تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

مفطورة لله تعالى.

وفعل (وجّه) يتعدّى إلى المكان المقصود بإلى ، وقد يتعدّى باللام إذا أريد أنّه انصرف لأجل ذلك الشيء ، فيحسن ذلك إذا كان الشيء المقصود مراعى إرضاؤه وطاعته كما تقول : توجّهت للحبيب ، ولذلك اختير تعدّيه هنا باللام ، لأنّ في هذا التوجّه إرضاء وطاعة.

وفطر : خلق ، وأصل الفطر الشقّ. يقال فطر فطورا إذا شقّ قال تعالى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣] أي اختلال ، شبّه الخلق بصناعة الجلد ونحوه ، فإنّ الصانع يشقّ الشيء قبل أن يصنعه ، وهذا كما يقال : الفتق والفلق ، فأطلق الفطر على إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة تؤهّل للفعل.

و (حَنِيفاً) حال من ضمير المتكلّم في (وَجَّهْتُ). وتقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) في سورة البقرة [١٣٥].

وجملة : (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على الحال ، نفى عن نفسه أن يكون متّصلا بالمشركين وفي عدادهم.

فلما تبرّأ من أصنامهم تبرّأ من القوم ، وقد جمعهما أيضا في سورة الممتحنة [٤] إذ قال (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

وأفادت جملة (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تأكيدا لجملة (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) ، وإنّما عطفت لأنّها قصد منها التبرّي من أن يكون من المشركين.

وهذا قد جرينا فيه على أنّ قول إبراهيم لمّا رأى النيّرات (هذا رَبِّي) هو مناظرة لقومه واستدراج لهم ، وأنّه كان موقنا بنفي إلهيتها ، وهو المناسب لصفة النبوءة أن يكون أوحى إليه ببطلان الإشراك وبالحجج التي احتجّ بها على قومه. ومن المفسّرين من قال : إنّ كلامه ذلك كان نظرا واستدلالا في نفسه لقوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) ، فإنّه يشعر بأنّه في ضلال لأنّه طلب هداية بصيغة الاستقبال أي لأجل أداة الشرط ، وليس هذا بمتعيّن لأنّه قد يقوله لتنبيه قومه إلى أنّ لهم ربّا بيده الهداية ، كما بيّنّاه في موضعه ، فيكون كلامه مستعملا في التعريض. على أنّه قد يكون أيضا مرادا به الدوام على الهداية والزيادة فيها ، على أنّه قد يكون أراد الهداية إلى إقامة الحجّة حتّى لا يتغلّب عليه قومه.

١٨١

فإذا بنينا على أنّ ذلك كان استدلالا في نفسه قبل الجزم بالتوحيد فإنّ ذلك كان بإلهام من الله تعالى ، فيكون قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] معناه نريه ما فيها من الدلائل على وجود الصانع ووحدانيته قبل أن نوحي إليه ، ويكون قوله : (رَأى كَوْكَباً) بمعنى نظر في السماء فرأى هذا الكوكب ولم يكن نظر في ذلك من قبل ، ويكون قوله : (قالَ هذا رَبِّي) قولا في نفسه على نحو ما يتحدّث به المفكّر في نفسه ، وهو حديث النفس ، كقول النابغة في كلب صيد :

قالت له النفس إنّي لا أرى طمعا

وإنّ مولاك لم يسلم ولم يصد

وقول العجّاج في ثور وحشي :

ثم انثنى وقال في التفكير

إنّ الحياة اليوم في الكرور

وقوله : (هذا رَبِّي) وقوله : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ، وقوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) كلّ ذلك مستعمل في حقائقه من الاعتقاد الحقيقي. وقوله : (قالَ يا قَوْمِ) هو ابتداء خطابه لقومه بعد أن ظهر الحقّ له فأعلن بمخالفته قومه حينئذ.

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠))

لمّا أعلن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ معتقده لقومه أخذوا في محاجّته ، فجملة (وَحاجَّهُ) عطف على جملة (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩]. وعطفت الجملة بالواو دون الفاء لتكون مستقلّة بالإخبار بمضمونها مع أنّ تفرّع مضمونها على ما قبلها معلوم من سياق الكلام.

والمحاجّة مفاعلة متصرّفة من الحجّة ، وهي الدّليل المؤيّد للدعوى. ولا يعرف لهذه المفاعلة فعل مجرّد بمعنى استدلّ بحجّة ، وإنّما المعروف فعل حجّ إذا غلب في الحجّة ، فإن كانت احتجاجا من الجانبين فهي حقيقة وهو الأصل ، وإن كانت من جانب واحد باعتبار أنّ محاول الغلب في الحجّة لا بدّ أن يتلقّى من خصمه ما يردّ احتجاجه فتحصل المحاولة من الجانبين ، فبذلك الاعتبار أطلق على الاحتجاج محاجّة ، أو المفاعلة فيه للمبالغة. والأولى حملها هنا على الحقيقة بأن يكون المعنى حصول محاجّة بينهم وبين إبراهيم.

وذكر الشيخ ابن عرفة في درس تفسيره : أنّ صيغة المفاعلة تقتضي أنّ المجعول فيها

١٨٢

فاعلا هو البادئ بالمحاجّة ، وأنّ بعض العلماء استشكل قوله تعالى في سورة البقرة [٢٥٨] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) حيث قال : (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨]. فبدأ بكلام إبراهيم وهو مفعول الفعل وأجاب بأنّ إبراهيم بدأ بالمقاولة ونمروذ بدأ المحاجّة. ولم يذكر أئمّة اللّغة هذا القيد في استعمال صيغة المفاعلة. ويجوز أن يكون المراد هنا أنّهم سلكوا معه طريق الحجّة على صحّة دينهم أو على إبطال معتقده وهو يسمع ، فجعل سماعه كلامهم بمنزلة جواب منه فأطلق على ذلك كلمة المحاجّة. وأبهم احتجاجهم هنا إذ لا يتعلّق به غرض لأنّ الغرض هو الاعتبار بثبات إبراهيم على الحقّ. وحذف متعلّق (حاجَّهُ) لدلالة المقام ، ودلالة ما بعده عليه من قوله : (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) الآيات.

وقد ذكرت حججهم في مواضع في القرآن ، منها قوله في سورة الأنبياء [٥٢ ـ ٥٦] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ ـ إلى قوله ـ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، وقوله في سورة الشعراء [٧٢ ، ٧٣] (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) الآيات ، وفي سورة الصافات [٨٥ ـ ٩٨] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ ـ إلى قوله ـ فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) وكلّها محاجّة حقيقيّة ، ويدخل في المحاجّة ما ليس بحجّة ولكنّه ممّا يرونه حججا بأن خوّفوه غضب آلهتهم ، كما يدلّ عليه قوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) الآية. والتقدير : وحاجّه قومه فقالوا : كيت وكيت.

وجملة (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) جواب محاجّتهم ، ولذلك فصلت ، على طريقة المحاورات كما قدّمناه في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) في سورة البقرة [٣٠] ، فإن كانت المحاجّة على حقيقة المفاعلة فقوله (أَتُحاجُّونِّي) غلق لباب المجادلة وختم لها ، وإن كانت المحاجّة مستعملة في الاحتجاج فقوله : (أَتُحاجُّونِّي) جواب لمحاجّتهم ، فيكون كقوله تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [آل عمران : ٢٠]. والاستفهام إنكار عليهم وتأييس من رجوعه إلى معتقدهم.

