك في شرطية شي‌ء للعقد مساوق لإنكار البديهي.

وفي الثالث أوّلا : ما قرّر في محلّه من حكومة الأصل السببي على المسببي ، وعدم الوجه في منع الحكومة.

وثانيا : أنّه ـ بعد تسليم عدم الحكومة ـ لا تجري أصالة الفساد أيضا ، لمعارضة أصالة البراءة لها ، فتصل النوبة إلى القرعة أو الصلح القهري ، لقاعدة العدل والإنصاف ، كما لا يخفى.

إلّا أن يقال : بجريان أصالة الفساد وتقدمها على البراءة ، لكونها أصلا تنزيليّا ، دون أصالة البراءة.

إلّا أن يدّعى أنّ هذا التقدم مبنيّ على الحكومة التي أنكرها الخصم. فعلى هذا تجري أصالة الفساد والبراءة معا وتتساقطان.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ الخصم أنكر الحكومة المترتبة على تعدّد الرتبة ، لا مع وحدتها ، فإنّ حكومة الاستصحاب على البراءة مع وحدة رتبتهما ممّا لا سبيل إلى إنكاره ، فتجري أصالة الفساد بلا مانع.

وفي الرابع أوّلا : كون المقام أجنبيا عن باب المحصّل ، لأنّ ضابطه أن يكون الأثر المقصود مترتبا على المحصّل قهرا بحيث يكون مسبّبا توليديّا لا يتوسّط بينه وبين الفعل المحصّل له إرادة فاعل مختار كالإحراق المترتّب على الإلقاء ، ونقاء المحلّ عن النجاسة المترتب على الغسل والعصر مثلا ، ونحو ذلك. فإذا توسّط ذلك خرج عن المحصّل ودخل في باب الحكم والموضوع ، كوجوب الصلاة عند الدلوك ، ووجوب

٣٢٤

.................................................................................................

__________________

الزكاة عند تحقق شرائطها ، فإنّ ترتب الحكم على موضوعه أجنبي عن باب المحصّل. ومن المعلوم أنّ ترتب الأثر المقصود كالملكية على الإنشاء القولي والفعلي يكون من ترتب الحكم على موضوعه لا ترتب المعلول على علته.

وتسمية العقود أسبابا إنّما هي بلحاظ نظر العرف ، حيث إنّهم يرون العقود أسبابا للآثار المترتبة عليها ، وإلّا فإنّ العقود والإيقاعات من صغريات الحكم والموضوع.

وثانيا : أنّه ـ بعد تسليم كون المقام من المحصّل ـ نمنع عدم جريان الأصل في مطلق المحصّل ، وإنّما لا يجري في المحصّل العقلي والعادي ، دون الشرعي كالغسلتين والمسحتين بناء على كون المأمور به الطهارة النفسانية الحاصلة بها ، وإنّها محصّلات للمأمور به ، لا أنّها نفسه ، فإذا شكّ في دخل شي‌ء جزءا أو شرطا للمحصّل الشرعي جرت فيه أصالة البراءة ، ويثبت بها أنّ الأقل هو المحصّل ، وليس المشكوك فيه جزءا له ، هذا.

وفي الخامس : أنّ مثبتيّة البراءة الجارية في متعلّقات التكاليف ـ التي هي المركبات الارتباطية وفي الأسباب المركّبة كالعقود ـ منوطة بكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضاد ، إذ يلزم حينئذ إثبات أحد الضدين بنفي الضّد الآخر. وهذا من أوضح مصاديق الأصل المثبت. بخلاف ما إذا كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ـ كما هو الحق المحقّق في محله ـ فلا يلزم إشكال الإثبات أصلا ، لأنّ الإطلاق على هذا أمر عدمي ، لأنّه عبارة عن عدم تقييد ما من شأنه أن يقيّد. مثلا إذا جرت أصالة البراءة في الاستعاذة ، فمقتضاها عدم تقيّد الصلاة بها وكون أجزائها مطلقة غير مقيّدة بالاستعاذة.

وكذا الحال في جريان البراءة في مشكوك الجزئية أو الشرطية في باب الأسباب ، فإذا جرت في نفي شرطية الماضوية في عقد البيع مثلا فمقتضاها عدم شرطية الماضوية في سببية العقد للملكية ، وعدم كون العقد مقيّدا بالماضوية.

وبالجملة : بعد البناء على كون الإطلاق أمرا عدميّا ، وأنّ التقابل بينه وبين التقييد تقابل العدم والملكة لا يلزم إشكال المثبتية أصلا.

٣٢٥

.................................................................................................

__________________

فتلخص من جميع ما ذكرنا : عدم جريان أصالة الفساد ، وعدم مانع من جريان أصالة البراءة في شرطية شي‌ء كالماضوية للعقد ، وإثبات سببية الأقلّ لترتب الأثر. وعدم الفرق في جريان البراءة بين متعلقات التكاليف وبين الأسباب ، وأنّ مجرى البراءة في كلا البابين هو الأكثر.

لكن الذي يسهّل الخطب أنّ الشك في شرطية شي‌ء للعقود يدفع بالإطلاقات اللفظية أو المقامية ، ولا تصل النوبة إلى الأصل العملي حتى يقع الكلام في أنّه أصالة الفساد أو أصالة الصحة ، فينبغي أن يكون هذا البحث فرضيّا.

