تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

ووقع الاقتصار على الإخبار بعلمه تعالى ما يكسب الناس في النهار دون الليل رعيا للغالب ، لأنّ النهار هو وقت أكثر العمل والاكتساب ، ففي الإخبار أنّه يعلم ما يقع فيه تحذير من اكتساب ما لا يرضى الله باكتسابه بالنسبة للمؤمنين ، وتهديد للمشركين.

وجملة : (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) معطوفة على (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) فتكون (ثمّ) للمهلة الحقيقية ، وهو الأظهر. ولك أن تجعل (ثم) للترتيب الرتبي فتعطف على جملة (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) ؛ أي وهو يعلم ما تكتسبون من المناهي ثم يردّكم ويمهلكم. وهذا بفريق المشركين أنسب.

و (في) للظرفية. والضمير للنهار. والبعث مستعار للإفاقة من النوم لأنّ البعث شاع في إحياء الميّت وخاصّة في اصطلاح القرآن (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [المؤمنون : ٨٢] وحسّن هذه الاستعارة كونها مبنية على استعارة التوفّي للنوم تقريبا لكيفية البعث التي حارت فيها عقولهم ، فكلّ من الاستعارتين مرشّح للأخرى.

واللّام في (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) لام التعليل لأنّ من الحكم والعلل التي جعل الله لها نظام اليقظة والنوم أن يكون ذلك تجزئة لعمر الحي ، وهو أجله الذي أجّلت إليه حياته يوم خلقه ، كما جاء في الحديث «يؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله». فالأجل معدود بالأيام والليالي ، وهي زمان النوم واليقظة. والعلّة التي بمعنى الحكمة لا يلزم اتّحادها فقد يكون لفعل الله حكم عديدة. فلا إشكال في جعل اللّام للتعليل.

وقضاء الأجل انتهاؤه. ومعنى كونه مسمّى أنّه معيّن محدّد. والمرجع مصدر ميمي ، فيجوز أن يكون المراد الرجوع بالموت ، لأنّ الأرواح تصير في قبضة الله ويبطل ما كان لها من التصرّف بإرادتها. ويجوز أن يكون المراد بالرجوع الحشر يوم القيامة ، وهذا أظهر.

وقوله : (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يحاسبكم على أعمالكم بعد الموت ، فالمهلة في (ثم) ظاهرة ، أو بعد الحشر ، فالمهلة لأنّ بين الحشر وبين ابتداء الحساب زمنا ، كما ورد في حديث الشفاعة.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))

١٤١

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ).

عطف على جملة (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) [الأنعام : ٦٠] ، وتقدّم تفسير نظيره آنفا. والمناسبة هنا أنّ النوم والموت خلقهما الله فغلبا شدّة الإنسان كيفما بلغت فبيّن عقب ذكرهما أنّ الله هو القادر الغالب دون الأصنام. فالنوم قهر ، لأنّ الإنسان قد يريد أن لا ينام فيغلبه النوم ، والموت قهر وهو أظهر ، ومن الكلم الحق : سبحان من قهر العباد بالموت.

(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ).

(وَيُرْسِلُ) عطف على (الْقاهِرُ) ، فيعتبر المسند إليه مقدّما على الخبر الفعلي ، فيدلّ على التخصيص أيضا بقرينة المقام ، أي هو الذي يرسل عليكم حفظة دون غيره. والقصر هنا حقيقي ، فلا يستدعي ردّ اعتقاد مخالف. والمقصود الإعلام بهذا الخبر الحقّ ليحذر السامعون من ارتكاب المعاصي.

ومعنى (على) في قوله (عَلَيْكُمْ) الاستعلاء المجازي ، أي إرسال قهر وإلزام ، كقوله : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) [الإسراء : ٥] ، لأنّ سياق الكلام خطاب للمشركين كما علمت ، ومثله قوله تعالى : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) [الانفطار : ٩ ، ١٠].

و (عَلَيْكُمْ) متعلّق ب (يُرْسِلُ) فعلم ، أنّ المراد بحفظ الحفظة الإحصاء والضبط من قولهم : حفظت عليه فعله كذا. وهو ضدّ نسي. ومنه قوله تعالى : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) [ق : ٤]. وليس هو من حفظ الرعاية والتعهّد مثل قوله تعالى : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) [النساء : ٣٤].

فالحفظة ملائكة وظيفتهم إحصاء أعمال العباد من خير وشرّ. وورد في الحديث الصحيح : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث.

وقوله : (إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) غاية لما دلّ عليه اسم الحفظة من معنى الإحصاء ، أي فينتهي الإحصاء بالموت ، فإذا جاء الوقت الذي ينتهي إليه أجل الحياة توفّاه الملائكة المرسلون لقبض الأرواح.

فقوله : (رُسُلُنا) في قوّة النكرة لأنّ المضاف مشتقّ فهو بمعنى اسم المفعول فلا تفيده الإضافة تعريفا ، ولذلك فالمراد من الرسل التي تتوفّى رسل غير الحفظة المرسلين على العباد ، بناء على الغالب في مجيء نكرة عقب نكرة أنّ الثانية غير الأولى. وظاهر

١٤٢

قوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) أنّ عددا من الملائكة يتولّى توفّي الواحد من الناس. وفي الآية الأخرى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١] ، وسمّي في الآثار عزرائيل ، ونقل عن ابن عباس : أنّ لملك الموت أعوانا. فالجمع بين الآيتين ظاهر.

وعلّق فعل التوفّي بضمير (أَحَدَكُمُ) الذي هو في معنى الذات. والمقصود تعليق الفعل بحال من أحوال أحدكم المناسب للتّوفي ، وهو الحياة ، أي توفّت حياته وختمتها ، وذلك بقبض روحه.

وقرأ الجمهور (تَوَفَّتْهُ) ـ بمثناة فوقية بعد الفاء ـ. وقرأ حمزة وحده توفاه رسلنا وهي في المصحف مرسومة ـ بنتاة بعد الفاء ـ فتصلح لأن تكون مثناة فوقية وأن تكون مثناة تحتية على لغة الإمالة. وهي التي يرسم بها الألفات المنقلبة عن الياءات. والوجهان جائزان في إسناد الفعل إلى جمع التكسير.

وجملة : (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) حال. والتفريط : التقصير في العمل والإضاعة في الذوات. والمعنى أنّهم لا يتركون أحدا قد تمّ أجله ولا يؤخّرون توفّيه.

