تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

ورويس عن يعقوب ـ بتشديدها ـ للمبالغة في الفتح بكثرته كما أفاده قوله (أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ).

ولفظ (كلّ) هنا مستعمل في معنى الكثرة ، كما في قول النابغة :

بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي

إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد

أو استعمل في معناه الحقيقي ؛ على أنّه عامّ مخصوص ، أي أبواب كل شيء يبتغونه ، وقد علم أنّ المراد بكلّ شيء جميع الأشياء من الخير خاصّة بقرينة قوله : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا) وبقرينة مقابلة هذا بقوله : (أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [الأعراف : ٧٩] ، فهنالك وصف مقدّر ، أي كلّ شيء صالح ، كقوله تعالى : (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩] أي صالحة.

و (حَتَّى) في قوله : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا) ابتدائية. ومعنى الفرح هنا هو الازدهاء والبطر بالنعمة ونسيان المنعم ، كما في قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص : ٧٦]. قال الراغب : ولم يرخّص في الفرح إلّا في قوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨]. و (إذا) ظرف زمان للماضي.

ومراد الله تعالى من هذا هو الإمهال لهم لعلّهم يتذكّرون الله ويوحّدونه فتطهر نفوسهم ، فابتلاهم الله بالضرّ والخير ليستقصي لهم سببي التذكّر والخوف ، لأنّ من النفوس نفوسا تقودها الشدّة ونفوسا يقودها اللين.

ومعنى الأخذ هنا الإهلاك. ولذلك لم يذكر له متعلّق كما ذكر في قوله آنفا (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) للدلالة على أنّه أخذ لا هوادة فيه.

والبغتة فعلة من البغت وهو الفجأة ، أي حصول الشيء على غير ترقّب عند من حصل له وهي تستلزم الخفاء. فلذلك قوبلت بالجهرة في الآية الآتية. وهنا يصحّ أن يكون مؤوّلا باسم الفاعل منصوبا على الحال من الضمير المرفوع ، أي مباغتين لهم ، أو مؤوّلا باسم المفعول على أنّه حال من الضمير المنصوب ، أي مبغوتين ، (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) [هود : ١٠٢].

وقوله : (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (إذا) فجائية. وهي ظرف مكان عند سيبويه ، وحرف عند نحاة الكوفة.

والمبلسون اليائسون من الخير المتحيّرون ، وهو من الإبلاس ، وهو الوجوم

١٠١

والسكوت عند طلب العفو يأسا من الاستجابة.

وجملة (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ) معطوفة على جملة (أَخَذْناهُمْ) ، أي فأخذناهم أخذ الاستئصال. فلم يبق فيهم أحدا.

والدابر اسم فاعل من دبره من باب كتب ، إذا مشى من ورائه. والمصدر الدبور ـ بضم الدال ـ ، ودابر الناس آخرهم ، وذلك مشتقّ من الدبر ، وهو الوراء ، قال تعالى : (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) [الحجر : ٦٥]. وقطع الدابر كناية عن ذهاب الجميع لأنّ المستأصل يبدأ بما يليه ويذهب يستأصل إلى أن يبلغ آخره وهو دابره ، وهذا ممّا جرى مجرى المثل ، وقد تكرّر في القرآن ، كقوله : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر : ٦٦].

والمراد بالذين ظلموا المشركون ، فإنّ الشرك أعظم الظلم ، لأنّه اعتداء على حقّ الله تعالى على عباده في أن يعترفوا له بالربوبية وحده ، وأنّ الشرك يستتبع مظالم عدّة لأنّ أصحاب الشرك لا يؤمنون بشرع يزع الناس عن الظلم.

وجملة : (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) يجوز أن تكون معطوفة على جملة : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) بما اتّصل بها. عطف غرض على غرض. ويجوز أن تكون اعتراضا تذييليا فتكون الواو اعتراضية. وأيّا ما كان موقعها ففي المراد منها اعتبارات ثلاثة :

أحدها : أن تكون تلقينا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين أن يحمدوا الله على نصره رسله وأولياءهم وإهلاك الظالمين ، لأنّ ذلك النصر نعمة بإزالة فساد كان في الأرض ، ولأنّ في تذكير الله الناس به إيماء إلى ترقّب الإسوة بما حصل لمن قبلهم أن يترقّبوا نصر الله كما نصر المؤمنين من قبلهم ؛ فيكون (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مصدرا بدلا من فعله ، عدل عن نصبه وتنكيره إلى رفعه وتعريفه للدلالة على معنى الدوام والثبات ، كما تقدّم في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في سورة الفاتحة [٢].

ثانيها : أن يكون (الْحَمْدُ لِلَّهِ) كناية عن كون ما ذكر قبله نعمة من نعم الله تعالى لأنّ من لوازم الحمد أن يكون على نعمة ، فكأنّه قيل : فقطع دابر القوم الذين ظلموا. وتلك نعمة من نعم الله تقتضي حمده.

ثالثها : أن يكون إنشاء حمد لله تعالى من قبل جلاله مستعملا في التعجيب من معاملة الله تعالى إيّاهم وتدريجهم في درجات الإمهال إلى أن حقّ عليهم العذاب.

١٠٢

ويجوز أن يكون إنشاء الله تعالى ثناء على نفسه ، تعريضا بالامتنان على الرسول والمسلمين.

واللام في (الْحَمْدُ) للجنس ، أي وجنس الحمد كلّه الذي منه الحمد على نعمة إهلاك الظالمين.

وفي ذلك كلّه تنبيه على أنّه يحقّ الحمد لله عند هلاك الظلمة ، لأنّ هلاكهم صلاح للناس ، والصلاح أعظم النعم ، وشكر النعمة واجب. وهذا الحمد شكر لأنّه مقابل نعمة. وإنّما كان هلاكهم صلاحا لأنّ الظلم تغيير للحقوق وإبطال للعمل بالشريعة ، فإذا تغير الحقّ والصلاح جاء الدمار والفوضى وافتتن الناس في حياتهم فإذا هلك الظالمون عاد العدل ، وهو ميزان قوام العالم.

أخرج أحمد بن حنبل عن عقبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبّ فإنّما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦))

استئناف ابتدائي عاد به إلى الجدال معهم في إشراكهم بالله تعالى بعد أن انصرف الكلام عنه بخصوصه من قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) [الأنعام : ١٩] وما تفنّن عقب ذلك من إثبات البعث وإثبات صدق الرسول وذكر القوارع والوعيد إلى قوله : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) [الأنعام : ٤٠] الآيات. وتكرير الأمر بالقول للوجه الذي تقدّم آنفا عند قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) [الأنعام : ٤٠] الآية.