و (فِي) للظرفية المجازية متعلّقة ب (تُحاجُّونِّي) ودخولها على اسم الجلالة على تقدير مضاف ، لأنّ المحاجّة لا تكون في الذّوات ، فتعيّن تقدير ما يصلح له المقام وهو صفات الله الدّالّة على أنّه واحد ، أي في توحيد الله وهذا كقوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] أي في استئصالهم.

١٨٣

وجملة (وَقَدْ هَدانِ) حال مؤكّدة للإنكار ، أي لا جدوى لمحاجّتكم إيّاي بعد أن هداني الله إلى الحقّ ، وشأن الحال المؤكّدة للإنكار أن يكون اتّصاف صاحبها بها معروفا عند المخاطب. فالظاهر أنّ إبراهيم نزّلهم في خطابه منزلة من يعلم أنّ الله هداه كناية على ظهور دلائل الهداية.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر أتحاجوني ـ بنون واحدة خفيفة ـ وأصله أتحاجّونني ـ بنونين ـ فحذفت إحداهما للتخفيف ، والمحذوفة هي الثانية التي هي نون الوقاية على مختار أبي علي الفارسي. قال : لأنّ الأولى نون الإعراب وأمّا الثّانية فهي موطّئة لياء المتكلّم فيجوز حذفها تخفيفا ، كما قالوا : ليتي في ليتني. وذهب سيبويه أنّ المحذوفة هي الأولى لأنّ الثانية جلبت لتحمل الكسرة المناسبة للياء ونون الرفع لا تكون مكسورة ، وأيّا ما كان فهذا الحذف مستعمل لقصد التخفيف. وعن أبي عمرو بن العلاء : أنّ هذه القراءة لحن ، فإن صحّ ذلك عنه فهو مخطئ في زعمه ، أو أخطأ من عزاه إليه. وقرأه البقية ـ بتشديد النّون ـ لإدغام نون الرفع في نون الوقاية لقصد التخفيف أيضا ، ولذلك تمدّ الواو لتكون المدّة فاصلة بين التقاء الساكنين ، لأنّ المدّة خفّة وهذا الالتقاء هو الذي يدعونه التقاء الساكنين على حدّه.

وحذفت ياء المتكلّم في قوله (وَقَدْ هَدانِ) للتخفيف وصلا ووقفا في قراءة نافع من رواية قالون ، وفي الوقف فقط في قراءة بعض العشرة. وقد تقدّم في قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦].

وقوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) معطوف على (أَتُحاجُّونِّي) فتكون إخبارا ، أو على جملة (وَقَدْ هَدانِ) فتكون تأكيدا للإنكار. وتأكيد الإنكار بها أظهر منه لقوله (وَقَدْ هَدانِ) لأنّ عدم خوفه من آلهتهم قد ظهرت دلائله عليه. فقومه إمّا عالمون به أو منزّلون منزلة العالم ، كما تقدّم في قوله : (وَقَدْ هَدانِ) وهو يؤذن بأنّهم حاجّوه في التّوحيد وخوّفوه بطش آلهتهم ومسّهم إيّاه بسوء ، إذ لا مناسبة بين إنكار محاجّتهم إيّاه وبين نفي خوفه من آلهتهم ، ولا بين هدى الله إيّاه وبين نفي خوفه آلهتهم ، فتعيّن أنّهم خوّفوه مكر آلهتهم. ونظير ذلك ما حكاه الله عن قوم هود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤].

و (ما) من قوله : (ما تُشْرِكُونَ بِهِ) موصولة ما صدقها آلهتهم التي جعلوها شركاء لله في الإلهيّة. والضمير في قوله (بِهِ) يجوز أن يكون عائدا على اسم الجلالة فتكون الباء

١٨٤

لتعدية فعل (تُشْرِكُونَ) ، وأن يكون عائدا إلى (ما) الموصولة فتكون الباء سببية ، أي الأصنام التي بسببها أشركتم.

وقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) استثناء ممّا قبله وقد جعله ابن عطية استثناء منقطعا بمعنى لكن. وهو ظاهر كلام الطبري ، وهو الأظهر فإنّه لمّا نفى أن يكون يخاف إضرار آلهتهم وكان ذلك قد يتوهّم منه السّامعون أنّه لا يخاف شيئا استدرك عليه بما دلّ عليه الاستثناء المنقطع ، أي لكن أخاف مشيئة ربّي شيئا ممّا أخافه ، فذلك أخافه. وفي هذا الاستدراك زيادة نكاية لقومه إذ كان لا يخاف آلهتهم في حين أنّه يخشى ربّه المستحقّ للخشية إن كان قومه لا يعترفون بربّ غير آلهتهم على أحد الاحتمالين المتقدّمين.

وجعل الزمخشري ومتابعوه الاستثناء متّصلا مفرّغا عن مستثنى منه محذوف دلّ عليه الكلام ، فقدّره الزمخشري من أوقات ، أي لا أخاف ما تشركون به أبدا ، لأنّ الفعل المضارع المنفي يتعلّق بالمستقبل على وجه عموم الأزمنة لأنّه كالنّكرة المنفية ، أي إلّا وقت مشيئة ربّي شيئا أخافه من شركائكم ، أي بأن يسلّط ربّي بعضها عليّ فذلك من قدرة ربّي بواسطتها لا من قدرتها عليّ. وجوّز أبو البقاء أن يكون المستثنى منه أحوالا عامّة ، أي إلّا حال مشيئة ربّي شيئا أخافه منها.

وجملة : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) استئناف بياني لأنّه قد يختلج في نفوسهم : كيف يشاء ربّك شيئا تخافه وأنت تزعم أنّك قائم بمرضاته ومؤيد لدينه فما هذا إلّا شكّ في أمرك ، فلذلك فصلت ، أي إنّما لم آمن إرادة الله بي ضرّا وإن كنت عبده وناصر دينه لأنّه أعلم بحكمة إلحاق الضرّ. أو النفع بمن يشاء من عباده. وهذا مقام أدب مع الله تعالى (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩].

وجملة (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) معطوفة على جملة (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ). وقدّمت همزة الاستفهام على فاء العطف.

والاستفهام إنكار لعدم تذكرهم مع وضوح دلائل التذكّر. والمراد التذكّر في صفات آلهتهم المنافية لمقام الإلهية ، وفي صفات الإله الحقّ التي دلّت عليها مصنوعاته.

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١))

١٨٥

عطفت جملة (وَكَيْفَ أَخافُ) على جملة : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) [الأنعام : ٨٠] ليبيّن لهم أنّ عدم خوفه من آلهتهم أقلّ عجبا من عدم خوفهم من الله تعالى ، وهذا يؤذن بأنّ قومه كانوا يعرفون الله وأنّهم أشركوا معه في الإلهية غيره فلذلك احتجّ عليهم بأنّهم أشركوا بربّهم المعترف به دون أن ينزّل عليهم سلطانا بذلك.

و (كَيْفَ) استفهام إنكاري ، لأنّهم دعوه إلى أن يخاف بأس الآلهة فأنكر هو عليهم ذلك وقلب عليهم الحجّة ، فأنكر عليهم أنّهم لم يخافوا الله حين أشركوا به غيره بدون دليل نصبه لهم فجمعت (كيف) الإنكار على الأمرين.