والضمير في قوله : (رُدُّوا) عائد إلى أحد باعتبار تنكيره الصادق بكلّ أحد ، أي ثمّ يردّ المتوفّون إلى الله. والمراد رجوع الناس إلى أمر الله يوم القيامة ، أي ردّوا إلى حكمه من نعيم وعذاب ، فليس في الضمير التفات.

والمولى هنا بمعنى السيد ، وهو اسم مشترك يطلق على السيد وعلى العبد.

و (الْحَقِ) ـ بالجرّ ـ صفة ل (مَوْلاهُمُ) ، لما في (مَوْلاهُمُ) من معنى مالكهم ، أي مالكهم الحقّ الذي لا يشوب ملكه باطل يوهن ملكه. وأصل الحقّ أنّه الأمر الثابت فإن كلّ ملك غير ملك الخالقية فهو مشوب باستقلال مملوكه عند استقلالا تفاوتا ، وذلك يوهن الملك ويضعف حقّيّته.

وجملة : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) تذييل ولذلك ابتدئ بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر. والعرب يجعلون التذييلات مشتملة على اهتمام أو عموم أو كلام جامع.

وقدّم المجرور في قوله (لَهُ الْحُكْمُ) للاختصاص ، أي له لا لغيره ، فإن كان المراد من الحكم جنس الحكم فقصره على الله إمّا حقيقي للمبالغة لعدم الاعتداد بحكم غيره ، وإمّا إضافي للردّ على المشركين ، أي ليس لأصنامكم حكم معه ، وإن كان المراد من

١٤٣

الحكم الحساب ، أي الحكم المعهود يوم القيامة ، فالقصر حقيقي. وربّما ترجّح هذا الاحتمال بقوله عقبه : (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) أي ألا له الحساب ، وهو أسرع من يحاسب فلا يتأخّر جزاؤه.

وهذا يتضمّن وعدا ووعيدا لأنّه لمّا أتي بحرف المهلة في الجمل المتقدّمة وكان المخاطبون فريقين : فريق صالح وفريق كافر ، وذكر أنّهم إليه يرجعون كان المقام مقام طماعية ومخالفة ؛ فالصالحون لا يحبّون المهلة والكافرون بعكس حالهم ، فعجّلت المسرّة للصالحين والمساءة للمشركين بقوله : (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ).

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤))

استئناف ابتدائي. ولمّا كان هذا الكلام تهديدا وافتتح بالاستفهام التقريري تعيّن أنّ المقصود بضمائر الخطاب المشركون دون المسلمين. وأصرح من ذلك قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).

وإعادة الأمر بالقول للاهتمام ، كما تقدّم بيانه عند قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) [الأنعام : ٤٠] الآية. والاستفهام مستعمل في التقرير والإلجاء ، لكون ذلك لا ينازعون فيه بحسب عقائد الشرك.

والظلمات قيل على حقيقتها ، فيتعيّن تقدير مضاف ، أي من إضرار ظلمات البرّ والبحر ، فظلمات البرّ ظلمة الليل التي يلتبس فيها الطريق للسائر والتي يخشى فيها العدوّ للسائر وللقاطن ، أي ما يحصل في ظلمات البرّ من الآفات. وظلمات البحر يخشى فيها الغرق والضلال والعدوّ. وقيل : أطلقت الظلمات مجازا على المخاوف الحاصلة في البرّ والبحر ، كما يقال : يوم مظلم إذا حصلت فيه شدائد. ومن أمثال العرب (رأى الكواكب مظهرا) ، أي أظلم عليه يومه إظلاما في عينيه لما لاقاه من الشدائد حتّى صار كأنّه ليل يرى فيه الكواكب. والجمع على الوجهين روعي فيه تعدّد أنواع ما يعرض من الظلمات ، على أنّنا قدّمنا في أوّل السورة أنّ الجمع في لفظ الظلمات جرى على قانون الفصاحة. وجملة : (تَدْعُونَهُ) حال من الضمير المنصوب في (يُنَجِّيكُمْ).

وقرئ (مَنْ يُنَجِّيكُمْ) ـ بالتشديد ـ لنافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبي عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبي جعفر ، وخلف. وقرأه يعقوب ـ بالتخفيف ـ.

١٤٤

والتضرّع : التذلّل ، كما تقدّم في قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) في هذه السورة[٤٢]. وهو منصوب على الحال مؤوّلا باسم الفاعل. والخفية ـ بضم الخاء وكسرها ـ ضد الجهر. وقرأه الجمهور بضم ـ الخاء ـ. وقرأه أبو بكر عن عاصم ـ بكسر الخاء ـ وهو لغة مثل أسوة وإسوة. وعطف (خُفْيَةً) على (تَضَرُّعاً) إمّا عطف الحال على الحال كما تعطف الأوصاف فيكون مصدرا مؤوّلا باسم الفاعل ، وإما أن يكون عطف المفعول المطلق على الحال على أنّه مبيّن لنوع الدعاء ، أي تدعونه في الظلمات مخفين أصواتكم خشية انتباه العدوّ من النّاس أو الوحوش.

وجملة لئن أنجيتنا في محلّ نصب بقول محذوف ، أي قائلين. وحذف القول كثير في القرآن إذا دلّت عليه قرينة الكلام. واللام في (لَئِنْ) الموطّئة للقسم ، واللام في (لَنَكُونَنَ) لام جواب القسم. وجيء بضمير الجمع إمّا لأنّ المقصود حكاية اجتماعهم على الدعاء بحيث يدعو كلّ واحد عن نفسه وعن رفاقه. وإمّا أريد التعبير عن الجمع باعتبار التوزيع مثل : ركب القوم خيلهم ، وإنّما ركب كلّ واحد فرسا.

وقرأ الجمهور أنجيتنا ـ بمثناة تحتية بعد الجيم ومثناة فوقية بعد التحتية ـ. وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي وخلف (أَنْجانا) ـ بألف بعد الجيم ـ والضمير عائد إلى (مَنْ) في قوله : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ).

والإشارة ب (هذِهِ) إلى الظلمة المشاهدة للمتكلّم باعتبار ما ينشأ عنها ، أو باعتبار المعنى المجازي وهو الشدّة ، أو إلى حالة يعبّر عنها بلفظ مؤنّث مثل الشدّة أو الورطة أو الربقة.

والشاكر هو الذي يراعي نعمة المنعم فيحسن معاملته كلّما وجد لذلك سبيلا. وقد كان العرب يرون الشكر حقّا عظيما ويعيّرون من يكفر النعمة.

