تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

وقوله : (يَسْتَجِيبُ) بمعنى يجيب ، فالسين والتاء زائدان للتأكيد ؛ وقد تقدّم الكلام على هذا الفعل عند قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) في سورة آل عمران [١٩٥]. وحذف متعلّق (يَسْتَجِيبُ) لظهوره من المقام لأنّ المقام مقام الدعوة إلى التوحيد وتصديق الرسول.

ومعنى (يَسْمَعُونَ) ، أنّهم يفقهون ما يلقى إليهم من الإرشاد لأنّ الضالّين كمن لا يسمع. فالمقصود سمع خاصّ وهو سمع الاعتبار.

أمّا قوله : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) فالوجه أنّه مقابل ل (الَّذِينَ يَسْمَعُونَ). ولذلك حسن عطف هذه الجملة على جملة : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ). فمعنى الكلام : وأمّا المعرضون عنك فهم مثل الموتى فلا يستجيبون ، كقوله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) [النمل : ٨٠]. فحذف من الكلام ما دلّ عليه السياق ، فإنّ الذي لا يسمع قد يكون فقدان سمعه من علّة كالصمم ، وقد يكون من عدم الحياة ، كما قال عبد الرحمن بن الحكم الثقفي :

لقد أسمعت لو ناديت حيّا

ولكن لا حياة لمن تنادي

فتضمّن عطف (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) تعريضا بأنّ هؤلاء كالأموات لا ترجى منهم استجابة. وتخلّص إلى وعيدهم بأنّه يبعثهم بعد موتهم ، أي لا يرجى منهم رجوع إلى الحقّ إلى أن يبعثوا ، وحينئذ يلاقون جزاء كفرهم. (وَالْمَوْتى) استعارة لمن لا ينتفعون بعقولهم ومواهبهم في أهمّ الأشياء ، وهو ما يرضي الله تعالى. و (يَبْعَثُهُمُ) على هذا حقيقة ، وهو ترشيح للاستعارة ، لأنّ البعث من ملائمات المشبّه به في العرف وإن كان الحي يخبر عنه بأنه يبعث ، أي بعد موته ، ولكن العرف لا يذكر البعث إلّا باعتبار وصف المبعوث بأنّه ميّت.

ويجوز أن يكون البعث استعارة أيضا للهداية بعد الضلال تبعا لاستعارة الموت لعدم قبول الهدى على الوجهين المعروفين في الترشيح ـ في فن البيان ـ من كونه تارة يبقى على حقيقته لا يقصد منه إلّا تقوية الاستعارة ، وتارة يستعار من ملائم المشبّه به إلى شبهه من ملائم المشبّه ، كقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) [آل عمران : ١٠٣]. فيكون على هذا الوجه في الكلام وعد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنّ بعض هؤلاء الضالّين المكذّبين سيهديهم الله تعالى إلى الإسلام ، وهم من لم يسبق في علمه حرمانهم من الإيمان.

٨١

فعلى الوجه الأول يكون قوله (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) زيادة في التهديد والوعيد. وعلى الوجه الثاني يكون تحريضا لهم على الإيمان ليلقوا جزاءه حين يرجعون إلى الله. ويجوز أن يكون الوقف عند قوله تعالى : (يَبْعَثُهُمُ اللهُ). وتمّ التمثيل هنالك. ويكون قوله : (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) استطرادا تخلّص به إلى قرع أسماعهم بإثبات الحشر الذي يقع بعد البعث الحقيقي ، فيكون البعث في قوله : (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) مستعملا في حقيقته ومجازه. وقريب منه في التخلّص قوله تعالى : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) في سورة البقرة [٧٣].

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧))

عطف على جملة : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) [الأنعام : ٣٥] الآيات ، وهذا عود إلى ما جاء في أول السورة [٤] من ذكر إعراضهم عن آيات الله بقوله (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ). ثم ذكر ما تفنّنوا به من المعاذير من قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨] وقوله : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) [الأنعام : ٢٥] أي وقالوا : لو لا أنزل عليه آية ، أي على وفق مقترحهم ، وقد اقترحوا آيات مختلفة في مجادلات عديدة. ولذلك أجملها الله تعالى هنا اعتمادا على علمها عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، فقال : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ).

فجملة : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وقع عطفها معترضا بين جملة (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام : ٣٦] وجملة (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] إلخ. وفي الإتيان بفعل النزول ما يدلّ على أنّ الآية المسئولة من قبيل ما يأتي من السماء ، مثل قولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨] وقولهم : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] وشبه ذلك.

وجرّد (نُزِّلَ) من علامة التأنيث لأنّ المؤنّث الذي تأنيثه لفظي بحت يجوز تجريد فعله من علامة التأنيث ؛ فإذا وقع بين الفعل ومرفوعه فاصل اجتمع مسوّغان لتجريد الفعل من علامة التأنيث ، فإنّ الفصل بوحده مسوّغ لتجريد الفعل من العلامة. وقد صرّح في «الكشاف» بأنّ تجريد الفعل عن علامة التأنيث حينئذ حسن.

و (لَوْ لا) حرف تحضيض بمعنى (هلّا). والتحضيض هنا لقطع الخصم وتعجيزه،

٨٢

كما تقدّم في قوله تعالى آنفا (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨].

وتقدّم الكلام على اشتقاق (آيَةٌ) عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) في سورة البقرة [٣٩].

وفصل فعل (قُلْ) فلم يعطف لأنّه وقع موقع المحاورة فجاء على طريقة الفصل التي بيّنّاها في مواضع كثيرة ، أولها : قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

وأمر الله رسوله أن يجيبهم بما يعلم منه أنّ الله لو شاء لأنزل آية على وفق مقترحهم تقوم عليهم بها الحجّة في تصديق الرسول ، ولكنّ الله لم يرد ذلك لحكمة يعلمها ؛ فعبّر عن هذا المعنى بقوله : (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) وهم لا ينكرون أنّ الله قادر ، ولذلك سألوا الآية ، ولكنّهم يزعمون أنّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يثبت صدقه إلّا إذا أيّده الله بآية على وفق مقترحهم. فقوله : (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) مستعمل في معناه الكنائي ، وهو انتفاء أن يريد الله تعالى إجابة مقترحهم ، لأنّه لمّا أرسل رسوله بآيات بيّنات حصل المقصود من إقامة الحجّة على الذين كفروا ، فلو شاء لزادهم من الآيات لأنّه قادر.

ففي هذه الطريقة من الجواب إثبات للردّ بالدليل ، وبهذا يظهر موقع الاستدراك في قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فإنّه راجع إلى المدلول الالتزامي ، ـ أي ولكن أكثر المعاندين لا يعلمون أنّ ذلك لو شاء الله لفعله ، ويحسبون أنّ عدم الإجابة إلى مقترحهم يدلّ على عدم صدق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وذلك من ظلمة عقولهم ، فلقد جاءهم من الآيات ما فيه مزدجر.

