تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

فحبست ناقتي عن السير. قال ذو الرمّة :

وقفت على ربع لميّة ناقتي

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

فحذفوا مفعول (وقفت) لكثرة الاستعمال. ويقال : وقفه فوقف ، ولا يقال : أوقفه بالهمزة.

وعطف عليه (فَقالُوا) بالفاء المفيدة للتعقيب ، لأنّ ما شاهدوه من الهول قد علموا أنّه جزاء تكذيبهم بإلهام أوقعه الله في قلوبهم أو بإخبار ملائكة العذاب ، فعجّلوا فتمنّوا أن يرجعوا.

وحرف النداء في قولهم : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) مستعمل في التحسّر ، لأنّ النداء يقتضي بعد المنادى ، فاستعمل في التحسّر لأنّ المتمنّى صار بعيدا عنهم ، أي غير مفيد لهم ، كقوله تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦].

ومعنى (نُرَدُّ) نرجع إلى الدنيا ؛ وعطف عليه (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) برفع الفعلين بعد (لا) النافية في قراءة الجمهور عطفا على (نُرَدُّ) ، فيكون من جملة ما تمنّوه ، ولذلك لم ينصب في جواب التمنّي إذ ليس المقصود الجزاء ، ولأنّ اعتبار الجزاء مع الواو غير مشهور ، بخلافه مع الفاء لأنّ الفاء متأصّلة في السببية. والردّ غير مقصود لذاته وإنّما تمنّوه لما يقع معه من الإيمان وترك التكذيب. وإنّما قدّم في الذكر ترك التكذيب على الإيمان لأنّه الأصل في تحصيل المتمنّى على اعتبار الواو للمعية واقعة موقع فاء السببية في جواب التمنّي.

وقرأه حمزة والكسائي (وَلا نُكَذِّبَ) ـ و (نَكُونَ) ـ بنصب الفعلين ـ ، على أنّهما منصوبان في جواب التمنّي. وقرأ ابن عامر (وَلا نُكَذِّبَ) ـ بالرفع ـ كالجمهور ، على معنى أنّ انتفاء التكذيب حاصل في حين كلامهم ، فليس بمستقبل حتى يكون بتقدير (أن) المفيدة للاستقبال. وقرأ (وَنَكُونَ) ـ بالنصب ـ على جواب التمنّي ، أي نكون من القوم الذين يعرفون بالمؤمنين. والمعنى لا يختلف.

وقوله : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) إضراب عن قولهم (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). والمعنى بل لأنّهم لم يبق لهم مطمع في الخلاص.

وبدا الشيء ظهر. ويقال : بدا له الشيء إذا ظهر له عيانا. وهو هنا مجاز في زوال الشكّ في الشيء ، كقول زهير :

٦١

بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا

ولمّا قوبل (بَدا لَهُمْ) في هذه الآية بقوله : (ما كانُوا يُخْفُونَ) علمنا أنّ البداء هو ظهور أمر في أنفسهم كانوا يخفونه في الدنيا ، أي خطر لهم حينئذ ذلك الخاطر الذي كانوا يخفونه ، أي الذي كان يبدو لهم ، أي يخطر ببالهم وقوعه فلا يعلنون به فبدا لهم الآن فأعلنوا به وصرّحوا معترفين به. ففي الكلام احتباك ، وتقديره : بل بدا لهم ما كان يبدو لهم في الدنيا فأظهروه الآن وكانوا يخفونه. وذلك أنّهم كانوا يخطر لهم الإيمان لما يرون من دلائله أو من نصر المؤمنين فيصدّهم عنه العناد والحرص على استبقاء السيادة والأنفة من الاعتراف بفضل الرسول وبسبق المؤمنين إلى الخيرات قبلهم ، وفيهم ضعفاء القوم وعبيدهم ، كما ذكرناه عند قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) في هذه السورة [٥٢] ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) في سورة الحجر [٢]. وهذا التفسير يغني عن الاحتمالات التي تحيّر فيها المفسّرون وهي لا تلائم نظم الآية ، فبعضها يساعده صدرها وبعضها يساعده عجزها وليس فيها ما يساعده جميعها.

وقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) ارتقاء في إبطال قولهم حتى يكون بمنزلة التسليم الجدلي في المناظرة ، أي لو أجيبت أمنيتهم وردّوا إلى الدنيا لعادوا للأمر الذي كان النبي ينهاهم عنه ، وهو التكذيب وإنكار البعث ، وذلك لأنّ نفوسهم التي كذّبت فيما مضى تكذيب مكابرة بعد إتيان الآيات البيّنات ، هي النفوس التي أرجعت إليهم يوم البعث فالعقل العقل والتفكير التفكير ، وإنّما تمنّوا ما تمنّوا من شدّة الهول فتوهّموا التخلّص منه بهذا التمنّي فلو تحقّق تمنّيهم وردّوا واستراحوا من ذلك الهول لغلبت أهواؤهم رشدهم فنسوا ما حلّ بهم ورجعوا إلى ما ألفوا من التكذيب والمكابرة.

وفي هذا دليل على أنّ الخواطر الناشئة عن عوامل الحسّ دون النظر والدليل لا قرار لها في النفس ولا تسير على مقتضاها إلّا ريثما يدوم ذلك الإحساس فإذا زال زال أثره ، فالانفعال به يشبه انفعال العجماوات من الزّجر والسّوط ونحوهما. ويزول بزواله حتّى يعاوده مثله.

وقوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) تذييل لما قبله. جيء بالجملة الاسمية الدالّة على الدوام والثبات ، أي أنّ الكذب سجيّة لهم قد تطبعوا عليها من الدنيا فلا عجب أن يتمنّوا الرجوع ليؤمنوا فلو رجعوا لعادوا لما كانوا عليه فإنّ الكذب سجيّتهم. وقد تضمّن تمنّيهم وعدا ،

٦٢

فلذلك صحّ إدخاله في حكم كذبهم دخول الخاصّ في العامّ ، لأنّ التذييل يؤذن بشمول ما ذيّل به وزيادة. فليس وصفهم بالكذب بعائد إلى التمنّي بل إلى ما تضمّنه من الوعد بالإيمان وعدم التكذيب بآيات الله.

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))

يجوز أن يكون عطفا على قوله (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] فيكون جواب (لَوْ) ، أي لو ردّوا لكذّبوا بالقرآن أيضا ، ولكذّبوا بالبعث كما كانوا مدّة الحياة الأولى. ويجوز أن تكون الجملة عطفت على جملة (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] ، ويكون ما بين الجملتين اعتراضا يتعلّق بالتكذيب للقرآن.

وقوله (إِنْ هِيَ) (إن) نافية للجنس ، والضمير بعدها مبهم يفسّره ما بعد الاستثناء المفرّغ. قصد من إبهامه الإيجاز اعتمادا على مفسّره ، والضمير لمّا كان مفسّرا بنكرة فهو في حكم النكرة ، وليس هو ضمير قصّة وشأن ، لأنّه لا يستقيم معه معنى الاستثناء ، والمعنى إن الحياة لنا إلّا حياتنا الدنيا ، أي انحصر جنس حياتنا في حياتنا الدنيا فلا حياة لنا غيرها فبطلت حياة بعد الموت ، فالاسم الواقع بعد (إِلَّا) في حكم البدل من الضمير.

وجملة : (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) نفي للبعث ، وهو يستلزم تأكيد نفي الحياة غير حياة الدنيا ، لأنّ البعث لا يكون إلّا مع حياة. وإنّما عطفت ولم تفصل فتكون موكّدة للجملة قبلها لأنّ قصدهم إبطال قول الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّهم يحيون حياة ثانية ، وقوله تارة أنّهم مبعوثون بعد الموت ، فقصدوا إبطال كلّ باستقلاله.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠))

لمّا ذكر إنكارهم البعث أعقبه بوصف حالهم حين يحشرون إلى الله ، وهن حال البعث الذي أنكروه.