قالوا وفي قوله : (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ) يجوز أن تكون عاطفة على جملة : (أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) فيدخل كلتاهما في حكم الإنكار ، فخوفه من آلهتهم منكر ، وعدم خوفهم من الله منكر.

ويجوز أن تكون الواو للحال فيكون محلّ الإنكار هو دعوتهم إيّاه إلى الخوف من آلهتهم في حال إعراضهم عن الخوف ممّن هو أعظم سلطانا وأشدّ بطشا ، فتفيد (كيف) مع الإنكار معنى التعجيب على نحو قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٤٤]. ولا يقتضي ذلك أنّ تخويفهم إيّاه من أصنامهم لا ينكر عليهم إلّا في حال إعراضهم عن الخوف من الله لأنّ المقصود على هذا إنكار تحميق ومقابلة حال بحال ، لا بيان ما هو منكر وما ليس بمنكر ، بقرينة قوله في آخره (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ). وهذا الوجه أبلغ.

و (ما أَشْرَكْتُمْ) موصولة والعائد محذوف ، أي ما أشركتم به. حذف لدلالة قوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) [الأنعام :] عليه ، والموصول في محلّ المفعول (به) ، ل (ما أَشْرَكْتُمْ).

وفي قوله : (أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ) حذفت (من) المتعلّقة ب (تَخافُونَ) لاطّراد حذف الجارّ مع (أنّ) ، أي من إشراككم ، ولم يقل : ولا تخافون الله ، لأنّ القوم كانوا يعرفون الله ويخافونه ولكنّهم لم يخافوا الإشراك به. و (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) موصول مع صلته مفعول (أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ).

ومعنى (لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ) لم يخبركم بإلهية الأصنام التي عبدتموها ولم يأمركم بعبادتها خبرا تعلمون أنّه من عنده فلذلك استعار لذلك الخبر التنزيل تشبيها لعظم قدره

١٨٦

بالرفعة ، ولبلوغه إلى من هم دون المخبر ، بنزول الشيء العالي إلى أسفل منه.

والسلطان : الحجّة لأنّها تتسلّط على نفس المخاصم ، أي لم يأتكم خبر منه تجعلونه حجّة على صحّة عبادتكم الأصنام.

والفاء في قوله : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) تفريع على الإنكار ، والتعجيب فرع عليهما استفهاما ملجئا إلى الاعتراف بأنّهم أولى بالخوف من الله من إبراهيم من آلهتهم. والاستفهام ب (فَأَيُ) للتقرير بأنّ فريقه هو وحده أحقّ بالأمن.

والفريق : الطائفة الكثيرة من النّاس المتميّزة عن غيرها بشيء يجمعها من نسب أو مكان أو غيرهما ، مشتقّ من فرق إذا ميّز. والفرقة أقلّ من الفريق ، وأراد بالفريقين هنا قومه ونفسه ، فأطلق على نفسه الفريق تغليبا ، أو أراد نفسه ومن تبعه إن كان له أتباع ساعتئذ ، قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت : ٢٦] ، أو أراد من سيوجد من أتباع ملّته ، كما يناسب قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام : ٨٢].

والتعريف في (الْأَمْنُ) للجنس ، وهو ضدّ الخوف ، وجملة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) مستأنفة ابتدائية ، وجواب شرطها محذوف دلّ عليه الاستفهام ، تقديره : فأجيبوني ، وفيه استحثاث على الجواب.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢))

هذه الجملة من حكاية كلام إبراهيم على ما ذهب إليه جمهور المفسّرين فيكون جوابا منه عن قوله : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) [الأنعام : ٨١]. تولّى جواب استفهامه بنفسه ولم ينتظر جوابهم لكون الجواب ممّا لا يسع المسئول إلّا أن يجيب بمثله ، وهو تبكيت لهم. قال ابن عبّاس : كما يسأل العالم ويجيب نفسه بنفسه ، أي بقوله : «فإن قلت قلت». وقد تقدّمت نظائره في هذه السورة.

وقيل : ليس ذلك من حكاية كلام إبراهيم ، وقد انتهى قول إبراهيم عند قوله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنعام : ٨١] بل هو كلام مستأنف من الله تعالى لابتداء حكم ، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا تصديقا لقول إبراهيم.

وقيل : هو حكاية لكلام صدر من قوم إبراهيم جوابا عن سؤال إبراهيم (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) [الأنعام : ٨١]. ولا يصحّ لأنّ الشأن في ذلك أن يقال : قال الذين

١٨٧

آمنوا إلخ ، ولأنّه لو كان من قول قومه لما استمرّ بهم الضلال والمكابرة إلى حدّ أن ألقوا إبراهيم في النّار.

وحذف متعلّق فعل (آمَنُوا) لظهوره من الكلام السابق. والتقدير : الذين آمنوا بالله.

وحقيقة (يَلْبِسُوا) يخلطوا ، وهو هنا مجاز في العمل بشيئين متشابهين في وقت واحد. شبّه بخلط الأجسام كما في قوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) [البقرة : ٤٢]. والظّلم : الاعتداء على حقّ صاحب حقّ ، والمراد به هنا إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية وفي العبادة ، قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] لأنّه أكبر الاعتداء ، إذ هو اعتداء على المستحقّ المطلق العظيم ، لأنّ من حقّه أن يفرد بالعبادة اعتقادا وعملا وقولا لأنّ ذلك حقّه على مخلوقاته. ففي الحديث «حقّ العباد على الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا». وقد ورد تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك. في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود «لمّا نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) شقّ ذلك على المسلمين وقالوا : أيّنا لم يظلم نفسه. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس كما تظنّون إنّما هو كما قال لقمان لابنه : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)» [لقمان : ١٣] ا ه. وذلك أنّ الشرك جمع بين الاعتراف لله بالإلهية والاعتراف لغيره بالربوبيّة أيضا. ولمّا كان الاعتراف لغيره ظلما كان إيمانهم بالله مخلوطا بظلم وهو إيمانهم بغيره ، وحمله على هذا المعنى هو الملائم لاستعارة اسم الخلط لهذا المعنى لأنّ الإيمان بالله وإشراك غيره في ذلك كلاهما من جنس واحد وهو اعتقاد الربوبيّة فهما متماثلان ، وذلك أظهر في وجه الشبه ، لأنّ شأن الأجسام المتماثلة أن يكون اختلاطها أشدّ فإنّ التّشابه أقوى أحوال التّشبيه عند أهل البيان. والمعنى الذين آمنوا بالله ولم يشركوا به غيره في العبادة.

وحمل الزمخشري الظلم على ما يشمل المعاصي ، لأنّ المعصية ظلم للنّفس كما في قوله تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦] تأويلا للآية على أصول الاعتزال لأنّ العاصي غير آمن من الخلود في النّار فهو مساو للكافر في ذلك عندهم ، مع أنّه جعل قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا) إلى آخره من كلام إبراهيم ، وهو إن كان محكيّا من كلام إبراهيم لا يصحّ تفسير الظلم منه بالمعصية إذ لم يكن إبراهيم حينئذ داعيا إلّا للتّوحيد ولم تكن له بعد شريعة ، وإن كان غير محكي من كلامه فلا يناسب تفسيره فيه بالمعصية ، لأنّ تعقيب كلام إبراهيم به مقصود منه تأييد قوله وتبيينه ، فالحقّ أنّ الآية غير محتاجة للتّأويل

١٨٨

على أصولهم نظرا لهذا الذي ذكرناه.