فيكون المعنى الذي أفاده هذا الردّ غير المعنى الذي أفاده قوله (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) [الأنعام : ٨] فإنّ ذلك نبّهوا فيه على أنّ عدم إجابتهم فيه فائدة لهم وهو استبقاؤهم ، وهذا نبّهوا فيه على سوء نظرهم في استدلالهم.

وبيان ذلك أنّ الله تعالى نصب الآيات دلائل مناسبة للغرض المستدلّ عليه كما يقول المنطقيّون : إنّ المقدّمات والنتيجة تدلّ عقلا على المطلوب المستدلّ عليه ، وإنّ النتيجة هي عين المطلوب في الواقع وإن كانت غيره في الاعتبار ؛ فلذلك نجد القرآن يذكر الحجج على عظيم قدرة الله على خلق الأمور العظيمة ، كإخراج الحي من الميت وإخراج الميت

٨٣

من الحي في سياق الاستدلال على وقوع البعث والحشر. ويسمّى تلك الحجج آيات كقوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) [الأنعام : ٩٨] ، وكما سيجيء في أول سورة الرعد [٢] (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها). وذكر في خلال ذلك تفصيل الآيات إلى قوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرعد : ٥]. وكذلك ذكر الدلائل على وحدانية الله باستقلاله بالخلق ، كقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ـ إلى قوله ـ وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) [الأنعام : ١٠١ ـ ١٠٥] إلخ ، وكقوله في الاستدلال على انفراده بأنواع الهداية (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). ولمّا كان نزول القرآن على الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حجّة على صدقه في إخباره أنّه منزل من عند الله لما اشتمل عليه من العلوم وتفاصيل المواعظ وأحوال الأنبياء والأمم وشرع الأحكام مع كون الذي جاء به معلوم الأمية بينهم قد قضى شبابه بين ظهرانيهم ، جعله آية على صدق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما أخبر به عن الله تعالى ، فسمّاه آيات في قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ، بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) [الحج : ٧٢] فلم يشإ الله أن يجعل الدلائل على الأشياء من غير ما يناسبها.

أمّا الجهلة والضّالون فهم يرومون آيات من عجائب التصاريف الخارقة لنظام العالم ، يريدون أن تكون علامة بينهم وبين الله على حسب اقتراحهم بأن يحييهم إليها إشارة منه إلى أنّه صدّق الرسول فيما بلّغ عنه ، فهذا ليس من قبيل الاستدلال ولكنّه من قبيل المخاطرة ليزعموا أنّ عدم إجابتهم لما اقترحوه علامة على أنّ الله لم يصدّق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوى الرسالة. ومن أين لهم أنّ الله يرضى بالنزول معهم إلى هذا المجال ، ولذلك قال تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، أي لا يعلمون ما وجه الارتباط بين دلالة الآية ومدلولها. ولذلك قال في الردّ عليهم في سورة الرعد [٧] (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) فهم جعلوا إيمانهم موقوفا على أن تنزّل آية من السماء. وهم يعنون أنّ تنزيل آية من السماء جملة واحدة. فقد قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] وقالوا : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣]. فردّ الله عليهم بقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) [الرعد : ٧] ، أي لا علاقة بين الإنذار وبين اشتراط كون الإنذار في كتاب ينزّل من السماء ، لأنّ الإنذار حاصل بكونه إنذارا مفصّلا بليغا دالّا على أنّ المنذر به ما اخترعه من تلقاء نفسه ، ولذلك ردّ

٨٤

عليهم بما يبيّن هذا في قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ـ إلى قوله ـ وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٤٨ ـ ٥١] ، أي فما فائدة كونه ينزل في قرطاس من السماء مع أنّ المضمون واحد.

وقال في ردّ قولهم : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣]. نعم إنّ الله قد يقيم آيات من هذا القبيل من تلقاء اختياره بدون اقتراح عليه ، وهو ما يسمّى بالمعجزة مثل ما سمّى بعض ذلك بالآيات في قوله : (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) [النمل : ١٢] ، فذلك أمر أنف من عند الله لم يقترحه عليه أحد. وقد أعطى نبيّنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك كثيرا في غير مقام اقتراح من المعرضين ، مثل انشقاق القمر ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وتكثير الطعام القليل ، ونبع الماء من الأرض بسهم رشقه في الأرض. هذا هو البيان الذي وعدت به عند قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) في هذه السورة [٨].

ومن المفسّرين من جعل معنى قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّهم لا يعلمون أنّ إنزال الآية على وفق مقترحهم يعقبها الاستئصال إن لم يؤمنوا ، وهم لعنادهم لا يؤمنون. إلّا أنّ ما فسّرتها به أولى لئلّا يكون معناها إعادة لمعنى الآية التي سبقتها ، وبه يندفع التوقّف في وجه مطابقة الجواب لمقتضى السؤال حسبما توقّف فيه التفتازانيّ في تقرير كلام «الكشاف».

وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) تنبيه على أنّ فيهم من يعلم ذلك ولكنّه يكابر ويظهر أنّه لا يتمّ عنده الاستدلال إلّا على نحو ما اقترحوه.

وإعادة لفظ (آيَةٌ) بالتنكير في قوله (أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) من إعادة النكرة نكرة وهي عين الأولى. وهذا يبطل القاعدة المتداولة بين المعربين من أنّ اللفظ المنكّر إذا أعيد في الكلام منكّرا كان الثاني غير الأول. وقد ذكرها ابن هشام في «مغني اللبيب» في الباب السادس ونقضها. وممّا مثّل به لإعادة النكرة نكرة وهي عين الأولى لا غيرها قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) [الروم : ٥٤]. وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير في سورة النساء [١٢٨].

٨٥

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨))

معنى هذه الآية غامض بدءا. ونهايتها أشدّ غموضا ، وموقعها في هذا السياق خفي المناسبة. فاعلم أنّ معنى قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ـ إلى قوله ـ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أنّ لها خصائص لكلّ جنس ونوع منها كما لأمم البشر خصائصها ، أي جعل الله لكلّ نوع ما به قوامه وألهمه اتّباع نظامه وأنّ لها حياة مؤجّلة لا محالة.

فمعنى (أَمْثالُكُمْ) المماثلة في الحياة الحيوانية وفي اختصاصها بنظامها.