والقول في الخطاب وفي معنى (وُقِفُوا) وفي جواب (لَوْ) تقدّم في نظريتها آنفا. وتعليق (عَلى رَبِّهِمْ) ب (وُقِفُوا) تمثيل لحضورهم المحشر عند البعث. شبّهت حالهم في الحضور للحساب بحال عبد جنى فقبض عليه فوقف بين يدي ربّه. وبذلك تظهر مزية التعبير بلفظ (رَبِّهِمْ) دون اسم الجلالة.

٦٣

وجملة : (قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) استئناف بياني ، لأنّ قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا) قد آذن بمشهد عظيم مهول فكان من حقّ السامع أن يسأل : ما ذا لقوا من ربّهم ، فيجاب : (قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) الآية.

والإشارة إلى البعث الذي عاينوه وشاهدوه. والاستفهام تقريري دخل على نفي الأمر المقرّر به لاختبار مقدار إقرار المسئول ، فلذلك يسأل عن نفي ما هو واقع لأنّه إن كان له مطمع في الإنكار تذرّع إليه بالنفي الواقع في سؤال المقرّر. والمقصود : أهذا حقّ ، فإنّهم كانوا يزعمونه باطلا. ولذلك أجابوا بالحرف الموضوع لإبطال ما قبله وهو (بَلى) فهو يبطل النفي فهو إقرار بوقوع المنى ، أي بلى هو حقّ ، وأكّدوا ذلك بالقسم تحقيقا لاعترافهم للمعترف به لأنّه معلوم لله تعالى ، أي نقرّ ولا نشكّ فيه فلذلك نقسم عليه. وهذا من استعمال القسم لتأكيد لازم فائدة الخبر.

وفصل (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ) على طريقة فصل المحاورات. والفاء للتفريع عن كلامهم ، أو فاء فصيحة ، أي إذ كان هذا الحقّ فذوقوا العذاب على كفركم ، أي بالبعث. والباء سببية ، و «ما» مصدرية ، أي بسبب كفركم ، أي بهذا. وذوق العذاب استعارة لإحساسه ، لأنّ الذوق أقوى الحواسّ المباشرة للجسم ، فشبّه به إحساس الجلد.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١))

استئناف للتعجيب من حالهم حين يقعون يوم القيامة في العذاب على ما استداموه من الكفر الذي جرّأهم على استدامته اعتقادهم نفي البعث فذاقوا العذاب لذلك ، فتلك حالة يستحقّون بها أن يقال فيهم : قد خسروا وخابوا.

والخسران تقدّم القول فيه عند قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) في هذه السورة [١٢]. والخسارة هنا حرمان خيرات الآخرة لا الدنيا.

والذين كذّبوا بلقاء الله هم الذين حكي عنهم بقوله : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) فكان مقتضى الظاهر الإضمار تبعا لقوله (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) [الأنعام : ٢٧] وما بعده ، بأن يقال : قد خسروا ، لكن عدل إلى الإظهار ليكون الكلام مستقلا وليبنى عليه ما في الصلة من تفصيل بقوله : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) إلخ.