والرؤية قلبية متعدّية إلى مفعولين ، وليس هذا من قبيل الاستعمال المتقدّم آنفا في قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) [الأنعام : ٤٠] الآية.

واختلاف القرّاء في (أَرَأَيْتُمْ) كاختلافهم في مثله من قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) [الأنعام : ٤٠] الآية.

١٠٣

والأخذ : انتزاع الشيء وتناوله من مقرّه ، وهو هنا مجاز في السلب والإعدام ، لأنّ السلب من لوازم الأخذ بالنسبة إلى المأخوذ منه فهو مجاز مرسل. ولك أن تجعله تمثيلا لأنّ الله هو معطي السمع والبصر فإذا أزالها كانت تلك الإزالة كحالة أخذ ما كان أعطاه ، فشبّهت هيئة إعدام الخالق بعض مواهب مخلوقه بهيئة انتزاع الآخذ شيئا من مقرّه. فالهيئة المشبّه هنا عقلية غير محسوسة والهيئة المشبّهة بها محسوسة. والختم على القلوب تقدّم بيانه في سورة البقرة [٧] عند قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ). والمراد بالقلوب العقول التي بها إدراك المعقولات.

والسمع مصدر دالّ على الجنس فكان في قوة الجمع ، فعمّ بإضافته إلى ضمير المخاطبين ولا حاجة إلى جمعه.

والأبصار جمع بصر ، وهو في اللغة العين على التحقيق. وقيل : يطلق البصر على حاسّة الإبصار ولذلك جمع ليعمّ بالإضافة جميع أبصار المخاطبين ، ولعلّ إفراد السمع وجمع الأبصار جرى على ما يقتضيه تمام الفصاحة من خفّة أحد اللفظين مفردا والآخر مجموعا عند اقترانهما ، فإنّ في انتظام الحروف والحركات والسكنات في تنقّل اللسان سرّا عجيبا من فصاحة كلام القرآن المعبّر عنها بالنّظم. وكذلك نرى مواقعها في القرآن قال تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٢٦].

والقلوب مراد بها العقول في كلام العرب لأنّ القلب سبب إمداد العقل بقوّة الإدراك.

وقوله : (مَنْ إِلهٌ) معلّق لفعل الرؤية لأنّه استفهام ، أي أعلمتم جواب هذا الاستفهام أم أنتم في شكّ. وهو استفهام مستعمل في التقرير يقصد منه إلجاء السامعين إلى النظر في جوابه فيوقنوا أنّه لا إله غير الله يأتيهم بذلك لأنّه الخالق للسمع والأبصار والعقول فإنّهم لا ينكرون أنّ الأصنام لا تخلق ، ولذلك قال لهم القرآن : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧].

و (مَنْ) في موضع رفع على الابتداء ، و (إِلهٌ) خبر (مَنْ) ، و (غَيْرُ اللهِ) صفة (إِلهٌ) ، و (يَأْتِيكُمْ) جملة في محلّ الصفة أيضا ، والمستفهم عنه هو إله ، أي ليس إله غير الله يأتي بذلك ، فدلّ على الوحدانية. ومعنى (يَأْتِيكُمْ بِهِ) يرجعه ، فإنّ أصل أتى به ، جاء به. ولمّا كان الشيء المسلوب إذا استنقذه منقذ يأتي به إلى مقرّه أطلق الإتيان بالشيء على

١٠٤

إرجاعه مجازا أو كناية.

والضمير المجرور بالباء عائد إلى السمع والأبصار والقلوب ، على تأويلها بالمذكور فلذلك لم يقل بها. وهذا استعمال قليل في الضمير ، ولكنّه فصيح. وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) في سورة المائدة [٣٦] ، وعند قوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) في سورة النساء [٤] ، وإيثاره هنا على أن يقال : يأتيكم بها ، لدفع توهّم عود الضمير إلى خصوص القلوب.

والكلام جار مجرى التهديد والتخويف ، اختير فيه التهديد بانتزاع سمعهم وأبصارهم وسلب الإدراك من قلوبهم لأنّهم لم يشكروا نعمة هذه المواهب بل عدموا الانتفاع بها ، كما أشار إليه قوله آنفا (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) [الأنعام : ٢٥]. فكان ذلك تنبيها لهم على عدم إجداء هذه المواهب عليهم مع صلاحيتها للانتفاع ، وناسب هنا أن يهدّدوا بزوالها بالكليّة إن داموا على تعطيل الانتفاع بها فيما أمر به خالقها.

وقوله (انْظُرْ) تنزيل للأمر المعقول منزلة المشاهد ، وهو تصريف الآيات مع الإعراض عنها حتّى أنّ النّاظر يستطيع أن يراها ، فأمّا الأمر فهو مستعمل في التعجيب من حال إعراضهم.

والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا تتنزّل منزلة التذييل للآيات السابقة ، فإنّه لمّا غمرهم بالأدلّة على الوحدانية وصدق الرسول ، وأبطل شبههم عقّب ذلك كلّه بالتعجيب من قوّة الأدلّة مع استمرار الإعراض والمكابرة ، وقد تقدّم قريب منه عند قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة النساء [٥٠]. وهذا تذكير لهم بأنّ الله هو خالق أسماعهم وأبصارهم وألبابهم فما كان غيره جديرا بأن يعبدون.

وتصريف الآيات اختلاف أنواعها بأن تأتي مرة بحجج من مشاهدات في السماوات والأرض ، وأخرى بحجج من دلائل في نفوس الناس ، ومرّة بحجج من أحوال الأمم الخالية التي أنشأها الله ، فالآيات هنا هي دلائل الوحدانية ، فهي متّحدة في الغاية مختلفة الأساليب متفاوتة في الاقتراب من تناول الأفهام عامّها وخاصّها ، وهي أيضا مختلفة في تركيب دلائلها من جهتي المقدّمات العقلية وغيرها ، ومن جهتي الترغيب والترهيب ومن التنبيه والتذكير ، بحيث تستوعب الإحاطة بالأفهام على اختلاف مدارك العقول.

١٠٥

والتعريف في (الْآياتِ) للعهد ، وهي المعهودة في هذه السورة ابتداء من قوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١].