وأمّا معنى قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أنّها صائرة إلى الموت. ويعضّده ما روي عن ابن عباس : حشر البهائم موتها ، أي فالحشر مستعمل في مجاز قريب إلى حقيقته اللغوية التي في نحو قوله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) [النمل : ١٧]. فموقع هذه الآية عند بعض المفسّرين أنّها بمنزلة الدليل على مضمون قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الأنعام : ٣٧] ، فيجوز أن تكون معطوفة على جملة (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) [الأنعام : ٣٧] على أنّها من جملة ما أمر النبي بأن يقوله لهم ؛ ويجوز أن تكون معطوفة على جملة : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ) [الأنعام : ٣٧] على أنّها من خطاب الله لهم. أي أنّ الذي خلق أنواع الأحياء كلّها وجعلها كالأمم ذات خصائص جامعة لأفراد كلّ نوع منها فكان خلقها آية على عظيم قدرته لا يعجزه أن يأتي بآية حسب مقترحكم ولكنّكم لا تعلمون الحكمة في عدم إجابتكم لما سألتم. ويكون تعقيبه بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ) [الأنعام : ٣٩] الآية واضح المناسبة ، أي لا يهتدون إلى ما في عوالم الدواب والطير من الدلائل على وحدانية الله.

وأمّا قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) فإن نظرنا إليه مستقلا بنصّه غير ملتفتين إلى ما نيط به من آثار مروية في تفسيره ؛ فأول ما يبدو للناظر أنّ ضميري (رَبِّهِمْ) و (يُحْشَرُونَ) عائدان إلى (دَابَّةٍ) و (طائِرٍ) باعتبار دلالتهما على جماعات الدّواب والطير لوقوعهما في حيّز حرف (من) المفيدة للعموم في سياق النفي ، فيتساءل الناظر عن ذلك وهما ضميران موضوعان للعقلاء. وقد تأولوا لوقوع الضميرين على غير العقلاء بوجهين : أحدهما أنّه بناء على التغليب إذ جاء بعده (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ). الوجه الثاني أنّهما عائدان إلى (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ، أي أنّ الأمم كلّها محشورة إلى الله تعالى.

٨٦

وأحسن من ذلك تأويلا أن يكون الضميران عائدين إلى ما عادت إليه ضمائر الغيبة في هذه الآيات التي آخرها ضمير (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، فيكون موقع جملة (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) موقع الإدماج والاستطراد مجابهة للمشركين بأنّهم محشورون إلى الله لا محالة وإن أنكروا ذلك.

فإذا وقع الالتفات إلى ما روي من الآثار المتعلّقة بالآية كان الأمر مشكلا. فقد روى مسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتّى يقاد للشّاة الجلحاء (التي لا قرن لها ، وفي رواية غيره : الجماء) من الشاة القرناء». وروى أحمد بن حنبل وأبو داود الطيالسي في «مسنديهما» عن أبي ذرّ قال : انتطحت شاتان أو عنزان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا ، قلت : لا ، قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة. فهذا مقتض إثبات حشر الدوابّ ليوم الحساب ، فكان معناه خفي الحكمة إذ من المحقّق انتفاء تكليف الدوابّ والطير تبعا لانتفاء العقل عنها. وكان موقعها جلي المناسبة بما قاله الفخر نقلا عن عبد الجبّار بأنّه لمّا قدّم الله أنّ الكفّار يرجعون إليه ويحشرون بيّن بعده أنّ الدوابّ والطير أمم أمثالهم في أنّهم يحشرون. والمقصود بيان أنّ الحشر والبعث كما هو حاصل في الناس حاصل في البهائم. وهذا ظاهر قوله : (يُحْشَرُونَ) لأنّ غالب إطلاق الحشر في القرآن على الحشر للحساب ، فيناسب أن تكون جملة : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) الآية عطفا على جملة : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) ، فإنّ المشركين ينكرون البعث ويجعلون إخبار الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ به من أسباب تهمته فيما جاء به ، فلمّا توعّدهم الله بالآية السابقة بأنّهم إليه يرجعون زاد أن سجّل عليهم جهلهم فأخبرهم بما هو أعجب ممّا أنكروه ، وهو إعلامهم بأنّ الحشر ليس يختصّ بالبشر بل يعمّ كلّ ما فيه حياة من الدّوابّ والطير. فالمقصود من هذا الخبر هو قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ). وأمّا ما قبله فهو بمنزلة المقدمة له والاستدلال عليه ، أي فالدّوابّ والطير تبعث مثل البشر وتحضر أفرادها كلّها يوم الحشر ، وذلك يقتضي لا محالة أن يقتصّ لها ، فقد تكون حكمة حشرها تابعة لإلقاء الأرض وما فيها وإعادة أجزاء الحيوان.

وإذا كان المراد من هذين الحديثين ظاهرهما فإنّ هذا مظهر من مظاهر الحق يوم القيامة لإصلاح ما فرط في عالم الفناء من رواج الباطل وحكم القوة على العدالة ، ويكون القصاص بتمكين المظلوم من الدوابّ من ردّ فعل ظالمه كيلا يستقرّ بالباطل. فهو من قبيل

٨٧

ترتّب المسبّبات على أسبابها شبيه بخطاب الوضع ، وليس في ذلك ثواب ولا عقاب لانتفاء التكليف ثم تصير الدواب يومئذ ترابا ، كما ورد في رواية عن أبي هريرة في قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠]. قال المازري في المعلم : واضطرب العلماء في بعث البهائم. وأقوى ما تعلّق به من يقول ببعثها قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ). وقد قيل : إنّ هذا كلّه تمثيل للعدل. ونسبه المازري إلى بعض شيوخه قال : هو ضرب مثل إعلاما للخلق بأن لا يبقى حقّ عند أحد.

والدابّة مشتقّة من دبّ إذا مشى على الأرض ، وهي اسم لكلّ ما يدبّ على الأرض. وقوله : (فِي الْأَرْضِ) صفة قصد منها إفادة التعميم والشمول بذكر اسم المكان الذي يحوي جميع الدوابّ وهو الأرض ، وكذلك وصف (طائِرٍ) بقوله (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) قصد به الشمول والإحاطة ، لأنّه وصف آيل إلى معنى التوكيد ، لأنّ مفاد (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) أنّه طائر ، كأنّه قيل : ولا طائر ولا طائر. والتوكيد هنا يؤكّد معنى الشمول الذي دلّت عليه (من) الزائدة في سياق النفي ؛ فحصل من هذين الوصفين تقرير معنى الشمول الحاصل من نفي اسمي الجنسين. ونكتة التوكيد أنّ الخبر لغرابته عندهم وكونه مظنّة إنكارهم أنّه حقيق بأن يؤكّد.

ووقع في «المفتاح» في بحث اتباع المسند إليه بالبيان أنّ هذين الوصفين في هذه الآية للدلالة على أنّ القصد من اللفظين الجنس لا بعض الأفراد وهو غير ما في «الكشاف» ، وكيف يتوهّم أنّ المقصود بعض الأفراد ووجود (من) في النفي نصّ على نفي الجنس دون الوحدة.

