تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

و (يُصْرَفْ) مبني للمجهول في قراءة الأكثر ، على أنّه رافع لضمير العذاب أو لضمير (مَنْ) على النيابة عن الفاعل. والضمير المجرور ب «عن» عائد إلى (مَنْ) أي يصرف العذاب عنه ، أو عائد إلى العذاب ، أي من يصرف هو عن العذاب ، وعلى عكس هذا العود يكون عود الضمير المستتر في قوله : (يُصْرَفْ).

وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف (يُصْرَفْ) ـ بالبناء للفاعل ـ على أنّه رافع لضمير (رَبِّي) على الفاعلية.

أمّا الضمير المستتر في (رَحِمَهُ) فهو عائد إلى (رَبِّي) ، والمنصوب عائد إلى (مَنْ) على كلتا القراءتين.

ومعنى وصف العذاب بمضمون جملة الشرط والجزاء ، أي من وفّقه الله لتجنّب أسباب ذلك العذاب فهو قد قدّر الله له الرحمة ويسّر له أسبابها.

والمقصود من هذا الكلام إثبات مقابل قوله : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) كأنّه قال : أرجو إن أطعته أن يرحمني ربّي ، لأنّ من صرف عنه العذاب ثبتت له الرحمة. فجاء في إفادة هذا المعنى بطريقة المذهب الكلامي. وهو ذكر الدليل ليعلم المدلول. وهذا ضرب من الكناية وأسلوب بديع بحيث يدخل المحكوم له في الحكم بعنوان كونه فردا من أفراد العموم الذين ثبت لهم الحكم.

ولذلك عقّبه بقوله : (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ). والإشارة موجّهة إلى الصرف المأخوذ من قوله : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) أو إلى المذكور. وإنّما كان الصرف عن العذاب فوزا لأنّه إذا صرف عن العذاب في ذلك اليوم فقد دخل في النعيم في ذلك اليوم. قال تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥]. و (الْمُبِينُ) اسم فاعل من أبان بمعنى بان.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))

عطف على الجمل المفتتحة بفعل (قُلْ) [الأنعام : ١٥] فالخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا مؤذن بأنّ المشركين خوّفوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عرّضوا له بعزمهم على إصابته بشرّ وأذى فخاطبه الله بما يثبّت نفسه وما يؤيس أعداءه من أن يستزلّوه. وهذا كما حكي عن

٤١

إبراهيم عليه‌السلام (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) [الأنعام : ٨١] ، ومن وراء ذلك إثبات أنّ المتصرّف المطلق في أحوال الموجودات هو الله تعالى بعد أن أثبت بالجمل السابقة أنّه محدث الموجودات كلّها في السماء والأرض ، فجعل ذلك في أسلوب تثبيت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدم الخشية من بأس المشركين وتهديدهم ووعيدهم ، ووعده بحصول الخير له من أثر رضى ربّه وحده عنه ، وتحدّي المشركين بأنّهم لا يستطيعون إضراره ولا يجلبون نفعه. ويحصل منه ردّ على المشركين الذين كانوا إذا ذكّروا بأنّ الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن أقرّوا بذلك ، ويزعمون أنّ آلهتهم تشفع عند الله وأنّها تجلب الخير وتدفع الشرّ ، فلمّا أبطلت الآيات السابقة استحقاق الأصنام الإلهية لأنّها لم تخلق شيئا ، وأوجبت عبادة المستحقّ الإلهية بحقّ ، أبطلت هذه الآية استحقاقهم العبادة لأنّهم لا يملكون للناس ضرّا ولا نفعا ، كما قال تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [المائدة : ٧٦] وقال عن إبراهيم عليه‌السلام : (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) [الشعراء : ٧٣].

وقد هيّأت الجمل السابقة موقعا لهاته الجملة ، لأنّه إذا تقرّر أنّ خالق الموجودات هو الله وحده لزم من ذلك أنّه مقدّر أحوالهم وأعمالهم ، لأنّ كون ذلك في دائرة قدرته أولى وأحقّ بعد كون معروضات تلك العوارض مخلوقة له. فالمعروضات العارضة للموجودات حاصلة بتقدير الله لأنّه تعالى مقدّر أسبابها ، واضع نظام حصولها وتحصيلها ، وخالق وسائل الدواعي النفسانية إليها أو الصوارف عنها.

والمسّ حقيقته وضع اليد على شيء. وقد يكون مباشرة وقد يكون بآلة ، ويستعمل مجازا في إيصال شيء إلى شيء فيستعار إلى معنى الإيصال فيكثر أن يذكر معه ما هو مستعار للآفلة. ويدخل عليه حرف الآلة وهو الباء كما هنا ، فتكون فيه استعارتان تبعيتان إحداهما في الفعل والأخرى في معنى الحرف ، كما في قوله : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) [الأعراف : ٧٣]. فالمعنى : وإن يصبك الله بضرّ ، أو وإن ينلك من الله ضرّ.

والضرّ ـ بضم الضاد ـ هو الحال الذي يؤلم الإنسان ، وهو من الشرّ ، وهو المنافر للإنسان. ويقابله النفع ، وهو من الخير ، وهو الملائم. والمعنى إن قدّر الله لك الضرّ فهلّا يستطيع أحد كشفه عنك إلّا هو إن شاء ذلك ، لأنّ مقدّراته مربوطة ومحوطة بنواميس ونظم لا تصل إلى تحويلها إلّا قدرة خالقها.

٤٢

وقابل قوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) بقوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) مقابلة بالأعمّ ، لأنّ الخير يشمل النفع وهو الملائم ويشمل السلامة من المنافر ، للإشارة إلى أنّ المراد من الضرّ ما هو أعمّ ، فكأنّه قيل : إن يمسسك بضرّ وشرّ وإن يمسسك بنفع وخير ، ففي الآية احتباك. وقال ابن عطية : ناب الضرّ في هذه الآية مناب الشرّ والشرّ أعمّ وهو مقابل الخير. وهو من الفصاحة عدول عن قانون التكلّف والصنعة ، فإنّ من باب التكلّف أن يكون الشيء مقترنا بالذي يختصّ به ونظّر هذا بقوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه : ١١٨ ، ١١٩]. ا ه.

وقوله : (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جعل جوابا للشرط لأنّه علّة الجواب المحذوف والجواب المذكور قبله ، إذ التقدير : وإن يمسسك بخير فلا مانع له لأنّه على كلّ شيء قدير في الضرّ والنفع. وقد جعل هذا العموم تمهيدا لقوله بعده (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨].