٦٤

ولقاء الله هو ظهور آثار رضاه وغضبه دون تأخير ولا إمهال ولا وقاية بأسباب عادية من نظام الحياة الدنيا ، فلمّا كان العالم الأخروي وهو ما بعد البعث عالم ظهور الحقائق بآثارها دون موانع ، وتلك الحقائق هي مراد الله الأعلى الذي جعله عالم كمال الحقائق ، جعل المصير إليه مماثلا للقاء صاحب الحق بعد الغيبة والاستقلال عنه زمانا طويلا ، فلذلك سمّي البعث ملاقاة الله ، ولقاء الله ومصيرا إلى الله ، ومجيئا إليه ، في كثير من الآيات والألفاظ النبوية ، وإلّا فإنّ الناس في الدنيا هم في قبضة تصرّف الله لو شاء لقبضهم إليه ولعجّل إليهم جزاءهم. قال تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) [يونس : ١١]. ولكنّه لمّا أمهلهم واستدرجهم في هذا العالم الدنيوي ورغّب ورهّب ووعد وتوعّد كان حال الناس فيه كحال العبيد يأتيهم الأمر من مولاهم الغائب عنهم ويرغّبهم ويحذّرهم ، فمنهم من يمتثل ومنهم من يعصي ، وهم لا يلقون حينئذ جزاء عن طاعة ولا عقابا عن معصية لأنّه يملي لهم ويؤخّرهم ، فإذا طوي هذا العالم وجاءت الحياة الثانية صار الناس في نظام آخر ، وهو نظام ظهور الآثار دون ريث ، قال تعالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) [الكهف : ٤٩] ، فكانوا كعبيد لقوا ربّهم بعد أن غابوا وأمهلوا. فاللقاء استعارة تمثيلية : شبّهت حالة الخلق عند المصير إلى تنفيذ وعد الله ووعيده بحالة العبيد عند حضور سيّدهم بعد غيبة ليجزيهم على ما فعلوا في مدّة المغيب. وشاع هذا التمثيل في القرآن وكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال : «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه» ، وفي القرآن (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) [غافر : ١٥].

وقوله : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) (حتّى) ابتدائية ، وهي لا تفيد الغاية وإنّما تفيد السببية ، كما صرّح به ابن الحاجب ، أي فإذا جاءتهم الساعة بغتة. ومن المفسّرين من جعل مجيء الساعة غاية للخسران ، وهو فاسد لأنّ الخسران المقصود هنا هو خسرانهم يوم القيامة ، فأمّا في الدنيا ففيهم من لم يخسر شيئا. وقد تقدّم كلام على (حتّى) الابتدائية عند قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) في هذه السورة [٢٥]. وسيجيء لمعنى (حتى) زيادة بيان عند قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ـ إلى قوله ـ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) في سورة الأعراف [٣٧].

والساعة : علم بالغلبة على ساعة البعث والحشر.

والبغتة فعلة من البغت ، وهو مصدر بغته الأمر إذا نزل به فجأة من غير ترقّب ولا

٦٥

إعلام ولا ظهور شبح أو نحوه. ففي البغت معنى المجيء عن غير إشعار. وهو منتصب على الحال ، فإنّ المصدر يجيء حالا إذا كان ظاهرا تأويله باسم الفاعل ، وهو يرجع إلى الإخبار بالمصدر لقصد المبالغة.

وقوله : (قالُوا) جواب (إذا). و (يا حَسْرَتَنا) نداء مقصود به التعجّب والتندّم ، وهو في أصل الوضع نداء للحسرة بتنزيلها منزلة شخص يسمع وينادي ليحضر كأنّه يقول : يا حسرة احضري فهذا أوان حضورك. ومنه قولهم : يا ليتني فعلت كذا ، ويا أسفي أو يا أسفا ، كما تقدّم آنفا.

وأضافوا الحسرة إلى أنفسهم ليكون تحسّرهم لأجل أنفسهم ، فهم المتحسّرون والمتحسّر عليهم ، بخلاف قول القائل : يا حسرة ، فإنّه في الغالب تحسّر لأجل غيره فهو يتحسّر لحال غيره. ولذلك تجيء معه (على) التي تدخل على الشيء المتحسّر من أجله داخلة على ما يدلّ على غير التحسّر ، كقوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) فأمّا مع (يا حسرتي ، أو يا حسرتا) فإنّما تجيء (على) داخلة على الأمر الذي كان سببا في التحسّر كما هنا (عَلى ما فَرَّطْنا فِيها). ومثل ذلك قولهم : يا ويلي ويا ويلتي ، قال تعالى : (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) [الكهف : ٤٩] ، فإذا أراد المتكلّم أنّ الويل لغيره قال : ويلك ، قال تعالى : (وَيْلَكَ آمِنْ) [الأحقاف : ١٧] ويقولون : ويل لك.