وبهذا تعلم أن ليس وصف (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) واردا لرفع احتمال المجاز في (طائِرٍ) كما جنح إليه كثير من المفسّرين وإن كان رفع احتمال المجاز من جملة نكت التوكيد اللفظي إلّا أنّه غير مطّرد ، ولأنّ اعتبار تأكيد العموم أولى ، بخلاف نحو قولهم :

نظرته بعيني وسمعته بأذني. وقول صخر :

شر واتّخذت من شعر صدارها

إذ من المعلوم أنّ الصّدار لا يكون إلّا من شعر.

و (أُمَمٌ) جمع أمّة. والأمّة أصلها الجماعة من الناس المتماثلة في صفات ذاتية من نسب أو لغة أو عادة أو جنس أو نوع. قيل : سمّيت أمة لأنّ أفرادها تؤمّ أمما واحدا وهو

٨٨

ما يجمع مقوّماتها.

وأحسب أنّ لفظ أمّة خاصّ بالجماعة العظيمة من البشر ، فلا يقال في اللغة أمّة الملائكة ولا أمّة السباع. فأمّا إطلاق الأمم على الدّوابّ والطير في هذه الآية فهو مجاز ، أي مثل الأمم لأنّ كلّ نوع منها تجتمع أفراده في صفات متّحدة بينها أمما واحدة ، وهو ما يجمعها وأحسب أنّها خاصّة بالبشر.

و (دَابَّةٍ) و (طائِرٍ) في سياق النفي يراد بهما جميع أفراد النوعين كما هو شأن الاستغراق ، فالإخبار عنهما بلفظ (أُمَمٌ) وهو جمع على تأويله بجماعاتها ، أي إلّا جماعاتها أمم ، أو إلّا أفراد أمم.

وتشمل الأرض البحر لأنّه من الأرض ولأنّ مخلوقاته يطلق عليها لفظ الدابّة ، كما ورد في حديث سرية سيف البحر قول جابر بن عبد الله : فألقى لنا البحر دابّة يقال لها العنبر.

والمماثلة في قوله : (أَمْثالُكُمْ) التشابه في فصول الحقائق والخاصّات التي تميّز كلّ نوع من غيره ، وهي النظم الفطرية التي فطر الله عليها أنواع المخلوقات. فالدّواب والطير تماثل الأناسي في أنّها خلقت على طبيعة تشترك فيها أفراد أنواعها وأنّها مخلوقة لله معطاة حياة مقدّرة مع تقدير أرزاقها وولادتها وشبابها وهرمها ، ولها نظم لا تستطيع تبديلها. وليست المماثلة براجعة إلى جميع الصفات فإنّها لا تماثل الإنسان في التفكير والحضارة المكتسبة من الفكر الذي اختصّ به الإنسان. ولذلك لا يصحّ أن يكون لغير الإنسان نظام دولة ولا شرائع ولا رسل ترسل إليهن لانعدام عقل التكليف فيهنّ ، وكذلك لا يصحّ أن توصف بمعرفة الله تعالى. وأما قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] فذلك بلسان الحال في العجماوات حين نراها بهجة عند حصول ما يلائمها فنراها مرحة فرحة. وإنّما ذلك بما ساق الله إليها من النعمة وهي لا تفقه أصلها ولكنّها تحسّ بأثرها فتبتهج ، ولأنّ في كل نوع منها خصائص لها دلالة على عظيم قدرة الله وعلمه تختلف عن بقية الأنواع من جنسه والمقصد من هذا صرف الأفهام إلى الاعتبار بنظام الخلق الذي أودعه الله في كلّ نوع ، والخطاب في قوله : (أَمْثالُكُمْ) موجّه إلى المشركين.

وجملة : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) معترضة لبيان سعة علم الله تعالى وعظيم قدرته. فالكتاب هنا بمعنى المكتوب ، وهو المكنّى عنه بالقلم المراد به ما سبق في علم الله وإرادته الجارية على ، وفقه كما تقدّم في قوله تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)

٨٩

[الأنعام : ١٢].

وقيل الكتاب القرآن. وهذا بعيد إذ لا مناسبة بالغرض على هذا التفسير ، فقد أورد كيف يشتمل القرآن على كلّ شيء. وقد بسط فخر الدين بيان ذلك لاختيار هذا القول وكذلك أبو إسحاق الشاطبي في «الموافقات».

والتفريط : الترك والإهمال ، وتقدّم بيانه آنفا عند قوله تعالى : (قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) [الأنعام : ٣١].

والشيء هو الموجود. والمراد به هنا أحوال المخلوقات كما يدلّ عليه السياق فشمل أحوال الدّواب والطير فإنّها معلومة لله تعالى مقدّرة عنده بما أودع فيها من حكمة خلقه تعالى.

وقوله (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) تقدّم تفسيره آنفا في أوّل تفسير هذه الآية. وفي الآية تنبيه للمسلمين على الرفق بالحيوان فإنّ الإخبار بأنّها أمم أمثالنا تنبيه على المشاركة في المخلوقية وصفات الحيوانية كلّها. وفي قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) إلقاء للحذر من الاعتداء عليها بما نهى الشرع عنه من تعذيبها وإذا كان يقتصّ لبعضها من بعض وهي غير مكلّفة ، فالاقتصاص من الإنسان لها أولى بالعدل. وقد ثبت في الحديث الصحيح : أنّ الله شكر للذي سقى الكلب العطشان ، وأنّ الله أدخل امرأة النار في هرّة حبستها فماتت جوعا.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))

يجوز أن تكون الواو للعطف ، والمعطوف عليه جملة : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ). والمعنى : والذين كذّبوا بآياتنا ولم يستمعوا لها ، أي لا يستجيبون بمنزلة صمّ وبكم في ظلمات لا يهتدون.

ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والواو استئنافية ، أي عاطفة كلاما مبتدأ ليس مرتبطا بجملة معيّنة من الكلام السابق ولكنّه ناشئ عن جميع الكلام المتقدّم. فإنّ الله لمّا ذكر من مخلوقاته وآثار قدرته ما شأنه أن يعرّف الناس بوحدانيته ويدلّهم على آياته وصدق رسوله أعقبه ببيان أنّ المكذّبين في ضلال مبين عن الاهتداء لذلك ، وعن التأمّل والتفكير

٩٠

فيه ، وعلى الوجهين فمناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣٨] الآية قد تعرّضنا إليها آنفا.

والمراد بالذين كذّبوا المشركون الذين مضى الكلام على أحوالهم عموما وخصوصا.

وقوله : (صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) تمثيل لحالهم في ضلال عقائدهم والابتعاد عن الاهتداء بحال قوم صمّ وبكم في ظلام. فالصّمم يمنعهم من تلقّي هدى من يهديهم ، والبكم يمنعهم من الاسترشاد ممّن يمرّ بهم ، والظلام يمنعهم من التبصّر في الطريق أو المنفذ المخرج لهم من مأزقهم.