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))

هذه الجملة معطوفة على جملة (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) [الأنعام : ١٧] الآية ، والمناسبة بينهما أنّ مضمون كلتيهما يبطل استحقاق الأصنام العبادة. فالآية الأولى أبطلت ذلك بنفي أن يكون للأصنام تصرّف في أحوال المخلوقات ، وهذه الآية أبطلت أن يكون غير الله قاهرا على أحد أو خبيرا أو عالما بإعطاء كل مخلوق ما يناسبه ، ولا جرم أنّ الإله تجب له القدرة والعلم ، وهما جماع صفات الكمال ، كما تجب له صفات الأفعال من نفع وضرّ وإحياء وإماتة ، وهي تعلّقات للقدرة أطلق عليها اسم الصفات عند غير الأشعري نظرا للعرف ، وأدخلها الأشعري في صفة القدرة لأنّها تعلّقات لها ، وهو التحقيق.

ولذلك تتنزّل هذه الآية من التي قبلها منزلة التعميم بعد التخصيص لأنّ التي قبلها ذكرت كما تصرّفه في المخلوقات وجاءت به في قالب تثبيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قدّمنا ، وهذه الآية أوعت قدرته على كلّ شيء وعلمه بكلّ شيء ، وذلك أصل جميع الفعل والصنع.

والقاهر الغالب المكره الذي لا ينفلت من قدرته من عدّي إليه فعل القهر.

وقد أفاد تعريف الجزأين القصر ، أي لا قاهر إلّا هو ، لأنّ قهر الله تعالى هو القهر الحقيقي الذي لا يجد المقهور منه ملاذا ، لأنّه قهر بأسباب لا يستطيع أحد خلق ما

٤٣

يدافعها. وممّا يشاهد منها دوما النوم وكذلك الموت. سبحان من قهر العباد بالموت.

و (فَوْقَ) ظرف متعلّق ب (الْقاهِرُ) ، وهو استعارة تمثيلية لحالة القاهر بأنّه كالذي يأخذ المغلوب من أعلاه فلا يجد معالجة ولا حراكا. وهو تمثيل بديع ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [الأعراف : ١٢٧].

ولا يفهم من ذلك جهة هي في علوّ كما قد يتوهّم ، فلا تعدّ هذه الآية من المتشابهات.

والعباد : هم المخلوقون من العقلاء ، فلا يقال للدوابّ عباد الله ، وهو في الأصل جمع عبد لكن الاستعمال خصّه بالمخلوقات ، وخصّ العبيد بجمع عبد بمعنى المملوك.

ومعنى القهر فوق العباد أنّه خالق ما لا يدخل تحت قدرهم بحيث يوجد ما لا يريدون وجوده كالموت ، ويمنع ما يريدون تحصيله كالولد للعقيم والجهل بكثير من الأشياء ، بحيث إنّ كلّ أحد يجد في نفسه أمورا يستطيع فعلها وأمورا لا يستطيع فعلها وأمورا يفعلها تارة ولا يستطيع فعلها تارة ، كالمشي لمن خدرت رجله ؛ فيعلم كلّ أحد أنّ الله هو خالق القدر والاستطاعات لأنّه قد يمنعها ، ولأنّه يخلق ما يخرج عن مقدور البشر ، ثم يقيس العقل عوالم الغيب على عالم الشهادة. وقد خلق الله العناصر والقوى وسلّط بعضها على بعض فلا يستطيع المدافعة إلّا ما خوّلها الله.

والحكيم : المحكم المتقن للمصنوعات ، فعيل بمعنى مفعل ، وقد تقدّم في قوله:(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) في سورة البقرة [٢٠٩] وفي مواضع كثيرة.

والخبير : مبالغة في اسم الفاعل من (خبر) المتعدّي ، بمعنى (علم) ، يقال : خبر الأمر ، إذا علمه وجرّبه. وقد قيل : إنّه مشتقّ من الخبر لأنّ الشيء إذا علم أمكن الإخبار به.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).

انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات ، إلى إثبات صدق رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى جعل الله حكما بينه وبين مكذّبيه ، فالجملة استئناف ابتدائي ، ومناسبة

٤٤

الانتقال ظاهرة.

روى الواحدي في «أسباب النزول» عن الكلبي : أنّ رؤساء مكّة قالوا : يا محمد ما نرى أحدا مصدّقك بما تقول ، وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك فأرنا من يشهد أنّك رسول الله. فنزلت هذه الآية.

وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بيّنته عند قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٢] ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقّي ما يرد بعد الاستفهام.

و (أي) اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام ، والمضاف إليه هنا هو (شَيْءٍ) المفسّر بأنّه من نوع الشهادة.

و (شَيْءٍ) اسم عامّ من الأجناس العالية ذات العموم الكثير ، قيل : هو الموجود ، وقيل : هو ما يعلم ويصحّ وجوده. والأظهر في تعريفه أنّه الأمر الذي يعلم. ويجري عليه الإخبار سواء كان موجودا أو صفة موجود أو معنى يتعقّل ويتحاور فيه ، ومنه قوله تعالى : (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق : ٢ ، ٣].

وقد تقدّم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة (شيء) ومواقع ضعفها عند قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) في سورة البقرة [١٥٥].

و (أَكْبَرُ) هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات ، وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى ، كقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] وقوله : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ). وقد تقدّم في سورة البقرة [٢١٧].

وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها.

وقوله : (شَهادَةً) تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ما صدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة. فالمعنى : أيّة شهادة هي أصدق الشهادات ، فالمستفهم عنه ب (أَيُ) فرد من أفراد الشهادات يطلب علم أنّه أصدق أفراد جنسه.

والشهادة تقدّم بيانها عند قوله تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) في سورة المائدة [١٠٦].

ولمّا كانت شهادة الله على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير معلومة للمخاطبين المكذّبين بأنّه رسول الله ، صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا

٤٥

الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) [النور : ٨] أي أن تشهد الله على كذب الزوج ، أي أن تحلف على ذلك بسم الله ، فإنّ لفظ (أشهد الله) من صيغ القسم إلّا أنّه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازا مرسلا ، وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم ، وبذلك يظهر موقع قوله : (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ، أي أشهده عليكم. وقريب منه ما حكاه الله عن هود (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ) [هود : ٥٤].

وقوله : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) جواب للسؤال ، ولذلك فصلت جملته المصدّرة ب (قُلْ). وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير وكون الجواب ممّا لا يسع المقرّر إنكاره ، على نحو ما بيّنّاه في قوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام : ١٢].