نعم إذا كان الشك في صدق عنوان العقد ـ لا في شرطية شي‌ء فيه تعبّدا ـ جرى فيه أصالة الفساد بلا كلام. وأمّا في الشك في دخل شي‌ء فيه تعبّدا فلا مانع من جريان أصالة البراءة فيه ، أو أصالة العدم بناء على اختصاص البراءة بالأحكام الإلزامية ، بعد فرض عدم إطلاق دليل اجتهادي يرفع الشك.

فعلى كلّ تقدير لا تصل النوبة إلى أصالة الفساد إلّا إذا كان الشك في صدق أصل العنوان عرفا ، كما إذا شك في صدق عنوان البيع العرفي على الإنشاء الفعلي ، أو شكّ في صدقه على الإنشاء القولي الفاقد للماضوية مثلا ، فإنّه يجري في صورة الشك في صدق العنوان أصالة عدم ترتب الأثر ، لأنّ مرجع الشك حينئذ إلى الشك في تحقق المؤثر في النقل عرفا ، والأصل عدم تحققه.

وقد تحصل مما تقدم أمور :

الأوّل : أنّ المرجع في الشك في تحقق العنوان العقدي أو الإيقاعي عرفا بمبرز هو أصالة عدم حصول ذلك العنوان الموجب لعدم ترتب آثاره عليه ، وإن شئت فعبّر عن هذا الأصل بأصالة الفساد.

الثاني : أنّ المرجع عند الشك في دخل شي‌ء تعبّدا في مبرز الاعتبار العقدي أو الإيقاعي هو البراءة ، وعدم دخل ذلك المشكوك فيه ، وكون فاقد مشكوك الشرطية مؤثّرا

٣٢٦

.................................................................................................

__________________

في الأثر المقصود من ذلك العقد أو الإيقاع. ولازم جريان البراءة فيه هو الصحة. هذا في الشبهة الحكمية.

وأمّا الموضوعية كما إذا شك في وجود شي‌ء من الشرائط من شروط نفس العقد كالماضوية ـ بعد فرض تسلّم اعتبارها ـ أو من شروط العوضين أو من شروط المتعاقدين ، فالإستصحاب وإن اقتضى عدمه المستلزم لفساد العقد أو الإيقاع ، إلّا أنّه قد ادّعي الإجماع والسيرة على ترتيب آثار وجود المشكوك اعتباره ، والحكم بصحة الإنشاء العقدي.

الثالث : أنّه إذا صدق الاعتبار النفساني بكلّ ما يكون مبرزا له فلا محالة يكون نافذا ، لشمول أدلة ذلك العنوان له ، فإذا صدق البيع مثلا على الإنشاء القولي أو الإشاري أو الكتابي شمله مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فيكون نافذا ، إلّا إذا نهض دليل على اعتبار مبرز خاصّ في نفوذه كالإجماع المدّعى على اعتبار اللفظ في العقود والإيقاعات ، فلا يترتب حينئذ على إنشائها بغير اللفظ أثر من آثار النفوذ.

لكن يختص ذلك بالمتمكّن من التلفظ ، لكون الإجماع دليلا لبّيّا ، والمتيقن منه خصوص القادر ، كما إذا ورد «أكرم العلماء» ثم قام الإجماع على عدم وجوب إكرام البصريين منهم ، فإنّ المتيقّن منه هو خصوص فسّاقهم ، فيخصّص العام به ، لا بكلّ عالم بصري وإن كان عادلا.

وعليه فلا بدّ في تخصيص العام بالدليل اللّبّي من الاقتصار على المتيقن ، وفي الزائد عليه يرجع إلى العام المقتضي للنفوذ بأيّ مبرز أنشئ ذلك الاعتبار النفساني.

وعلى هذا فتكون الإشارة والكتابة على حدّ سواء بالنسبة إلى العاجز عن التكلم ، إلّا إذا قام دليل خاص على الترتيب بينهما بتقديم الإشارة على الكتابة ، فإنّه مع عدم هذا الدليل الخاصّ يحكم بعدم الفرق بين المبرزات ، لأجل العمومات والإطلاقات الدالّة على نفوذ العقود وصحتها.

نعم إن كان المخصّص لها دليلا لفظيا كقوله عليه‌السلام : «إنما يحلّل الكلام ويحرّم

٣٢٧

.................................................................................................

__________________

الكلام» كان المرجع هذا المخصّص ، ومقتضاه الشرطية المطلقة للفظ المستلزمة لوحدة المطلوب ، فإن لم يتمكّن من النطق فلا بدّ من التوكيل.

فقد ظهر مما ذكرنا : أنّ البيع الصادر من العاجز عن التكلم كالأخرس نافذ مطلقا سواء أنشئ بالمعاطاة أم الإشارة أم الكتابة أم غيرها مما يكون مبرزا عرفا لذلك الأمر الاعتباري وإن كان قادرا على التوكيل ، لما عرفت من أنّ المخصص دليل لبيّ فيقتصر على المتيقن منه ، وقد قرّر في محله لزوم الرجوع إلى العموم فيما عدا المتيقن من المخصّص المجمل اللبي ، لكون الشك في التخصيص الزائد. فمقتضى العمومات عدم الترتيب بين المبرزات ، وكون الكل في عرض واحد ، لعدم مرجّح لأحدها على الآخر بعد اشتراكها في المبرزية.