وإنّما قيل في (الظُّلُماتِ) ولم يوصفوا بأنّهم عمّي كما في قوله : (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) [الإسراء : ٩٧] ليكون لبعض أجزاء الهيئة المشبّهة بها ما يصلح لشبه بعض أجزاء الهيئة المشبّهة ، فإنّ الكفر الذي هم فيه والذي أصارهم إلى استمرار الضلال يشبه الظلمات في الحيلولة بين الداخل فيه وبين الاهتداء إلى طريق النجاة. وفي الحديث : الظلم ظلمات يوم القيامة. فهذا التمثيل جاء على أتمّ شروط التمثيل. وهو قبوله لتفكيك أجزاء الهيئتين إلى تشبيهات مفردة ، كقول بشّار :

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهادى كواكبه

وجمع الظلمات جار على الفصيح من عدم استعمال الظلمة مفردا. وقد تقدّم في صدر السورة ، وقيل : للإشارة إلى ظلمة الكفر ، وظلمة الجهل ، وظلمة العناد.

وقوله : (صُمٌّ وَبُكْمٌ) خبر ومعطوف عليه. وقوله : (فِي الظُّلُماتِ) خبر ثالث لأنّه يجوز في الأخبار المتعددة ما يجوز في النعوت المتعدّدة من العطف وتركه.

وقوله : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) استئناف بياني لأنّ حالهم العجيبة تثير سؤالا وهو أن يقول قائل ما بالهم لا يهتدون مع وضوح هذه الدلائل البيّنات ، فأجيب بأنّ الله أضلّهم فلا يهتدون ، وأنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، فدلّ قوله : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) على أنّ هؤلاء المكذّبين الضالّين هم ممّن شاء الله إضلالهم على طريقة الإيجاز بالحذف لظهور المحذوف ، وهذا مرتبط بما تقدّم من قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : ٣٥].

ومعنى إضلال الله تقديره الضلال ؛ بأن يخلق الضّالّ بعقل قابل للضلال مصرّ على ضلاله عنيد عليه فإذا أخذ في مبادئ الضلال كما يعرض لكثير من الناس فوعظه واعظ أو

٩١

خطر له في نفسه خاطر أنّه على ضلال منعه إصراره من الإقلاع عنه فلا يزال يهوي به في مهاوي الضلالة حتّى يبلغ به إلى غاية التخلّق بالضلال فلا ينكفّ عنه. وهذا ممّا أشار إليه قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) [التين : ٤ ، ٥] ، ودلّ عليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ الرجل ليصدق حتّى يكون صدّيقا وإنّ الرجل ليكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا». وكلّ هذا من تصرّف الله تعالى بالتكوين والخلق وهو تصرّف القدر. وله اتّصال بناموس التسلسل في تطوّر أحوال البشر في تصرّفات بعقولهم وعوائدهم ، وهي سلسلة بعيدة المدى اقتضتها حكمة الله تعالى في تدبير نظام هذا العالم ، ولا يعلم كنهها إلّا الله تعالى ، وليس هذا الإضلال بالأمر بالضلال فإنّ الله لا يأمر بالفحشاء ولا بتلقينه والحثّ عليه وتسهيله فإنّ ذلك من فعل الشيطان ، كما أنّ الله قد حرم من أراد إضلاله من انتشاله واللطف به لأنّ ذلك فضل من هو أعلم بأهله. ومفعول (يَشَأِ) محذوف لدلالة جواب الشرط عليه ، كما هو الشائع في مفعول فعل المشيئة الواقع شرطا.

والصراط هو الطريق البيّن. ومعنى المستقيم أنّه لا اعوجاج فيه ، لأنّ السّير في الطريق المستقيم أيسر على السائر وأقرب وصولا إلى المقصود.

ومعنى (على) الاستعلاء ، وهو استعلاء السائر على الطريق. فالكلام تمثيل لحال الذي خلقه الله فمنّ عليه بعقل يرعوي من غيّه ويصغي إلى النصيحة فلا يقع في الفساد فاتّبع الدين الحقّ ، بحال السائر في طريق واضحة لا يتحيّر ولا يخطئ القصد ، ومستقيمة لا تطوح به في طول السير. وهذا التمثيل أيضا صالح لتشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّه بها ، كما تقدّم في نظيره. وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦]. فالدين يشبه الصراط الموصّل بغير عناء ، والهدي إليه شبيه الجعل على الصراط.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١))

استئناف ابتدائي يتضمّن تهديدا بالوعيد طردا للأغراض السابقة ، وتخلّله تعريض بالحثّ على خلع الشرك إذ ليس لشركائهم نفع بأيديهم ، فذكّروا بأحوال قد تعرض لهم يلجئون فيها إلى الله. وألقي عليهم سأل أيستمرون على الإشراك بالله في تلك الحالة وهل

٩٢

يستمرّون من الآن على الشرك إلى أن يأتيهم العذاب أو تأتيهم القيامة حين يلجئون إلى الإيمان بوحدانيته ، ولات حين إيمان.

وافتتح هذا التهديد بالأمر بالقول اهتماما به وإلّا فإنّ معظم ما في القرآن مأمور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله لهم. وقد تتابع الأمر بالقول في الآيات بعد هذه إلى قوله : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) [الأنعام : ٦٧] اثنتي عشرة مرّة. وورد نظيره في سورة يونس.

وقوله : (أَرَأَيْتَكُمْ) تركيب شهير الاستعمال ، يفتتح بمثله الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به. وهمزة الاستفهام فيه للاستفهام التقريري.

و (رأى) فيه بمعنى الظنّ. يسند إلى تاء خطاب تلازم حالة واحدة ملازمة حركة واحدة ، وهي الفتحة لا تختلف باختلاف عدد المخاطب وصنفه سواء كان مفردا أو غيره ، مذكّرا أو غيره ، ويجعل المفعول الأول في هذا التركيب غالبا ضمير خطاب عائدا إلى فاعل الرؤية القلبية ومستغنى به لبيان المراد بتاء الخطاب. والمعنى أنّ المخاطب يعلم نفسه على الحالة المذكورة بعد ضمير الخطاب ، فالمخاطب فاعل ومفعول باختلاف الاعتبار ، فإنّ من خصائص أفعال باب الظنّ أنّه يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها واحدا (وألحق بأفعال العلم فعلان : فقد ، وعدم في الدعاء نحو فقدتني) ، وتقع بعد الضمير المنصوب جملة في موضع مفعوله الثاني ، وقد يجيء في تلك الجملة ما يعلق فعل الرؤية عن العمل.