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي لأنّها عطفت جملة على جملة ، فهي تؤذن بأنّ الجملة المعطوفة أدخل في الغرض المسوق له الكلام ، وهو هنا التعجيب من قوة الأدلّة وأنّ استمرار الإعراض والمكابرة مع ذلك أجدر بالتعجيب به.

وجيء بالمسند في جملة (هُمْ يَصْدِفُونَ) فعلا مضارعا للدلالة على تجدّد الإعراض منهم. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعليّ لتقوّي الحكم.

و (يَصْدِفُونَ) يعرضون إعراضا شديدا. يقال : صدف صدفا وصدوفا ، إذا مال إلى جانب وأعرض عن الشيء. وأكثر ما يستعمل أن يكون قاصرا فيتعدّى إلى مفعوله ب (عن). وقد يستعمل متعدّيا كما صرّح به في «القاموس». وقلّ التعرّض لذلك في كتب اللغة ولكن الزمخشري في تفسير قوله تعالى في أواخر هذه السورة (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) [الأنعام : ١٥٧] قدّر : وصدف الناس عنها ، مع أنّه لم يتعرّض لذلك في الأساس ولا علّق على تقديره شارحوه. ولمّا تقدّم ذكر الآيات حذف متعلّق (يَصْدِفُونَ) لظهوره ، أي صدف عن الآيات.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧))

استئناف للتهديد والتوعّد وإعذار لهم بأنّ إعراضهم لا يرجع بالسوء إلّا عليهم ولا يضرّ بغيرهم ، كقوله : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) [الأنعام : ٢٦].

والقول في (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) الآية كالقول في نظيريه المتقدّمين.

وجيء في هذا وفي نظيره المتقدّم بكاف الخطاب مع ضمير الخطاب دون قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) [الأنعام : ٤٦] الآية لأنّ هذا ونظيره أبلغ في التوبيخ لأنّهما أظهر في الاستدلال على كون المشركين في مكنة قدرة الله ، فإنّ إتيان العذاب أمكن وقوعا من سلب الأبصار والأسماع والعقول لندرة حصول ذلك ، فكان

١٠٦

التوبيخ على إهمال الحذر من إتيان عذاب الله ، أقوى من التوبيخ على الاطمئنان من أخذ أسماعهم وأبصارهم ، فاجتلب كاف الخطاب المقصود منه التنبيه دون أعيان المخاطبين. والبغتة تقدّمت آنفا.

والجهرة : الجهر ، ضدّ الخفية ، وضدّ السرّ. وقد تقدّم عنه قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) في سورة البقرة [٥٥].

وقد أوقع الجهرة هنا في مقابلة البغتة وكان الظاهر أن تقابل البغتة بالنّظرة أو أن تقابل الجهرة بالخفية ، إلّا أنّ البغتة لمّا كانت وقوع الشيء من غير شعور به كان حصولها خفيّا فحسن مقابلته بالجهرة ، فالعذاب الذي يجيء بغتة هو الذي لا تسبقه علامة ولا إعلام به. والذي يجيء جهرة هو الذي تسبقه علامة مثل الكسف المحكي في قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] أو يسبقه إعلام به كما في قوله تعالى : (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود : ٦٥]. فإطلاق الجهرة على سبق ما يشعر بحصول الشيء إطلاق مجازي. وليس المراد من البغتة الحاصل ليلا ومن الجهرة الحاصل نهارا.

والاستفهام في قوله : (هَلْ يُهْلَكُ) مستعمل في الإنكار فلذلك جاء بعده الاستثناء. والمعنى لا يهلك بذلك العذاب إلّا الكافرون.

والمراد بالقوم الظالمين المخاطبون أنفسهم فأظهر في مقام الإضمار ليتأتّى وصفهم أنّهم ظالمون ، أي مشركون ، لأنّهم ظالمون أنفسهم وظالمون الرسول والمؤمنين.

وهذا يتضمّن وعدا من الله تعالى بأنه منجي المؤمنين ، ولذلك أذن رسوله بالهجرة من مكة مع المؤمنين لئلّا يحلّ عليهم العذاب تكرمة لهم كما أكرم لوطا وأهله ، وكما أكرم نوحا ومن آمن معه ، كما أشار إليه قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال: ٣٣] ثم قوله : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٣٤].

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

عطف على جملة (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) [الأنعام : ٤٦].

والمناسبة أنّ صدوفهم وإعراضهم كانوا يتعلّلون له بأنّهم يرومون آيات على وفق مقترحهم

١٠٧

وأنّهم لا يقنعون بآيات الوحدانية ، ألا ترى إلى قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] إلى آخر ما حكي عنهم في تلك الآية ، فأنبأهم الله بأنّ إرسال الرسل للتبليغ والتبشير والنذارة لا للتّلهّي بهم باقتراح الآيات.

وعبّر ب (نُرْسِلُ) دون أرسلنا للدلالة على تجدّد الإرسال مقارنا لهذين الحالين ، أي ما أرسلنا وما نرسل ، فقوله : (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) حالان مقدّرتان باعتبار المستقبل ومحقّقتان باعتبار الماضي.

والاستثناء من أحوال محذوفة ، أي ما أرسلناهم إلّا في حالة كونهم مبشّرين ومنذرين.

والقصر إضافي للردّ على من زعموا أنّه إن لم يأتهم بآية كما اقترحوا فليس برسول من عند الله ، فهو قصر قلب ، أي لم نرسل الرسول للإعجاب بإظهار خوارق العادات. وكنّى بالتبشير والإنذار عن التبليغ لأنّ التبليغ يستلزم الأمرين وهما الترغيب والترهيب ، فحصل بهذه الكناية إيجاز إذ استغنى بذكر اللازم عن الجمع بينه وبين الملزوم.

والفاء في قوله : (فَمَنْ آمَنَ) للتفريع ، أي فمن آمن من المرسل إليهم فلا خوف إلخ. و (فَمَنْ) الأظهر أنّها موصولة كما يرجّحه عطف (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) عليه. ويجوز أن تكون شرطية لا سيما وهي في معنى التفصيل لقوله : (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ). فإن كانت شرطية فاقتران (فَلا خَوْفٌ) بالفاء بيّن ، وإن جعلت موصولة فالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط ، والاستعمالات متقاربان.

ومعنى (أَصْلَحَ) فعل الصلاح ، وهو الطاعة لله فيما أمر ونهى ، لأنّ الله ما أراد بشرعه إلّا إصلاح الناس كما حكى عن شعيب (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨].