فالالتزام بالترتيب بين الإشارة والكتابة ـ بتقديم الأولى على الثانية ـ بلا ملزم. واحتمال الاستناد في ذلك إلى أصرحيّتها في الإنشاء من الكتابة ـ كما أفاده المصنف قدس‌سره ـ لا يخلو من غموض ، لعدم وضوح أصرحية الإشارة من الكتابة أوّلا لو لم نقل بالعكس. ولعدم دليل على اعتبار الأصرحيّة في المبرز ، وكفاية الظهور العرفي في ذلك ثانيا ، لصدق العنوان مع الظهور العرفي المعتبر عند أبناء المحاورة من دون حاجة إلى الصراحة فضلا عن الأصرحيّة.

وبالجملة : فمع صدق العقد على كل مبرز لا بدّ من القول باللزوم. لكنّ الإجماع قام على اعتبار اللفظ في اللزوم ، والمتيقن منه ـ على فرض تماميته ـ هو صورة القدرة على النطق ، فبدونها يكون كل فعل يصدر منه مبرز للاعتبار النفساني سواء أكان إشارة أم كتابة مصداقا للعقد ، فيجب الوفاء به. وعلى هذا يسقط البحث عن اعتبار الترتيب بين الإشارة والكتابة ، لصدق العقد عرفا على كل مبرز.

نعم يكون للبحث عن الترتيب مجال بناء على التعبد ، لا الصدق العرفي.

فعلى القول بالصدق العرفي يقوم كل فعل مبرز مقام اللفظ ، فإشارة الأخرس وكتابته وغيرهما من أفعاله المبرزة للأمر الاعتباري تقوم مقام اللفظ ولو كان قادرا على

٣٢٨

.................................................................................................

__________________

التوكيل ، لأنّ الأصل عدم اشتراطه.

وعلى القول بعدم الصدق العرفي فلإطلاق الأخبار الواردة في طلاق الأخرس ، المستفاد منها بالفحوى حكم عقده وإيقاعه في سائر الأبواب ، وحملها على صورة العجز عن التوكيل حمل لها على الفرد النادر ، هذا.

والمتحصل مما ذكرنا : أنّ كل عقد أو إيقاع ينشأ بما يكون مبرزا له عرفا تشمله العمومات. إلّا إذا ثبت بالدليل اعتبار مبرز خاص فيه ، بحيث لو أنشئ بغيره لم يكن ممّا يترتب عليه الأثر المقصود. فلو فرض قيام الإجماع على اعتبار اللفظ في العقود والإيقاعات وأغمض عن المناقشة فيه كان ذلك مختصّا بالقادر على التلفظ ، فالعاجز عنه ينشئ العقد والإيقاع بكلّ مبرز عرفي. ولا دليل على حصر المبرز في حقه باللفظ ، فالأخرس وغيره ممن يعجز عن التكلم يصحّ عقده وإيقاعه بكل مبرز حصل ، فلا ترتيب بين المبرزات للأخرس كما قيل.

وإطلاق ما دلّ على تقديم الإشارة على الكتابة وبالعكس يقيّد بنص الآخر ، فإنّ ما دلّ على اعتبار الكتابة ظاهر ـ بمقتضى إطلاقه ـ في التعيينية ، ونصّ في اعتبار الكتابة. وما دلّ على اعتبار الإشارة ظاهر بإطلاقه في التعيينية أيضا ، ونصّ في اعتبار الإشارة ، فيرفع ظاهر كل من الإطلاقين بنص الآخر. ونتيجة هذا الجمع هو التخيير بينهما ، هذا.

ثم إنّه هل يتعدّى من الأخرس إلى من لا يقدر شرعا على التكلم كمن حلف أو نذر على ترك التكلم بغير القرآن والصلاة مثلا ، كالتعدّي إلى من لا يقدر تكوينا على التكلم كما إذا ابتلى بمرض أوجب عجزه عن التكلم؟

الأقوى العدم ، لأنّ التعدّي من موضوع إلى آخر منوط بالدليل ، والمفروض عدمه ، لورود الدليل في خصوص الأخرس ، ولا موجب لإلقاء الخصوصية والتعدّي عنه إلى غيره ممّن يعجز عن التكلّم شرعا لنذر ، أو تكوينا لمرض.

وعليه لا بدّ أن يكون إنشاء العقد أو الإيقاع بالنسبة إلى القادر على النطق تكوينا ـ العاجز عنه تشريعا ـ بالقول ، ولا يكفيه الإشارة وغيرها من الأفعال الكافية في إنشاء الأخرس.

٣٢٩

ثم (١) الكلام في الخصوصيّات المعتبرة في اللّفظ (*) :

______________________________________________________

ما يعتبر في صيغة البيع مادة وهيئة

(١) هذا شروع في المقصد الثاني وهو الخصوصيات المعتبرة في الصيغة بعد البناء على اعتبار أصل اللفظ في المعاملات. وقد بسط المصنف قدس‌سره الكلام فيها في جهات ثلاث ، إذ يقع البحث تارة في مواد الألفاظ ، وأخرى في الهيئات الإفرادية ، وثالثة في الهيئات التركيبية.