هذا هو الوجه في تحليل هذا التركيب. وبعض النحاة يجعل تلك الجملة سادّة مسدّ المفعولين تفصّيا من جعل ضمائر الخطاب مفاعيل إذ يجعلونها مجرّد علامات خطاب لا محلّ لها من الإعراب ، وذلك حفاظا على متعارف قواعد النحو في الاستعمال الأصلي المتعارف مع أنّ لغرائب الاستعمال أحوالا خاصّة لا ينبغي غضّ النظر عنها إلّا إذا قصد بيان أصل الكلام أو عدم التشويش على المتعلّمين. ولا يخفى أنّ ما ذهبوا إليه هو أشدّ غرابة وهو الجمع بين علامتي خطاب مختلفتين في الصورة ومرجعهما متّحد. وعلى الوجه الذي اخترناه فالمفعول الثاني في هذا التركيب هو جملة : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ).

وإنّما تركت التاء على حالة واحدة لأنّه لمّا جعلت ذات الفاعل ذات المفعول إعرابا وراموا أن يجعلوا هذا التركيب جاريا مجرى المثل في كونه قليل الألفاظ وافر المعنى تجنّبوا ما يحدثه الجمع بين ضميري خطاب مرفوع ومنصوب من الثقل في نحو أرأيتما كما ، وأ رأيتكم وأ رأيتنّكنّ ، ونحو ذلك ، سلكوا هذه الطريقة الغريبة فاستغنوا بالاختلاف

٩٣

حالة الضمير الثاني عن اختلاف حالة الضمير الأول اختصارا وتخفيفا ، وبذلك تأتّى أن يكون هذا التركيب جاريا مجرى المثل لما فيه من الإيجاز تسهيلا لشيوع استعماله استعمالا خاصّا لا يغيّر عنه ، فلذلك لا تكسر تلك التاء في خطاب المؤنّث ولا تضمّ في خطاب المثنّى والمجموع.

وعن الأخفش : أخرجت العرب هذا اللفظ من معناه بالكلية فألزمته الخطاب ، وأخرجته عن موضوعه إلى معنى (أمّا) بفتح الهمزة ، فجعلت الفاء بعده في بعض استعمالاته كقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) [الكهف : ٦٣] فما دخلت الفاء إلّا وقد أخرجت (أرأيت) لمعنى (أمّا) ؛ وأخرجته أيضا إلى معنى (أخبرني) فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه ؛ وتلزم الجملة بعد الاستفهام ، وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرف الزمان. ا ه.

في «الكشاف» : متعلّق الاستخبار محذوف ، تقديره : إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون ، ثم بكتهم بقوله (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) ، أي أتخصّون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها بل إيّاه تدعون ا ه. وجملة : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) هي المفعول الثاني لفعل (أَرَأَيْتَكُمْ).

واعلم أنّ هذا استعمال خاصّ بهذا التركيب الخاصّ الجاري مجرى المثل ، فأمّا إذا أريد جريان فعل الرؤية العلمية على أصل بابه فإنّه يجري على المتعارف في تعدية الفعل إلى فاعله ومفعوليه. فمن قال لك : رأيتني عالما بفلان. فأردت التحقّق فيه تقول : أرأيتك عالما بفلان. وتقول للمثنّى : أرأيتماكما عالمين بفلان ، وللجمع أرأيتموكم وللمؤنثة أرأيتك ـ بكسر التاء ـ.

وقرأه نافع في المشهور ـ بتسهيل الهمزة ألفا ـ ؛ وعنه رواية بجعلها بين الهمزة والألف. وقرأه الكسائي ـ بإسقاط الهمزة ـ التي هي عين الكلمة ، فيقول : أريت وهي لغة. وقرأه الباقون ـ بتحقيق الهمزة ـ.

وجملة : (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) إلخ معترضة بني مفعولي فعل الرؤية ، وهي جملة شرطية حذف جوابها لدلالة جملة المفعول الثاني عليه.

وإتيان العذاب : حلوله وحصوله ، فهو مجاز لأن حقيقة الإتيان المجيء ، وهو الانتقال من موضع بعيد إلى الموضع الذي استقر فيه مفعول الإتيان ، فيطلق مجازا على

٩٤

حصول شيء لم يكن حاصلا. وكذلك القول في إتيان الساعة سواء.

ووجه إعادة فعل (أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) مع كون حرف العطف مغنيا عن إعادة العامل بأن يقال : إن أتاكم عذاب الله أو الساعة ، هو ما يوجّه به الإظهار في مقام الإضمار من إرادة الاهتمام بالمظهر بحيث يعاد لفظه الصريح لأنّه أقوى استقرارا في ذهن السامع.

والاهتمام هنا دعا إليه التهويل وإدخال الروع في ضمير السامع بأن يصرّح بإسناد هذا الإتيان لاسم المسند إليه الدّالّ على أمر مهول ليدلّ تعلّق هذا الفعل بالمفعول على تهويله وإراعته.

وقد استشعر الاحتياج إلى توجيه إعادة الفعل هنا الشيخ محمد بن عرفة في درس تفسيره ، ولكنّه وجّهه بأنّه إذا كان العاملان متفاوتين في المعنى لكون أحدهما أشدّ يعاد العامل بعد حرف العطف إشعارا بالتفاوت ، فإنّ إتيان العذاب أشدّ من إتيان الساعة (أي بناء على أنّ المراد بعذاب الله عذاب الآخرة) أو كان العاملان متباعدين ، فإن أريد بالساعة القيامة وبعذاب الله المحق والرزايا في الدنيا فيعقبه بعد مهلة تامّة. وإن أريد بالساعة المدّة فالمحق الدنيوي كثير ، منه متقدّم ومنه متأخّر إلى الموت ، فالتقدّم ظاهر ا ه. وفي توجيهه نظر إذ لا يشهد له الاستعمال.

وإضافة العذاب إلى اسم الجلالة لتهويله لصدوره من أقدر القادرين. والمراد عذاب يحصل في الدنيا يضرعون إلى الله لرفعه عنهم بدليل قوله (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) ، فإنّ الدعاء لا يكون بطلب رفع عذاب الجزاء. وهذا تهديد وإنذار.

والساعة : علم بالغلبة على ساعة انقراض الدنيا ، أي إن أدركتكم الساعة.

وتقديم (أَغَيْرَ اللهِ) على عامله وهو (تَدْعُونَ) لتكون الجملة المستفهم عنها جملة قصر ، أي أتعرضون عن دعاء الله فتدعون غيره دونه كما هو دأبكم الآن ، فالقصر لحكاية حالهم لا لقصد الردّ على الغير. وقد دلّ الكلام على التعجّب ، أي تستمرّون على هذه الحال. والكلام زيادة في الإنذار.