والإشارة بقوله : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) للتنبيه على أنّ المسند إليه جدير بالمسند من أجل ما تقدّم من أوصاف المسند إليه وهذا كقوله (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥]. وقوله (لَهُمُ الْأَمْنُ) أشارت اللّام إلى أنّ الأمن مختصّ بهم وثابت ، وهو أبلغ من أن يقال : آمنون. والمراد الأمن من عذاب الدنيا بالاستئصال ونحوه وما عذّبت به الأمم الجاحدة ، ومن عذاب الآخرة إذ لم يكن مطلوبا منهم حينئذ إلّا التّوحيد. والتّعريف في (الْأَمْنُ) تعريف الجنس ، وهو الأمن المتقدّم ذكره ، لأنّه جنس واحد ، وليس التّعريف تعريف العهد حتّى يجيء فيه قولهم : إنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة فالثّانية عين الأولى إذ لا يحتمل هنا غير ذلك.

وقوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) معطوف على قوله : (لَهُمُ الْأَمْنُ) عطف جزء جملة على الجملة التي هي في حكم المفرد ، فيكون (مُهْتَدُونَ) خبرا ثانيا عن اسم الإشارة عطف عليه بالواو على إحدى الطريقتين في الأخبار المتكرّرة.

والضمير للفصل ليفيد قصر المسند على المسند إليه ، أي الاهتداء مقصور على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم دون غيرهم ، أي أنّ غيرهم ليسوا بمهتدين ، على طريقة قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥٥] وقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة : ١٠٤]. وفيه إشارة إلى أنّ المخبر عنهم لمّا نبذوا الشّرك فقد اهتدوا.

ويجوز أن يكون قوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) جملة ، بأن يكون ضمير الجمع مبتدأ و (مُهْتَدُونَ) خبره ، والجملة معطوفة على جملة (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) ، فيكون خبرا ثانيا عن اسم الموصول ، ويكون ذكر ضمير الجمع لأجل حسن العطف لأنّه لمّا كان المعطوف عليه جملة اسميّة لم يحسن أن يعطف عليه مفرد في معنى الفعل ، إذ لا يحسن أن يقال : أولئك لهم الأمن ومهتدون ؛ فصيغ المعطوف في صورة الجملة. وحينئذ فالضمير لا يفيد اختصاصا إذ لم يؤت به للفصل ، وهذا النظم نظير قوله تعالى : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التغابن : ١] وقوله : تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحديد : ٢] على اعتبار (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عطفا على (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما بينهما حال ، وهذا من محسّنات الوصل كما عرف في البلاغة ، وهو من بدائع نظم الكلام العربي.

١٨٩

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣))

عطف على جملة (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) [الأنعام : ٨٠]. و (تِلْكَ) إشارة إلى جميع ما تكلّم به إبراهيم في محاجّة قومه ، وأتي باسم إشارة المؤنّث لأنّ المشار إليه حجّة فأخبر عنه بحجّة فلمّا لم يكن ثمّة مشار إليه محسوس تعيّن أن يعتبر في الإشارة لفظ الخبر لا غير ، كقوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [البقرة : ٢٥٣]. وإضافة الحجّة إلى اسم الجلالة للتّنويه بشأنها وصحّتها.

و (آتَيْناها) في موضع الحال من اسم الإشارة أو من الخبر. وحقيقة الإيتاء الإعطاء ، فحقّه أن يتعدّى إلى الذّوات ، ويكون بمناولة اليد إلى اليد. قال تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) [البقرة : ١٧٧] ، ولذلك يقال : اليد العليا هي المعطية واليد السّفلى هي المعطاة. ويستعمل مجازا شائعا في تعليم العلوم وإفادة الآداب الصالحة وتخويلها وتعيينها لأحد دون مناولة يد سواء كانت الأمور الممنوحة ذواتا أم معاني. يقال : آتاه الله مالا ، ويقال : آتاه الخليفة إمارة و (آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) [البقرة : ٢٥٨] ، (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) [ص : ٢٠]. فإيتاء الحجّة إلهامه إيّاها وإلقاء ما يعبّر عنها في نفسه. وهو فضل من الله على إبراهيم إذ نصره على مناظريه.

و (عَلى) للاستعلاء المجازي ، وهو تشبيه الغالب بالمستعلي المتمكّن من المغلوب ، وهي متعلّقة ب (حُجَّتُنا) خلافا لمن منعه. يقال : هذا حجّة عليك وشاهد عليك ، أي تلك حجّتنا على قومه أقحمناهم بها بواسطة إبراهيم ، ويجوز أن يتعلّق ب (آتَيْناها) لمّا يتضمّنه الإيتاء من معنى النصر.

وجملة : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) حال من ضمير الرفع في (آتَيْناها) أو مستأنفة لبيان أنّ مثل هذا الإيتاء تفضيل للمؤتى وتكرمة له. ورفع الدّرجات تمثيل لتفضيل الشأن ، شبّهت حالة المفضّل على غيره بحال المرتقي في سلّم إذا ارتفع من درجة إلى درجة ، وفي جميعها رفع ، وكلّ أجزاء هذا التمثيل صالح لاعتبار تفريق التّشبيه ، فالتّفضيل يشبه الرّفع ، والفضائل المتفاوتة تشبه الدّرجات ، ووجه الشّبه عزّة حصول ذلك لغالب النّاس.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، بإضافة (دَرَجاتٍ) إلى (مَنْ). فإضافة الدرجات إلى اسم الموصول باعتبار ملابسة المرتقي في الدرجة لها لأنّها

١٩٠

إنّما تضاف إليه إذا كان مرتقيا عليها ، والإتيان بصيغة الجمع في (دَرَجاتٍ) باعتبار صلاحيّة (مَنْ نَشاءُ) لأفراد كثيرين متفاوتين في الرفعة ، ودلّ فعل المشيئة على أنّ التفاضل بينهم بكثرة موجبات التّفضيل ، أو الجمع باعتبار أنّ المفضّل الواحد يتفاوت حاله في تزايد موجبات فضله. وقرأه البقية ـ بتنوين (دَرَجاتٍ) ـ ، فيكون تمييزا لنسبة الرفع باعتبار كون الرفع مجازا في التفضيل. والدرجات مجازا في الفضائل المتفاوتة.

ودلّ قوله (مَنْ نَشاءُ) على أنّ هذا التّكريم لا يكون لكلّ أحد لأنّه لو كان حاصلا لكلّ النّاس لم يحصل الرفع ولا التفضيل.

وجملة : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأنّ قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) يثير سؤالا ، يقول : لما ذا يرفع بعض النّاس دون بعض ، فأجيب بأنّ الله يعلم مستحقّ ذلك ومقدار استحقاقه ويخلق ذلك على حسب تعلّق علمه. فحكيم بمعنى محكم ، أي متقن للخلق والتّقدير. وقدم (حَكِيمٌ) على (عَلِيمٌ) لأنّ هذا التّفضيل مظهر للحكمة ثمّ عقّب ب (عَلِيمٌ) ليشير إلى أنّ ذلك الإحكام جار على وفق العلم.