والمسّ حقيقته مباشرة الجسم باليد وهو مرادف اللمس والجسّ ، ويستعار لإصابة جسم جسما آخر كما في هذه الآية.

وقد تقدّم في قوله تعالى : (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في سورة المائدة [٧٣]. ويستعار أيضا للتّكيّف بالأحوال كما يقال : به مسّ من الجنون. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١].

وجمع الضمائر العائدة إلى (من) مراعاة لمعناها ، وأمّا إفراد فعل (آمَنَ) و (أَصْلَحَ)

١٠٨

فلرعي لفظها.

والباء للسببية ، و (ما) مصدرية ، أي بسبب فسقهم. والفسق حقيقته الخروج عن حدّ الخير. وشاع استعماله في القرآن في معنى الكفر وتجاوز حدود الله تعالى. وتقدّم تفصيله عند قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) في سورة البقرة [٢٦].

وجيء بخبر (كان) جملة مضارعية للإشارة إلى أنّ فسقهم كان متجدّدا متكرّرا ، على أنّ الإتيان ب (كان) أيضا للدلالة على الاستمرار لأنّ (كان) إذا لم يقصد بها انقضاء خبرها فيما مضى دلّت على استمرار الخبر بالقرينة ، كقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦].

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠))

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ).

لمّا تقضّت المجادلة مع المشركين في إبطال شركهم ودحض تعاليل إنكارهم نبوءة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنّهم لا يؤمنون بنبوته إلّا إذا جاء بآية على وفق هواهم ، وأبطلت شبهتهم بقوله : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [الأنعام : ٤٨] وكان محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ممّن شمله لفظ المرسلين ، نقل الكلام إلى إبطال معاذيرهم فأعلمهم الله حقيقة الرسالة واقترانها بالآيات فبيّن لهم أنّ الرسول هو الذي يتحدّى الأمّة لأنّه خليفة عن الله في تبليغ مراده من خلقه ، وليست الأمّة هي التي تتحدّى الرسول ، فآية صدق الرسول تجيء على وفق دعواه الرسالة ، فلو ادّعى أنّه ملك أو أنّه بعث لإنقاذ الناس من أرزاء الدنيا ولإدناء خيراتها إليهم لكان من عذرهم أن يسألوه آيات تؤيّد ذلك ، فأمّا والرسول مبعوث للهدى فآيته أن يكون ما جاء به هو الهدى وأن تكون معجزته هو ما قارن دعوته ممّا يعجز البشر عن الإتيان بمثله في زمنهم.

فقوله (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من غرض إلى غرض. وافتتاح الكلام بالأمر بالقول للاهتمام بإبلاغه ، كما تقدّم عند قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) [الأنعام : ٤٠].

وقد تكرّر الأمر بالقول من هنا إلى قوله (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) [الأنعام : ٦٧] اثنتي عشرة مرة.

١٠٩

والاقتصار على نفي ادّعاء هذه الثلاثة المذكورة في الآية ناظر إلى ما تقدّم ذكره من الآيات التي سألوها من قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨] وقوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) [الأنعام : ٧] وقوله : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣٥] الآية.

وافتتح الكلام بنفي القول ليدلّ على أنّ هذا القول لم يقترن بدعوى الرسالة فلا وجه لاقتراح تلك الأمور المنفي قولها على الرسول لأنّ المعجزة من شأنها أن تجيء على وفق دعوى الرسالة.

واللام في (لَكُمْ) لام التبليغ ، وهي مفيدة تقوية فعل القول عند ما لا تكون حاجة لذكر المواجه بالقول كما هنا لظهور أنّ المواجه بالقول هم المكذّبون ، ولذلك ورد قوله تعالى : (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) [هود : ٣١] مجرّدا عن لام التبليغ. فإذا كان الغرض ذكر المواجه بالقول فاللام حينئذ تسمّى لام تعدية فعل القول فالذي اقتضى اجتلاب هذه اللام هنا هو هذا القول بحيث لو قاله قائل لكان جديرا بلام التبليغ.

والخزائن جمع خزانة ـ بكسر الخاء ـ وهي البيت أو الصندوق الذي يحتوي ما تتوق إليه النفوس وما ينفع عند الشدّة والحاجة. والمعنى أنّى ليس لي تصرّف مع الله ولا أدّعي أني خازن معلومات الله وأرزاقه.

و (خَزائِنُ اللهِ) مستعارة لتعلّق قدرة الله بالإنعام وإعطاء الخيرات النافعة للناس في الدنيا. شبّهت تلك التعلّقات الصّلوحية والتنجيزية في حجبها عن عيون الناس وتناولهم مع نفعها إيّاهم ، بخزائن أهل اليسار والثروة التي تجمع الأموال والأحبية والخلع والطعام ، كما أطلق عليها ذلك في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [المنافقون : ٧] ، أي ما هو مودع في العوالم العليا والسفلى ممّا ينفع الناس ، وكذلك قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [الحجر : ٢١].

وتقديم المسند وهو قوله (عِنْدِي) للاهتمام به لما فيه من الغرابة والبشارة للمخبرين به لو كان يقوله.

وقوله : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) عطف على (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) فهو في حيّز القول المنفي. وأعيد حرف النفي على طريقة عطف المنفيات بعضها على بعض فإنّ الغالب أن يعاد معها حرف النفي للتنصيص على أنّ تلك المتعاطفات جميعها مقصودة بالنفي بآحادها

١١٠

لئلّا يتوهّم أنّ المنفي مجموع الأمرين. والمعنى لا أقول أعلم الغيب ، أي علما مستمرا ملازما لصفة الرسالة. فأمّا إخباره عن بعض المغيّبات فذلك عند إرادة الله اطلاعه عليه بوحي خاصّ ، كما قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧] وهو داخل تحت قوله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ).

وعطف : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) على (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) بإظهار فعل القول فيه ، خلافا لقوله : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) لعلّه لدفع ثقل التقاء حرفين : (لا) وحرف (إنّ) الذي اقتضاه مقام التأكيد ، لأنّ ادّعاء مثله من شأنه أن يؤكّد ، أي لم أدّع أنّي من الملائكة فتقولوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨] ، فنفي كونه ملكا جواب عن مقترحهم أن ينزل عليهم ملك أو أن يكون معه ملك نذيرا. والمقصود نفي أن يكون الرسول من جنس الملائكة حتى يكون مقارنا لملك آخر مقارنة تلازم كشأن أفراد الجنس الواحد. وكانوا يتوهّمون أنّ الرسالة تقتضي أن يكون الرسول من غير جنس البشر فلذلك قالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧]. فالمعنى نفي ماهية الملكية عنه لأنّ لجنس الملك خصائص أخرى مغايرة لخصائص البشر. وهذا كما يقول القائل لمن يكلّفه عنتا : إنّي لست من حديد.