وقولهم : (مِنَ الشَّاكِرِينَ) أبلغ من أن يقال : لنكوننّ شاكرين ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [الأنعام : ٥٦].

وجملة : (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) تلقين لجواب الاستفهام من قوله : (مَنْ يُنَجِّيكُمْ) أن يجيب عن المسئولين ، ولذلك فصلت جملة (قُلِ) لأنّها جارية مجرى القول في المحاورة ، كما تقدّم في هذه السورة. وتولّى الجواب عنهم لأنّ هذا الجواب لا يسعهم إلّا الاعتراف به.

١٤٥

وقدّم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة الاختصاص ، أي الله ينجيكم لا غيره ، ولأجل ذلك صرّح بالفعل المستفهم عنه. ولو لا هذا لاقتصر على (قُلِ اللهُ). والضمير في (مِنْها) للظلمات أو للحادثة. وزاد (مِنْ كُلِّ كَرْبٍ) لإفادة التعميم ، وأنّ الاقتصار على ظلمات البرّ والبحر بالمعنيين لمجرّد المثال.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وهشام عن ابن عامر ، ويعقوب (يُنَجِّيكُمْ) ـ بسكون النون وتخفيف الجيم ـ على أنّه من أنجاه ، فتكون الآية جمعت بين الاستعمالين. وهذا من التفنّن لتجنّب الإعادة. ونظيره (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ) [الطارق : ١٧]. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ، وأبو جعفر ، وخلف ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي (يُنَجِّيكُمْ) ـ بالتشديد ـ مثل الأولى.

و (ثُمَ) من قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) للترتيب الرتبي لأنّ المقصود أنّ إشراكهم مع اعترافهم بأنّهم لا يلجئون إلّا إلى الله في الشدائد أمر عجيب ، فليس المقصود المهلة.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لمجرّد الاهتمام بخبر إسناد الشرك إليهم ، أي أنتم الذين تتضرّعون إلى الله باعترافكم تشركون به من قبل ومن بعد ، من باب (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] ، ومن باب : لو غيرك قالها ، ولو ذات سوار لطمتني.

وجيء بالمسند فعلا مضارعا لإفادة تجدّد شركهم وأنّ ذلك التجدّد والدوام عليه أعجب.

والمعنى أنّ الله أنجاكم فوعدتم أن تكونوا من الشاكرين فإذا أنتم تشركون. وبين (الشَّاكِرِينَ) و (تُشْرِكُونَ) الجناس المحرّف.

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥))

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ).

استئناف ابتدائي عقّب به ذكر النعمة التي في قوله : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ) بذكر القدرة على الانتقام ، تخويفا للمشركين. وإعادة فعل الأمر بالقول مثل إعادته في نظائره للاهتمام المبيّن عند قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) [الأنعام : ٤٠].

١٤٦

والمعنى قل للمشركين ، فالمخاطب بضمائر الخطاب هم المشركون. والمقصود من الكلام ليس الإعلام بقدرة الله تعالى فإنّها معلومة ، ولكن المقصود التهديد بتذكيرهم بأنّ القادر من شأنه أن يخاف بأسه فالخبر مستعمل في التعريض مجازا مرسلا مركّبا ، أو كناية تركيبية. وهذا تهديد لهم ، لقولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [يونس : ٢٠].

وتعريف المسند والمسند إليه أفاد القصر ، فأفاد اختصاصه تعالى بالقدرة على بعث العذاب عليهم وأنّ غيره لا يقدر على ذلك فلا ينبغي لهم أن يخشوا الأصنام ، ولو أرادوا الخير لأنفسهم لخافوا الله تعالى وأفردوه بالعبادة لمرضاته ، فالقصر المستفاد إضافي. والتعريف في (الْقادِرُ) تعريف الجنس ، إذ لا يقدر غيره تعالى على مثل هذا العذاب.

والعذاب الذي من فوق مثل الصواعق والريح ، والذي من تحت الأرجل مثل الزلازل والخسف والطوفان.

و (يَلْبِسَكُمْ) مضارع لبسه ـ بالتحريك ـ أي خلطه ، وتعدية فعل (يَلْبِسَكُمْ) إلى ضمير الأشخاص بتقدير اختلاط أمرهم واضطرابه ومرجه ، أي اضطراب شئونهم ، فإنّ استقامة الأمور تشبه انتظام السلك ولذلك سمّيت استقامة أمور الناس نظاما. وبعكس ذلك اختلال الأمور والفوضى تشبه اختلاط الأشياء ، ولذلك سمّي مرجا ولبسا. وذلك بزوال الأمن ودخول الفساد في أمور الأمّة ، ولذلك يقرن الهرج وهو القتل بالمرج ، وهو الخلط فيقال : هم في هرج ومرج ، فسكون الراء في الثاني للمزاوجة.

وانتصب (شِيَعاً) على الحال من الضمير المنصوب في (يَلْبِسَكُمْ). والشيع جمع شيعة ـ بكسر الشين ـ وهي الجماعة المتّحدة في غرض أو عقيدة أو هوى فهم متّفقون عليه ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام : ١٥٩]. وشيعة الرجل أتباعه والمقتدون به قال تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) [الصافات : ٨٣] أي من شيعة نوح.

وتشتّت الشيع وتعدّد الآراء أشدّ في اللبس والخلط ، لأنّ اللبس الواقع كذلك لبس لا يرجى بعده انتظام.

وعطف عليه (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) لأنّ من عواقب ذلك اللبس التقاتل. فالبأس هو القتل والشرّ ، قال تعالى : (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل : ٨١]. والإذاقة استعارة للألم.

١٤٧

وهذا تهديد للمشركين كما قلنا بطريق المجاز أو الكناية. وقد وقع منه الأخير فإنّ المشركين ذاقوا بأس المسلمين يوم بدر وفي غزوات كثيرة.