والبحث في الجهة الأولى إمّا في اعتبار الصراحة والظهور في المادّة التي تنشأ بها المعاملة ، وإمّا في اعتبار لغة خاصة فيها ، وعلى كلّ منهما فالكلام تارة في ألفاظ الإيجاب ، وأخرى في ألفاظ القبول.

والبحث في الجهة الثانية ـ وهي الهيئة الإفرادية ـ عن اعتبار الماضوية.

وفي الجهة الثالثة عن أمور :

الأوّل : اعتبار تقدم الإيجاب على القبول.

الثاني : اعتبار الموالاة بينهما.

الثالث : اشتراط التنجيز في العقد.

الرابع : التطابق بين الإيجاب والقبول.

الخامس : بقاء المتعاقدين على أهليّة الخطاب ، وسيأتي تفصيل المباحث بترتيب المتن إن شاء الله تعالى.

__________________

(*) ينبغي لتوضيح البحث من تقديم أمر ، وهو : أنّ كلّ عقد يلاحظ فيه جهات ثلاث : جهة اللفظ ، وجهة الخطاب ، وجهة العقد.

أمّا الأولى : فيعتبر فيها القصد ، لتقوّم العقد به كما اشتهر من تبعية العقد للقصد ، فلا يؤثّر التلفظ السّهوي. ولو باللفظ الجامع للخصوصيات المعتبرة فيه في ترتّب الأثر المقصود.

ثمّ إنه يجري في اللفظ اعتبارات ثلاثة :

٣٣٠

.................................................................................................

__________________

الأوّل : الجنس ككونه عربيّا مثلا.

الثاني : الصنف مثل كونه من صيغ الماضي في اللغة العربية.

الثالث : الشخص العاقد ، فلا بدّ أن يوقع شخص جامع للشرائط المعتبرة في العاقد اللّفظ المتخصص بخصوصيته الجنسية كالعربية والنوعية كالماضويّة وغيرها.

فمن قصد التلفّظ بلفظ «بعت» فقد قصد اللّفظ العربي الماضي الذي هو من المادّة الخاصة ، فلا يكفي من اللفظ الذي ينشأ به اعتبار عقدي أو إيقاعي إلّا ما هو مخصوص بخصوصه ، للإجماع ، ولكون العقود المأمور بالوفاء بها هي المتعارفة التي يقصد فيها لفظ مخصوص ، ولأنّ الأصل عدم حصول النقل والانتقال بغير اللفظ الخاص الكذائي الذي قصد إنشاء الاعتبار النفساني به ، فلا ينعقد بالتلفظ باللفظ الذي صدر منه سهوا ، وإن كان في حدّ ذاته صالحا لأن يقع به العقد الخاص.

فإذا فرض صلاحية كل واحد من لفظي «ملّكت وبعت» لإنشاء البيع ، وكان العاقد قاصدا لإنشائه بلفظ «بعت» ولكن سها وقال : «ملكت» لم يكن مجزيا في تحقق البيع ، للإجماع ، وللقاعدة ، لأنّ الإنشاء باللفظ المقصود لم يقع ، والإنشاء الذي وقع باللفظ الصادر غير مقصود.

ولو أتى بألفاظ متعددة ولم يعيّن واحدا منها للإنشاء به ، فتارة يجمع بين تلك الألفاظ في الإيجاب كأن يقول في إنشاء النكاح : «زوّجت وأنكحت ومتعت زينب من موكّلك زيد على الصداق المعلوم» فيقول القابل : «قبلت». وأخرى يوجب بأحدها ، ويقع القبول بعده بلا فصل ، ثم يوجب بالآخر فيتبعه قبوله ، ثم يوجب بالثالث ويتبعه قبوله ، وهكذا.

وعلى التقديرين قد يكون قصد الإنشاء بجنس ما ينشأ به النكاح ، الصادق على كل واحد من الألفاظ المتعددة المفروض عدم تعيين بعضها للإنشاء به. وقد يكون قصد الإنشاء بواحد مردّد بينها.

٣٣١

.................................................................................................

__________________

والفرق بينهما : أنّه على الأوّل يمكن أن يقع الاعتبار النفساني بالمجموع من حيث المجموع ، لصدق الجنس على القليل والكثير. وبواحد منها معلوم عند الله تعالى مجهول عندنا ، لصدق الجنس عليه أيضا. بخلاف الثاني ، فإنّه لا يقع فيه الإنشاء إلّا بواحد منهما ، كما لا يخفى.

وقد يكون قصد الإنشاء بواحد معيّن عند الله تعالى غير معيّن عنده.

وقد يكون قصد الإنشاء بمجموع الألفاظ من حيث المجموع ، بحيث يكون كل واحد منها جزءا للمبرز.

وقد يكون قصد الإنشاء بكل واحد من الألفاظ بالاستقلال ، وباعتبار سببية كلّ منها برأسه لتحقق العقد.

فهذه وجوه خمسة ، تضرب في الصورتين المتقدمتين ـ وهما : اتباع كلّ لفظ بقبول يخصّه ، واتباع مجموع الألفاظ بقبول واحد ـ والحاصل من الضرب عشرة وجوه.