ومن تلفيق الاستدلال أن يستدلّ الجبائي بهذه الآية على تأييد قول أصحابه المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء مع بعد ذلك عن مهيع الآية. وقد تابعه الزمخشري ، وكذلك دأبه كثيرا ما يرغم معاني القرآن على مسايرة مذهبه فتنزو عصبيته وتنزوي عبقريته ، وهذه مسألة سنتكلّم عليها في مظنّتها.

وجملة (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأنّه لمّا نفي أن يقول هذه المقالات كان المقام مثيرا سؤال سائل يقول : فما ذا تدّعي بالرسالة وما هو حاصلها لأنّ الجهلة يتوهّمون أنّ معنى النبوءة هو تلك الأشياء المتبرّأ منها في قوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ) إلخ ، فيجاب بقوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) ، أي ليست الرسالة إلّا التبليغ عن الله تعالى بواسطة الوحي.

فمعنى (أَتَّبِعُ) مجاز مرسل في الاقتصار على الشيء وملازمته دون غيره. لأنّ ذلك من لوازم معنى الاتّباع الحقيقي وهو المشي خلف المتّبع ـ بفتح الموحّدة ـ ، أي لا أحيد عن تبليغ ما يوحى إليّ إلى إجابة المقترحات من إظهار الخوارق أو لإضافة الأرزاق أو إخبار بالغيب ، فالتّلقّي والتبليغ هو معنى الاتّباع ، وهو كنه الرسالة عن الله تعالى. فالقصر

١١١

المستفاد هنا إضافي ، أي دون الاشتغال بإظهار ما تقترحونه من الخوارق للعادة. والغرض من القصر قلب اعتقادهم أنّ الرسول لا يكون رسولا حتّى يأتيهم بالعجائب المسئولة. وقد حصل بذلك بيان حقيقة الرسالة تلك الحقيقة التي ضلّ عن إدراكها المعاندون. وهذا معنى قوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [الأنعام : ٤٨].

وإذ قد كان القصر إضافيا كان لا محالة ناظرا إلى قلب اعتقادهم بالنسبة لمطالبهم باتّباع مقترحاتهم ، أي لا أتّبع في التبليغ إليكم إلّا ما يوحى إليّ. فليس في هذا الكلام ما يقتضي قصر تصرّف الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ على العمل بالوحي حتّى يحتجّ بها من ينفي من علمائنا جواز الاجتهاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمور الدين لأنّ تلك مسألة مستقلّة لها أدلّة للجانبين ، ولا مساس لها بهذا القصر. ومن توهّمه فقد أساء التأويل.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ).

هذا ختام للمجادلة معهم وتذييل للكلام المفتتح بقوله (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ، أي قل لهم هذا التذييل عقب ذلك الاستدلال.

وشبّهت حالة من لا يفقه الأدلّة ولا يفكّك بين المعاني المتشابهة بحالة الأعمى الذي لا يعرف أين يقصد ولا أين يضع قدمه. وشبّهت حالة من يميّز الحقائق ولا يلتبس عليه بعضها ببعض بحالة القويّ البصر حيث لا تختلط عليه الأشباح. وهذا تمثيل لحال المشركين في فساد الوضع لأدلّتهم وعقم أقيستهم ، ولحال المؤمنين الذين اهتدوا ووضعوا الأشياء مواضعها ، أو تمثيل لحال المشركين التي هم متلبّسون بها والحال المطلوبة منهم التي نفروا منها ليعلموا أيّ الحالين أولى بالتخلّق.

وقوله (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) استفهام إنكار. وهو معطوف بالفاء على الاستفهام الأول ، لأنّه مترتّب عليه لأنّ عدم استواء الأعمى والبصير بديهي لا يسعهم إلّا الاعتراف بعدم استوائهما فلا جرم أن يتفرّع عليه إنكار عدم تفكّرهم في أنّهم بأيّهما أشبه. والكلام على الأمر بالقول مثل ما تقدّم عند قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) [الأنعام : ٤٠].

والتفكّر : جولان العقل في طريق استفادة علم صحيح.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١))

١١٢

الأظهر أنّه عطف على قوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) [الأنعام : ٥٠] لأنّ ذلك مقدّمة لذكر من مثّلت حالهم بحال البصير وهم المؤمنون.

وضمير (بِهِ) عائد إلى (ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام : ٥٠] وهو القرآن وما يوحى به إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مراد به الإعجاز.

و (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) هم المؤمنون الممثّلون بحال البصير. وعرّفوا بالموصول لما تدلّ عليه الصلة من المدح ، ومن التعليل بتوجيه إنذاره إليهم دون غيرهم ، لأنّ الإنذار للذين يخافون أن يحشروا إنذار نافع ، خلافا لحال الذين ينكرون الحشر ، فلا يخافونه فضلا عن الاحتياج إلى شفعاء.

و (أَنْ يُحْشَرُوا) مفعول (يَخافُونَ) ، أي يخافون الحشر إلى ربّهم فهم يقدّمون الأعمال الصالحة وينتهون عمّا نهاهم خيفة أن يلقوا الله وهو غير راض عنهم. وخوف الحشر يقتضي الإيمان بوقوعه. ففي الكلام تعريض بأنّ المشركين لا ينجع فيهم الإنذار لأنّهم لا يؤمنون بالحشر فكيف يخافونه .. ولذلك قال فيهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦].

وجملة : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) حال من ضمير (أَنْ يُحْشَرُوا) ، أي يحشروا في هذه الحالة ، فهذه الحال داخلة في حيّز الخوف. فمضمون الحال معتقد لهم ، أي ليسوا ممّن يزعمون أنّ لهم شفعاء عند الله لا تردّ شفاعتهم ، فهم بخلاف المشركين الذين زعموا أصنامهم شفعاء لهم عند الله.

وقوله (مِنْ دُونِهِ) حال من (وَلِيٌ) و (شَفِيعٌ) ، والعامل في الحال فعل (يَخافُونَ) ، أي ليس لهم ولي دون الله ولا شفيع دون الله ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا. وهو تعريض بالمشركين الذين اتّخذوا شفعاء وأولياء غير الله.