[٨٤ ـ ٨٧] (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧))

جملة (وَوَهَبْنا) عطف على جملة (آتَيْناها) [الأنعام : ٨٣] لأنّ مضمونها تكرمة وتفضيل. وموقع هذه الجملة وإن كانت معطوفة هو موقع التذييل للجمل المقصود منها إبطال الشرك وإقامة الحجج على فساده وعلى أنّ الصالحين كلّهم كانوا على خلافه.

والوهب والهبة : إعطاء شيء بلا عوض ، وهو هنا مجاز في التّفضّل والتّيسير. ومعنى هبة يعقوب لإبراهيم أنّه ولد لابنه إسحاق في حياة إبراهيم وكبر وتزوّج في حياته فكان قرّة عين لإبراهيم.

وقد مضت ترجمة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عند قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) [البقرة : ١٢٤]. وترجمة إسحاق ، ويعقوب ، عند قوله تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ

١٩١

بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة : ١٣٢] وقوله : (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] كلّ ذلك في سورة البقرة.

وقوله : (كُلًّا هَدَيْنا) اعتراض ، أي كلّ هؤلاء هديناهم يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فحذف المضاف إليه لظهوره وعوض عنه التّنوين في «كلّ» تنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المختار.

وفائدة ذكر هديهما التّنويه بإسحاق ويعقوب ، وأنّهما نبيان نالا هدى الله كهديه إبراهيم ، وفيه أيضا إبطال للشرك ، ودمغ ، لقريش ومشركي العرب ، وتسفيه لهم بإثبات أنّ الصالحين المشهورين كانوا على ضدّ معتقدهم كما سيصرّح به في قوله : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٨٨].

وجملة : (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) عطف على الاعتراض ، أي وهدينا نوحا من قبلهم. وهذا استطراد بذكر بعض من أنعم الله عليهم بالهدى ، وإشارة إلى أنّ الهدى هو الأصل ، ومن أعظم الهدى التّوحيد كما علمت. وانتصب (نُوحاً) على أنّه مفعول مقدّم على (هَدَيْنا) للاهتمام ، و (مِنْ قَبْلُ) حال من (نُوحاً). وفائدة ذكر هذا الحال التّنبيه على أنّ الهداية متأصّلة في أصول إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وبني (قَبْلُ) على الضمّ ، على ما هو المعروف في (قبل) وأخوات غير من حذف ما يضاف إليه قبل وينوى معناه دون لفظه. وتقدمت ترجمة نوح عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) في سورة آل عمران [٣٣].

وقوله : (مِنْ ذُرِّيَّتِهِ) حال من داود ، و (داوُدَ) مفعول (هدينا) محذوفا. وفائدة هذا الحال التّنويه بهؤلاء المعدودين بشرف أصلهم وبأصل فضلهم ، والتّنويه بإبراهيم أو بنوح بفضائل ذرّيّته. والضمير المضاف إليه عائد إلى نوح لا إلى إبراهيم لأنّ نوحا أقرب مذكور ، ولأنّ لوطا من ذرّية نوح ، وليس من ذرية إبراهيم حسبما جاء في كتاب التّوراة. ويجوز أن يكون لوط عومل معاملة ذرّيّة إبراهيم لشدّة اتّصاله به. كما يجوز أن يجعل ذكر اسمه بعد انتهاء أسماء من هم من ذرّيّة إبراهيم منصوبا على المدح بتقدير فعل لا على العطف.

وداود تقدّم شيء من ترجمته عند قوله تعالى : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) في سورة البقرة [٢٥١]. ونكمّلها هنا بأنّه داود بن يسيّ من سبط يهوذا من بني إسرائيل. ولد بقرية بيت لحم سنة ١٠٨٥ قبل المسيح ، وتوفّي في أورشليم سنة ١٠١٥. وكان في شبابه راعيا لغنم

١٩٢

أبيه. وله معرفة النغم والعزف والرمي بالمقلاع. فأوحى الله إلى (شمويل) نبيء بني إسرائيل أن يبارك داود بن يسيّ ، ويمسحه بالزيت المقدّس ليكون ملكا على بني إسرائيل ، على حسب تقاليد بني إسرائيل إنباء بأنّه سيصير ملكا على إسرائيل بعد موت (شاول) الذي غضب الله عليه. فلمّا مسحه (شمويل) في قرية بيت لحم دون أن يعلم أحد خطر لشاول ، وكان مريضا ، أن يتّخذ من يضرب له بالعود عند ما يعتاده المرض ، فصادف أن اختاروا له داود فألحقه بأهل مجلسه ليسمع أنغامه. ولما حارب جند (شاول) الكنعانيين كما تقدّم في سورة البقرة ، كان النصر للإسرائيليين بسبب داود إذ رمى البطل الفلسطيني (جالوت) بمقلاعه بين عينيه فصرعه وقطع رأسه ، فلذلك صاهره (شاول) بابنته (ميكال) ، ثم أن (شاول) تغيّر على داود ، فخرج داود إلى بلاد الفلسطينيين وجمع جماعة تحت قيادته ، ولما قتل (شاول) سنة ١٠٥٥ بايعت طائفة من الجند الإسرائيلي في فلسطين داود ملكا عليهم. وجعل مقرّ ملكه (حبرون) ، وبعد سبع سنين قتل ملك إسرائيل الذي خلف شاول فبايعت الإسرائيليون كلّهم داود ملكا عليهم ، ورجع إلى أورشليم ، وآتاه الله النّبوءة وأمره بكتابة الزبور المسمّى عند اليهود بالمزامير.

وسليمان تقدّمت ترجمته عند قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) في سورة البقرة [١٠٢].

وأيّوب نبيء أثبت القرآن نبوءته. وله قصّة مفصّلة في الكتاب المعروف بكتاب أيّوب ، من جملة كتب اليهود. ويظنّ بعض المؤرّخين أنّ أيّوب من ذرّيّة (ناحور) أخي إبراهيم. وبعضهم ظنّ أنّه ابن حفيد عيسو بن إسحاق بن إبراهيم ، وفي كتابه أنّ أيّوب كان ساكنا بأرض عوص (وهي أرض حوران بالشّام ، وهي منازل بني عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وهم أصول عاد) وكانت مجاورة لحدود بلاد الكلدان ، وقد ورد ذكر الكلدان في كتاب أيّوب وبعض المحقّقين يظنّ أنّه من صنف عربي وأنّه من عوص ، كما يدلّ عليه عدم التّعرض لنسبته في كتابه ، والاقتصار على أنّه كان بأرض عوص (الذين هم من العرب العاربة). وزعموا أنّ كلامه المسطور في كتابه كان بلغة عربيّة ، وأنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ نقله إلى العبرانيّة. وبعضهم يظنّ أنّ الكلام المنسوب إليه كان شعرا ترجمه موسى في كتابه وأنّه أوّل شعر عرف باللّغة العربيّة الأصليّة. وبعضهم يقول : هو أوّل شعر عرفه التّاريخ ، ذلك لأنّ كلامه وكلام أصحابه الثّلاثة الّذين عزّوه على مصائبه جار على طريقة شعريّة لا محالة.

١٩٣

ويوسف هو ابن يعقوب ويأتي تفصيل ترجمته في سورة يوسف.

