تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

بعد أن ذكر دلائل الأرض ودلائل الأنفس التي هم من علائق الأرض عطف ذكر السماء للمناسبة ، وتمهيدا للقسم الذي بعده بقوله : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) [الذاريات : ٢٣]. ولما في السماء من آية المطر الذي به تنبت الأرض بعد الجفاف ، فالمعنى : وفي السماء آية المطر ، فعدل عن ذكر المطر إلى الرزق إدماجا للامتنان في الاستدلال فإن الدليل في كونه مطرا يحيي الأرض بعد موتها. وهذا قياس تمثيل للنبت ، أي في السماء المطر الذي ترزقون بسببه.

فالرزق : هو المطر الذي تحمله السحب والسماء هنا : طبقات الجو. وتقديم المجرور على متعلقه للتشويق وللاهتمام بالمكان وللردّ على الفاصلة.

وعطف (وَما تُوعَدُونَ) إدماج بين أدلة إثبات البعث لقصد الموعظة الشاملة للوعيد على الإشراك والوعد على الإيمان إن آمنوا تعجيلا بالموعظة عند سنوح فرصتها.

وفي إيثار صيغة (تُوعَدُونَ) خصوصية من خصائص إعجاز القرآن ، فإن هذه الصيغة صالحة لأن تكون مصوغة من الوعد فيكون وزن (تُوعَدُونَ) تفعلون مضارع وعد مبنيا للنائب. وأصله قبل البناء للنائب تعدون وأصله توعدون ، فلما بني للنائب ضمّ حرف المضارعة فصارت الواو الساكنة مدة مجانسة للضمة فصار : توعدون. وصالحة لأن تكون من الإيعاد ووزنه تأفعلون مثل تصريف أكرم يكرم وبذلك صار (تُوعَدُونَ) مثل تكرمون ، فاحتملت للبشارة والإنذار.

وكون ذلك في السماء يجوز أن يكون معناه أنه محقق في علم أهل السماء ، أي الملائكة الموكلين بتصريفه. ويجوز أن يكون المعنى : أن مكان حصوله في السماء ، من جنة أو جهنم بناء على أن الجنة وجهنم موجودتان من قبل يوم القيامة ، وفي ذلك اختلاف لا حاجة إلى ذكره. وفيه إيماء إلى أن ما أوعدوه يأتيهم من قبل السماء كما قال تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) [الدخان : ١٠ ، ١١]. فإن ذلك الدخان كان في طبقات الجو كما تقدم في سورة الدخان.

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

بعد أن أكد الكلام بالقسم ب (الذَّارِياتِ) [الذاريات : ١] وما عطف عليها فرع على ذلك زيادة تأكيد بالقسم بخالق السماء والأرض على أن ما يوعدون حق فهو عطف على الكلام السابق ومناسبته قوله : (وَما تُوعَدُونَ) [الذاريات : ٢٢].

٢١

وإظهار اسم السماء والأرض دون ذكر ضميرهما لإدخال المهابة في نفوس السامعين بعظمة الربّ سبحانه.

وضمير (إِنَّهُ لَحَقٌ) عائد إلى (ما تُوعَدُونَ) [الذاريات : ٢٢]. وهذا من ردّ العجز على المصدر لأنه رد على قوله أول السورة (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) [الذاريات : ٥] وانتهى الغرض.

وقوله : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) زيادة تقرير لوقوع ما أوعدوه بأن شبه بشيء معلوم كالضرورة لا امتراء في وقوعه وهو كون المخاطبين ينطقون. وهذا نظير قولهم : كما أن قبل اليوم أمس ، أو كما أن بعد اليوم غدا. وهو من التمثيل بالأمور المحسوسة ، ومنه تمثيل سرعة الوصول لقرب المكان في قول زهير :

فهن ووادي الرسّ كاليد للفم

وقولهم : مثل ما أنك هاهنا ، وقولهم : كما أنك ترى وتسمع.

وقرأ الجمهور (مِثْلَ) بالنصب على أنه صفة حال محذوف قصد منه التأكيد. والتقدير : إنه لحق حقا مثل ما أنكم تنطقون. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف مرفوعا على الصفة (لَحَقٌ) صفة أريد بها التشبيه.

و (ما) الواقعة بعد (مِثْلَ) زائدة للتوكيد. وأردفت ب (أنّ) المفيدة للتأكيد تقوية لتحقيق حقية ما يوعدون.

واجتلب المضارع في (تَنْطِقُونَ) دون أن يقال : نطقكم ، يفيد التشبيه بنطقهم المتجدد وهو أقوى في الوقوع لأنه محسوس.

[٢٤ ـ ٣٠] (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠))

انتقال من الإنذار والموعظة والاستدلال إلى الاعتبار بأحوال الأمم الماضية المماثلة للمخاطبين المشركين في الكفر وتكذيب الرسل. والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وغيّر أسلوب الكلام من خطاب المنذرين مواجهة إلى أسلوب التعريض تفننا بذكر قصة إبراهيم لتكون توطئة للمقصود من ذكر ما حلّ بقوم لوط حين كذبوا رسولهم ، فالمقصود هو ما بعد

٢٢

قوله (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) [الحجر : ٥٧].

وكان في الابتداء بذكر قوم لوط في هذه الآية على خلاف الترتيب الذي جرى عليه اصطلاح القرآن في ترتيب قصص الأمم المكذبة بابتدائها بقوم نوح ثم عاد ثم ثمود ثم قوم لوط أن المناسبة للانتقال من وعيد المشركين إلى العبرة بالأمم الماضية أن المشركين وصفوا آنفا بأنهم في غمرة ساهون فكانوا في تلك الغمرة أشبه بقوم لوط إذ قال الله فيهم (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر : ٧٢] ، ولأن العذاب الذي عذب به قوم لوط كان حجارة أنزلت عليهم من السماء مشبهة بالمطر. وقد سميت مطرا في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) [الفرقان : ٤٠] وقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [هود : ٨٢] ولأن في قصة حضور الملائكة عند إبراهيم وزوجه عبرة بإمكان البعث فقد تضمنت بشارتها بمولود يولد لها بعد اليأس من الولادة وذلك مثل البعث بالحياة بعد الممات.