ووقع قوله : (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) جوابا على لسانهم لأنّه مرتّب على السؤال وهو المقصود منه فالتقدير : قل شهادة الله أكبر شهادة ، فالله شهيد بيني وبينكم ، فحذف المرتّب عليه لدلالة المرتّب إيجازا كما هو مقتضى جزالة أسلوب الإلجاء والجدل. والمعنى : أنّي أشهد الله الذي شهادته أعظم شهادة أنّني أبلغتكم أنّه لا يرضى بأن تشركوا به وأنذرتكم.

وفي هذه الآية ما يقتضي صحة إطلاق اسم (شيء) على الله تعالى لأنّ قوله : (اللهُ شَهِيدٌ) وقع جوابا عن قوله : (أَيُّ شَيْءٍ) فاقتضى إطلاق اسم (شيء) خبرا عن الله تعالى وإن لم يدلّ صريحا. وعليه فلو أطلقه المؤمن على الله تعالى لما كان في إطلاقه تجاوز للأدب ولا إثم. وهذا قول الأشعرية خلافا لجهم بن صفوان وأصحابه.

ومعنى : (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أنّه لمّا لم تنفعهم الآيات والنذر فيرجعوا عن التكذيب والمكابرة لم يبق إلّا أن يكلهم إلى حساب الله تعالى. والمقصود : إنذارهم بعذاب الله في الدنيا والآخرة. ووجه ذكر (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أنّ الله شهيد له ، كما هو مقتضى السياق. فمعنى البين أنّ الله شهيد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصدق لردّ إنكارهم رسالته كما هو شأن الشاهد في الخصومات.

وقوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) عطف على جملة (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ، وهو الأهمّ فيما أقسم عليه من إثبات الرسالة. وينطوي في ذلك جميع ما أبلغهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أقامه من الدلائل. فعطف (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) من عطف الخاصّ على العامّ ،

٤٦

وحذف فاعل الوحي وبني فعله للمجهول للعلم بالفاعل الذي أوحاه إليه وهو الله تعالى.

والإشارة ب (هذَا الْقُرْآنُ) إلى ما هو في ذهن المتكلّم والسامع. وعطف البيان بعد اسم الإشارة بيّن المقصود بالإشارة.

واقتصر على جعل علّة نزول القرآن للنذارة دون ذكر البشارة لأنّ المخاطبين في حال مكابرتهم التي هي مقام الكلام لا يناسبهم إلّا الإنذار ، فغاية القرآن بالنسبة إلى حالهم هي الإنذار ، ولذلك قال (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) مصرّحا بضمير المخاطبين. ولم يقل : لأنذر به ، وهم المقصود ابتداء من هذا الخطاب وإن كان المعطوف على ضميرهم ينذر ويبشّر. على أنّ لام العلّة لا تؤذن بانحصار العلّة في مدخولها إذ قد تكون للفعل المعدّى بها علل كثيرة.

(وَمَنْ بَلَغَ) عطف على ضمير المخاطبين ، أي ولأنذر به من بلغه القرآن وسمعه ولو لم أشافهه بالدعوة ، فحذف ضمير النصب الرابط للصلة لأنّ حذفه كثير حسن ، كما قال أبو علي الفارسي. وعموم (مَنْ) وصلتها يشمل كلّ من يبلغه القرآن في جميع العصور.

(أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

جملة مستأنفة من جملة القول المأمور بأن يقوله لهم. فهي استئناف بعد جملة (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً). خصّ هذا بالذكر لأنّ نفي الشريك لله في الإلهية هو أصل الدعوة الإسلامية فبعد أن قرّرهم أنّ شهادة الله أكبر شهادة وأشهد الله على نفسه فيما بلّغ ، وعليهم فيما أعرضوا وكابروا ؛ استأنف استفهاما على طريقة الإنكار استقصاء في الإعذار لهم فقال : أتشهدون أنتم على ما أصررتم عليه أنّ مع الله آلهة أخرى كما شهدت أنا على ما دعوتكم إليه ، والمقرّر عليه هنا أمر ينكرونه بدلالة المقام.

وإنّما جعل الاستفهام المستعمل في الإنكار عن الخبر الموكّد ب (إنّ) ولام الابتداء ليفيد أنّ شهادتهم هذه ممّا لا يكاد يصدّق السامعون أنّهم يشهدونها لاستبعاد صدورها من عقلاء ، فيحتاج المخبر عنهم بها إلى تأكيد خبره بمؤكّدين فيقول : إنّهم ليشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى ، فهنالك يحتاج مخاطبهم بالإنكار إلى إدخال أداة الاستفهام الإنكاري على الجملة التي من شأنها أن يحكى بها خبرهم ، فيفيد مثل هذا التركيب إنكارين : أحدهما صريح بأداة الإنكار ، والآخر كنائي بلازم تأكيد الإخبار لغرابة هذا الزعم بحيث يشكّ السامع في صدوره منهم.

٤٧

ومعنى (لَتَشْهَدُونَ) لتدّعونا دعوى تحقّقونها تحقيقا يشبه الشهادة على أمر محقّق الوقوع ، فإطلاق (لَتَشْهَدُونَ) مشاكلة لقوله (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).

والآلهة جمع إله ، وأجري عليه الوصف بالتأنيث تنبيها على أنّها لا تعقل فإنّ جمع غير العاقل يكون وصفه كوصف الواحدة المؤنّثة.

وقوله : (قُلْ لا أَشْهَدُ) جواب للاستفهام الذي في قوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ) لأنّه بتقدير : قل أإنّكم ، ووقعت المبادرة بالجواب بتبرّي المتكلّم من أن يشهد بذلك لأنّ جواب المخاطبين عن هذا السؤال معلوم من حالهم أنّهم مقرّون به فأعرض عنهم بعد سؤالهم كأنّه يقول : دعنا من شهادتكم وخذوا شهادتي فإنّي لا أشهد بذلك. ونظير هذا قوله تعالى: (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) [الأنعام : ١٥].

وجملة : (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) بيان لجملة (لا أَشْهَدُ) فلذلك فصلت لأنّها بمنزلة عطف البيان ، لأنّ معنى لا أشهد بأنّ معه آلهة هو معنى أنّه إله واحد ، وأعيد فعل القول لتأكيد التبليغ.

وكلمة (إِنَّما) أفادت الحصر ، أي هو المخصوص بالوحدانية : ثم بالغ في إثبات ذلك بالتبري من ضدّه بقوله : (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ). وفيه قطع للمجادلة معهم على طريقة المتاركة.