وفي الآية دليل على ثبوت الشفاعة بإذن الله كما قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥]. ولصاحب «الكشاف» هنا تكلّفات في معنى (يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا) وفي جعل الحال من ضمير (يُحْشَرُوا) حالا لازمة ، ولعلّه يرمي بذلك إلى أصل مذهبه في إنكار الشفاعة.

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) رجاء مسوق مساق التعليل للأمر بإنذار المؤمنين لأنّهم يرجى تقواهم ، بخلاف من لا يؤمنون بالبعث.

١١٣

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢))

عطف على قوله : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) [الأنعام : ٥١] لأنّه في معنى أنذرهم ولازمهم وإن كره ذلك متكبّرو المشركين. فقد أجريت عليهم هنا صلة أخرى هي أنسب بهذا الحكم من الصلة التي قبلها ، كما أنّ تلك أنسب بالحكم الذي اقترنت معه منها بهذا ، فلذلك لم يسلك طريق الإضمار ، فيقال : ولا تطردهم ، فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء داعيا إلى الله فأولى الناس بملازمته الذين هجّيراهم دعاء الله تعالى بإخلاص فكيف يطردهم فإنّهم أولى بذلك المجلس ، كما قال تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [آل عمران : ٦٨].

روى مسلم عن سعد بن أبي وقّاص قال : كنّا مع النّبيء ستة نفر ، فقال المشركون للنبي : أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال : وكنت أنا ، وابن مسعود ، ورجل من هذيل ، وبلال ، ورجلان ، لست أسمّيهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدّث نفسه فأنزل الله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ا ه. وسمّى الواحدي بقيّة الستّة : وهم صهيب ، وعمّار بن ياسر ، والمقداد بن الأسود ، وخبّاب بن الأرتّ. وفي قول ابن مسعود «فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله» إجمال بيّنه ما رواه البيهقي أنّ رؤساء قريش قالوا لرسول الله : لو طردت هؤلاء الأعبد وأرواح جبابهم (جمع جبّة) جلسنا إليك وحادثناك. فقال : ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا : فأقمهم عنّا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت ، فقال : نعم ، طعما في إيمانهم. فأنزل الله هذه الآية. ووقع في «سنن» ابن ماجة عن خبّاب أنّ قائل ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، وأنّ ذلك سبب نزول الآية ، وقال ابن عطية : هو بعيد لأنّ الآية مكية. وعيينة والأقرع إنّما وفدا مع وفد بني تميم بالمدينة سنة الوفود. ا ه. قلت : ولعلّ ذلك وقع منهما فأجابهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية التي نزلت في نظير اقتراحهما.

وفي سنده أسباط بن نصر أو نضر ، ولم يكن بالقوي ، وفيه السديّ ضعيف. وروي مثله في بعض التفاسير عن سلمان الفارسي ، ولا يعرف سنده. وسمّى ابن إسحاق أنّهم المستضعفون من المؤمنين وهم : خبّاب ، وعمّار ، وأبو فكيهة ، يسار مولى صفوان بن

١١٤

أمية بن محرّث ، وصهيب وأشباههم ، وأنّ قريشا قالوا : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [الأنعام : ٥٣].

وذكر الواحدي في «أسباب النزول» : أنّ هذه الآية نزلت في حياة أبي طالب. فعن عكرمة قال : جاء عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومطعم بن عدي ، والحارث بن نوفل ، في أشراف بني عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا : لو أنّ ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وعبيدنا وعتقاءنا كان أعظم من صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتّباعنا إيّاه وتصديقنا له. فأتى أبو طالب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحدّثه بالذي كلّموه ، فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت ذلك حتّى ننظر ما الذي يريدون وإلام يصيرون من قولهم ، فأنزل الله هذه الآية. فلمّا نزلت أقبل عمر يعتذر.

والمعنى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحرصه على إيمان عظماء قريش ليكونوا قدوة لقومهم ولعلمه بأنّ أصحابه يحرصون حرصه ولا يوحشهم أن يقاموا من المجلس إذا حضره عظماء قريش لأنّهم آمنوا يريدون وجه الله لا للرياء والسمعة ولكن الله نهاه عن ذلك. وسمّاه طردا تأكيدا لمعنى النهي ، وذلك لحكمة : وهي كانت أرجح من الطمع في إيمان أولئك ، لأنّ الله اطّلع على سرائرهم فعلم أنّهم لا يؤمنون ، وأراد الله أن يظهر استغناء دينه ورسوله عن الاعتزاز بأولئك الطغاة القساة ، وليظهر لهم أنّ أولئك الضعفاء خير منهم ، وأنّ الحرص على قربهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى من الحرص على قرب المشركين ، وأنّ الدين يرغب الناس فيه وليس هو يرغب في الناس كما قال تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الحجرات : ١٧].

ومعنى (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) يعلنون إيمانهم به دون الأصنام إعلانا بالقول ، وهو يستلزم اعتقاد القائل بما يقوله ، إذ لم يكن يومئذ نفاق وإنّما ظهر المنافقون بالمدينة.

والغداة : أوّل النهار. والعشيّ من الزوال إلى الصباح. والباء للظرفية. والتعريف فيهما تعريف الجنس. والمعنى أنّهم يدعون الله اليوم كلّه. فالغداة والعشي قصد بهما استيعاب الزمان والأيام كما يقصد بالمشرق والمغرب استيعاب الأمكنة. وكما يقال : الحمد لله بكرة وأصيلا ، وقيل : أريد بالدعاء الصلاة. وبالغداة والعشي عموم أوقات الصلوات الخمس. فالمعنى ولا تطرد المصلّين ، أي المؤمنين.

وقرأ الجمهور (بِالْغَداةِ) ـ بفتح الغين وبألف بعد الدال ـ. وقرأه ابن عامر ـ بضمّ

١١٥

الغين وسكون الدال وبواو ساكنة بعد الدال ـ وهي لغة في الغداة.

وجملة (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) حال من الضمير المرفوع في (يَدْعُونَ) ، أي يدعون مخلصين يريدون وجه الله ، أي لا يريدون حظا دنيويا.

والوجه حقيقة الجزء من الرأس الذي فيه العينان والأنف والفم. ويطلق الوجه على الذات كلّها مجازا مرسلا.