ولمّا وجه الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (هَلْ أَتاكَ) عرف أن المقصود الأصلي تسليته على ما لقيه من تكذيب قومه. ويتبع ذلك تعريض بالسامعين حين يقرأ عليهم القرآن أو يبلغهم بأنهم صائرون إلى مثل ذلك العذاب لاتحاد الأسباب.

وتقدم القول في نظير (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ) عند قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) في سورة ص [٢١] ، وأنه يفتتح به الأخبار الفخمة المهمة.

والضيف : اسم يقال للواحد وللجمع لأن أصله مصدر ضاف ، إذا مال فأطلق على الذي يميل إلى بيت أحد لينزل عنده. ثم صار اسما فإذا لوحظ أصله أطلق على الواحد وغيره ولم يؤنثوه ولا يجمعونه وإذا لوحظ الاسم جمعوه للجماعة وأنثوه للأنثى فقالوا أضياف وضيوف وامرأة ضيفة وهو هنا اسم جمع ولذلك وصف ب (الْمُكْرَمِينَ) ، وتقدم في سورة الحجر [٦٨] (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي).

والمعنيّ به الملائكة الذي أظهرهم الله لإبراهيم عليه‌السلام فأخبروه بأنهم مرسلون من الله لتنفيذ العذاب لقوم لوط وسماهم الله ضيفا نظرا لصورة مجيئهم في هيئة الضيف كما سمى الملكين الذين جاءا داود خصما في قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) [ص : ٢١] ، وذلك من الاستعارة الصورية.

وفي سفر التكوين من التوراة : أنهم كانوا ثلاثة. وعن ابن عباس : أنهم جبريل

٢٣

وميكائيل وإسرافيل. وعن عطاء : جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر.

ولعل سبب إرسال ثلاثة ليقع تشكّلهم في شكل الرجال لما تعارفه الناس في أسفارهم أن لا يقلّ ركب المسافرين عن ثلاثة رفاق. وذلك أصل جريان المخاطبة بصيغة المثنى في نحو : «قفا نبك». وفي الحديث «الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب». رواه الحاكم في «المستدرك» وذكر أن سنده صحيح. وقد يكون سبب إرسالهم ثلاثة أن عذاب قوم لو كان بأصناف مختلفة لكل صنف منها ملكه الموكّل به.

ووصفهم بالمكرمين كلام موجه لأنه يوهم أن ذلك لإكرام إبراهيم إياهم كما جرت عادته مع الضيف وهو الذي سنّ القرى ، والمقصود : أن الله أكرمهم برفع الدرجة لأن الملائكة مقربون عند الله تعالى كما قال : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] وقال : (كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار : ١١].

وظرف (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) يتعلق ب (حَدِيثُ) لما فيه من معنى الفعل ، أي خبرهم حين دخلوا عليه.

وقوله : (فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) تقدم نظيره في سورة هود. وقرأ الجمهور : (قالَ سَلامٌ). وقرأه حمزة والكسائي قال سلم بكسر السين وسكون اللام.

وقوله : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) من كلام إبراهيم. والظاهر أنه قاله خفتا إذ ليس من الإكرام أن يجاهر الزائر بذلك ، فالتقدير : هم قوم منكرون.

والمنكر : الذي ينكره غيره ، أي لا يعرفه. وأطلق هنا على من ينكّر حاله ويظن أنه حال غير معتاد ، أي يخشى أنه مضمر سوء ، كما قال في سورة هود [٧٠] (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) ومنه قول الأعشى :

وأنكرتني وما كان الذي نكرت

من الحوادث إلا الشيب والصّلعا

أي كرهت ذاتي.

وقصة ضيف إبراهيم تقدمت في سورة هود.

و (فَراغَ) مال في المشي إلى جانب ، ومنه : روغان الثعلب. والمعنى : أن إبراهيم حاد عن المكان الذي نزل فيه الضيوف إلى أهله ، أي إلى بيته الذي فيه أهله.

وفي التوراة : أنه كان جالسا أمام باب خيمته تحت شجرة وأنه أنزل الضيوف تحت

٢٤

الشجرة. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : إن الروغان ميل في المشي عن الاستواء إلى الجانب مع إخفاء إرادته ذلك وتبعه على هذا التقييد الراغب والزمخشري وابن عطيّة فانتزع منه الزمخشري أن إخفاء إبراهيم ميله إلى أهله من حسن الضيافة كيلا يوهم الضيف أنه يريد أن يحضر لهم شيئا فلعلّ الضيف أن يكفّه عن ذلك ويعذره وهذا منزع لطيف.

وكان منزل إبراهيم الذي جرت عنده هذه القصة بموضع يسمّى (بلوطات ممرا) من أرض جبرون.

ووصف العجل هنا ب (سَمِينٍ) ، ووصف في سورة هود بحنيذ ، أي مشوي فهو عجل سمين شواه وقرّبه إليهم ، وكان الشواء أسرع طبخ أهل البادية وقام امرؤ القيس يذكر الصيد :

فظل طهاة اللحم ما بين منضج

صفيف شواء أو قدير معجّل

فقيد (قدير) ب (معجّل) ولم يقيد (صفيف شواء) لأنه معلوم.

ومعنى (فَقَرَّبَهُ) وضعه قريبا منهم ، أي لم ينقلهم من مجلسهم إلى موضع آخر بل جعل الطعام بين أيديهم. وهذا من تمام الإكرام للضيف بخلاف ما يطعمه العافي والسائل فإنه يدعى إلى مكان الطعام كما قال الفرزدق :

فقلت إلى الطعام فقال منهم

فريق يحسد الأنس الطعاما

ومجيء الفاء لعطف أفعال (فَراغَ فَجاءَ فَقَرَّبَهُ) للدلالة على أن هذه الأفعال وقعت في سرعة ، والإسراع بالقرى من تمام الكرم ، وقد قيل : خير البر عاجله.

وجملة (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) بدل اشتمال من جملة (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ).

و (أَلا) كلمة واحدة ، وهي حرف عرض ، أي رغبة في حصول الفعل الذي تدخل عليه. وهي هنا متعينة للعرض لوقوع فعل القول بدلا من فعل (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) ، ولا يحسن جعلها كلمتين من همزة استفهام للإنكار مع (لا) النافية.