و (ما) في قوله : (مِمَّا تُشْرِكُونَ) يجوز كونها مصدرية ، أي من إشراككم. ويجوز كونها موصولة ، وهو الأظهر ، أي من أصنامكم التي تشركون بها ، وفيه حذف العائد المجرور لأنّ حرف الجرّ المحذوف مع العائد متعيّن تقديره بلا لبس ، وذلك هو ضابط جواز حذف العائد المجرور ، كقوله تعالى : (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) [الفرقان : ٦٠] أي بتعظيمه ، وقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أي بالجهر به. وظاهر كلام «التسهيل» أنّ هذا ممنوع ، وهو غفلة من مؤلّفه اغترّ بها بعض شرّاح كتبه.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠))

جملة مستأنفة انتقل بها أسلوب الكلام من مخاطبة الله المشركين على لسان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إخبار عامّ كسائر أخبار القرآن. أظهر الله دليلا على صدق الرسول فيما

٤٨

جاء به بعد شهادة الله تعالى التي في قوله (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ١٩] ، فإنّه لمّا جاء ذكر القرآن هنالك وقع هذا الانتقال للاستشهاد على صدق القرآن المتضمّن صدق من جاء به ، لأنّه هو الآية المعجزة العامّة الدائمة. وقد علمت آنفا أنّ الواحدي ذكر أنّ رؤساء المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك إلى آخره ؛ فإذا كان كذلك كان التعرّض لأهل الكتاب هنا إبطالا لما قالوه أنّه ليس عندهم ذكر النبي ولا صفته ، أي فهم وأنتم سواء في جحد الحقّ ، وإن لم تجعل الآية مشيرة إلى ما ذكر في أسباب النزول تعيّن أن تجعل المراد ب (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) بعض أهل الكتاب ، وهم المنصفون منهم مثل عبد الله بن سلام ومخيريق ، فقد كان المشركون يقدرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم وربما اتّبع بعض المشركين دين أهل الكتاب وأقلعوا عن الشرك مثل ورقة بن نوفل ، فلذلك كانت شهادتهم في معرفة صحّة الدين موثوقا بها عندهم إذا أدّوها ولم يكتموها. وفيه تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس.

فالضمير المنصوب في قوله : (يَعْرِفُونَهُ) عائد إلى القرآن الذي في قوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) [الأنعام : ١٩]. والمراد أنّهم يعرفون أنّه من عند الله ويعرفون ما تضمّنه ممّا أخبرت به كتبهم ، ومن ذلك رسالة من جاء به ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما في كتبهم من البشارة به. والمراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى كقوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد : ٤٣].

والتشبيه في قوله : (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) تشبيه المعرفة بالمعرفة. فوجه الشبه هو التحقّق والجزم بأنّه هو الكتاب الموعود به ، وإنّما جعلت المعرفة المشبّه بها هي معرفة أبنائهم لأن المرء لا يضلّ عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه وأنّه هو ابنه المعروف ، وذلك لكثرة ملازمة الأبناء آباءهم عرفا.

وقيل : إنّ ضمير (يَعْرِفُونَهُ) عائد إلى التوحيد المأخوذ من قوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [الأنعام : ١٩] وهذا بعيد. وقيل : الضمير عائد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنّه لم يجر له ذكر فيما تقدّم صريحا ولا تأويلا. ويقتضي أن يكون المخاطب غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو غير مناسب على أنّ في عوده إلى القرآن غنية عن ذلك مع زيادة إثباته بالحجّة وهي القرآن.

وقوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) استئناف لزيادة إيضاح تصلّب المشركين وإصرارهم ، فهم المراد بالذين خسروا أنفسهم كما أريدوا بنظيره السابق الواقع

٤٩

بعد قوله (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) [النساء : ٨٧]. فهذا من التكرير للتسجيل وإقامة الحجّة وقطع المعذرة ، وأنّهم مصرّون على الكفر حتى ولو شهد بصدق الرسول أهل الكتاب ، كقوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) [الأحقاف : ١٠]. وقيل : أريد بهم أهل الكتاب ، أي الذين كتموا الشهادة ، فيكون (الَّذِينَ خَسِرُوا) بدلا من (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١))

عطف على جملة (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) [الأنعام : ٢٠]. فالمراد بهم المشركون مثل قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). وقد تقدّم نظيره في سورة البقرة [١١٤]. والمراد بافترائهم عقيدة الشرك في الجاهلية بما فيها من تكاذيب ، وبتكذيبهم الآيات تكذيبهم القرآن بعد البعثة. وقد جعل الآتي بواحدة من هاتين الخصلتين أظلم الناس فكيف بمن جمعوا بينهما.

وجملة : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) تذييل ، فلذلك فصلت ، أي إذا تحقّق أنّهم لا أظلم منهم فهم غير مفلحين ، لأنّه لا يفلح الظالمون فكيف بمن بلغ ظلمه النهاية ، فاستغنى بذكر العلّة عن ذكر المعلول.

وموقع (إنّ) في هذا المقام يفيد معنى التعليل للجملة المحذوفة ، كما تقرّر في كلام عبد القاهر. وموقع ضمير الشأن معها أفاد الاهتمام بهذا الخبر اهتمام تحقيق لتقع الجملة الواقعة تفسيرا له في نفس السامع موقع الرسوخ.

والافتراء الكذب المتعمّد. وقوله : (كَذِباً) مصدر مؤكّد له ، وهو أعمّ من الافتراء.

والتأكيد يحصل بالأعم ، كما قدّمناه في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة المائدة [١٠٣] ، وقد نفى فلاحهم فعمّ كلّ فلاح في الدنيا والآخرة ، فإنّ الفلاح المعتدّ به في نظر الدين في الدنيا هو الإيمان والعمل ، وهو سبب فلاح الآخرة.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ

٥٠

وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

عطف على جملة : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام : ٢١] ، أو على جملة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام : ٢١] ، فإنّ مضمون هذه الجمل المعطوفة له مناسبة بمضمون جملة (وَمَنْ أَظْلَمُ) ومضمون جملة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ، لأنّ مضمون هذه من آثار الظلم وآثار عدم الفلاح ، ولأنّ مضمون الآية جامع للتهديد على الشرك والتكذيب ولإثبات الحشر ولإبطال الشرك.

وانتصب (يَوْمَ) على الظرفية ، وعامله محذوف ، والأظهر أنّه يقدّر ممّا تدلّ عليه المعطوفات وهي : نقول ، أو قالوا ، أو كذّبوا ، أو ضلّ ، وكلّها صالحة للدلالة على تقدير المحذوف ، وليست تلك الأفعال متعلّقا بها الظرف بل هي دلالة على المتعلّق المحذوف ، لأنّ المقصود تهويل ما يحصل لهم يوم الحشر من الفتنة والاضطراب الناشئين عن قول الله تعالى لهم : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) ، وتصوير تلك الحالة المهولة.