في «صحيح البخاري» عن جابر بن عبد الله قال : «لما نزلت (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعوذ بوجهك. قال : (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : أعوذ بوجهك قال : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال رسول الله : هذا أهون ، أو هذا أيسر». ا ه. واستعاذة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك خشية أن يعمّ العذاب إذا نزل على الكافرين من هو بجوارهم من المسلمين لقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] وفي الحديث قالوا : «يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث» وفي الحديث الآخر «ثم يحشرون على نيّاتهم». ومعنى قوله : هذه أهون ، أنّ القتل إذا حلّ بالمشركين فهو بيد المسلمين فيلحق المسلمين منه أذى عظيم لكنّه أهون لأنّه ليس فيه استئصال وانقطاع كلمة الدين ، فهو عذاب للمشركين وشهادة وتأييد للمسلمين. وفي الحديث : «لا تتمنّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية». وبعض العلماء فسّر الحديث بأنّه استعاذ أن يقع مثل ذلك بين المسلمين. ويتّجه عليه أن يقال : لما ذا لم يستعذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وقوع ذلك بين المسلمين ، فلعلّه لأنه أوحي إليه أنّ ذلك يقع في المسلمين ، ولكن الله وعده أن لا يسلّط عليهم عدوّا من غير أنفسهم. وليست استعاذته بدالة على أنّ الآية مراد بها خطاب المسلمين كما ذهب إليه بعض المفسّرين ، ولا أنّها تهديد للمشركين والمؤمنين ، كما ذهب إليه بعض السلف ؛ إلّا على معنى أنّ مفادها غير الصريح صالح للفريقين لأنّ قدرة الله على ذلك صالحة للفريقين ، ولكن المعنى التهديدي غير مناسب للمسلمين هنا. وهذا الوجه يناسب أن يكون الخبر مستعملا في أصل الإخبار وفي لازمه فيكون صريحا وكناية ولا يناسب المجاز المركّب المتقدّم بيانه.

(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).

استئناف ورد بعد الاستفهامين السابقين. وفي الأمر بالنظر تنزيل للمعقول منزلة المحسوس لقصد التعجيب منه ، وقد مضى في تفسير قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة النساء [٥٠].

وتصريف الآيات تنويعها بالترغيب تارة والترهيب أخرى. فالمراد بالآيات آيات القرآن. وتقدّم معنى التصريف عند قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ

١٤٨

يَصْدِفُونَ) في هذه السورة [٤٦].

و (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) استئناف بياني جواب لسؤال سائل عن فائدة تصريف الآيات ، وذلك رجاء حصول فهمهم لأنّهم لعنادهم كانوا في حاجة إلى إحاطة البيان بأفهامهم لعلّها تتذكّر وترعوي.

وتقدّم القول في معنى (لعلّ) عند قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) في سورة البقرة [٢١].

وتقدّم معنى الفقه عند قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) في سورة النساء [٧٨].

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧))

عطف على (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) [الأنعام : ٦٥] ، أي لعلّهم يفقهون فلم يفقهوا وكذّبوا. وضمير (بِهِ) عائد إلى العذاب في قوله (عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً) [الأنعام : ٦٥] ، وتكذيبهم به معناه تكذيبهم بأنّ الله يعذّبهم لأجل إعراضهم.

والتعبير عنهم ب (قَوْمُكَ) تسجيل عليهم بسوء معاملتهم لمن هو من أنفسهم ، كقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] ، وقال طرفة :

وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهنّد

وتقدّم وجه تعدية فعل (كذّب) بالباء عند قوله تعالى : (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) في هذه السورة [٥٧].

وجملة (وَهُوَ الْحَقُ) معترضة لقصد تحقيق القدرة على أن يبعث عليهم عذابا إلخ.

وقد تحقّق بعض ذلك بعذاب من فوقهم وهو عذاب القحط ، وبإذاقتهم بأس المسلمين يوم بدر.

ويجوز أن يكون ضمير به عائدا إلى القرآن ، فيكون قوله : (وَكَذَّبَ بِهِ) رجوعا بالكلام إلى قوله (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) [الأنعام : ٥٧] ، أي كذّبتم بالقرآن ، على وجه جعل (من) في قوله : (مِنْ رَبِّي) [الأنعام : ٥٧] ابتدائية كما تقدّم ، أي كذّبتم بآية القرآن وسألتم نزول العذاب تصديقا لرسالتي وذلك ليس بيدي. ثم اعترض بجمل كثيرة.

١٤٩

أولاها : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩] ، ثم ما بعده من التعريض بالوعيد ، ثم بنى عليه قوله : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) فكأنّه قيل : قل إنّي على بيّنة من ربّي وكذّبتم به وهو الحقّ قل لست عليكم بوكيل.

وقوله : (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) إرغام لهم لأنّهم يرونه أنّهم لمّا كذّبوه وأعرضوا عن دعوته قد أغاظوه ، فأعلمهم الله أنّه لا يغيظه ذلك وأنّ عليه الدعوة فإذا كانوا يغيظون فلا يغيظون إلّا أنفسهم.

والوكيل هنا بمعنى المدافع الناصر ، وهو الحفيظ. وتقدّم عند قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) في سورة آل عمران [١٧٣].

وتعديته ب (على) لتضمّنه معنى الغلبة والسلطة ، أي لست بقيّم عليكم يمنعكم من التكذيب ، كقوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨]. وجملة (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأنّ قوله (وَهُوَ الْحَقُ) يثير سؤالهم أن يقولوا : فمتى ينزل العذاب. فأجيبوا بقوله : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ).

والنبأ : الخبر المهم ، وتقدّم في هذه السورة. فيجوز أن يكون على حقيقته ، أي لكلّ خبر من أخبار القرآن ، ويجوز أن يكون أطلق المصدر على اسم المفعول ، أي لكلّ مخبر به ، أي ما أخبروا به من قوله : (أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) [الأنعام : ٦٥] الآية.

والمستقرّ وقت الاستقرار ، فهو اسم زمانه ، ولذلك صيغ بوزن اسم المفعول ، كما هو قياس صوغ اسم الزمان المشتقّ من غير الثلاثي. والاستقرار بمعنى الحصول ، أي لكلّ موعود به وقت يحصل فيه. وهذا تحقيق للوعيد وتفويض زمانه إلى علم الله تعالى. وقد يكون المستقرّ هنا مستعملا في الانتهاء والغاية مجازا ، كقوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) [يس : ٣٨] ، وهو شامل لوعيد الآخرة ووعيد الدنيا ولكلّ مستقرّ. وعن السّدّي : استقرّ يوم بدر ما كان يعدهم به من العذاب.

وعطف (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) على جملة (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي تعلمونه ، أي هو الآن غير معلوم وتعلمونه في المستقبل عند حلوله بكم. وهذا أظهر في وعيد العذاب في الدنيا.