وموسى وهارون وزكرياء تقدّمت تراجمهم في سورة البقرة.

وترجمة عيسى تقدّمت في سورة البقرة وفي سورة آل عمران.

ويحيى تقدّمت ترجمته في آل عمران.

وقوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) اعتراض بين المتعاطفات ، والواو للحال ، أي وكذلك الوهب الّذي وهبنا لإبراهيم والهدي الّذي هدينا ذرّيّته نجزي المحسنين مثله ، أو وكذلك الهدي الّذي هدينا ذرّيّة نوح نجزي المحسنين مثل نوح ، فعلم أنّ نوحا أو إبراهيم من المحسنين بطريق الكناية ، فأمّا إحسان نوح فيكون مستفادا من هذا الاعتراض ، وأمّا إحسان إبراهيم فهو مستفاد ممّا أخبر الله به عنه من دعوته قومه وبذله كلّ الوسع لإقلاعهم عن ضلالهم.

ويجوز أن تكون الإشارة هنا إلى الهدي المأخوذ من قوله : (هَدَيْنا) الأول والثّاني ، أي وكذلك الهدي العظيم نجزي المحسنين ، أي بمثله ، فيكون المراد بالمحسنين أولئك المهديّين من ذرّيّة نوح أو من ذرّيّة إبراهيم. فالمعنى أنّهم أحسنوا فكان جزاء إحسانهم أن جعلناهم أنبياء.

وأمّا إلياس فهو المعروف في كتب الإسرائيليّين باسم إيليا ، ويسمّى في بلاد العرب باسم إلياس أو (مار إلياس) وهو إلياس التشبي (١). وذكر المفسّرون أنّه إلياس بن فنحاص بن إلعازر ، ابن هارون أخي موسى فيكون من سبط لاوي. كان موجودا في زمن الملك (آخاب) ملك إسرائيل في حدود سنة ثمان عشرة وتسعمائة قبل المسيح. وهو إسرائيلي من سكان (جلعاد) ـ بكسر الجيم وسكون اللّام ـ صقع جبلي في شرق الأردن ومنه بعلبك. وكان إلياس من سبط روبين أو من سبط جاد. وهذان السّبطان هما سكّان صقع جلعاد ، ويقال لإلياس في كتب اليهود التشبي ، وقد أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل لمّا عبدوا الأوثان في زمن الملك (آخاب) وعبدوا (بعل) صنم الكنعانيّين. وقد وعظهم إلياس وله أخبار معهم. أمره الله أن يجعل اليسع خليفة له في النّبوءة ، ثمّ رفع الله إلياس في عاصفة إلى السّماء فلم ير له أثر بعد ، وخلفه اليسع في النّبوءة في زمن الملك

__________________

(١) نسبة إلى تشبي مدينة الأرض التي أعطيت لسبط نفتالي كما في سفر العدد.

١٩٤

(تهورام) بن (آخاب) ملك إسرائيل.

وقوله : (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) اعتراض. والتّنوين في كلّ عوض عن المضاف إليه ، أي كلّ هؤلاء المعدودين وهو يشمل جميع المذكورين إسحاق ومن بعده.

وأمّا إسماعيل فقد تقدّمت ترجمته في سورة البقرة.

واليسع اسمه بالعبرانيّة اليشع ـ بهمزة قطع مكسورة ولام بعدها تحتيّة ثمّ شين معجمة وعين ـ وتعريبه في العربيّة اليسع ـ بهزة وصل ولام ساكنة في أوّله بعدها تحتيّة مفتوحة ـ في قراءة الجمهور.

وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف «اللّيسع» ـ بهمزة وصل وفتح اللّام مشدّدة بعدها تحتيّة ساكنة ـ بوزن ضيغم ، فهما لغتان فيه. وهو ابن (شافاط) من أهل (آبل محولة). كان فلّاحا فاصطفاه الله للنّبوءة على يد الرّسول إلياس في مدّة (آخاب) وصحب إلياس. ولمّا رفع إلياس لازم سيرة إلياس وظهرت له معجزات لبني إسرائيل في (أريحا) وغيرها. وتوفّي في مدّة الملك (يوءاش) ملك إسرائيل وكانت وفاته سنة أربعين وثمانمائة ٨٤٠ قبل المسيح ودفن بالسّامرة. والألف واللّام في اليسع من أصل الكلمة ، ولكن الهمزة عوملت معاملة همزة الوصل للتّخفيف فأشبه الاسم الّذي تدخل عليه اللّام الّتي للمح الأصل مثل العبّاس ، وما هي منها.

وأمّا يونس فهو ابن متّى ، واسمه في العبرانيّة (يونان بن أمتّاي) ، وهو من سبط (زبولون). ويجوز في نونه في العربيّة الضمّ والفتح والكسر. ولد في بلدة (غاث ايفر) من فلسطين ، أرسله الله إلى أهل (نينوى) من بلاد أشور. وكان أهلها يومئذ خليطا من الأشوريين واليهود الّذين في أسر الأشوريّين ، ولمّا دعاهم إلى الإيمان فأبوا توعّدهم بعذاب فتأخّر العذاب فخرج مغاضبا وذهب إلى (يافا) فركب سفينة للفنيقيّين لتذهب به إلى ترشيش (مدينة غربي فلسطين إلى غربي صور وهي على البحر ولعلّها من مراسي الوجه البحري من مصر أو من مراسي برقة لأنّه وصف في كتب اليهود أنّ سليمان كان يجلب إليه الذهب والفضّة والقرود والطواويس من ترشيش ، فتعيّن أن تكون لترشيش تجارة مع الحبشة أو السّودان ، ومنها تصدر هذه المحصولات. وقيل هي طرطوشة من مراسي الأندلس. وقيل (قرطاجنّة) مرسى إفريقيّة قرب تونس. وقد قيل في تواريخنا أنّ تونس كان اسمها قبل الفتح الإسلامي ترشيش. وهذا قريب لأنّ تجارتها مع السّودان قد تكون أقرب) فهال البحر على السّفينة وثقلت وخيف غرقها ، فاقترعوا فكان يونس ممّن خاب في القرعة فرمي

١٩٥

في البحر والتقمه حوت عظيم فنادى في جوفه : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] ، فاستجاب الله له ، وقذفه الحوت على الشاطئ. وأرسله الله ثانيا إلى أهل نينوى وآمنوا وكانوا يزيدون على مائة ألف. وكانت مدّته في أوّل القرن الثامن قبل الميلاد. ولم نقف على ضبط وفاته. وذكر ابن العربي في «الأحكام» في سورة الصافات أنّ قبره بقرية جلجون بين القدس وبلد الخليل ، وأنّه وقف عليه في رحلته. وستأتي أخبار يونس في سورة يونس وسورة الأنبياء وسورة الصافات.

وأمّا لوط فهو ابن هاران بن تارح ، فهو ابن أخي إبراهيم. ولد في (أور الكلدانيين). ومات أبوه قبل تارح ، فاتّخذ تارح لوطا في كفالته. ولمّا مات تارح كان لوط مع إبراهيم ساكنين في أرض حاران (حوران) بعد أن خرج تارح أبو إبراهيم من أور الكلدانيّين قاصدين أرض كنعان. وهاجر إبراهيم مع لوط إلى مصر لقحط أصاب بلاد كنعان ، ثمّ رجعا إلى بلاد كنعان ، وافترق إبراهيم ولوط بسبب خصام وقع بين رعاتهما ، فارتحل لوط إلى (سدوم) ، وهي من شرق الأردن إلى أن أوحي إليه بالخروج منها حين قدّر الله خسفها عقابا لأهلها فخرج إلى (صوغر) مع ابنته ونسله هناك ، وهم (المؤابيون) و (بنو عمون).