وقدّر في «الكشاف» الجواب ممّا دلّ عليه مجموع الحكاية. وتقديره : كان ما كان ، وأنّ حذفه مقصود به الإبهام الذي هو داخل في التخويف. وقد سلك في هذا ما اعتاده أئمّة البلاغة في تقدير المحذوفات من الأجوبة والمتعلّقات. والأحسن عندي أنّه إنّما يصار إلى ذلك عند عدم الدليل في الكلام على تعيين المحذوف وإلّا فقد يكون التخويف والتهويل بالتفصيل أشدّ منه بالإبهام إذا كان كلّ جزء من التفصيل حاصلا به تخويف. وقدّر بعض المفسّرين : اذكر يوم نحشرهم. ولا نكتة فيه. وهنالك تقديرات أخرى لبعضهم لا ينبغي أن يعرّج عليها.

والضمير المنصوب في (نَحْشُرُهُمْ) يعود إلى (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام: ٢١] أو إلى (الظَّالِمُونَ) [الأنعام : ٢١] إذ المقصود بذلك المشركون ، فيؤذن بمشركين ومشرك بهم. وللتنبيه على أنّ الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم جيء بقوله : (جَمِيعاً) ليدلّ على قصد الشمول ، فإنّ شمول الضمير لجميع المشركين لا يتردّد فيه السامع حتى يحتاج إلى تأكيده باسم الإحاطة والشمول ، فتعيّن أنّ ذكر (جَمِيعاً) قصد منه التنبيه. على أنّ الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم ، فيكون نظير قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) [يونس : ٢٨] وقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الفرقان : ١٧] وانتصب (جَمِيعاً) هنا على الحال من الضمير.

٥١

والمقصود من حشر أصنامهم معهم أن تظهر مذلّة الأصنام وعدم جدواها كما يحشر الغالب أسرى قبيلة ومعهم من كانوا ينتصرون به ، لأنّهم لو كانوا غائبين لظنّوا أنّهم لو حصروا لشفعوا ، أو أنّهم شغلوا عنهم بما هم فيه من الجلالة والنعيم ، فإنّ الأسرى كانوا قد يأملون حضور شفائعهم أو من يفاديهم. قال النابغة :

يأملن رحلة نصر وابن سيّار

وعطف (نَقُولُ) ب (ثُمَ) لأنّ القول متأخّر عن زمن حشرهم بمهلة لأنّ حصّة انتظار المجرم ما سيحلّ به أشدّ عليه ، ولأنّ في إهمال الاشتغال بهم تحقيرا لهم. وتفيد (ثُمَ) مع ذلك الترتيب الرتبي.

وصرّح ب (لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) لأنّهم بعض ما شمله الضمير ، أي ثم نقول للذين أشركوا من بين ذلك الجمع.

وأصل السؤال ب (أَيْنَ) أنّه استفهام عن المكان الذي يحلّ فيه المسند إليه ، نحو : أين بيتك ، وأين تذهبون. وقد يسأل بها عن الشيء الذي لا مكان له ، فيراد الاستفهام عن سبب عدمه ، كقول أبي سعيد الخدري لمروان بن الحكم حين خرج يوم العيد فقصد المنبر قبل الصلاة أين تقديم الصلاة. وقد يسأل بأين عن عمل أحد كان مرجوّا منه ، فإذا حضر وقته ولم يحصل منه يسأل عنه بأين ، كأنّ السائل يبحث عن مكانه تنزيلا له منزلة الغائب المجهول مكانه ؛ فالسؤال بأين هنا عن الشركاء المزعومين وهم حاضرون كما دلّت عليه آيات أخرى. قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الصافات : ٢٢].

والاستفهام توبيخي عمّا كان المشركون يزعمونه من أنّها تشفع لهم عند الله ، أو أنّها تنصرهم عند الحاجة ، فلمّا رأوها لا غناء لها قيل لهم : أين شركاؤكم ، أي أين عملهم فكأنّهم غيّب عنهم.

وأضيف الشركاء إلى ضمير المخاطبين إضافة اختصاص لأنّهم الذين زعموا لهم الشركة مع الله في الإلهية فلم يكونوا شركاء إلّا في اعتقاد المشركين ، فلذلك قيل (شُرَكاؤُكُمُ). هذا كقول أحد أبطال العرب لعمرو بن معد يكرب لمّا حدّث عمرو في جمع أنّه قتله ، وكان هو حاضرا في ذلك الجمع ، فقال له : «مهلا أبا ثور قتيلك يسمع» ، أي المزعوم أنّه قتيلك.

٥٢

ووصفوا ب (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تكذيبا لهم ؛ وحذف المفعول الثاني ل (تَزْعُمُونَ) ليعمّ كلّ ما كانوا يزعمونه لهم من الإلهية والنصر والشفاعة ؛ أمّا المفعول الأول فحذف على طريقة حذف عائد الصلة المنصوب.

والزعم : ظنّ يميل إلى الكذب أو الخطأ أو لغرابته يتّهم صاحبه ، فيقال : زعم ، بمعنى أنّ عهدة الخبر عليه لا على الناقل ، وتقدّم عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) الآية في سورة النساء [٦٠]. وتأتي زيادة بيان لمعنى الزعم عند قوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) في سورة التغابن [٧].

وقوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) عطف على جملة (ثُمَّ نَقُولُ) و (ثم) للترتيب الرتبي وهو الانتقال من خبر إلى خبر أعظم منه.

والفتنة أصلها الاختبار ، من قولهم : فتن الذهب إذا اختبر خلوصه من الغلث. وتطلق على اضطراب الرأي من حصول خوف لا يصبر على مثله ، لأنّ مثل ذلك يدلّ على مقدار ثبات من يناله ، فقد يكون ذلك في حالة العيش ؛ وقد يكون في البغض والحبّ ؛ وقد يكون في الاعتقاد والتفكير وارتباك الأمور. وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) في سورة البقرة [١٠٢].

و (فِتْنَتُهُمْ) هنا استثني منها (أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، فذلك القول إمّا أن يكون من نوع ما استثني هو منه المحذوف في تفريغ الاستثناء ، فيكون المستثنى منه من الأقوال الموصوفة بأنّها فتنة. فالتقدير : لم يكن لهم قول هو فتنة لهم إلّا قولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

وإمّا أن يكون القول المستثنى دالا على فتنتهم ، أي على أنّهم في فتنة حين قالوه. وأيّا ما كان فقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) متضمّن أنّهم مفتونون حينئذ.