والعرض على الضيف عقب وضع الطعام بين يديه زيادة في الإكرام بإظهار الحرص على ما ينفع الضيف وإن كان وضع الطعام بين يديه كافيا في تمكينه منه. وقد اعتبر ذلك إذنا عند الفقهاء في الدعوة إلى الولائم بخلاف مجرد وجود مائدة طعام أو سفرة ، إذ يجوز أن تكون قد أعدت لغير المدعوّ.

٢٥

والفاء في (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) فصيحة لإفصاحها عن جملة مقدرة يقتضيها ربط المعنى ، أي فلم يأكلوا فأوجس منهم خيفة ، كقوله : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] ، وقد صرح بذلك في سورة هود (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) (أي إلى العجل) (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) [هود : ٧٠].

و (فَأَوْجَسَ) أحس في نفسه ولم يظهر ، وتقدم نظيره في سورة هود. وقولهم له (لا تَخَفْ) لأنهم علموا ما في نفسه مما ظهر على ملامحه من الخوف ، وتقدم نظيره في سورة هود.

والغلام الذي بشروه به هو إسحاق لأنه هو ابن سارة ، وهو الذي وقعت البشارة به في هذه القصة في التوراة ، ووصف هنا ب (عَلِيمٍ) ، وأما الذي ذكرت البشارة به في سورة الصافات [١٠١] فهو إسماعيل ووصف ب (حَلِيمٍ) ولذلك فامرأة إبراهيم الحادث عنها هنا هي سارة ، وهي التي ولدت بعد أن أيست ، أما هاجر فقد كانت فتاة ولدت في مقتبل عمرها. وأقبلت امرأته حين سمعت البشارة لها بغلام ، أي أقبلت على مجلس إبراهيم مع ضيفه ، قال تعالى في سورة هود [٧١] (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ).

وكان النساء يحضرن مجالس الرجال في بيوتهن مع أزواجهن ويؤاكلنهم. وفي «الموطأ» : قال مالك : لا بأس أن تحضر المرأة مع زوجها وضيفه وتأكل معهم.

والصّرة : الصياح ، ومنه اشتق الصرير. و (فِي) للظرفية المجازية وهي الملابسة.

والصك : اللطم ، وصكّ الوجه عند التعجب عادة النساء أيامئذ ، ونظيره وضع اليد على الفم في قوله تعالى : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) [إبراهيم : ٩].

وقولها (عَجُوزٌ عَقِيمٌ) خبر محذوف ، أي أنا عجوز عقيم.

والعجوز : فعول بمعنى فاعل وهو يستوي في المذكر والمؤنث مشتق من العجز ويطلق على كبر السنّ لملازمة العجز له غالبا.

والعقيم : فعيل بمعنى مفعول ، وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوف مؤنث ، مشتق من عقمها الله ، إذا خلقها لا تحمل بجنين ، وكانت سارة لم تحمل قط.

وقول الملائكة (كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) الإشارة إلى الحادث وهو التبشير بغلام. والكاف

٢٦

للتشبيه ، أي مثل قولنا : قال ربك فنحن بلّغنا ما أمرنا بتبليغه.

وجملة (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) تعليل لجملة (كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) المقتضية أن الملائكة ما أخبروا إبراهيم إلا تبليغا من الله وأن الله صادق وعده وأنه لا موقع لتعجب امرأة إبراهيم لأن الله حكيم يدبر تكوين ما يريده ، وعليم لا يخفى عليه حالها من العجز والعقم.

وهذه المحاورة بين الملائكة وسارة امرأة إبراهيم وقع مثلها بينهم وبين إبراهيم كما قصّ في سورة الحجر ، فحكي هنا ما دار بينهم وبين سارة ، وحكي هناك ما دار بينهم وبين إبراهيم والمقام واحد ، والحالة واحدة كما بيّن في سورة هود [٧٢] (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ).

[٣١ ـ ٣٤] (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤))

علم إبراهيم من محاورتهم فيما ذكر في هذه الآية وما ورد ذكره في آيات أخرى أنهم ملائكة مرسلون من عند الله فسألهم عن الشأن الذي أرسلوا لأجله. وإنما سألهم بعد أن قراهم جريا على سنة الضيافة أن لا يسأل الضيف عن الغرض الذي أورده ذلك المنزل إلا بعد استعداده للرحيل كيلا يتوهم سامة مضيّفة من نزوله به ، وليعينه على أمره إن كان مستطيعا ، وهم وإن كانوا قد بشروه بأمر عظيم إلا أنه لم يعلم هل ذلك هو قصارى ما جاءوا لأجله؟

وحكي فعل القول بدون عاطف لأنه في مقاوله محاورة بينه وبين ضيفه.

والفاء فيما حكي من كلام إبراهيم فصيحة مؤذنة بكلام محذوف ناشئ عن المحاورة الواقعة بينه وبين ضيفه وهو من عطف كلام على كلام متكلم آخر ويقع كثيرا في العطف بالواو نحو قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] بعد قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] وقوله حكاية عن نوح : (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الشعراء : ١١٢]. فإبراهيم خاطب الملائكة بلغته مايؤدي مثله بفصيح الكلام العربي بعبارة (فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ). وتقدير المحذوف : إذ كنتم مرسلين من جانب الله تعالى فما خطبكم الذي أرسلتم لأجله. وقد علم إبراهيم أن نزول الملائكة بتلك الصورة لا تكون لمجرد بشارته بابن يولد له ولزوجه إذ كانت البشارة تحصل له

٢٧

بالوحي ، فكان من علم النبوءة أن إرسال الملائكة إلى الأرض بتلك الصورة لا يكون إلا لخطب قال تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر : ٨].

والخطب : الحدث العظيم والشأن المهمّ ، وإضافته إلى ضميرهم لأدنى ملابسة.

والمعنى : ما الخطب الذي أرسلتم لأجله إذ لا تنزل الملائكة إلا بالحق. وخاطبهم بقوله: (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) لأنه لا يعرف ما يسميهم به إلا وصف أنهم المرسلون ، والمرسلون من صفات الملائكة كما في قوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) [المرسلات : ١] عن أحد تفسيرين.