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨))

١٥٠

عطف على جملة (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) [الأنعام : ٦٦]. والعدول عن الإتيان بالضمير إلى الإتيان بالاسم الظاهر وهو اسم الموصول ، فلم يقل : وإذا رأيتهم فأعرض عنهم ، يدلّ على أنّ الذي يخوضون في الآيات فريق خاص من القوم الذين كذّبوا بالقرآن أو بالعذاب. فعموم القوم أنكروا وكذّبوا دون خوض في آيات القرآن ، فأولئك قسم ، والذين يخوضون في الآيات قسم كان أبذى وأقذع ، وأشدّ كفرا وأشنع ، وهم المتصدّون للطعن في القرآن. وهؤلاء أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن مجادلتهم وترك مجالسهم حتّى يرعووا عن ذلك. ولو أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالإعراض عن جميع المكذّبين لتعطّلت الدّعوة والتبليغ.

ومعنى (إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ) إذا رأيتهم في حال خوضهم. وجاء تعريف هؤلاء بالموصولية دون أن يقال الخائضين أو قوما خائضين لأنّ الموصول فيه إيماء إلى وجه الأمر بالإعراض لأنّه أمر غريب ، إذ شأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يمارس الناس لعرض دعوة الدين ، فأمر الله إيّاه بالإعراض عن فريق منهم يحتاج إلى توجيه واستئناس. وذلك بالتعليل الذي أفاده الموصول وصلته ، أي فأعرض عنهم لأنّهم يخوضون في آياتنا.

وهذه الآية أحسن ما يمثّل به ، لمجيء الموصول للإيماء إلى إفادة تعليل ما بني عليه من خبر أو إنشاء ، ألا ترى أنّ الأمر بالإعراض حدّد بغاية حصول ضدّ الصلة. وهي أيضا أعدل شاهد لصحة ما فسّر به القطب الشيرازي في «شرح المفتاح» قول السكاكي (أو أن تومئ بذلك إلى وجه بناء الخبر) بأنّ وجه بناء الخبر هو علّته وسببه ، وإن أبى التفتازانيّ ذلك التفسير.

والخوض حقيقته الدخول في الماء مشيا بالرّجلين دون سباحة ثم استعير للتصرّف الذي فيه كلفة أو عنت ، كما استعير التعسّف وهو المشي في الرمل لذلك. واستعير الخوض أيضا للكلام الذي فيه تكلّف الكذب والباطل لأنّه يتكلّف له قائله ، قال الراغب : وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذمّ الشروع فيه ، قال تعالى : (يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) ، (نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة : ٦٥] ، (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] ، (ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : ٩١]. فمعنى (يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) يتكلّمون فيها بالباطل والاستهزاء.

والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مباشرة وحكم بقية المسلمين كحكمه ، كما قال في ذكر المنافقين في سورة النساء [١٤٠] (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ).

١٥١

والإعراض تقدّم تفسيره عند قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة النساء [٦٣]. والإعراض عنهم هنا هو ترك الجلوس إلى مجالسهم ، وهو مجاز قريب من الحقيقة لأنّه يلزمه الإعراض الحقيقي غالبا ، فإن هم غشوا مجلس الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فالإعراض عنهم أن يقوم عنهم وعن ابن جريج : فجعل إذا استهزءوا قام فحذروا وقالوا لا تستهزءوا فيقوم. وفائدة هذا الإعراض زجرهم وقطع الجدال معهم لعلّهم يرجعون عن عنادهم.

و (حَتَّى) غاية للإعراض لأنّه إعراض فيه توقيف دعوتهم زمانا أوجبه رعي مصلحة أخرى هي من قبيل الدعوة فلا يضرّ توقيف الدعوة زمانا ، فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هديهم إلى أصلهم لأنّها تمحّضت للمصلحة.

وإنّما عبّر عن انتقالهم إلى حديث آخر بالخوض لأنّهم لا يتحدّثون إلّا فيما لا جدوى له من أحوال الشرك وأمور الجاهلية.

و (غَيْرِهِ) صفة ل (حَدِيثٍ). والضمير المضاف إليه عائد إلى الخوض باعتبار كونه حديثا حسبما اقتضاه وصف (حَدِيثٍ) بأنّه غيره.

وقوله (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) عطف حالة النّسيان زيادة في تأكيد الأمر بالإعراض. وأسند الإنساء إلى الشيطان فدلّنا على أنّ النسيان من آثار الخلقة التي جعل الله فيها حظّا العلم الشيطان. كما ورد أنّ التثاؤب من الشيطان ، وليس هذا من وسوسة الشيطان في أعمال الإنسان لأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم من وسوسة الشيطان في ذلك ، فالنسيان من الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء في غير تبليغ ما أمروا بتبليغه ، عند جمهور علماء السنّة من الأشاعرة وغيرهم. قال ابن العربي في «الأحكام» : إنّ كبار الرافضة هم الذين ذهبوا إلى تنزيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النسيان ا ه. وهو قول لبعض الأشعرية وعزي إلى الأستاذ أبي إسحاق الأسفرائيني فيما حكاه نور الدين الشيرازي في «شرح للقصيدة النونية» لشيخه تاج الدين السبكي. ويتعيّن أنّ مراده بذلك فيما طريقه البلاغ كما يظهر ممّا حكاه عنه القرطبي : وقد نسي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلّم من ركعتين في الصلاة الرباعية ، ونسي آيات من بعض السور تذكّرها لمّا سمع قراءة رجل في صلاة الليل ، كما في الصحيح. وفي الحديث الصحيح : «إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكّروني» فذلك نسيان استحضارها بعد أن بلّغها. وليس نظرنا في جواز ذلك وإنّما نظرنا في إسناد ذلك إلى الشيطان فإنّه يقتضي أنّ للشيطان حظّا له أثر في نفس

١٥٢

الرسول ، فيجوز أن تكون بعض الأعراض البشرية التي يجوز طروّها على الأنبياء قد جعلها الله في أصل الخلقة من عمل الشياطين ، كما جعل بعض الأعراض موكولة للملائكة ، ويكون النسيان من جملة الأعراض الموكولة إلى الشياطين كما تكرّر إسناده إلى الشيطان في آيات كثيرة منها. وهذا مثل كون التثاؤب من الشيطان ، وكون ذات الجنب من الشيطان. وقد قال أيّوب (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [ص : ٤١] ، وحينئذ فالوجه أنّ الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء التي لا تخلّ بتبليغ ولا توقع في المعصية قد يكون بعضها من أثر عمل الشيطان وأنّ الله عصمهم من الشيطان فيما عدا ذلك.