وقوله : (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) جملة معترضة ، والواو اعتراضيّة ، والتّنوين عوض عن المضاف إليه ، أي كلّ أولئك المذكورين من إسحاق إلى هنا. و (كلّ) يقتضي استغراق ما أضيف إليه. وحكم الاستغراق أن يثبت الحكم لكلّ فرد فرد لا للمجموع. والمراد تفضيل كلّ واحد منهم على العالمين من أهل عصره عدا من كان أفضل منه أو مساويا له ، فاللّام في (الْعالَمِينَ) للاستغراق العرفي ، فقد كان لوط في عصر إبراهيم وإبراهيم أفضل منه. وكان من غيرهما من كانوا في عصر واحد ولا يعرف فضل أحدهم على الآخر. وقال عبد الجبّار : يمكن أن يقال : المراد وكلّ من الأنبياء يفضّلون على كلّ من سواهم من العالمين. ثمّ الكلام بعد ذلك في أنّ أي الأنبياء أفضل من الآخر كلام في غرض آخر لا تعلّق له بالأوّل ا ه. ولا يستقيم لأنّ مقتضى حكم الاستغراق الحكم على كلّ فرد فرد.

وتتعلّق بهذه الآية مسألة مهمّة من مسائل أصول الدّين. وهي ثبوت نبوءة الّذين جرى ذكر أسمائهم فيها ، وما يترتّب على ثبوت ذلك من أحكام في الإيمان وحقّ النّبوءة. وقد أعرض عن ذكرها المفسّرون وكان ينبغي التّعرّض لها لأنّها تتفرّع إلى مسائل تهمّ طالب

١٩٦

العلوم الإسلاميّة معرفتها ، وأحقّ مظنّة بذكرها هو هذه الآية وما هو بمعنى بعضها. فأمّا ثبوت نبوءة الّذين ذكرت أسماؤهم فيها فلأنّ الله تعالى قال بعد أن عدّ أسماءهم (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) والنبوءة. فثبوت النّبوءة لهم أمر متقرّر لأنّ اسم إشارة (أُولئِكَ) قريب من النصّ في عوده إلى جميع المسمّين قبله مع ما يعضّده ويكمّله من النصّ بنبوة بعضهم في آيات تماثل هذه الآية ، مثل آية سورة النّساء [١٦٣] (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الآيات ، ومثل الآيات من سورة مريم [٤١] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) الآيات.

وللنّبوءة أحكام كثيرة تتعلّق بموصوفها وبمعاملة المسلمين لمن يتّصف بها. منها معنى النّبيء والرّسول ، ومعنى المعجزة الّتي هي دليل تحقّق النّبوءة أو الرّسالة لمن أتى بها ، وما يترتّب على ذلك من وجوب الإيمان بما يبلّغه عن الله تعالى من شرع وآداب ، ومسائل كثيرة من ذلك مبسوطة في علم الكلام فليرجع إليها. إنّما الّذي يهمّنا من ذلك في هذا التّفسير هو ما أومأ به قوله تعالى في آخرها (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [الأنعام : ٨٩]. فمن علم هذه الآيات في هذه السّورة وكان عالما بمعناها وجب عليه الإيمان بنبوة من جرت أسماؤهم فيها.

وقد ذكر علماؤنا أنّ الإيمان بأنّ الله أرسل رسلا ونبّأ أنبياء لإرشاد النّاس واجب على الجملة ، أي إيمانا بإرسال أفراد غير معيّنين ، أو بنبوة أفراد غير معيّنين دون تعيين شخص معيّن باسمه ولا غير ذلك ممّا يميّزه عن غيره إلّا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الشيخ أبو محمّد بن أبي زيد في «الرسالة» «الباعث (صفة لله تعالى) الرسل إليهم لإقامة الحجّة عليهم». فإرسال الرسل جائز في حقّ الله غير واجب ، وهو واقع على الإجمال دون تعيين شخص معيّن. وقد ذكر صاحب» المقاصد» أنّ إرسال الرّسل محتاج إليه ، وهو لطف من الله بخلقه وليس واجبا عليه. وقالت المعتزلة وجمع من المتكلمين (أي من أهل السنّة) ممّا وراء النّهر بوجوب إرسال الرّسل عليه تعالى.

ولم يذكر أحد من أئمّتنا وجوب الإيمان بنبي معيّن غير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا إلى الخلق كافّة. قال أبو محمّد بن أبي زيد : «ثمّ ختم ـ أي الله ـ الرّسالة والنّذارة والنّبوءة بمحمّد نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلخ» ، لأنّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الحديث الّذي رواه عمر بن الخطّاب من سؤال جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان فقال : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» إلخ. فلم يعيّن رسلا مخصوصين. وقال في جواب سؤاله عن الإسلام «الإسلام أن تشهد أنّ لا إله

١٩٧

إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله».

فمن علم هذه الآيات وفهم معناها وجب عليه الاعتقاد بنبوة المذكورين فيها. ولعلّ كثيرا لا يقرءونها وكثيرا ممّن يقرءونها لا يفهمون مدلولاتها حقّ الفهم فلا يطالبون بتطلّب فهمها واعتقاد ما دلّت عليه إذ ليس ذلك من أصول الإيمان والإسلام ولكنّه من التّفقّه في الدّين.

قال القاضي عياض في فصل (سابع) من فصول الباب الثّالث من القسم الرّابع من كتاب «الشّفاء» «وهذا كلّه (أي ما ذكره من إلزام الكفر أو الجرم الموجب للعقوبة لمن جاء في حقّهم بما ينافي ما يجب لهم) فيمن تكلّم فيهم (أي الأنبياء أو الملائكة) بما قلناه على جملة الملائكة والنّبيئين (أي على مجموعهم لا على جميعهم ـ قاله الخفاجي ـ يريد بالجميع كلّ فرد فرد) ممّن حقّقنا كونه منهم ممّن نصّ الله عليه في كتابه أو حقّقنا علمه بالخبر المتواتر والإجماع القاطع والخبر المشتهر المتّفق عليه (الواو في هذا التّقسيم بمعنى أو). فأمّا من لم يثبت الإخبار بتعيينه ولا وقع الإجماع على كونه من الأنبياء كالخضر ، ولقمان ، وذي القرنين ، ومريم ، وآسية (امرأة فرعون) وخالد بن سنان المذكور أنّه نبيء أهل الرسّ ، فليس الحكم في سابّهم والكافر بهم كالحكم فيما قدّمناه» ا ه.