وعلى ذلك تحتمل الفتنة أن تكون بمعنى اضطراب الرأي والحيرة في الأمر ، ويكون في الكلام إيجاز. والتقدير : فافتتنوا في ما ذا يجيبون ، فكان جوابهم أن قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فعدل عن المقدّر إلى هذا التركيب لأنّه قد علم أنّ جوابهم ذلك هو فتنتهم لأنّه أثرها ومظهرها.

ويحتمل أن يراد بالفتنة جوابهم الكاذب لأنّه يفضي إلى فتنة صاحبه ، أي تجريب حالة نفسه.

٥٣

ويحتمل أن تكون أطلقت على معناها الأصلي وهو الاختبار. والمراد به السؤال لأنّ السؤال اختبار عمّا عند المسئول من العلم ، أو من الصدق وضدّه ، ويتعيّن حينئذ تقدير مضاف ، أي لم يكن جواب فتنتهم ، أي سؤالهم عن حال إشراكهم إلّا أن قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

وقرأ الجمهور (لَمْ تَكُنْ) ـ بتاء تأنيث حرف المضارعة ـ. وقرأه حمزة ، والكسائي ، ويعقوب ـ بياء المضارعة للغائبة ـ باعتبار أنّ (قالُوا) هو اسم (كان). وقرأ الجمهور (فِتْنَتُهُمْ) ـ بالنصب ـ على أنّه خبر (كان) ، فتكون (كان) ناقصة واسمها (إِلَّا أَنْ قالُوا) وإنّما أخّر عن الخبر لأنّه محصور.

وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ـ بالرفع ـ على أنّه اسم (كان) و (أَنْ قالُوا) خبر (كان) ، فتجعل (كان) تامّة. والمعنى لم توجد فتنة لهم إلّا قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، أي لم تقع فتنتهم إلّا أن نفوا أنّهم أشركوا.

ووجه اتّصال الفعل بعلامة مضارعة للمؤنّث على قراءة نصب (فِتْنَتُهُمْ) هو أنّ فاعله مؤنّث تقديرا ، لأنّ القول المنسبك من (أن) وصلتها من جملة الفتنة على أحد التأويلين. قال أبو علي الفارسي : وذلك نظير التأنيث في اسم العدد في قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] ، لأنّ الأمثال لمّا كانت في معنى الحسنات أنّث اسم عددها.

وقرأ الجمهور (رَبِّنا) ـ بالجرّ ـ على الصفة لاسم الجلالة. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بالنصب ـ على النداء بحذف حرفه.

وذكرهم الربّ بالإضافة إلى ضميرهم مبالغة في التنصّل من الشرك ، أي لا ربّ لنا غيره. وقد كذّبوا وحلفوا على الكذب جريا على سننهم الذي كانوا عليه في الحياة ، لأنّ المرء يحشر على ما عاش عليه ، ولأنّ الحيرة والدهش الذي أصابهم خيّل إليهم أنّهم يموّهون على الله تعالى فيتخلّصون من العقاب. ولا مانع من صدور الكذب مع ظهور الحقيقة يومئذ ، لأنّ الحقائق تظهر لهم وهم يحسبون أنّ غيرهم لا تظهر له ، ولأنّ هذا إخبار منهم عن أمر غائب عن ذلك اليوم فإنّهم أخبروا عن أمورهم في الدنيا.

وفي «صحيح البخاري» : أنّ رجلا قال لابن عباس : إنّي أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ، فذكر منها قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢] وقوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما

٥٤

كُنَّا مُشْرِكِينَ). فقد كتموا في هذه الآية. فقال ابن عباس : إنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فيقول المشركون تعالوا نقل : ما كنّا مشركين ، فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم ، فعند ذلك عرفوا أنّ الله لا يكتم حديثا.

وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) جعل حالهم المتحدّث عنه بمنزلة المشاهد ، لصدور عمّن لا خلاف في أخباره ، فلذلك أمر سامعه أو أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يدلّ على النظر إليه كأنّه مشاهد حاضر.

والأظهر أنّ (كَيْفَ) لمجرّد الحال غير دالّ على الاستفهام. والنظر إلى الحالة هو النظر إلى أصحابها حين تكيّفهم بها. وقد تقدّمت له نظائر منها قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة النساء [٥٠]. وجعل كثير من المفسّرين النظر هنا نظرا قلبيا فإنّه يجيء كما يجيء فعل الرؤية فيكون معلّقا عن العمل بالاستفهام ، أي تأمّل جواب قول القائل : «(كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ») تجده جوابا واضحا بيّنا.

ولأجل هذا التحقّق من خبر حشرهم عبّر عن كذبهم الذي يحصل يوم الحشر بصيغة الماضي في قوله : (كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ). وكذلك قوله (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

وفعل (كذب) يعدّى بحرف (على) إلى من يخبّر عنه الكاذب كذبا مثل تعديته في هذه الآية ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كذب عليّ معتمدا فليتبوّأ مقعده من النار ، وأمّا تعديته إلى من يخبره الكاذب خبرا كذبا فبنفسه ، يقال : كذبك ، إذا أخبرك بكذب.

وضلّ بمعنى غاب كقوله تعالى : (ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠] ، أي غيّبنا فيها بالدفن. و (ما) موصولة و (يَفْتَرُونَ) صلتها ، والعائد محذوف ، أي يختلقونه وما صدق ذلك هو شركاؤهم. والمراد : غيبة شفاعتهم ونصرهم لأنّ ذلك هو المأمول منهم فلمّا لم يظهر شيء من ذلك نزّل حضورهم منزلة الغيبة ، كما يقال : أخذت وغاب نصيرك ، وهو حاضر.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥))

عطف جملة ابتدائية على الجمل الابتدائية التي قبلها من قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا

٥٥

أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ٢٠].