والوجه هنا مستعار للذات على اعتبار مضاف ، أي يريدون رضى الله ، أي لا يريدون إرضاء غيره. ومنه قوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان : ٩] ، وقوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، وتقدّم في سورة البقرة [١١٥]. فمعنى (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أنّهم آمنوا ودعوا الله لا يريدون بذلك عرضا من الدنيا. وقد قيل : إنّ قريشا طعنوا في إيمان الضعفاء ونسبوهم إلى النفاق ، إلّا أنّ هذا لم يرد به أثر صحيح ، فالأظهر أنّ قوله (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ثناء عليهم بكمال إيمانهم ، وشهادة لهم بأنّهم مجرّدون عن الغايات الدنيوية كلّها ، وليس المقصود به الرّدّ على المشركين.

وجملة (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) تعليل للنهي عن طردهم ، أو إبطال لعلّة الهمّ بطردهم ، أو لعلّة طلب طردهم. فإنّ إبطال علّة فعل المنهي عنه يؤول إلى كونه تعليلا للنهي ، ولذا فصلت هذه الجملة.

والحساب : عدّ أفراد الشيء ذي الأفراد ويطلق على إعمال النظر في تمييز بعض الأحوال عن بعض إذا اشتبهت على طريقة الاستعارة بتشبيه تتبّع الأحوال بعدّ الأفراد. ومنه جاء معنى الحسبة ـ بكسر الحاء ـ ، وهي النظر في تمييز أحوال أهل السوق من استقامة وضدّها. ويقال : حاسب فلانا على أعماله إذا استقراها وتتبّعها. قال النابغة :

يحاسب نفسه بكم اشتراها

فالحساب هنا مصدر حاسب. والمراد به تتبّع الأعمال والأحوال والنظر فيما تقابل به من جزاء.

وضمير الجمع في قوله : (مِنْ حِسابِهِمْ) وقوله (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ) يجوز أن يكونا عائدين إلى (الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) وهو معاد مذكور ، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع قوله (فَتَطْرُدَهُمْ). فالمعنى أنّهم أهل الحقّ في مجلسك لأنّهم مؤمنون فلا يطردون عنه وما عليك أن تحسب ما عدا ذلك من الأمور العارضة لهم بزعم المشركين ، وأنّ حضور

١١٦

أولئك في مجلسك يصدّ كبراء المشركين عن الإيمان ، أي أنّ ذلك مدحوض تجاه حقّ المؤمنين في مجلس رسولهم وسماع هديه.

وقيل معنى : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ) أنّ المشركين طعنوا في إخلاص هؤلاء النفر ، قالوا : يا محمد إنّ هؤلاء إنّما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنّهم يجدون مأكولا وملبوسا عندك ، فقال الله تعالى : ما يلزمك إلّا اعتبار ظاهرهم وإن كان لهم باطن يخالفه فحسابهم على الله ، أي إحصاء أحوالهم ومناقشتهم عليها على نحو قول نوح (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) [الشعراء : ١١٣]. فمعنى حسابهم على هذا الوجه تمحيص نياتهم وبواطنهم.

والقصد من هذا تبكيت المشركين على طريقة إرخاء العنان ، وليس المراد استضعاف يقين المؤمنين. و (حِسابِهِمْ) على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله.

ويجوز أن يكون الضميران عائدين إلى غير مذكور في الكلام ولكنّه معلوم من السياق الذي أشار إليه سبب النزول ، فيعود الضميران إلى المشركين الذين سألوا طرد ضعفاء المؤمنين من مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون ضمير (فَتَطْرُدَهُمْ) عائدا إلى المؤمنين. ويختلف معاد الضميرين اعتمادا على ما يعيّنه سياق الكلام ، كقوله تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) [الروم : ٩] ، وقول عباس بن مرداس في وقعة حنين :

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

أي أحرز المشركون ما جمعه المسلمون من الغنائم.

والمعنى : ما عليك من حساب المشركين على الإيمان بك أو على عدم الإيمان شيء ، فإنّ ذلك موكول إليّ فلا تظلم المؤمنين بحرمانهم حقّا لأجل تحصيل إيمان المشركين ، فيكون من باب قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) [النساء : ١٣٥].

وعلى هذا الوجه يجوز كون إضافة (حِسابِهِمْ) من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي محاسبتك إيّاهم. ويجوز كونها من إضافته إلى فاعله ، أي من حساب المشركين على هؤلاء المؤمنين فقرهم وضعفهم.

و (عَلَيْكَ) خبر مقدّم. و (على) فيه دالّة على معنى اللزوم والوجوب لأنّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ همّ أو كان بحيث يهمّ بإجابة صناديد قريش لما سألوه ، فيكون تنبيها على أنّ تلك المصلحة مدحوضة.

١١٧

و (من) في قوله : (مِنْ شَيْءٍ) زائدة لتوكيد النفي للتنصيص على الشمول في سياق النفي ، وهو الحرف الذي بتقديره بني اسم (لا) على الفتح للدلالة على إرادة نفي الجنس.

وتقديم المسندين على المسند إليهما في قوله (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) تقديم غير واجب لأنّ للابتداء بالنكرتين هنا مسوّغا ، وهو وقوعهما في سياق النفي ، فكان تقديم المجرورين هنا اختياريا فلا بدّ له من غرض. والغرض يحتمل مجرّد الاهتمام ويحتمل الاختصاص. وحيث تأتّى معنى الاختصاص هنا فاعتباره أليق بأبلغ كلام ، ولذلك جرى عليه كلام «الكشاف». وعليه فمعنى الكلام قصر نفي حسابهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليفيد أنّ حسابهم على غيره وهو الله تعالى. وذلك هو مفاد القصر الحاصل بالتقديم إذا وقع في سياق النفي ، وهو مفاد خفي على كثير لقلّة وقوع القصر بواسطة التقديم في سياق النفي. ومثاله المشهور قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧] فإنّهم فسّروه بأنّ عدم الغول مقصور على الاتّصاف بفي خمور الجنّة ، فالقصر قصر قلب.

وقد اجتمع في هذا الكلام خمسة مؤكّدات. وهي (من) البيانية ، و (من) الزّائدة ، وتقديم المعمول ، وصيغة الحصر في قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، والتأكيد بالتّتميم بنفي المقابل في قوله : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، فإنّه شبيه بالتوكيد اللفظي. وكلّ ذلك للتنصيص على منتهى التبرئة من محاولة إجابتهم لاقتراحهم.