والمراد بالقوم المجرمين أهل سدوم وعمورية ، وهم قوم لوط ، وقد تقدمت قصتهم في سورة الأعراف وسورة هود.

والإرسال الذي في قوله : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) مستعمل في الرمي مجازا كما يقال : أرسل سهمه على الصيد ، وهذا الإرسال يكون بعد أن أصعدوا الحجارة إلى الجوّ وأرسلتها عليهم ، ولذلك سميت مطرا في بعض الآيات.

وحصل بين (أُرْسِلْنا) وبين (لِنُرْسِلَ) جناس لاختلاف معنى اللفظين.

والحجارة : اسم جمع للحجر ، ومعنى كون الحجارة من طين : أن أصلها طين تحجّر بصهر النار ، وهي حجارة بركانية من كبريت قذفتها الأرض من الجهة التي صارت بحيرة تدعى اليوم بحيرة لوط ، وأصعدها ناموس إلهي بضغط جعله الله يرفع الخارج من البركان إلى الجو فنزلت على قرى قوم لوط فأهلكتهم ، وذلك بأمر التكوين بواسطة القوى الملكية.

والمسوّمة : التي عليها السّومة أي العلامة ، أي عليها علامات من ألوان تدل على أنها ليست من الحجارة المتعارفة.

ومعنى (عِنْدَ رَبِّكَ) أن علاماتها بخلق الله وتكوينه.

والمسرفون : المفرطون في العصيان ، وذلك بكفرهم وشيوع الفاحشة فيهم ، فالمسرفون: القوم المجرمون ، عدل عن ضميرهم إلى الوصف الظاهر ، لتسجيل إفراطهم في الإجرام.

[٣٥ ـ ٣٧] (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))

٢٨

هذه الجملة ليست من حكاية كلام الملائكة بل هي تذييل لقصة محاورة الملائكة مع إبراهيم ، والفاء في (فَأَخْرَجْنا) فصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر هو ما ذكر في سورة هود من مجيء الملائكة إلى لوط وما حدث بينه وبين قومه ، فالتقدير : فحلّوا بقرية لوط فأمرناهم بإخراج من كان فيها من المؤمنين فأخرجوهم. وضمير «أخرجنا» ضمير عظمة الجلالة.

وإسناد الإخراج إلى الله لأنه أمر به الملائكة أن يبلغوه لوطا ، ولأن الله يسّر إخراج المؤمنين ونجاتهم إذ أخّر نزول الحجارة إلى أن خرج المؤمنون وهم لوط وأهله إلا امرأته.

وعبر عنهم ب (الْمُؤْمِنِينَ) للإشارة إلى أن إيمانهم هو سبب نجاتهم ، أي إيمانهم بلوط. والتعبير عنه ب (الْمُسْلِمِينَ) لأنهم آل نبيء وإيمان الأنبياء إسلام قال تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢].

وضمير (فِيها) عائد إلى القرية ولم يتقدم لها ذكر لكونها معلومة من آيات أخرى كقوله : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) [الفرقان : ٤٠].

وتفريع (فَما وَجَدْنا) تفريع خبر على خبر ، وفعل (وَجَدْنا) معنى علمنا لأن (وجد) من أخوات (ظن) فمفعوله الأول قوله : (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) و (من) مزيدة لتأكيد النفي وقوله : (فِيها) في محل المفعول الثاني.

وإنما قال : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) دون أن يقول : فأخرجنا لوطا وأهل بيته قصدا للتنويه بشأن الإيمان والإسلام ، أي أن الله نجّاهم من العذاب لأجل إيمانهم بما جاء به رسولهم لا لأجل أنهم أهل لوط ، وأن كونهم أهل بيت لوط لأنهم انحصر فيهم وصف (الْمُؤْمِنِينَ) في تلك القرية ، فكان كالكلي الذي انحصر في فرد معين.

والمؤمن : هو المصدق بما يجب التصديق به. والمسلم المنقاد إلى مقتضى الإيمان ولا نجاة إلا بمجموع الأمرين ، فحصل في الكلام مع التفنن في الألفاظ الإشارة إلى التنويه بكليهما وإلى أن النجاة باجتماعهما.

والآية تشير إلى أن امرأة لوط كانت تظهر الانقياد لزوجها وتضمر الكفر وممالأة

٢٩

أهل القرية على فسادهم ، قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) [التحريم : ١٠] الآية ، فبيت لوط كان كله من المسلمين ولم يكن كله من المؤمنين فلذلك لم ينج منهم إلا الذين اتصفوا بالإيمان والإسلام معا.

والوجدان في قوله : (فَما وَجَدْنا) مراد به تعلّق علم الله تعالى بالمعلوم بعد وقوعه وهو تعلق تنجيزي ، ووجدان الشيء إدراكه وتحصيله.

ومعنى (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) : أن القرية بقيت خرابا لم تعمر ، فكان ما فيها من آثار الخراب آية للذين يخافون عذاب الله ، قال تعالى في سورة الحجر [٧٦] (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ، أو يعود الضمير إلى ما يؤخذ من مجموع قوله : (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) [الذاريات : ٣٢] على تأويل الكلام بالقصة ، أي تركنا في قصتهم.

والترك حقيقته : مفارقة شخص شيئا حصل معه في مكان ففارق ذلك المكان وأبقى منه ما كان معه ، كقول عنترة :

فتركته جزر السباع ينشنه

ويطلق على التسبب في إيجاد حالة تطول ، كقول النابغة :

فلا تتركنّي بالوعيد كأنني

إلى الناس مطليّ به القار أجرب

بتشبيه إبقاء تلك الحالة فيه بالشيء المتروك في مكان. ووجه الشبه عدم التغير.

والترك في الآية : كناية عن إبقاء الشيء في موضع دون مفارقة التارك ، أو هو مجاز مرسل في ذلك فيكون نظير ما في بيت النابغة.

و (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ) هم المؤمنون بالبعث والجزاء من أهل الإسلام وأهل الكتاب دون المشركين فإنهم لما لم ينتفعوا بدلالة مواقع الاستئصال على أسباب ذلك الاستئصال نزلت دلالة آيته بالنسبة إليهم منزلة ما ليس بآية كما قال تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥].