وقد ذكر الفقيه المامقاني قدس‌سره أنّ حكم الجميع هو عدم تحقق العقد إجماعا.

مضافا إلى : أنّ المجموع من حيث المجموع ممّا لم يحصل له السببية شرعا قطعا. واستثنى من الصور المزبورة صورتين :

إحداهما : ما لو قصد كلّ منها مستقلّا ، فإنّه يصح في القسم الأوّل من قسمي الجمع بين الألفاظ المتعددة الصالحة للإنشاء بها ، وصحّته إنّما هي باعتبار اتّصال القبول بالإيجاب الصالح للإنشاء به ، فيحصل الأمر الاعتباري الذي أريد إنشاؤه ، ويقع الباقي من الألفاظ ـ المتقدمة على الإيجاب المتصل بالقبول ـ لغوا غير قادح في الإنشاء ، فإذا قال : «أنكحت وزوّجت ومتّعت» وقال القابل بلا فصل : «قبلت» صحّ ، ووقع الإنشاء بقوله : «متّعت» المتّصل بالقبول ، ووقع ما تقدّمه من لفظي «أنكحت وزوّجت» لغوا.

ثانيتهما : قصد الإنشاء بكلّ من ألفاظ الإيجاب مستقلّا أيضا. لكن مع تعقب كلّ منها بقبول يخصّه. والوجه في صحة هذه الصورة هو حصول الإنشاء بالسبب الأوّل مع

٣٣٢

.................................................................................................

__________________

اتصال قبوله به ، ولغوية ما بعده من الألفاظ ، لحصول المسبّب بسببه الأوّل ، وامتناع تأثير السبب الثاني فيه ، لاستحالة تحصيل الحاصل (١) ، هذا.

ثم إنّه من اعتبار اتصال القبول بالإيجاب يظهر عدم صحة الإنشاء في الصور التي يحصل فيها فصل بين الإيجاب والقبول إذا كان الإنشاء باللّفظ الأوّل ، كما إذا قال : «أنكحت وزوّجت ومتّعت موكّلتي موكّلك» ثم قال القابل : «قبلت» وذلك لوقوع الفصل بين الإيجاب والقبول بأجنبي ـ وهما الأخيران أعني بهما : زوّجت ومتّعت ـ إذ لم يقصد بهما الإنشاء ، فيكون الفصل بين الإيجاب والقبول بأجنبي ، وقد صرّحوا بمانعية الفصل بينهما من انعقاد العقد.

وقد علم من ذلك : أنّه لو قصد الإنشاء في القسم الأوّل بالأخير صحّ العقد ، لاتصال القبول به. ولو قصد الإنشاء بالأوّل في القسم الثاني لم يكن في صحّته إشكال أصلا ، لتعيينه اللفظ ، واتصال القبول بالإيجاب ، ويقع ما بعد هذا الإيجاب والقبول المتأخرين عنهما لغوا.

وإن قصد بالإيجاب والقبول المتأخرين الاحتياط بعد قصد الإنشاء بالأوّل بدون تردّد وتزلزل جاز كما هو الشأن في كلّ احتياط بعد العمل بمقتضى الفتوى.

وكذا لا إشكال في الصحة إذا قصد الإنشاء بالوسط والأخير ، وكان الإتيان بما تقدّمه لا على وجه التردّد والتزلزل ، إذ لو كان على هذا الوجه لم يتحقق الإنشاء بالمتأخر ، لأنّ التزلزل في السابق يوجب التزلزل في اللاحق.

إلّا أن يقال : إنّ التزلزل في الأوّل يوجب بطلانه ، فيصح الإنشاء بما بعده ، لكن بشرط توجّه الموجب والتفاته إلى هذا المعنى حتى يقصد الإنشاء بالمتأخر.

وقد حكى الفقيه المامقاني قدس‌سره عن بعض مشايخه : أنّ المصنف قدس‌سره كان في عقد النكاح يبتدئ بعقد فارسي ، فيقول : «به زني دادم موكّله خودم فلانه را بموكّل خود فلان بمهر معلوم» ثم يأتي بالعقد العربي. وغير خفي أنّ مقصوده قدس‌سره بذلك إنما هو الاحتياط.

__________________

(١) : غاية الآمال ، ص ٢١٩

٣٣٣

.................................................................................................

__________________

وقد أورد عليه : بأنّ هذا خلاف الاحتياط ، وأنّ الاحتياط في تركه ، لأنّ الإكتفاء بالعقد الفارسي خلاف الاحتياط ، لنقل الإجماع على اعتبار العربية في النكاح ، بل في جميع العقود كما سيأتي اعتبارها في المتن عن جامع المقاصد.

فالأولى لمن يريد الاحتياط أن يقدّم ما يقتضي الفتوى صحّته ، ويقصد به الإنشاء ، ثم يأتي بما يحتمل صحة الإنشاء به على وجه الاحتياط. لا أن يقدّم العقد الفارسي الذي لا يصح إلّا في حقّ العاجز عن العقد العربي ، فمع عدم صحته من القادر على العربي كيف يقدّم على العربي تحصيلا للاحتياط؟ بل استشكل في مطلق التكرير حتى لو كان قد أتى بالأوّل على مقتضى الفتوى.