والضمير المجرور بمن التبعيضية عائد إلى المشركين الذين الحديث معهم وعنهم ابتداء من قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] ، أي ومن المشركين من يستمع إليك. وقد انتقل الكلام إلى أحوال خاصّة عقلائهم الذين يربئون بأنفسهم عن أن يقابلوا دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل ما يقابله به سفهاؤهم من الإعراض التامّ ، وقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥]. ولكن هؤلاء العقلاء يتظاهرون بالحلم والأناة والإنصاف ويخيّلون للدهماء أنّهم قادرون على مجادلة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإبطال حججه ثم ينهون الناس عن الإيمان. روى الواحدي عن ابن عبّاس أنّه سمّى من هؤلاء أبا سفيان بن حرب ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبا جهل ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وأمية وأبيّا ابني خلف ، اجتمعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمعون القرآن فلمّا سمعوه قالوا للنضر : ما يقول محمد فقال : والذي جعلها بيته (يعني الكعبة) ما أدري ما يقول إلّا أنّي أرى تحرّك شفتيه فما يقول إلّا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية. يعني أنّه قال ذلك مكابرة منه للحقّ وحسدا للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى. وكان يحدّث قريشا عن أقاصيص العجم ، مثل قصة (رستم) و (إسفنديار) فيستملحون حديثه ، وكان صاحب أسفار إلى بلاد الفرس ، وكان النضر شديد البغضاء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الذي أهدر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ دمه فقتل يوم فتح مكّة. وروي أنّ أبا سفيان قال لهم : إنّي لأراه حقّا. فقال له أبو جهل : كلّا. فوصف الله حالهم بهذه الآية. وقد نفع الله أبا سفيان بن حرب بكلمته هذه ، فأسلم هو دونهم ليلة فتح مكّة وثبتت له فضيلة الصحبة وصهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولزوجه هند بنت عتبة بن ربيعة.

والأكنة جمع كنان ـ بكسر الكاف ـ و (أفعلة) يتعيّن في (فعال) المكسور الفاء إذا كان عينه ولامه مثلين. والكنان : الغطاء ، لأنّه يكنّ الشيء ، أي يستره. وهي هنا تخييل لأنّه شبّهت قلوبهم في عدم خلوص الحقّ إليها بأشياء محجوبة عن شيء. وأثبتت لها الأكنّة تخييلا ، وليس في قلب أحدهم شيء يشبه الكنان.

وأسند جعل تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لأنّه خلقهم على هذه الخصلة الذميمة والتعقّل المنحرف ، فهم لهم عقول وإدراك لأنّهم كسائر البشر ، ولكن أهواءهم تخيّر لهم المنع من اتّباع الحقّ ، فلذلك كانوا مخاطبين بالإيمان مع أنّ الله يعلم أنّهم لا

٥٦

يؤمنون إذ كانوا على تلك الصفة ، على أنّ خطاب التكليف عامّ لا تعيين فيه لأناس ولا استثناء فيه لأناس. فالجعل بمعنى الخلق وليس للتحويل من حال إلى حال. وقد مات المسمّون كلّهم على الشرك عدا أبا سفيان فإنّه شهد حينئذ بأنّ ما سمعه حقّ ، فدلّت شهادته على سلامة قلبه من الكنان.

والضمير المنصوب في (أَنْ يَفْقَهُوهُ) عائد إلى القرآن المفهوم من قوله (يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ). وحذف حرف الجرّ. والتقدير : من أن يفقهوه ، ويتعلّق ب (أَكِنَّةً) لما فيه من معنى المنع ، أي أكنّة تمنع من أن يفهموا القرآن.

والوقر ـ بفتح الواو ـ الصمم الشديد وفعله كوعد ووجد يستعمل قاصرا ، يقال : وقرت أذنه ، ومتعدّيا يقال : وقر الله أذنه فوقرت. والوقر مصدر غير قياسي ل (وقرت) أذنه ، لأنّ قياس مصدره تحريك القاف ، وهو قياسي ل (وقر) المتعدّي ، وهو مستعار لعدم فهم المسموعات. جعل عدم الفهم بمنزلة الصمم ولم يذكر للوقر متعلّق يدلّ على الممنوع بوقر آذانهم لظهور أنّه من أن يسمعوه ، لأنّ الوقر مؤذن بذلك ، ولأنّ المراد السمع المجازي وهو العلم بما تضمّنه المسموع.

وقوله : (عَلى قُلُوبِهِمْ) ، وقوله : (فِي آذانِهِمْ) يتعلّقان ب (جَعَلْنا). وقدّم كلّ منهما على مفعول (جَعَلْنا) للتنبيه على تعلّقه به من أول الأمر.

فإن قلت : هل تكون هاته الآية حجّة للذين قالوا من علمائنا : إنّ إعجاز القرآن بالصّرفة ، أي أعجز الله المشركين عن معارضته بأن صرفهم عن محاولة المعارضة لتقوم الحجّة عليهم ، فتكون الصرفة من جملة الأكنّة التي جعل الله على قلوبهم.

قلت : لم يحتجّ بهذه الآية أصحاب تلك المقالة لأنّك قد علمت أنّ الأكنّة تخييل وأنّ الوقر استعارة وأنّ قول النضر (ما أدري ما أقول) ، بهتان ومكابرة ، ولذلك قال الله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها).

وكلمة (كُلَ) هنا مستعملة في الكثرة مجازا لتعذّر الحقيقة سواء كان التعذّر عقلا كما في هذه الآية ، وقوله تعالى : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) [النساء : ١٢٩] ، وذلك أنّ الآيات تنحصر أفرادها لأنّها أفراد مقدّرة تظهر عند تكوينها إذ هي من جنس عامّ ؛ أم كان التعذّر عادة كقول النابغة :

بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي

إلى كلّ رجّاف من الرّمل فارد

٥٧

فإنّ العادة تحيل اجتماع جميع بقر الوحش في هذا الموضع.

فيتعذّر أن يرى القوم كلّ أفراد ما يصحّ أن يكون آية ، فلذلك كان المراد ب (كُلَ) معنى الكثرة الكثيرة ، كما تقدّم في قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) في سورة البقرة [١٤٥].

و (حَتَّى) حرف موضوع لإفادة الغاية ، أي أنّ ما بعدها غاية لما قبلها. وأصل (حَتَّى) أن يكون حرف جرّ مثل (إلى) فيقع بعده اسم مفرد مدلوله غاية لما قبل (حتّى). وقد يعدل عن ذلك ويقع بعد (حتّى) جملة فتكون (حتّى) ابتدائية ، أي تؤذن بابتداء كلام مضمونه غاية لكلام قبل (حتى). ولذلك قال ابن الحاجب في «الكافية» : إنّها تفيد السببية ، فليس المعنى أنّ استماعهم يمتدّ إلى وقت تجيئهم ولا أنّ جعل الأكنّة على قلوبهم والوقر في آذانهم يمتدّ إلى وقت مجيئهم ، بل المعنى أن يتسبّب على استماعهم بدون فهم. وجعل الوقر على آذانهم والأكنّة على قلوبهم أنّهم إذا جاءوك جادلوك.

وسمّيت (حَتَّى) ابتدائية لأنّ ما بعدها في حكم كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا. ويأتي قريب من هذا عند قوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) في هذه السورة [٣١] ، وزيادة تحقيق لمعنى (حتّى) الابتدائية عند قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ـ إلى قوله ـ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) إلخ في سورة الأعراف [٣٧].