والمعنى : أن الذين يخافون اتعظوا بآية قوم لوط فاجتنبوا مثل أسباب إهلاكهم ، وأن الذين أشركوا لا يتعظون فيوشك أن ينزل عليهم عذاب أليم.

[٣٨ ـ ٤٠] (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ

٣٠

أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠))

قوله : (وَفِي مُوسى) عطف على قوله : (فِيها آيَةً) [الذاريات : ٣٧].

والتقدير : وتركنا في موسى آية ، فهذا العطف من عطف جملة على جملة لتقدير فعل: تركنا ، بعد واو العطف ، والكلام على حذف مضاف أي في قصة موسى حين أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى إلخ ، فيكون الترك المقدر في حرف العطف مرادا به جعل الدلالة باقية فكأنها متروكة في الموضع لا تنقل منه كما تقدم آنفا في بيت عنترة.

وأعقب قصة قوم لوط بقصة موسى وفرعون لشهرة أمر موسى وشريعته ، فالترك المقدر مستعمل في مجازيه المرسل والاستعارة. وفي الواو استخدام مثل استخدام الضمير في قول معاوية بن مالك الملقب معوّد الحكماء (لقبوه به لقوله في ذكر قصيدته) :

أعوّد مثلها الحكماء بعدي

إذا ما ألحق في الحدثان نابا

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

والمعنى : أن قصة موسى آية دائمة. وعقبت قصة قوم لوط بقصة موسى وفرعون لما بينهما من تناسب في أن العذاب الذي عذب به الأمّتان عذاب أرضي إذ عذب قوم لوط بالحجارة التي هي من طين ، وعذب قوم فرعون بالغرق في البحر ، ثم ذكر عاد وثمود وكان عذابهما سماويا إذ عذبت عاد بالريح وثمود بالصاعقة.

والسلطان المبين : الحجة الواضحة وهي المعجزات التي أظهرها لفرعون من انقلاب العصا حية ، وما تلاها من الآيات الثمان.

والتولي حقيقته : الانصراف عن المكان. والركن حقيقته : ما يعتمد عليه من بناء ونحوه ، ويسمى الجسد ركنا لأنه عماد عمل الإنسان.

وقوله : (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) تمثيل لهيئة رفضه دعوة موسى بهيئة المنصرف عن شخص. وبإيراد قوله : (بِرُكْنِهِ) تمّ التمثيل ولولاه لكان قوله : (فَتَوَلَّى) مجرد استعارة.

والباء للملابسة ، أي ملابسا ركنه كما في قوله : (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) [الإسراء: ٨٣].

والمليم : الذي يجعل غيره لائما عليه ، أي وهو مذنب ذنبا يلومه الله عليه ، أي

٣١

يؤاخذه به. والمعنى : أنه مستوجب العقاب كما قال : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم : ٢٢].

والمعنى : أن في قصة موسى وفرعون آية للذين يخافون العذاب الأليم فيجتنبون مثل أسباب ما حل بفرعون وقومه من العذاب وهي الأسباب التي ظهرت في مكابرة فرعون عن تصديق الرسول الذي أرسل إليه ، وأن الذين لا يخافون العذاب لا يؤمنون بالبعث والجزاء لا يتعظون بذلك لأنهم لا يصدقون بالنواميس الإلهية ولا يتدبرون في دعوة أهل الحق فهم لا يزالون معرضين ساخرين عن دعوة رسولهم متكبرين عليه ، مكابرين في دلائل صدقه ، فيوشك أن يحل بهم من مثل ما حلّ بفرعون وقومه ، لأن ما جاز على المثل يجوز على المماثل ، وقد كان المسلمون يقولون : إن أبا جهل فرعون هذه الأمة.

[٤١ ـ ٤٢] (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢))

نظم هذه الآية مثل نظم قوله : (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ) [الذاريات : ٣٨] انتقل إلى العبرة بأمة من الأمم العربية وهم عاد وهم أشهر العرب البائدة.

و (الرِّيحَ الْعَقِيمَ) هي : الخليّة من المنافع التي ترجى لها الرياح من إثارة السحاب وسوقه ، ومن إلقاح الأشجار بنقل غبرة الذكر من ثمار إلى الإناث من أشجارها ، أي الريح التي لا نفع فيها ، أي هي ضارّة. وهذا الوصف لما كان مشتقا مما هو من خصائص الإناث كان مستغنيا عن لحاق هاء التأنيث لأنها يؤتى بها للفرق بين الصنفين. والعرب يكرهون العقم في مواشيهم ، أي ريح كالناقة العقيم لا تثمر نسلا ولا درّا ، فوصف الريح بالعقيم تشبيه بليغ في الشؤم ، قال تعالى : (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) [الحج : ٥٥].

وجملة (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) صفة ثانية ، أو حال ، فهو ارتقاء في مضرة هذا الريح فإنه لا ينفع وأنه يضر أضرارا عظيمة.

وصيغ (تَذَرُ) : بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة. و (شَيْءٍ) في معنى المفعول ل (تَذَرُ) فإن (من) لتأكيد النفي والنكرة المجرورة ب (من) هذه نص في نفي الجنس ولذلك كانت عامة ، إلا أن هذا العموم مخصص بدليل العقل لأن الريح إنما تبلي الأشياء التي تمر عليها إذا كان شأنها أن يتطرق إليها البلى ، فإن الريح لا تبلي الجبال ولا البحار ولا الأودية وهي تمر عليها وإنما تبلي الديار والأشجار والناس والبهائم ، ومثله

٣٢

قوله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) [الأحقاف : ٢٥].

وجملة (جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) في موضع الحال من ضمير (الرِّيحَ) مستثناة من عموم أحوال (شَيْءٍ) يبين المعرف ، أي ما تذر من شيء أتت عليه في حال من أحوال تدميرها إلا في حال قد جعلته كالرميم.

والرميم : العظم الذي بلي. يقال : رمّ العظم ، إذ بلى ، أي جعلته مفتتا.

والمعنى : وفي عاد آية للذين يخافون العذاب الأليم إذ أرسل الله عليهم الريح. والمراد : أن الآية كائنة في أسباب إرسال الريح عليهم وهي أسباب تكذيبهم هودا وإشراكهم بالله وقالوا : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥] ، فيحذر من مثل ما حلّ بهم أهل الإيمان. وأما الذين لا يخافون العذاب الأليم من أهل الشرك فهم مصرّون على كفرهم كما أصرت عاد فيوشك أن يحلّ بهم من جنس ما حلّ بعاد.