وجملة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) مستأنفة ، وجوابها محذوف دلّ عليه قوله : (أرَأَيْتَكُمْ) الذي هو بمعنى التقرير. فتقدير الجواب : إن كنتم صادقين فأنتم مقرّون بأنّكم لا تدعون غير الله. ذكّرهم في هذه الآية وألجأهم إلى النظر ليعلموا أنّه إذا أراد الله عذابهم لا تستطيع آلهتهم دفعه عنهم ، فهم إن توخّوا الصدق في الخبر عن هذا المستقبل أعادوا

٩٥

التأمّل فلا يسعهم إلّا الاعتراف بأنّ الله إذا شاء شيئا لا يدفعه غيره إلّا بمشيئته ، لأنّهم يعترفون بأنّ الأصنام إنّما تقرّبهم إلى الله زلفى ، فإذا صدقوا وقالوا : أندعو الله ، فقد قامت الحجّة عليهم من الآن لأنّ من لا يغني في بعض الشدائد لا ينبغي الاعتماد عليه في بعض آخر.

ولذلك كان موقع (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) عقب هذا الاستفهام موقع النتيجة للاستدلال. فحرف (بل) لإبطال دعوة غير الله. أي فأنا أجيب عنكم بأنّكم لا تدعون إلّا الله. ووجه تولّي الجواب عنهم من السائل نفسه أنّ هذا الجواب لمّا كان لا يسع المسئول إلّا إقراره صحّ أن يتولّى السائل الجواب عنه ، كما تقدّم في قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) في هذه السورة [١٢].

وتقديم المفعول على (تَدْعُونَ) للقصر وهو قصر إفراد للردّ على المشركين في زعمهم أنّهم يدعون الله ويدعون أصنامهم ، وهم وإن كانوا لم يزعموا ذلك في حال ما إذا أتاهم عذاب الله أو أتتهم الساعة إلّا أنّهم لمّا ادّعوه في غير تلك الحالة نزّلوا منزلة من يستصحب هذا الزعم في تلك الحالة أيضا.

وقوله : (فَيَكْشِفُ) عطف على (تَدْعُونَ) ، وهذا إطماع في رحمة الله لعلّهم يتذكّرون. ولأجل التعجيل به قدّم (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) وكان حقّه التأخير. فهو شبيه بتعجيل المسرّة. ومفعول : (تَدْعُونَ) محذوف وهو ضمير اسم الجلالة ، أي ما تدعونه. والضمير المجرور ب (إلى) عائد على (ما) من قوله (ما تَدْعُونَ) أي يكشف الذي تدعونه إلى كشفه. وإنّما قيّد كشف الضرّ عنهم بالمشيئة لأنّه إطماع لا وعد.

وعديّ فعل (تَدْعُونَ) بحرف (إلى) لأنّ أصل الدعاء نداء فكأنّ المدعو مطلوب بالحضور إلى مكان اليأس.

ومفعول (شاءَ) محذوف على طريقة حذف مفعول فعل المشيئة الواقع شرطا ، كما تقدّم آنفا.

وفي قوله : (إِنْ شاءَ) إشارة إلى مقابله ، وهو إن لم يشأ لم يكشف ، وذلك في عذاب الدنيا. وأما إتيان الساعة فلا يكشف إلّا أن يراد بإتيانها ما يحصل معها من القوارع والمصائب من خسف وشبهه فيجوز كشفه عن بعض الناس. وممّا كشفه الله عنهم من عذاب الدنيا عذاب الجوع الذي في قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ

٩٦

يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ـ إلى قوله ـ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٠ ـ ١٦] فسّرت البطشة بيوم بدر.

وجملة : (فَيَكْشِفُ) إلخ معترضة بين المعطوفين. وقوله : (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) عطف على (إِيَّاهُ تَدْعُونَ) ، أي فإنّكم في ذلك الوقت تنسون ما تشركون مع الله ، وهو الأصنام.

وقوله : (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) يجوز أن يكون النسيان على حقيقته ، أي تذهلون عن الأصنام لما ترون من هول العذاب وما يقع في نفوسهم من أنّه مرسل عليهم من الله فتنشغل أذهانهم بالذي أرسل العذاب وينسون الأصنام التي اعتادوا أن يستشفعوا بها.

ويجوز أن يكون مجازا في الترك والإعراض ، أي وتعرضون عن الأصنام ، إذ لعلّهم يلهمون أن يستدلّون في تلك الساعة على أنّ غير الله لا يكشف عنهم من ذلك العذاب شيئا ، وإطلاق النسيان على الترك شائع في كلام العرب ، كما في قوله تعالى : (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الجاثية : ٣٤] ، أي نهملكم كما أنكرتم لقاء الله هذا اليوم. ومن قبيله قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٥].

وفي قوله : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) دليل على أنّ الله تعالى قد يجيب دعوة الكافر في الدنيا تبعا لإجراء نعم الله على الكفّار. والخلاف في ذلك بين الأشعري والماتريدي آئل إلى الاختلاف اللفظي.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

لمّا أنذرهم بتوقّع العذاب أعقبه بالاستشهاد على وقوع العذاب بأمم من قبل ، ليعلم هؤلاء أنّ تلك سنة الله في الذين ظلموا بالشرك.

وهذا الخبر مستعمل في إنذار السامعين من المشركين على طريقة التعريض ، وهم المخاطبون بالقول المأمور به في الجملة التي قبلها.

٩٧

فجملة : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) عطف على جملة : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) [الأنعام : ٤٠] ، والواو لعطف الجمل ، فتكون استئنافية إذ كانت المعطوف عليها استئنافا. وافتتحت هذه الجملة بلام القسم و (قد) لتوكيد مضمون الجملة ، وهو المفرّع بالفاء في قوله : (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ). نزّل السامعون المعرّض بإنذارهم منزلة من ينكرون أن يكون ما أصاب الأمم الذين من قبلهم عقابا من الله تعالى على إعراضهم.

وقوله : (فَأَخَذْناهُمْ) عطف على (أَرْسَلْنا) باعتبار ما يؤذن به وصف (مِنْ قَبْلِكَ) من معاملة أممهم إيّاهم بمثل ما عاملك به قومك ، فيدلّ العطف على محذوف تقديره : فكذّبوهم.

ولمّا كان أخذهم بالبأساء والضرّاء مقارنا لزمن وجود رسلهم بين ظهرانيهم كان الموقع لفاء العطف للإشارة إلى أنّ ذلك كان بمرأى رسلهم وقبل انقراضهم ليكون إشارة إلى أنّ الله أيّد رسله ونصرهم في حياتهم ؛ لأنّ أخذ الأمم بالعقاب فيه حكمتان : إحداهما : زجرهم عن التكذيب ، والثانية : إكرام الرسل بالتأييد بمرأى من المكذّبين. وفيه تكرمة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإيذانه بأنّ الله ناصره على مكذّبيه.