ويجوز أن يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد خصّ من بين الأنبياء بأن لا سلطة لعمل شيطاني عليه ولو كان ذلك من الأعراض الجائزة على مقام الرسالة ، فإنّما يتعلّق به من تلك الأعراض ما لا أثر للشيطان فيه. وقد يدلّ لهذا ما ورد في حديث شقّ الصدر : أنّ جبريل لمّا استخرج العلقة قال : هذا حظّ الشيطان منك ، يعني مركز تصرّفاته ، فيكون الشيطان لا يتوصّل إلى شيء يقع في نفس نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا بواسطة تدبير شيء يشغل النبي حتّى ينسى مثل ما ورد في حديث «الموطأ» حين نام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووكّل بلالا بأن يكلأ لهم الفجر ، فنام بلال حتّى طلعت الشمس ، فإنّ النبي قال : «إنّ الشيطان أتى بلالا فلم يزل يهدّئه كما يهدّأ الصبيّ حتّى نام». فأمّا نوم النبي والمسلمين عدا بلالا فكان نوما معتادا ليس من عمل الشيطان. وإلى هذا الوجه أشار عياض في «الشفاء». وقريب منه ما ورد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ليلة القدر ، فخرج ليعلم الناس فتلاحى رجلان فرفعت. فإنّ التلاحي من عمل الشيطان ، ولم يكن يستطيع رفع ليلة القدر بنفسه فوسوس بالتلاحي.

والحاصل أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم من الوسوسة ، وأمّا ما دونها مثل الإنساء والنزغ فلا يلزم أن يعصم منه. وقد يفرّق بين الأمرين : أنّ الوسوسة آثارها وجودية والإنساء والنزغ آثارهما عدمية ، وهي الذهول والشغل ونحو ذلك.

فالمعنى إن أنساك الشيطان الإعراض عنهم فإن تذكّرت فلا تقعد معهم ، فهذا النسيان ينتقل به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عبادة إلى عبادة ، ومن أسلوب في الدّعوة إلى أسلوب آخر ، فليس إنساء الشيطان إيّاه إيقاعا في معصية إذ لا مفسدة في ارتكاب ذلك ولا يحصل به غرض من كيد الشيطان في الضلال ، وقد رفع الله المؤاخذة بالنسيان ، ولذلك قال : (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، أي بعد أن تتذكّر الأمر بالإعراض. فالذكرى اسم للتذكّر وهو ضدّ النّسيان ، فهي اسم مصدر ، أي إذا أغفلت بعد هذا فقعدت إليهم فإذا

١٥٣

تذكّرت فلا تقعد ، وهو ضدّ فأعرض ، وذلك أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه.

وقرأ الجمهور : (يُنْسِيَنَّكَ) ـ بسكون النون وتخفيف السين ـ. وقرأه ابن عامر ـ بفتح النون وتشديد السين ـ من التنسية ، وهي مبالغة في أنساه. ومن العلماء من تأوّل هذه الآية بأنّها مما خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمّته ، كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] قال أبو بكر بن العربي إذا عذرنا أصحابنا في قولهم ذلك في (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) لاستحالة الشرك عليه فلا عذر لهم في هذه الآية لجواز النسيان عليه.

والقوم الظالمون هم الذين يخوضون في آيات الله ، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لزيادة فائدة وصفهم بالظلم ، فيعلم أنّ خوضهم في آيات الله ظلم ، فيعلم أنّه خوض إنكار للحقّ ومكابرة للمشاهدة.

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩))

لمّا كان الإعراض عن مجالس الذين يخوضون بالطعن في الآيات قد لا يحول دون بلوغ أقوالهم في ذلك إلى أسماع المؤمنين من غير قصد أتبع الله النهي السابق بالعفو عمّا تتلقّفه أسماع المؤمنين من ذلك عفوا ، فتكون الآية عذرا لما يطرق أسماع المؤمنين من غير قعودهم مع الطاعنين.

والمراد ب (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) المؤمنون ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أوّل المتّقين ، فالموصول كتعريف الجنس فيكون شاملا لجميع المسلمين كما كان قوله (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام: ٦٨] حكمه شاملا لبقية المسلمين بحكم التبع. وقال جمع من المفسّرين : كانت آية (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨] خاصّة بالنبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاء قوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) رخصة لغير النبي من المسلمين في الحضور في تلك المجالس لأنّ المشركين كان يغضبهم قيام النبي من مجالسهم. ونسب هذا إلى ابن عبّاس ، والسديّ ، وابن جبير ، فيكون عموم الموصول في قوله : (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) مخصوصا بما اقتضته الآية التي قبلها.

وروى البغوي عن ابن عبّاس قال : لمّا نزلت (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨] قال المسلمون : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا. فأنزل الله عزوجل (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)

١٥٤

يعني إذا قمتم عنهم فما عليكم تبعة ما يقولون في حال مجانبتكم إيّاهم إذ ليس عليكم جرى ذلك وما عليهم أن يمنعوهم.

وقوله : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) تقدّم تفسير نظيره آنفا ، وهو قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٦٨].

ثمّ الحساب هنا مصدر مضاف إلى ضمير الذين يخوضون في الآيات. فهذا المصدر بمنزلة الفعل المبني للمجهول فيحتمل أن يكون فاعله (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) على وزان ما تقدّم في قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] ، أي ما على الذين يتّقون أن يحاسبوا الخائضين ، أي أن يمنعوهم من الخوض إذ لم يكلّفهم الله بذلك لأنّهم لا يستطيعون زجر المشركين ، ويحتمل أن يكون فاعله الله تعالى كقوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [الغاشية : ٢٦] أي ما على الذين يتّقون تبعة حساب المشركين ، أي ما عليهم نصيب من إثم ذلك الخوض إذا سمعوه.

وقوله : (وَلكِنْ ذِكْرى) عطفت الواو الاستدراك على النفي ، أي ما عليهم شيء من حسابهم ولكن عليهم الذكرى. والذكرى اسم مصدر ذكّر ـ بالتشديد ـ بمعنى وعظ ، كقوله تعالى : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [ق : ٨] ، أي عليهم إن سمعوهم يستهزءون أن يعظوهم ويخوّفوهم غضب الله فيجوز أن يكون (ذِكْرى) منصوبا على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله. والتقدير : ولكن يذكّرونهم ذكرى. ويجوز أن يكون ذكرى مرفوعا على الابتداء ، والتقدير : ولكن عليهم ذكرى.