[٤٣ ـ ٤٥] (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥))

أتبعت قصة عاد بقصة ثمود لتقارنهما غالبا في القرآن من أجل أن ثمود عاصرت عادا وخلفتها في عظمة الأمم ، قال تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) [الأعراف : ٧٤] ولاشتهارهما بين العرب.

و (فِي ثَمُودَ) عطف على (فِي عادٍ) أو على (تَرَكْنا فِيها آيَةً).

والمعنى : وتركنا آية للمؤمنين في ثمود في حال قد أخذتهم الصاعقة ، أي في دلالة أخذ الصاعقة إياهم ، على أن سببه هو إشراكهم وتكذيبهم وعتوّهم عن أمر ربهم ، فالمؤمنون اعتبروا بتلك فسلكوا مسلك النجاة من عواقبها ، وأما المشركون فإصرارهم على كفرهم سيوقعهم في عذاب من جنس ما وقعت فيه ثمود.

وهذا القول الذي ذكر هنا هو كلام جامع لما أنذرهم به صالح رسولهم وذكّرهم به من

نحو قوله : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) [الأعراف : ٧٤] وقوله : (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) [الشعراء : ١٤٦ ـ ١٤٨] وقوله : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) [هود : ٦١]. ونحو ذلك مما يدل على أنهم أعطوا ما هو متاع ، أي نفع في الدنيا فإن منافع الدنيا

٣٣

زائلة ، فكانت الأقوال التي قالها رسولهم تذكيرا بنعمة الله عليهم يجمعها (تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) ، على أنه يجوز أن يكون رسولهم قال لهم هذه الكلمة الجامعة ولم تحك في القرآن إلا في هذا الموضع ، فقد علمت من المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير أن أخبار الأمم تأتي موزعة على قصصهم في القرآن.

فقوله : (تَمَتَّعُوا) أمر مستعمل في إباحة المتاع. وقد جعل المتاع بمعنى النعمة في مواضع كثيرة كقوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) [الرعد : ٢٦] قوله : (إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [الأنبياء : ١١١].

والمراد ب (حِينٍ) زمن مبهم ، جعل نهاية لما متّعوا به من النعم فإن نعم الدنيا زائلة ، وذلك الأجل : إما أن يراد به أجل كل واحد منهم الذي تنتهي إليه حياته ، وإمّا أن يراد به أجل الأمة الذي ينتهي إليه بقاؤها. وهذا نحو قوله : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [هود : ٣] فكما قاله الله للناس على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعله قاله لثمود على لسان صالح عليه‌السلام.

وليس قوله : (إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) بمشير إلى قوله في الآية الأخرى (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود : ٦٥] ونحوه لأن ذلك الأمر مستعمل في الإنذار والتأييس من النجاة بعد ثلاثة أيام فلا يكون لقوله بعده : (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) مناسبة لتعقيبه به بالفاء لأن الترتيب الذي تفيده الفاء يقتضي أن ما بعدها مرتب في الوجود على ما قبلها.

والعتوّ : الكبر والشدة. وضمن «عتوا» معنى : أعرضوا ، فعدي ب (عن) ، أي فأعرضوا عما أمرهم الله على لسان رسوله صالح عليه‌السلام.

وأخذ الصاعقة إياهم إصابتها إياهم إصابة تشبه أخذ العدوّ عدوه.

وجملة (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) حال من ضمير النصب في (فَأَخَذَتْهُمُ) ، أي أخذتهم في حال نظرهم إلى نزولها ، لأنهم لما رأوا بوارقها الشديدة علموا أنها غير معتادة فاستشرفوا ينظرون إلى السحاب فنزلت عليهم الصاعقة وهم ينظرون ، وذلك هول عظيم زيادة في العذاب فإن النظر إلى النقمة يزيد صاحبها ألما كما أن النظر إلى النعمة يزيد المنعم مسرّة ، قال تعالى : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة : ٥٠].

وقرأ الكسائي الصعقة بدون ألف.

٣٤

وقوله : (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) تفريع على (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) ، أي فما استطاعوا أن يدفعوا ذلك حين رؤيتهم بوادره. فالقيام مجاز للدفاع كما يقال : هذا أمر لا يقوم له أحد ، أي لا يدفعه أحد. وفي الحديث «غضب غضبا لا يقوم له أحد» ، أي فما استطاعوا أيّ دفاع لذلك.

وقوله : (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي لم ينصرهم ناصر حتى يكونوا منتصرين لأن انتصر مطاوع نصر ، أي ما نصرهم أحد فانتصروا.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))

قرأ الجمهور (وَقَوْمَ) بالنصب بتقدير (اذكر) ، أو بفعل محذوف يدلّ عليه ما ذكر من القصص قبله ، تقديره : وأهلكنا قوم نوح ، وهذا من عطف الجمل وليس من عطف المفردات.

وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بالجر عطفا على (ثَمُودَ) [الذاريات : ٤٣] على تقدير : وفي قوم نوح.

ومعنى (مِنْ قَبْلُ) أنهم أهلكوا قبل أولئك فهم أول الأمم المكذبين رسولهم أهلكوا.

وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل لما تضمّنه قوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ). وتقدير كونهم آية للذين يخافون العذاب : من كونهم عوقبوا وأن عقابهم لأنهم كانوا قوما فاسقين.

وأخر الكلام على قوم نوح لما عرض من تجاذب المناسبات فيما أورد من آيات العذاب للأمم المذكورة آنفا بما علمته سابقا. ولذلك كان قوله : (مِنْ قَبْلُ) تنبيها على وجه مخالفة عادة القرآن في ترتيب حكاية أحوال الأمم على حسب ترتيبهم في الوجود. وقد أومأ قوله : (مِنْ قَبْلُ) إلى هذا ومثله قوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى * وَثَمُودَ فَما أَبْقى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) [النجم : ٥٠ ـ ٥٢].