و (إِذا) شرطية ظرفية. و (جاؤُكَ) شرطها ، وهو العامل فيها. وجملة (يُجادِلُونَكَ) حال مقدّرة من ضمير (جاؤُكَ) أي جاءوك مجادلين ، أي مقدّرين المجادلة معك يظهرون لقومهم أنّهم أكفّاء لهذه المجادلة.

وجملة (يَقُولُ) جواب (إِذا) ، وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لزيادة التسجيل عليهم بالكفر ، وأنّهم ما جاءوا طالبين الحقّ كما يدّعون ولكنّهم قد دخلوا بالكفر وخرجوا به فيقولون (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، فهم قد عدلوا عن الجدل إلى المباهتة والمكابرة.

والأساطير جمع أسطورة ـ بضم الهمزة وسكون السين ـ وهي القصّة والخبر عن الماضين. والأظهر أنّ الأسطورة لفظ معرّب عن الرومية : أصله إسطوريا ـ بكسر الهمزة ـ وهو القصّة. ويدلّ لذلك اختلاف العرب فيه ، فقالوا : أسطورة وأسطيرة وأسطور وأسطير ،

٥٨

كلّها ـ بضم الهمزة ـ وإسطارة وإسطار ـ بكسر الهمزة ـ. والاختلاف في حركات الكلمة الواحدة من جملة أمارات التعريب. ومن أقوالهم : «أعجميّ فالعب به ما شئت». وأحسن الألفاظ لها أسطورة لأنّها تصادف صيغة تفيد معنى المفعول ، أي القصّة المسطورة. وتفيد الشهرة في مدلول مادّتها مثل الأعجوبة والأحدوثة والأكرومة. وقيل : الأساطير اسم جمع لا واحد له مثل أبابيل وعباديد وشماطيط. وكان العرب يطلقونه على ما يتسامر الناس به من القصص والأخبار على اختلاف أحوالها من صدق وكذب. وقد كانوا لا يميّزون بين التواريخ والقصص والخرافات فجميع ذلك مرمي بالكذب والمبالغة. فقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). يحتمل أنّهم أرادوا نسبة أخبار القرآن إلى الكذب على ما تعارفوه من اعتقادهم في الأساطير. ويشتمل أنّهم أرادوا أنّ القرآن لا يخرج عن كونه مجموع قصص وأساطير ، يعنون أنّه لا يستحقّ أن يكون من عند الله لأنّهم لقصور أفهامهم أو لتجاهلهم يعرضون عن الاعتبار المقصود من تلك القصص ويأخذونها بمنزلة الخرافات التي يتسامر الناس بها لتقصير الوقت. وسيأتي في سورة الأنفال أنّ من قال ذلك النضر لا الحارث ، وأنّه كان يمثّل القرآن بأخبار (رستم) و (إسفنديار).

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))

عطف على جملة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) ، والضميران المجروران عائدان إلى القرآن المشار إليه باسم الإشارة في قولهم : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥]. ومعنى النهي عنه النهي عن استماعه. فهو من تعليق الحكم بالذات. والمراد حالة من أحوالها يعيّنها المقام. وكذلك الناي عنه معناه النأي عن استماعه ، أي هم ينهون الناس عن استماعه ويتباعدون عن استماعه. قال النابغة :

لقد نهيت بني ذبيان عن أقر

وعن تربّعهم في كلّ أصفار

يعني نهيتهم عن الرعي في ذي أقر ، وهو حمى الملك النعمان بن الحارث الغسّاني. وبين قوله : (يَنْهَوْنَ) ـ و (يَنْأَوْنَ) الجناس القريب من التمام.

والقصر في قوله : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) قصر إضافي يفيد قلب اعتقادهم لأنّهم يظنّون بالنهي والنأي عن القرآن أنّهم يضرّون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلّا يتّبعوه ولا يتّبعه الناس ، وهم إنّما يهلكون أنفسهم بدوامهم على الضلال وبتضليل الناس ، فيحملون أوزارهم وأوزار الناس ، وفي هذه الجملة تسلية للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأنّ ما أرادوا به نكايته

٥٩

إنّما يضرّون به أنفسهم.

وأصل الهلاك الموت. ويطلق على المضرّة الشديدة لأنّ الشائع بين الناس أنّ الموت أشدّ الضرّ. فالمراد بالهلاك هنا ما يلقونه في الدنيا من القتل والمذلّة عند نصر الإسلام وفي الآخرة من العذاب.

والنأي : البعد. وهو قاصر لا يتعدّى إلى مفعول إلّا بحرف جرّ ، وما ورد متعدّيا بنفسه فذلك على طريق الحذف والإيصال في الضرورة.

وعقّب قوله : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بقوله : (وَما يَشْعُرُونَ) زيادة في تحقيق الخطأ في اعتقادهم ، وإظهارا لضعف عقولهم مع أنّهم كانوا يعدّون أنفسهم قادة للناس ، ولذلك فالوجه أن تكون الواو في قوله : (وَما يَشْعُرُونَ) للعطف لا للحال ليفيد ذلك كون ما بعدها مقصودا به الإخبار المستقلّ لأنّ الناس يعدّونهم أعظم عقلائهم.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨))

الخطاب للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنّ في الخبر الواقع بعده تسلية له عمّا تضمّنه قوله : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام : ٢٦] فإنّه ابتدأ فعقّبه بقوله : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) [الأنعام : ٢٦] ثم أردفه بتمثيل حالهم يوم القيامة. ويشترك مع الرسول في هذا الخطاب كلّ من يسمع هذا الخبر.

و (لَوْ) شرطية ، أي لو ترى الآن ، و (إِذْ) ظرفية ، ومفعول (تَرى) محذوف دلّ عليه ضمير (وُقِفُوا) ، أي لو تراهم ، و (وُقِفُوا) ماض لفظا والمعنيّ به الاستقبال ، أي إذ يوقفون. وجيء فيه بصيغة الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه لصدوره عمّن لا خلاف في خبره.

ومعنى : (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أبلغوا إليها بعد سير إليها ، وهو يتعدى ب (عَلَى). والاستعلاء المستفاد ب (عَلَى) مجازي معناه قوّة الاتّصال بالمكان ، فلا تدلّ (على) على أنّ وقوفهم على النار كان من أعلى النار. وقد قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) [الأنعام : ٣٠] ، وأصله من قول العرب : وقفت راحلتي على زيد ، أي بلغت إليه

٦٠