أقول : الإنصاف أنّه بناء على كون الإنشاء إبراز الأمر الاعتباري النفساني ـ لا إيجاد المعنى باللفظ ـ كما هو خيرة بعض المحققين لا إشكال في أصل جواز التكرار ، لأنّ الاعتبار النفساني موجود ، والاحتياط يقع في إبرازه ، فيجمع بين المبرزات طرّا حتّى يحصل العلم بوجود ما هو مبرز له واقعا ، فالاحتياط يكون في المبرزات ، فلا يلزم التعليق في الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى باللّفظ حتى يستشكل فيه بلزوم عدم المعقولية ، لاستلزامه وجود شي‌ء على تقدير ، وعدمه على آخر.

ولا يلزم أن يكون الإتيان بالمحتمل ـ لرعاية الاحتياط ـ بعد العمل بما يقتضيه الفتوى كما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره نظرا إلى لزوم مراعاة شأن الأمارة ، فإنّ تقديم المحتمل الآخر على ما تقتضيه الحجة إلغاء لاعتبار الأمارة وكسر لسورتها ، هذا.

وجه عدم اللزوم أنّ هذا وجه استحساني لا عبرة به ، حيث إنّ الواقع يحرز بالاحتياط بإتيان كلا المحتملين على كل تقدير سواء قدّم ما يقتضيه الحجة أم أخّر.

وعليه فلا إشكال في حصول الاحتياط بتقديم اللغة الفارسية على العربية في عقد النكاح كما هو المحكي عن الشيخ قدس‌سره على ما عرفت. كما لا إشكال في حصوله بتقديم

٣٣٤

.................................................................................................

__________________

العربية على الفارسية ، هذا.

وأمّا الجهة الثانية ـ وهي جهة الخطاب ـ فحاصل الكلام فيها : أنّه لا بدّ من توجيه الخطاب إلى المخاطب وإسماعه إيّاه على الوجه المتعارف ، وإصغاء المخاطب إلى المتكلم بحيث يلتفت إلى مفهوم كل كلمة برأسها حتى ينتهي المتكلّم إلى آخر كلامه ، فيعقّبه المخاطب بالقبول. كما أنّه لا بدّ من معرفة المتكلّم بكلّ كلمة تجري في العقد ليقصد معناها ، ولا يكفي العلم بما يكون مقصودا من جميع الكلام المؤلّف من الكلمات المتعددة ، فلو قال : «بعت هذا المتاع ممّن أراده» فقال غيره : «قبلت أو اشتريت» لم ينعقد البيع ، لعدم حصول التوجيه. وكذا لو قال : «بعت هذا من أحدكما» فقبل ، لكون أحدهما مبهما ، فلا يقبل تعلق الإنشاء الإيجادي به في حال صدوره وتحققه.

وهذا بخلاف الإنشاء الطلبي بأحدهما المبهم المردّد كما في الواجب الكفائي والواجب التخييري ، فإنّه يصحّ هناك ، لمجي‌ء التخيير فيهما بعد الطلب ، فيأتي من شاء منهما بالمأمور به ، لكون الإنشاء الطلبي متعلّقا بصرف الوجود من المكلف ، أو يأتي المأمور المعيّن بما شاء من فردي المأمور به.

وبالجملة : فالإنشاء الإيجادي لا بدّ له من متعلّق يقوم به في الواقع حال صدوره ، هذا.

وأمّا الجهة الثالثة ـ وهي جهة العقد ـ فملخّصها : أنّ القدر المتيقّن الكافل بها هو اللفظ العربي الصحيح الصريح الماضي المنجّز المشتمل على إيجاب البائع والقبول المتأخر المتصل المطابق معنى من المشتري. وهذا ممّا لا خلاف ولا إشكال فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه. هذا بحسب الإجمال.

وأمّا بحسب التفصيل فقد ذكر المصنف قدس‌سره أنّ الكلام فيه يقع تارة في موادّ الألفاظ ، وأخرى في هيئاتها لكلّ من الإيجاب والقبول ، وثالثة في هيئة تركيب الإيجاب مع القبول. وسيأتي الكلام فيها بترتيب المتن إن شاء الله تعالى.

٣٣٥

تارة يقع في موادّ الألفاظ من حيث إفادة المعنى بالصراحة (١) والظهور والحقيقة والمجاز والكناية ، ومن حيث (٢) اللّغة المستعملة في معنى المعاملة.

وأخرى في هيئة كلّ من الإيجاب والقبول من حيث اعتبار كونه بالجملة الفعلية ، وكونه بالماضي (٣).

وثالثة في هيئة تركيب الإيجاب والقبول من حيث الترتيب (٤) والموالاة (٥).

أمّا الكلام من حيث المادة (٦) فالمشهور عدم وقوع العقد بالكنايات. قال

______________________________________________________

(١) سيأتي في المتن ما يراد من صراحة صيغ العقود وظهورها وكنايتها ومجازها ، فانتظر.