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧))

لما كانت شبهة نفاة البعث قائمة على توهم استحالة إعادة الأجسام بعد فنائها أعقب تهديدهم بما يقوض توهمهم فوجه إليه الخطاب يذكرهم بأن الله خلق أعظم المخلوقات

٣٥

ولم تكن شيئا فلا تعدّ إعادة الأشياء الفانية بالنسبة إليها إلّا شيئا يسيرا كما قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧].

وهذه الجملة والجمل المعطوفة عليها إلى قوله : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: ٥١] معترضة بين جملة (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) [الذاريات : ٤٦] إلخ وجملة (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ) [الذاريات : ٥٢] الآية.

وابتدئ بخلق السماء لأن السماء أعظم مخلوق يشاهده الناس ، وعطف عليه خلق الأرض عطف الشيء على مخالفه لاقتران المتخالفين في الجامع الخيالي. وعطف عليها خلق أجناس الحيوان لأنها قريبة للأنظار لا يكلف النظر فيها والتدبر في أحوالها ما يرهق الأذهان.

واستعير لخلق السماء فعل البناء لأنه منظر السماء فيما يبدو للأنظار شبيه بالقبة ونصب القبة يدعى بناء.

وهذا استدلال بأثر الخلق الذي عاينوا أثره ولم يشهدوا كيفيته ، لأن أثره ينبئ عن عظيم كيفيته ، وأنها أعظم مما يتصور في كيفية إعادة الأجسام البالية.

والأيد : القوة. وأصله جمع يد ، ثم كثر إطلاقه حتى صار اسما للقوة ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) في سورة ص [١٧].

والمعنى : بنيناها بقدرة لا يقدر أحد مثلها.

وتقديم (السَّماءَ) على عامله للاهتمام به ، ثم بسلوك طريقة الاشتغال زاده تقوية ليتعلق المفعول بفعله مرتين : مرة بنفسه ، ومرة بضميره ، فإن الاشتغال في قوة تكرر الجملة. وزيد تأكيده بالتذييل بقوله : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ). والواو اعتراضية.

والموسع : اسم فاعل من أوسع ، إذا كان ذا وسع ، أي قدرة. وتصاريفه جائية من السّعة ، وهي امتداد مساحة المكان ضد الضيق ، واستعير معناها للوفرة في أشياء مثل الأفراد مثل عمومها في (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦] ، ووفرة المال مثل (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) [الطلاق : ٧] ، وقوله : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) [البقرة : ٢٣٦] ، وجاء في أسمائه تعالى الواسع (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ). وهو عند إجرائه على الذات يفيد كمال صفاته الذاتية : الوجود ، والحياة ، والعلم ، والقدرة ، والحكمة ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١١٥] ومنه قوله هنا : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ).

٣٦

وأكد الخبر بحرف (إنّ) لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر سعة قدرة الله تعالى ، إذ أحالوا إعادة المخلوقات بعد بلاها.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨))

القول في تقديم (الْأَرْضَ) على عامله ، وفي مجيء طريقة الاشتغال كالقول في (وَالسَّماءَ بَنَيْناها) [الذاريات : ٤٧]. وكذلك القول في الاستدلال بذلك على إمكان البعث.

من دقائق فخر الدين : أن ذكر الأمم الأربع للإشارة إلى أن الله عذّبهم بما هو من أسباب وجودهم ، وهو التراب والماء والهواء والنار ، وهي عناصر الوجود ، فأهلك قوم لوط بالحجارة وهي من طين ، وأهلك قوم فرعون بالماء ، وأهلك عادا بالريح وهو هواء ، وأهلك ثمودا بالنار.

واستغنى هنا عن إعادة (بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧] لدلالة ما قبله عليه.

والفرش : بسط الثوب ونحوه للجلوس والاضطجاع ، وفي (فَرَشْناها) استعارة تبعية ، شبه تكوين الله الأرض على حالة البسط بفرش البساط ونحوه.

وفي هذا الفرش دلالة على قدرة الله وحكمته إذ جعل الأرض مبسوطة لمّا أراد أن يجعل على سطحها أنواع الحيوان يمشي عليها ويتوسدها ويضطجع عليها ولو لم تكن كذلك لكانت محدودبة تؤلم الماشي بله المتوسد والمضطجع.

ولما كان في فرشها إرادة جعلها مهدا لمن عليها من الإنسان أتبع (فَرَشْناها) بتفريع ثناء الله على نفسه على إجادة تمهيدها تذكيرا بعظمته ونعمته ، أي فنعم الماهدون نحن.

وصيغة الجمع في قوله : (الْماهِدُونَ) للتعظيم مثل ضمير الجمع في [...] (١) ، وروعي في وصف خلق الأرض ما يبدو للناس من سطحها لأنه الذي يهم الناس في الاستدلال على قدرة الله وفي الامتنان عليهم بما فيه لطفهم والرفق بهم ، دون تعرض إلى تكويرها إذ لا يبلغون إلى إدراكه ، كما روعي في ذكر السماء ما يبدو من قبة أجوائها دون بحث عن ترامي أطرافها وتعدد عوالمها لمثل ذلك. ولذلك أتبع الاعتراض بالتذييل بقوله : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) المراد منه تلقين الناس الثناء على الله فيما صنع لهم فيها من منّة

__________________

(١) كلمة غير واضحة في المطبوعة.

٣٧

ليشكروه بذلك الثناء كما في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢].

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩))

لما أشعر قوله : (فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذاريات : ٤٨] بأن في ذلك نعمة على الموجودات التي على الأرض ، أتبع ذلك بصفة خلق تلك الموجودات لما فيه من دلالة على تفرد الله تعالى بالخلق المستلزم لتفرده بالإلهية فقال : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) والزوج : الذكر والأنثى. والمراد بالشيء : النوع من جنس الحيوان. وتثنية زوج هنا لأنه أريد به ما يزوج من ذكر وأنثى.

وهذا الاستدلال عليهم بخلق يشاهدون كيفياته وأطواره كلما لفتوا أبصارهم ، وقدحوا أفكارهم ، وهو خلق الذكر والأنثى ليكون منهما إنشاء خلق جديد يخلف ما سلفه وذلك أقرب تمثيل لإنشاء الخلق بعد الفناء. وهو البعث الذي أنكروه لأن الأشياء تقرّب بما هو واضح من أحوال أمثالها.