وضمير (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (حِسابِهِمْ) أي لعلّ الذين يخوضون في الآيات يتّقون ، أي يتركون الخوض. وعلى هذا فالتقوى مستعملة في معناها اللغوي دون الشرعي. ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، أي ولكن عليهم الذكرى لعلّهم يتّقون بتحصيل واجب النهي عن المنكر أو لعلّهم يستمرّون على تقواهم.

وعن الكسائي : المعنى ولكن هذه ذكرى ، أي قوله : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : ٦٨] تذكرة لك وليست مؤاخذة بالنسيان ، إذ ليس على المتّقين تبعة سماع استهزاء المستهزئين ولكنّا ذكّرناهم بالإعراض عنهم لعلّهم يتّقون سماعهم.

١٥٥

والجمهور على أنّ هذه الآية ليس بمنسوخة. وعن ابن عبّاس والسدّي أنّها منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء [١٤٠] (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) بناء على رأيهم أنّ قوله : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أباح للمؤمنين القعود ولم يمنعه إلّا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨] كما تقدّم آنفا.

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

عطف على جملة : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨] أو على جملة : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٦٩]. وهذا حكم آخر غير حكم الإعراض عن الخائضين في آيات الله ولذلك عطف عليه. وأتي بموصول وصلة أخرى فليس ذلك إظهارا في مقام الإضمار.

و (ذَرِ) فعل أمر. قيل : لم يرد له ماض ولا مصدر ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول.

فتصاريفه هذه مماتة في الاستعمال استغناء عنها بأمثالها من مادّة ترك تجنّبا للثقل واستعملوا مضارعه والأمر منه. وجعله علماء التصريف مثالا واويا لأنّهم وجدوه محذوف أحد الأصول ، ووجدوه جاريا على نحو يعد ويرث فجزموا بأنّ المحذوف منه الفاء وأنّها واو. وإنّما حذفت في نحو ذر ودع مع أنّها مفتوحة العين اتّباعا للاستعمال ، وهو حذف تخفيف لا حذف دفع ثقل ، بخلاف حذف يعد ويرث.

ومعنى : (ذر) اترك ، أي لا تخالط. وهو هنا مجاز في عدم الاهتمام بهم وقلّة الاكتراث باستهزائهم كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١] ، وقوله: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) ، وقول طرفة :

فذرني وخلقي إنّني لك شاكر

ولو حلّ بيتي نائيا عند ضرغد

أي لا تبال بهم ولا تهتمّ بضلالهم المستمرّ ولا تشغل قلبك بهم فالتذكير بالقرآن شامل لهم ، أو لا تعبأ بهم وذكّرهم به ، أي لا يصدّك سوء استجابتهم عن إعادة تذكيرهم.

١٥٦

والدّين في قوله : (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) يجوز أن يكون بمعنى الملّة ، أي ما يتديّنون به وينتحلونه ويتقرّبون به إلى الله ، كقول النابغة :

مجلّتهم ذات الإله ودينهم

قويم فما يرجون غير العواقب

أي اتّخذوه لعبا ولهوا ، أي جعلوا الدين مجموع أمور هي من اللعب واللهو ، أي العبث واللهو عند الأصنام في مواسمها ، والمكاء والتصدية عند الكعبة على أحد التفسيرين في قوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥].

وإنّما لم يقل اتّخذوا اللهو واللعب دينا لمكان قوله : (اتَّخَذُوا) فإنّهم لم يجعلوا كلّ ما هو من اللهو واللعب دينا لهم بل عمدوا إلى أن ينتحلوا دينا فجمعوا له أشياء من اللعب واللهو وسمّوها دينا.

ويجوز أن يكون المراد من الدّين العادة ، كقول المثقّب العبدي :

تقول وقد درأت لها وضيني

أهذا دينه أبدا وديني

أي الذين دأبهم اللعب واللهو المعرضون عن الحقّ ، وذلك في معاملتهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واللعب واللهو تقدّم تفسيرهما في قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) في هذه السورة [٣٢].

والذين اتّخذوا دينهم لعبا ولهوا فريق عرفوا بحال هذه الصلة واختصّت بهم ، فهم غير المراد من الذين يخوضون في الآيات بل بينهم وبين الذين يخوضون في الآيات ؛ فيجوز أن يكون المراد بهم المشركين كلّهم بناء على تفسير الدين بالملّة والنّحلة فهم أعمّ من الذين يخوضون فبينهم العموم والخصوص المطلق. وهذا يناسب تفسير (ذَرِ) بمعنى عدم الاكتراث بهم وبدينهم لقصد عدم اليأس من إيمانهم أو لزيادة التسجيل عليهم ، أي وذكّرهم بالقرآن ، ويجوز أن يكون المراد بهم فريقا من المشركين سفهاء اتّخذوا دأبهم اللعب واللهو ، بناء على تفسير الدين بمعنى العادة فبينهم وبين الذين يخوضون العموم والخصوص الوجهي.

(وَغَرَّتْهُمُ) أي خدعتهم الحياة الدنيا وظنّوا أنّها لا حياة بعدها وأنّ نعيمها دائم لهم بطرا منهم. وتقدّم تفسير الغرور عند قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) في سورة آل عمران [١٩٦].

١٥٧

وذكر الحياة هنا له موقع عظيم وهو أنّ همّهم من هذه الدنيا هو الحياة فيها لا ما يتكسب فيها من الخيرات التي تكون بها سعادة الحياة في الآخرة ، أي غرّتهم الحياة الدنيا فأوهمتهم أن لا حياة بعدها وقالوا : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام:٢٩].

والضمير المجرور في (وَذَكِّرْ بِهِ) عائد إلى القرآن لأنّ التذكير هو التذكير بالله وبالبعث وبالنعيم والعذاب. وذلك إنّما يكون بالقرآن فيعلم السامع أنّ ضمير الغيبة يرجع إلى ما في ذهن المخاطب من المقام ، ويدل عليه قوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ) (يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥]. وحذف مفعول (ذَكِّرْ) لدلالة قوله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي وذكّرهم به.