(٢) معطوف على «من حيث إفادة المعنى» يعني : أنّ البحث في موادّ الألفاظ يشمل أمرين ، أحدهما : صراحة الألفاظ وظهورها ، وثانيهما : اللغة التي تستعمل في معنى المعاملة من العربية والفارسية وغيرهما من اللّغات ، فيمكن أن يكون في كلّ لغة لأيّ واحدة من المعاملات لفظ صريح وظاهر وكناية ومجاز. ولا ملازمة بين جهتي البحث ، إذ يمكن أن تعتبر العربية في صيغ المعاملات من دون اعتبار الصراحة والظهور ، بل يكفي إنشاؤها بالكناية والمجاز. ويمكن أن يقال بكفاية اللغات الأخرى بشرط صراحة اللفظ أو ظهوره ـ المعتدّ به ـ في عنوان المعاملة.

(٣) فالبحث عن اعتبار العربية بحث عن المادّة ، وعن الماضوية بحث عن الهيئة.

(٤) أي : تقدم الإيجاب على القبول.

(٥) أي : عدم الفصل المخلّ ـ بصدق العقد ـ بين الإيجاب والقبول.

شرائط مادة العقد

المبحث الأوّل : اعتبار الدلالة الوضعية

(٦) إن كان غرضه قدس‌سره من جعل عدم كفاية الكناية من مباحث مادة العقود هو مماشاة القوم ومتابعتهم في اعتبار الصراحة والظهور الوضعي في صيغ العقود اللّازمة بلا نظر إلى كون الكناية في المادة أو في الهيئة فلا بحث.

٣٣٦

في التذكرة : «الرابع من شروط الصيغة التصريح ، فلا يقع بالكناية (١) مع النيّة ، مثل قوله : أدخلته في ملكك (٢) أو : جعلته لك ، أو : خذه منّي بكذا ، أو : سلّطتك عليه بكذا ، عملا بأصالة (٣) بقاء الملك ، ولأنّ (٤) المخاطب لا يدري بم خوطب» (١) انتهى.

______________________________________________________

وإن كان غرضه من قوله : «من حيث المادة» التقييد ، وأنّه لا مانع من الكناية من حيث الهيئة لم يخل عن إشكال ، لظهور بعض الكلمات في منع الإنشاء بالكناية مطلقا سواء أكانت في المادة أم في الهيئة ، ففي المبسوط : «وعندنا : أن قوله : ـ أنت مطلقة ـ إخبار عمّا مضى فقط ، فإن نوى به الإيقاع في الحال فالأقوى أن نقول : انّه يقع به. وقال بعضهم هو كناية» (٢). وقال أيضا : «فإن قال : ـ أنت الطلاق ـ فعندنا ليس بصريح ، والكناية لا نقول بها. وعندهم على وجهين ، منهم من قال هو صريح ، ومنهم من قال : كناية» (٣).

ومن المعلوم أنّ الفرق بين قوله : «أنت طالق» وبين «أنت مطلّقة أو أنت الطلاق» ليس إلّا بحسب الهيئة ، ضرورة اشتراكها في المادّة. ولشيخ الطائفة قدس‌سره غير ما ذكرناه من العبارتين في فصل ما يقع به الطلاق به ما يقع به ، فلاحظ.

(١) وهي : استعمال اللفظ في معناه الحقيقي وإرادة لازمه أو ملزومه بحيث يكون المقصود الأصلي ذلك اللازم أو الملزوم ، وكان استعمال الألفاظ في معانيها للانتقال إلى اللوازم أو الملزومات.

(٢) هذا من الانتقال من اللازم إلى الملزوم الذي هو المبادلة بين المالين ، وكذا ما بعده.

(٣) المعبّر عنها بأصالة الفساد.

(٤) فلا يتمشّى منه القبول الذي هو أحد ركني العقد ، إذ مع عدم علم المخاطب بما

__________________

(١) : تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

(٢) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٥ ، ص ٢٥

(٣) المصدر ، ص ٢٦

٣٣٧

وزاد في غاية المراد على الأمثلة : «مثل قولك : أعطيتكه بكذا ، أو : تسلّط عليه بكذا» (١).

وربما يبدّل هذا (١) «باشتراط الحقيقة ، فلا ينعقد بالمجازات» حتى صرّح بعضهم بعدم الفرق بين المجاز القريب والبعيد.

______________________________________________________

أراده المتكلم لا يمكنه القبول حتى يتحقق عنوان العقد. وهذا الدليل ظاهر في أنّ عدم صحة العقد في مورد الكناية مستند إلى عدم تحقق المفهوم العرفي ، لا إلى تعبد شرعي ، كما هو ظاهر ما يأتي من كلام مفتاح الكرامة ، لظهوره في كون عدم الصحة لأجل التسالم ، لا من جهة عدم صدق مفهوم العقد عرفا.

(١) أي : ربما يبدّل الشرط الرابع وهو التصريح ، فإنّه قد يعبّر عنه باشتراط الحقيقة كما حكاه السيد الفقيه العاملي عن السيد العلامة الطباطبائي قدس‌سرهما بقوله : «والّذي اعتمده الأستاد الشريف دام ظلّه : لا فرق في المجازات بين قريبها وبعيدها في عدم انعقاد العقود اللّازمة بها ، وقوفا مع هذه القاعدة المسلّمة عندهم ، إلّا أن يقوم إجماع فيتّبع» (٢). وقريب منه ما في الجواهر ، فراجع.

ثم إنّ الفقهاء اختلفوا في مادة الصيغة على أقوال ستة :

الأوّل : الاقتصار على القدر المتيقن ، فلا يجوز إنشاء العقود والإيقاعات بغيره من الصيغ المشكوكة.