ومعنى (فَأَخَذْناهُمْ) أصبناهم إصابة تمكّن. وتقدّم تفسير الأخذ عند قوله تعالى : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) في سورة البقرة [٢٠٦].

وقد ذكر متعلّق الأخذ هنا لأنّه أخذ بشيء خاصّ بخلاف الآتي بعيد هذا.

والبأساء والضرّاء تقدّما عند قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) في سورة البقرة [١٧٧]. وقد فسّر البأساء بالجوع والضرّاء بالمرض ، وهو تخصيص لا وجه له ، لأنّ ما أصاب الأمم من العذاب كان أصنافا كثيرة. ولعلّ من فسّره بذلك اعتبر ما أصاب قريشا بدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (لعلّ) للترجّي. جعل علّة لابتداء أخذهم بالبأساء والضرّاء قبل الاستئصال.

ومعنى (يَتَضَرَّعُونَ) يتذلّلون لأنّ الضراعة التذلّل والتخشّع ، وهو هنا كناية عن الاعتراف بالذنب والتوبة منه ، وهي الإيمان بالرسل.

والمراد : أنّ الله قدّم لهم عذابا هيّنا قبل العذاب الأكبر ، كما قال : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة : ٢١] وهذا من فرط رحمته الممازجة لمقتضى حكمته ؛ وفيه إنذار لقريش بأنّهم سيصيبهم البأساء والضرّاء قبل

٩٨

الاستئصال ، وهو استئصال السيف. وإنّما اختار الله أن يكون استئصالهم بالسيف إظهارا لكون نصر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عليهم كان بيده ويد المصدّقين به. وذلك أوقع على العرب ، ولذلك روعي حال المقصودين بالإنذار وهم حاضرون. فنزّل جميع الأمم منزلتهم ، فقال : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) ، فإنّ (لو لا) هنا حرف توبيخ لدخولها على جملة فعلية ماضوية واحدة ، فليست (لو لا) حرف امتناع لوجود.

والتوبيخ إنّما يليق بالحاضرين دون المنقرضين لفوات المقصود. ففي هذا التنزيل إيماء إلى مساواة الحالين وتوبيخ للحاضرين بالمهمّ من العبرة لبقاء زمن التدارك قطعا لمعذرهم.

ويجوز أن تجعل (لو لا) هنا للتّمنّي على طريقة المجاز المرسل ، ويكون التّمنّي كناية عن الإخبار بمحبّة الله الأمر المتمنّى فيكون من بناء المجاز على المجاز ، فتكون هذه المحبّة هي ما عبّر عنه بالفرح في الحديث «الله أفرح بتوبة عبده» الحديث. وتقديم الظرف المضاف مع جملته على عامله في قوله (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) (تَضَرَّعُوا) للاهتمام بمضمون جملته ، وأنّه زمن يحقّ أن يكون باعثا على الإسراع بالتضرّع ممّا حصل فيه من البأس.

والبأس تقدّم عند قوله تعالى : (وَحِينَ الْبَأْسِ) في سورة البقرة [١٧٧]. والمراد به هنا الشدّة على العدوّ وغلبته. ومجيء البأس : مجيء أثره ، فإنّ ما أصابهم من البأساء والضرّاء أثر من آثار قوّة قدرة الله تعالى وغلبه عليهم. والمجيء مستعار للحدوث والحصول بعد أن لم يكن تشبيها لحدوث الشيء بوصول القادم من مكان آخر بتنقّل الخطوات.

ولمّا دلّ التوبيخ أو التمنّي على انتفاء وقوع الشيء عطف عليه ب (لكن) عطفا على معنى الكلام ، لأنّ التضرّع ينشأ عن لين القلب فكان نفيه المفاد بحرف التوبيخ ناشئا عن ضدّ اللين وهو القساوة ، فعطف ب (لكِنْ).

والمعنى : ولكن اعتراهم ما في خلقتهم من المكابرة وعدم الرجوع عن الباطل كأنّ قلوبهم لا تتأثّر فشبّهت بالشيء القاسي. والقسوة : الصلابة.

وقد وجد الشيطان من طباعهم عونا على نفث مراده فيهم فحسّن لهم تلك القساوة وأغراهم بالاستمرار على آثامهم وأعمالهم. ومن هنا يظهر أنّ الضلال ينشأ عن استعداد الله في خلقة النفس.

٩٩

والتزيين : جعل الشيء زينا. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) في سورة آل عمران [١٤].

وقوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) عطف على جملة (قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ). والنسيان هنا بمعنى الإعراض ، كما تقدّم آنفا في قوله : (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٤١]. وظاهر تفرّع الترك عن قسوة القلوب وتزيين الشيطان لهم أعمالهم. و (ما) موصولة ما صدقها البأساء والضرّاء ، أي لمّا انصرفوا عن الفطنة بذلك ولم يهتدوا إلى تدارك أمرهم. ومعنى (ذُكِّرُوا بِهِ) أنّ الله ذكّرهم عقابه العظيم بما قدّم إليهم من البأساء والضرّاء. و (لمّا) حرف شرط يدلّ على اقتران وجود جوابه بوجود شرطه ، وليس فيه معنى السببية مثل بقية أدوات الشرط.

وقوله : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) جواب (فَلَمَّا) والفتح ضدّ الغلق ، فالغلق : سد الفرجة التي يمكن الاجتياز منها إلى ما وراءها بباب ونحوه ، بخلاف إقامة الحائط فلا تسمّى غلقا.

والفتح : جعل الشيء الحاجز غير حاجز وقابلا للحجز ، كالباب حين يفتح. ولكون معنى الفتح والغلق نسبيين بعضهما من الآخر قيل للآلة التي يمسك بها الحاجز ويفتح بها مفتاحا ومغلاقا ، وإنّما يعقل الفتح بعد تعقّل الغلق ، ولذلك كان قوله تعالى : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) مقتضيا أنّ الأبواب المراد هاهنا كانت مغلقة وقت أن أخذوا بالبأساء والضرّاء ، فعلم أنّها أبواب الخير لأنّها التي لا تجتمع مع البأساء والضرّاء.

فالفتح هنا استعارة لإزالة ما يؤلم ويغمّ كقوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦]. ومنه تسمية النصر فتحنا لأنّه إزالة غمّ القهر.

وقد جعل الإعراض عمّا ذكّروا به وقتا لفتح أبواب الخير ، لأنّ المعنى أنّهم لمّا أعرضوا عن الاتّعاظ بنذر العذاب رفعنا عنهم العذاب وفتحنا عليهم أبواب الخير ، كما صرّح به في قوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نبيء (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [الأعراف : ٩٤ ، ٩٥].

وقرأ الجمهور (فَتَحْنا) ـ بتخفيف المثنّاة الفوقية ـ. وقرأه ابن عامر ، وأبو جعفر

١٠٠