ولذلك أتبعه بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، أي تتفكرون في الفروق بين الممكنات والمستحيلات ، وتتفكرون في مراتب الإمكان فلا يختلط عليكم الاستبعاد وقلة الاعتياد بالاستحالة فتتوهموا الغريب محالا.

فالتذكر مستعمل في إعادة التفكر في الأشياء ومراجعة أنفسهم فيما أحالوه ليعلموا بعد إعادة النظر أن ما أحالوه ممكن ولكنهم لم يألفوه فاشتبه عليهم الغريب بالمحال فأحالوه فلما كان تجديد التفكر المغفول عنه شبيها بتذكر الشيء المنسي أطلق عليه (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). وهذا في معنى قوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ* وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) [الواقعة : ٦٠ ـ ٦٢] فقد ذيل هنالك بالحث على التذكر ، كما ذيل هنا برجاء التذكر ، فأفاد أن خلق الذكر والأنثى من نطفة هو النشأة الأولى وأنها الدالة على النشأة الآخرة.

وجملة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تعليل لجملة (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي رجاء أن يكون في الزوجين تذكر لكم ، أي دلالة مغفول عنها. والقول في صدور الرجاء من الله مبين عنه قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) في سورة البقرة [٥٢].

[٥٠ ، ٥١] (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ

٣٨

إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١))

بعد أن بين ضلال هؤلاء في تكذيبهم بالبعث بيانا بالبرهان الساطع ، ومثّل حالهم بحال الأمم الذين سلفوهم في التكذيب بالرسل وما جاءوا به جمعا بين الموعظة للضالين وتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وكانت فيما مضى من الاستدلال دلالة على أن الله متفرد بخلق العالم وفي ذلك إبطال إشراكهم مع الله آلهة أخرى أقبل على تلقين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يستخلصه لهم عقب ذلك بأن يدعوهم إلى الرجوع إلى الحق بقوله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) فالجملة المفرعة بالفاء مقول قول محذوف والتقدير : فقل فرّوا ، دل عليه قوله : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فإنه كلام لا يصدر إلا من قائل ولا يستقيم أن يكون كلام مبلغ. وحذف القول كثير الورود في القرآن وهو من ضروب إيجازه ، فالفاء من الكلام الذي يقوله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومفادها التفريع على ما تقرر مما تقدم. وليست مفرّعة فعل الأمر المحذوف لأن المفرع بالفاء هو ما يذكر بعدها.

وقد غير أسلوب الموعظة إلى توجيه الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم هذه الموعظة لأن لتعدد الواعظين تأثيرا على نفوس المخاطبين بالموعظة.

والأنسب بالسياق أن الفرار إلى الله مستعار للإقلاع عن ما هم فيه من الإشراك وجحود البعث استعارة تمثيلية بتشبيه حال تورطهم في الضلالة بحال من هو في مكان مخوف يدعو حاله أن يفرّ منه إلى من يجيره ، وتشبيه حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال نذير قوم بأن ديارهم عرضة لغزو العدوّ فاستعمل المركّب وهو (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) في هذا التمثيل.

فالمواجه ب (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) المشركون لأن المؤمنين قد فرّوا إلى الله من الشرك.

والفرار : الهروب ، أي سرعة مفارقة المكان تجنبا لأذى يلحقه فيه فيعدي ب (من) الابتدائية للمكان الذي به الأذى يقال : فرّ من بلد الوباء ومن الموت ، والشيء الذي يؤذي ، يقال : فر من الأسد وفر من العدوّ.

وجملة (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تعليل للأمر ب (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) باعتبار أن الغاية من الإنذار قصد السلامة من العقاب فصار الإنذار بهذا الاعتبار تعليلا للأمر بالفرار إلى الله ، أي التوجه إليه وحده.

وقوله : (مِنْهُ) صفة ل (نَذِيرٌ) قدمت على الموصوف فصارت حالا.

وحرف (من) للابتداء المجازي ، أي مأمور له بأن أبلغكم.

٣٩

وعطف (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) على (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) نهي عن نسبة الإلهية إلى أحد غير الله. فجمع بين الأمر والنهي مبالغة في التأكيد بنفي الضد لإثبات ضده كقوله : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩].

ومن لطائف فخر الدين أن قوله تعالى : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ) جمع الرسول والمرسل إليهم والمرسل.

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢))

كلمة (كَذلِكَ) فصل خطاب تدل على انتهاء حديث والشروع في غيره ، أو الرجوع إلى حديث قبله أتى عليه الحديث الأخير. والتقدير : الأمر كذلك. والإشارة إلى ما مضى من الحديث ، ثم يورد بعده حديث آخر والسامع يردّ كلا إلى ما يناسبه ، فيكون ما بعد اسم الإشارة متصلا بأخبار الأمم التي تقدم ذكرها من قوم لوط ومن عطف عليهم.

أعقب تهديد المشركين بأن يحل بهم ما حلّ بالأمم المكذبين لرسل الله من قبلهم بتنظيرهم بهم في مقالهم ، وقد تقدم ورود (كَذلِكَ) فصلا للخطاب عند قوله تعالى : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) في سورة الكهف [٩١] ، فقوله : (كَذلِكَ) فصل وجملة (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ) الآية مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

ولك أن تجعل قوله : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إلخ مبدأ استئناف عودا إلى الإنحاء على المشركين في قولهم المختلف بأنواع التكذيب في التوحيد والبعث وما يتفرع على ذلك.

واسم الإشارة راجع إلى قوله : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) [الذاريات : ٨] الآية كما علمت هنالك ، أي مثل قولهم المختلف قال الذين من قبلهم لما جاءتهم الرسل ، فيكون قوله (كَذلِكَ) في محل حال وصاحب الحال (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

وعلى كلا الوجهين فالمعنى : إن حال هؤلاء كحال الذين سبقوهم ممن كانوا مشركين أن يصفوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ساحر ، أو مجنون فكذلك سيجيب هؤلاء عن قولك : «فروا إلى الله ولا تجعلوا مع الله إلها آخر» بمثل جواب من قبلهم فلا مطمع في ارعوائهم عن عنادهم.

والمراد ب (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الأمم المذكورة في الآيات السابقة وغيرهم ، وضمير

٤٠