والحسرة : الندم الشديد ، وهو التلهّف ، وهي فعلة من حسر يحسر حسرا ، من باب فرح ، ويقال : تحسّر تحسّرا. والعرب يعاملون اسم المرّة معاملة مطلق المصدر غير ملاحظين فيه معنى المرّة ، ولكنّهم يلاحظون المصدر في ضمن فرد ، كمدلول لام الحقيقة ، ولذلك يحسن هذا الاعتبار في مقام النداء لأنّ المصدر اسم للحاصل بالفعل بخلاف اسم المرّة فهو اسم لفرد من أفراد المصدر فيقوم مقام الماهية.

و (فَرَّطْنا) أضعنا. يقال : فرّط في الأمر إذا تهاون بشيء ولم يحفظه ، أو في اكتسابه حتى فاته وأفلت منه. وهو يتعدّى إلى المفعول بنفسه ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨]. والأكثر أن يتعدّى بحرف (في) فيقال فرّط في ماله ، إذا أضاعه.

و (ما) موصولة ما صدقها الأعمال الصالحة. ومفعول (فَرَّطْنا) محذوف يعود إلى (ما). تقديره : ما فرّطناه وهم عامّ مثل معاده ، أي ندمنا على إضاعة كلّ ما من شأنه أن ينفعنا ففرّطناه ، وضمير (فِيها) عائد إلى الساعة. و «في» تعليلية ، أي ما فوّتناه من

٦٦

الأعمال النافعة لأجل نفع هذه الساعة ، ويجوز أن يكون في للتعدية بتقدير مضاف إلى الضمير ، أي في خيراتها. والمعنى على ما فرّطنا في الساعة ، يعنون ما شاهدوه من نجاة ونعيم أهل الفلاح. ويجوز أن يعود ضمير (فِيها) على الحياة الدنيا ، فيكون «في» للظرفية الحقيقية.

وجملة : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) في موضع الحال من ضمير (قالُوا) ، أي قالوا ذلك في حال أنّهم يحملون أوزارهم فهم بين تلهّف على التفريط في الأعمال الصالحة والإيمان وبين مقاساة العذاب على الأوزار التي اقترفوها ، أي لم يكونوا محرومين من خير ذلك اليوم فحسب بل كانوا مع ذلك متعبين مثقلين بالعذاب.

والأوزار جمع وزر ـ بكسر الواو ـ ، وهو الحمل الثقيل ، وفعله وزر يزر إذا حمل. ومنه قوله هنا (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ). وقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤]. وأطلق الوزر على الذنب والجناية لثقل عاقبتها على جانيها.

وقوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) تمثيل لهيئة عنتهم من جرّاء ذنوبهم بحال من يحمل حملا ثقيلا. وذكر (عَلى ظُهُورِهِمْ) هنا مبالغة في تمثيل الحالة ، كقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠]. فذكر الأيدي لأنّ الكسب يكون باليد ، فهو يشبه تخييل الاستعارة ولكنّه لا يتأتّى التخييل في التمثيلية لأنّ ما يذكر فيها صالح لاعتباره من جملة الهيئة ، فإنّ الحمل على الظهر مؤذن بنهاية ثقل المحمول على الحامل.

ومن لطائف التوجيه وضع لفظ الأوزار في هذا التمثيل ؛ فإنّه مشترك بين الأحمال الثقيلة وبين الذنوب ، وهم إنّما وقعوا في هذه الشدّة من جرّاء ذنوبهم فكأنّهم يحملونها لأنّهم يعانون شدّة آلامها.