وقوله : (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) يجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل (ذَكِّرْ) وهو الأظهر ، أي ذكّرهم به إبسال نفس بما كسبت ، فإنّ التذكير يتعدّى إلى مفعولين من باب أعطى لأنّ أصل فعله المجرّد يتعدّى إلى مفعول فهو بالتضعيف يتعدّى إلى مفعولين هما «هم» و (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ). وخصّ هذا المصدر من بين الأحداث المذكّر بها لما فيه من التهويل. ويجوز أن يكون (أَنْ تُبْسَلَ) على تقدير لام الجرّ تعليلا للتذكير ، فهو كالمفعول لأجله فيتعيّن تقدير لا النافية بعد لام التعليل المحذوفة. والتقدير : لئلّا تبسل نفس ، كقوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ، وقد تقدّم في آخر سورة النساء [١٧٦]. وجوّز فيه غير ذلك ولم أكن منه على ثلج.

ووقع لفظ (نفس) وهو نكرة في سياق الإثبات وقصد به العموم بقرينة مقام الموعظة ، كقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار : ٥] ـ أي كلّ نفس ـ علمت نفس ما أحضرت ، أي كلّ نفس.

والإبسال : الإسلام إلى العذاب ، وقيل : السجن والارتهان ، وقد ورد في كلامهم بالمعنيين وهما صالحان هنا. وأصله من البسل وهو المنع والحرام. قال ضمرة النهشلي :

بكرت تلومك بعد وهن في النّدى

بسل عليك ملامتي وعتابي

وأمّا الإبسال بمعنى الإسلام فقد جاء فيه قول عوف بن الأحوص الكلابي :

وإبسالي بنيّ بغير جرم

بعوناه ولا بدم مراق

ومعنى : (بِما كَسَبَتْ) بما جنت. فهو كسب الشرّ بقرينة (تُبْسَلَ).

١٥٨

وجملة : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ) إلخ في موضع الحال من (نَفْسٌ) لعموم (نَفْسٌ) ، أو في موضع الصفة نظرا لكون لفظه مفردا.

والوليّ : الناصر. والشفيع : الطالب للعفو عن الجاني لمكانة له عند من بيده العقاب. وقد تقدّم الولي عند قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) في هذه السورة [١٤] ، والشفاعة عند قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) في سورة البقرة [٤٨].

وجملة : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) عطف على جملة (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ). و (تَعْدِلْ) مضارع عدل إذا فدى شيئا بشيء وقدّره به. فالفداء يسمّى العدل كما تقدّم في قوله تعالى : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) في سورة البقرة [٤٨].

وجيء في الشرط ب (أَنْ) المفيدة عدم تحقّق حصول الشرط لأنّ هذا الشرط مفروض كما يفرض المحال.

والعدل في قوله : (كُلَّ عَدْلٍ) مصدر عدل المتقدّم. وهو مصدره القياسي فيكون (كُلَ) منصوبا على المفعولية المطلقة كما في «الكشّاف» ، أي وإن تعط كلّ عطاء للفداء لا يقبل عطاؤها ، ولا يجوز أن يكون مفعولا به ل (تَعْدِلْ) لأنّ فعل (عدل) يتعدّى للعوض بالباء وإنّما يتعدّى بنفسه للمعوّض وليس هو المقصود هنا. فلذلك منع في «الكشّاف» أن يكون (كُلَّ عَدْلٍ) مفعولا به ، وهو تدقيق. و (كُلَ) هنا مجاز في الكثرة إذ ليس للعدل ، أي للفداء حصر حتّى يحاط به كلّه. وقد تقدّم استعمال (كلّ) بمعنى الكثرة وهو مجاز شائع عند قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) في سورة البقرة [١٤٥].

وقوله : (لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي لا يؤخذ منها ما تعدل به. فقوله : (مِنْها) هو نائب الفاعل ل (يُؤْخَذْ). وليس في (يُؤْخَذْ) ضمير العدل لأنّك قد علمت أنّ العدل هنا بمعنى المصدر ، فلا يسند إليه الأخذ كما في «الكشاف» ، فقد نزّل فعل الأخذ منزلة اللازم ولم يقدّر له مفعول كأنّه قيل : لا يؤخذ منها أخذ. والمعنى لا يؤخذ منها شيء. وقد جمعت الآية جميع ما تعارف الناس التخلّص به من القهر والغلب ، وهو الناصر والشفيع والفدية. فهي كقوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) في سورة البقرة [٤٨].

وجملة : (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) مستأنفة استئنافا بيانيا لأنّ الكلام يثير

١٥٩

سؤال سائل يقول : فما حال الذين اتّخذوا دينهم لعبا ولهوا من حال النفوس التي تبسل بما كسبت ، فأجيب بأنّ أولئك هم الذين أبسلوا بما كسبوا ، فتكون الإشارة إلى الموصول بما له من الصلة ، والتعريف للجزءين أفاد القصر ، أي أولئك هم المبسلون لا غيرهم.

وهو قصر مبالغة لأنّ إبسالهم هو أشدّ إبسال يقع فيه الناس فجعل ما عداه كالمعدوم.

ويجوز أن تكون الإشارة إلى النفس في قوله : (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) باعتبار دلالة النكرة على العموم ، أي أنّ أولئك المبسلون العادمون وليّا وشفيعا وقبول فديتهم هم الذين أبسلوا بما كسبوا ، أي ذلك هو الإبسال الحقّ لا ما تعرفونه في جرائركم وحروبكم من الإبسال ، كإبسال أبناء عوف بن الأحوص المتقدّم آنفا في شعره ، فهذا كقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) [التغابن : ٩].

وجملة (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) بيان لمعنى الإبسال أو بدل اشتمال من معنى الإبسال ، فلذلك فصلت.

والحميم : الماء الشديد الحرارة ، ومنه الحمة ـ بفتح الحاء ـ العين الجارية بالماء الحارّ الذي يستشفى به من أوجاع الأعضاء والدمل. وفي الحديث : «مثل العالم مثل الحمّة يأتيها البعداء ويتركها القرباء». وخصّ الشراب من الحميم من بين بقية أنواع العذاب المذكور من بعد للإشارة إلى أنّهم يعطشون فلا يشربون إلّا ماء يزيدهم حرارة على حرارة العطش.

والباء في (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) للسببية ، و (ما) مصدرية.

وزيد فعل (كان) ليدلّ على تمكّن الكفر منهم واستمرارهم عليه لأنّ فعل مادّة الكون تدلّ على الوجود ، فالإخبار به عن شيء مخبر عنه بغيره أو موصوف بغيره لا يفيد فائدة الأوصاف سوى أنّه أفاد الوجود في الزمن الماضي ، وذلك مستعمل في التمكّن.

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١))

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ).

استئناف ابتدائي لتأييس المشركين من ارتداد بعض المسلمين عن الدين ، فقد كان

١٦٠