ويفيد هذا الكلام التعريض برؤساء قريش الذين سألوا إبعاد الفقراء عن مجلس الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين ما يحضرون وأوهموا أنّ ذلك هو الحائل لهم دون حضور مجلس الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والإيمان به والكون من أصحابه ، فخاطب الله رسوله بهذا الكلام إذ كان الرسول هو المسئول أن يقضي أصحابه عن مجلسه ليعلم السائلون أنّهم سألوه ما لا يقع ويعلموا أنّ الله أطلع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كذبهم ، وأنّهم لو كانوا راغبين في الإيمان لما كان عليهم حساب أحوال الناس ولاشتغلوا بإصلاح خويصتهم ، فيكون الخطاب على نحو قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥]. وقد صرّح بذلك في قوله بعد (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : ٥٥]. وإذ كان القصر ينحلّ على نسبتي إثبات ونفي فالنسبة المقدّرة مع القصر وهي نسبة الإثبات ظاهرة من الجمع بين ضمير المخاطب وضمير الغائبين ، أي عدم حسابهم مقصور عليك ، فحسابهم على أنفسهم إذ كلّ نفس بما كسبت رهينة.

١١٨

وقد دلّ على هذا أيضا قوله بعده (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فإنّه ذكر لاستكمال التعليل ، ولذلك عطف على العلّة ، لأنّ مجموع مدلول الجملتين هو العلّة ، أي حسابهم ليس عليك كما أنّ حسابك ليس عليهم بل على نفسك ، إذ كلّ نفس بما كسبت رهينة ، ولا تزر وازرة وزر أخرى. فكما أنّك لا تنظر إلّا إلى أنّهم مؤمنون ، فهم كذلك لا يطلب منهم التفريط في حق من حقوق المؤمنين لتسديد رغبة منك في شيء لا يتعلّق بهم أو لتحصيل رغبة غيرهم في إيمانه. وتقديم المسند على المسند إليه هنا كتقديمه في نظيره السابق.

وفي قوله : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) تعريض بالمشركين بأنّهم أظهروا أنّهم أرادوا بطرد ضعفاء المؤمنين عن مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم النصح له ليكتسب إقبال المشركين عليه والإطماع بأنّهم يؤمنون به فيكثر متّبعوه.

ثم بهذا يظهر أن ليس المعنى : بل حسابهم على الله وحسابك على الله ، لأنّ هذا غير مناسب لسياق الآية ، ولأنّه يصير به قوله : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) مستدركا في هذا المقام ، ولذلك لم يتكرّر نظير هذه الجملة الثانية مع نظير الجملة الأولى فيما حكى الله عن نوح (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) في سورة الشعراء [١١٣] لأنّ ذلك حكي به ما صدر من نوح وما هنا حكي به كلام الله تعالى لرسوله ، فتنبّه.

ويجوز أن يكون تقديم المسند في الموضعين من الآية لمجرّد الاهتمام بنفي اللزوم والوجوب الذي دلّ عليه حرف (على) في الموضعين لا سيما واعتبار معنى القصر في قوله (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) غير واضح ، لأنّنا إذا سلّمنا أن يكون للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ شبه اعتقاد لزوم تتّبع أحوالهم فقلب ذلك الاعتقاد بالقصر ، لا نجد ذلك بالنسبة إلى (الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) إذ لا اعتقاد لهم في هذا الشأن.

وقدّم البيان على المبيّن في قوله : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) لأنّ الأهمّ في المقامين هو ما يختصّ بالمخاطب المعرّض فيه بالذين سألوه الطرد لأنّه المقصود بالذات ، وإنّما جيء بالجملة الثانية لاستكمال التعليل كما تقدّم.

وقوله : (فَتَطْرُدَهُمْ) منصوب في جواب النهي الذي في قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ). وإعادة فعل الطرد دون الاقتصار على قوله : (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، لإفادة تأكيد ذلك النهي وليبنى عليه قوله (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) لوقوع طول الفصل بين التفريع والمفرّع عليه. فحصل بإعادة فعل (فَتَطْرُدَهُمْ) غرضان لفظي ومعنوي. على أنّه

١١٩

يجوز أن يجعل (فَتَطْرُدَهُمْ) منصوبا في جواب النفي من قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، أي لا تطردهم إجابة لرغبة أعدائهم.

وقوله : (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) عطف على (فَتَطْرُدَهُمْ) متفرّع عليه ، أي فتكون من الظالمين بطردهم ، أي فكونه من الظالمين منتف تبعا لانتفاء سببه وهو الطرد.

وإنّما جعل طردهم ظلما لأنّه لما انتفى تكليفه بأن يحاسبهم صار طردهم لأجل إرضاء غيرهم ظلما لهم. وفيه تعريض بالذين سألوا طردهم لإرضاء كبريائهم بأنّهم ظالمون مفطرون على الظلم ؛ ويجوز أن يجعل قوله : (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) منصوبا في جواب النهي ، ويجعل قوله (فَتَطْرُدَهُمْ) جيء به على هذا الأسلوب لتجديد ربط الكلام لطول الفصل بين النهي وجوابه بالظرف والحال والتعليل ؛ فكان قوله (فَتَطْرُدَهُمْ) كالمقدّمة لقوله (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) وليس مقصود بالذات للجوابية ؛ فالتقدير : فتكون من الظالمين بطردهم.

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣))

الواو استئنافية كما هي في نظائره. والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنّ السامع لمّا شعر بقصّة أومأ إليها قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [الأنعام : ٥٢] الآية يأخذه العجب من كبرياء عظماء أهل الشرك وكيف يرضون البقاء في ضلالة تكبّرا عن غشيان مجلس فيه ضعفاء الناس من الصالحين ، فأجيب بأنّ هذا الخلق العجيب فتنة لهم خلقها الله في نفوسهم بسوء خلقهم.

وقعت هذه الجملة اعتراضا بين الجملتين المتعاطفتين تعجيلا للبيان ، وقرنت بالواو للتنبيه على الاعتراض ، وهي الواو الاعتراضية ، وتسمّى الاستئنافية ؛ فبيّن الله أنّ داعيهم إلى طلب طردهم هو احتقار في حسد ؛ والحسد يكون أعظم ما يكون إذا كان الحاسد يرى نفسه أولى بالنعمة المحسود عليها ، فكان ذلك الداعي فتنة عظيمة في نفوس المشركين إذ جمعت كبرا وعجبا وغرورا بما ليس فيهم إلى احتقار للأفاضل وحسد لهم ، وظلم لأصحاب الحق ، وإذ حالت بينهم وبين الإيمان والانتفاع بالقرب من مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتشبيه مقصود منه التعجيب من المشبّه بأنّه بلغ الغاية في العجب.

١٢٠