فإذا علمت هذا علمت أنّ ما وقع في أبيات ثلاثة نظمها البعض ، (ذكرها الشّيخ إبراهيم البيجوري في مبحث الإيمان من شرحه على «جوهرة التّوحيد» :

حتم على كلّ ذي التكليف معرفة

بأنبياء على التفصيل قد علموا

في «تلك حجّتنا» (١) منهم ثمانية

من بعد عشر ويبقى سبعة وهم

إدريس. هود. شعيب ، صالح وكذا

ذو الكفل ، آدم ، بالمختار قد ختموا

لا يستقيم إلّا بتكلّف ، لأنّ كون معرفة ذلك حتما يقتضي ظاهره الاصطلاحيّ أنّه واجب ، وهذا لا قائل به فإن أراد بالحتم الأمر الّذي لا ينبغي إهماله كان متأكّدا لقوله : على كلّ ذي التّكليف. فلو عوّضه بكلّ ذي التّعليم. ولعلّه أراد بالحتم أنّه يتحتّم على من علم ذلك عدم إنكار كون هؤلاء أنبياء بالتّعيين ، ولكن شاء بين وجوب معرفة شيء وبين منع إنكاره بعد أن يعرف.

__________________

(١) أراد الآية وَتِلْكَ حُجَّتُنا وهي بواو العطف فلو قال : وتلك حجتنا عدّت ثمانية منهم وعشرا إلخ.

١٩٨

فأمّا رسالة هود وصالح وشعيب فقد تكرّر ذكرها في آيات كثيرة.

وأمّا معرفة نبوءة ذي الكفل ففيها نظر إذ لم يصرّح في سورة الأنبياء بأكثر من كونه من الصّابرين والصّالحين. واختلف المفسّرون في عدّه من الأنبياء ، ونسب إلى الجمهور القول بأنّه نبيء. وعن أبي موسى الأشعري ومجاهد : أنّ ذا الكفل لم يكن نبيئا. وسيأتي ذكر ذلك في سورة الأنبياء.

وأمّا آدم فإنّه نبيء منذ كونه في الجنّة فقد كلّمه الله غير مرّة. وقال (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [طه : ١٢٢] فهو قد أهبط إلى الأرض مشرّفا بصفة النّبوءة. وقصّة ابني آدم في سورة المائدة دالّة على أنّ آدم بلّغ لأبنائه شرعا لقوله تعالى فيها (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) [المائدة : ٢٧ ـ ٢٩].

فالّذي نعتمده أنّ الّذي ينكر نبوءة معيّن ممّن سمّي في القرآن في عداد الأنبياء في سورة النّساء وسورة هود وسورة الأنعام وسورة مريم ، وكان المنكر محقّقا علمه بالآية الّتي وصف فيها بأنّه نبيء ووقف على دليل صحّة ما أنكره وروجع فصمّم على إنكاره ، إنّ ذلك الإنكار يكون كفرا لأنّه أنكر معلوما بالضّرورة بعد التّنبيه عليه لئلّا يعتذر بجهل أو تأويل مقبول.

واعلم أنّي تطلّبت كشف القناع عن وجه الاقتصار على تسمية هؤلاء الأنبياء من بين سائر الأنبياء من ذرّيّة إبراهيم أو ذرّيّة نوح ، (على الوجهين في معاد ضمير (ذُرِّيَّتِهِ)). فلم يتّضح لي وتطلّبت وجه ترتيب أسمائهم هذا التّرتيب ، وموالاة بعض هذه الأسماء لبعض في العطف فلم يبد لي ، وغالب ظنّي أنّ من هذه الوجوه كون هؤلاء معروفون لأهل الكتاب وللمشركين الّذين يقتبسون معرفة الأنبياء من أهل الكتاب ، وأنّ المناسبة في ترتيبهم لا تخلو من أن تكون ناشئة عن الابتداء بذكر أنّ إسحاق ويعقوب موهبة لإبراهيم وهما أب وابنه ، فنشأ الانتقال من واحد إلى آخر بمناسبة للانتقال ، وأنّ توزيع أسمائهم على فواصل ثلاث لا يخلو عن مناسبة تجمع بين أصحاب تلك الأسماء في الفاصلة الشّاملة لأسمائهم. ويجوز أنّ خفّة أسماء هؤلاء في تعريبها إلى العربيّة حروفا ووزنا لها أثر في إيثارها بالذّكر دون غيرها من الأسماء نحو (شمعون وشمويل وحزقيال ونحميا) ، وأنّ المعدودين في هذه الآيات الثّلاث توزّعوا الفضائل إذ منهم الرّسل والأنبياء والملوك وأهل

١٩٩

الأخلاق الجليلة العزيزة من الصّبر وجهاد النّفس والجهاد في سبيل الله والمصابرة لتبليغ التّوحيد والشّريعة ومكارم الأخلاق ، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في آخر الآيات (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) والنبوءة [الأعراف : ٨٩] ومن بينهم أصلا الأمّتين العربيّة والإسرائيليّة.

فلمّا ذكر إسحاق ويعقوب أردف ذكرهما بذكر نبيئين من ذرّيّة إسحاق ويعقوب ، وهما أب وابنه من الأنبياء هما داود وسليمان مبتدأ بهما على بقيّة ذرّيّة إسحاق ويعقوب ، لأنّهما نالا مجدين عظيمين مجد الآخرة بالنّبوءة ومجد الدنيا بالملك. ثمّ أردف بذكر نبيئين تماثلا في أنّ الضرّ أصاب كليهما وأنّ انفراج الكرب عنهما بصبرهما. وهما أيّوب ويوسف. ثمّ بذكر رسولين أخوين هما موسى وهارون ، وقد أصاب موسى مثل ما أصاب يوسف من الكيد له لقتله ومن نجاته من ذلك وكفالته في بيت الملك ، فهؤلاء الستّة شملتهم الفاصلة الأولى المنتهية بقوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

ثمّ بذكر نبيئين أب وابنه وهما زكرياء ويحيى. فناسب أن يذكر بعدهما رسولان لا ذرّيّة لهما ، وهما عيسى وإلياس ، وهما متماثلان في أنّهما رفعا إلى السّماء. فأمّا عيسى فرفعه مذكور في القرآن ، وأمّا إلياس فرفعه مذكور في كتب الإسرائيليين ولم يذكره المفسّرون من السلف. وقد قيل : إنّ إلياس هو إدريس وعليه فرفعه مذكور في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) نبيئا (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) في سورة مريم [٥٦ ، ٥٧]. وابتدئ بعيسى عطفا على يحيى لأنّهما قريبان ابنا خالة ، ولأنّ عيسى رسول وإلياس نبيء غير رسول. وهؤلاء الأربعة تضمّنتهم الفاصلة الثّانية المنتهية بقوله تعالى : (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ). وعطف اليسع لأنّه خليفة إلياس وتلميذه ، وأدمج بينه وبين إلياس إسماعيل تنهية بذكر النّبيء الّذي إليه ينتهي نسب العرب من ذرّيّة إبراهيم. وختموا بيونس ولوط لأنّ كلا منهما أرسل إلى أمّة صغيرة. وهؤلاء الأربعة تضمّنتهم الفاصلة الثّالثة المنتهية بقوله : (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ).

وقوله : (وَمِنْ آبائِهِمْ) عطف على قوله : (كلًّا). فالتّقدير : وهدينا من آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم. وجعل صاحب «الكشاف» (من) اسما بمعنى بعض ، أي وهدينا بعض آبائهم على طريقته في قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ) [النساء : ٤٦]. وقدّر ابن عطيّة ومن تبعه المعطوف محذوفا تقديره : ومن آبائهم جمعا كثيرا أو مهديين كثيرين ، فتكون (من) تبعيضية متعلّقة بهدينا.

٢٠٠