الثاني : الاقتصار فيها على الألفاظ المنقولة عن الشارع الأقدس ، وهو محتمل المنقول عن الإيضاح والمسالك (٣).

ويدلّ عليه : أنّ مقتضى الاقتصار على القدر المتيقن الجمود على الألفاظ المأثورة ، وعدم دليل على كفاية مطلق الصراحة ، فيرجع في غيرها إلى الأصل.

__________________

(١) : غاية المراد للشهيد الأوّل ، ص ٨٢

(٢) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٤٩ ، جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٩

(٣) إيضاح الفوائد ، ج ٣ ، ص ١٢ ومسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٧٢

٣٣٨

والمراد بالصريح ـ كما يظهر من جماعة من الخاصة والعامة في باب

______________________________________________________

ولعلّه يرجع إلى الوجه الأوّل كما قيل ، بل ادّعي ظهور الرجوع إليه. لكنه لا يخلو من تأمّل.

الثالث : أن يكون اللفظ صريحا بمعنى كونه موضوعا لعنوان العقد. كلفظ «بعت» في إنشاء البيع ، و «صالحت» في إنشاء الصلح ، و «آجرت» في الإجارة وهكذا ، فتخرج الكنايات والمجازات. وحكي عن العلّامة الطباطبائي قدس‌سره التصريح به في مصابيحه.

وإليه يرجع ما ذكره الفخر من : «أنّ كل عقد لازم وضع له الشارع صيغة مخصوصة بالاستقراء» فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن ، بناء على أنّ ما عداه ليس من القدر المتيقن.

وكذا ما في إجارة المسالك.

وفي مفتاح الكرامة : «وهو الذي طفحت به عباراتهم حيث قالوا في أبواب متفرقة كالسّلم والنكاح وغيرهما : أنّ العقود اللازمة لا تنعقد بالمجازات .. ، وكذا لا ينعقد بشي‌ء من الكنايات كالتسليم والتصريف والدفع والإعطاء والأخذ ونحو ذلك» (١).

وعلى هذا فلا ينعقد عقد ولا إيقاع إلّا بالألفاظ التي تعنونت بها عناوين العقود والإيقاعات.

الرابع : كفاية كلّ لفظ له ظهور عرفي معتدّ به في المعنى المقصود. وهذا هو الذي حكاه المصنف عن جماعة. وهذا يشمل المشترك اللفظي والمعنوي والمجاز القريب والبعيد الجاري على قانون الاستعمال الصحيح.

وقد مال إليه المحقق الخراساني قدس‌سره ، حيث قال عقيب قوله المصنف قدس‌سره : «فالمشهور عدم الوقوع» ما لفظه : «لكن مقتضى الإطلاقات في باب البيع وقوعه

__________________

(١) : مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٤٩

٣٣٩

الطلاق وغيره ـ ما كان موضوعا لعنوان ذلك العقد لغة (١) أو شرعا (٢). ومن

______________________________________________________

بالكنايات وأنحاء المجازات ، بلا فرق أصلي بين أن يكون القرينة على التجوز لفظا أو غيره ، لاستناد إنشاء التمليك إلى اللفظ على كل تقدير كما لا يخفى. نعم ربما يمكن المناقشة في صدق العقد على ما إذا وقع بالكناية ، فإنّه عهد مؤكّد ، ولا يبعد أن يمنع عن تأكده فيما إذا وقع بها ، وذلك لسراية الوهن من اللفظ إلى المعنى ، لما بينهما من شدّة الارتباط ، بل نحو من الاتّحاد» (١).

الخامس : التفصيل في الألفاظ المجازية بين القرينة والبعيدة ، فيصح بالأولى كما يصح بالحقيقة ، بخلاف الثانية. وهذا مما أفاده المحقق الثاني قدس‌سره في النكاح والسّلم قال رحمه‌الله عند قول العلامة قدس‌سره في القواعد : «والأقرب انعقاد البيع بلفظ السّلم ، فيقول :

أسلمت إليك هذا الثوب في هذا الدينار» ما لفظه : «أي : يقول ذلك البائع ، فيكون المسلم هو المبيع ، والمسلم فيه هو الثمن .. إلخ» (٢).

ومحصل وجهه هو شمول العمومات الدالة على صحة البيع وعدم شمولها للمجازات البعيدة ، هذا.

السادس : ما حكاه الفقيه المامقاني قدس‌سره عن بعض مشايخه : «من التفصيل في قرائن المجازات بين اللفظ الحقيقي وغيره ، بعد التفصيل بجواز المجاز القريب وعدم جواز المجاز البعيد. ففصّل في المجاز القريب بين ما لو كانت قرينته لفظا حقيقيّا وبين ما كانت غيره فلا يجوز. ولكنّا لم نجد به قائلا ، وسألنا الحاكي فلم يعرفه» (٣).

(١) كلفظ «بعت» في إنشاء البيع.

(٢) كلفظ «ملّكت» مثلا في إنشاء البيع ، فإنّه يصح إنشاؤه به شرعا مع عدم وضعه لغة للبيع.

__________________

(١) : حاشية المكاسب ، ص ٢٧

(٢) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٢٠٧

(٣) غاية الآمال ، ص ٢٢٢

٣٤٠