وجملة : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) تذييل. و (ألا) حرف استفتاح يفيد التنبيه للعناية بالخبر. و (ساءَ ما يَزِرُونَ) إنشاء ذمّ. و (يَزِرُونَ) بمعنى (يَحْمِلُونَ) ، أي ساء ما يمثّل من حالهم بالحمل. و (ما يَزِرُونَ) فاعل (ساءَ). والمخصوص بالذمّ محذوف ، تقديره: حملهم.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢))

٦٧

لمّا جرى ذكر الساعة وما يلحق المشركين فيها من الحسرة على ما فرّطوا ناسب أن يذكّر الناس بأنّ الحياة الدنيا زائلة وأنّ عليهم أن يستعدّوا للحياة الآخرة. فيحتمل أن يكون جوابا لقول المشركين : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام : ٢٩]. فتكون الواو للحال ، أي تقولون إن هي إلّا حياتنا الدنيا ولو نظرتم حقّ النظر لوجدتم الحياة الدنيا لعبا ولهوا وليس فيها شيء باق ، فلعلمتم أنّ وراءها حياة أخرى فيها من الخيرات ما هو أعظم ممّا في الدنيا وإنّما يناله المتّقون ، أي المؤمنون ، فتكون الآية إعادة لدعوتهم إلى الإيمان والتقوى ، ويكون الخطاب في قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) التفاتا من الحديث عنهم بالغيبة إلى خطابهم بالدعوة.

ويحتمل أنّه اعتراض بالتذييل لحكاية حالهم في الآخرة ، فإنّه لما حكى قولهم : (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) [الأنعام : ٣١] علم السامع أنّهم فرّطوا في الأمور النافعة لهم في الآخرة بسبب الانهماك في زخارف الدنيا ، فذيّل ذلك بخطاب المؤمنين تعريفا بقيمة زخارف الدنيا وتبشيرا لهم بأنّ الآخرة هي دار الخير للمؤمنين ، فتكون الواو عطفت جملة البشارة على حكاية النذارة. والمناسبة هي التضادّ. وأيضا في هذا نداء على سخافة عقولهم إذ غرّتهم في الدنيا فسوّل لهم الاستخفاف بدعوة الله إلى الحق. فيجعل قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) خطابا مستأنفا للمؤمنين تحذيرا لهم من أن تغرّهم زخارف الدنيا فتلهيهم عن العمل للآخرة.

وهذا الحكم عامّ على جنس الحياة الدنيا ، فالتعريف في الحياة تعريف الجنس ، أي الحياة التي يحياها كلّ أحد المعروفة بالدنيا ، أي الأولى والقريبة من الناس ، وأطلقت الحياة الدنيا على أحوالها ، أو على مدّتها.

واللعب : عمل أو قول في خفّة وسرعة وطيش ليست له غاية مفيدة بل غايته إراحة البال وتقصير الوقت واستجلاب العقول في حالة ضعفها كعقل الصغير وعقل المتعب ، وأكثره أعمال الصبيان. قالوا ولذلك فهو مشتقّ من اللّعاب ، وهو ريق الصبي السائل. وضدّ اللعب الجدّ.

واللهو : ما يشتغل به الإنسان ممّا ترتاح إليه نفسه ولا يتعب في الاشتغال به عقله. فلا يطلق إلّا على ما فيه استمتاع ولذّة وملائمة للشهوة.

وبين اللهو واللعب العموم والخصوص الوجهي. فهما يجتمعان في العمل الذي فيه ملاءمة ويقارنه شيء من الخفّة والطيش كالطرب واللهو بالنساء. وينفرد اللعب في لعب

٦٨

الصبيان. وينفرد اللهو في نحو الميسر والصيد.

وقد أفادت صيغة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) قصر الحياة على اللعب واللهو ، وهو قصر موصوف على صفة. والمراد بالحياة الأعمال التي يحبّ الإنسان الحياة لأجلها ، لأنّ الحياة مدّة وزمن لا يقبل الوصف بغير أوصاف الأزمان من طول أو قصر ، وتحديد أو ضدّه ، فتعيّن أنّ المراد بالحياة الأعمال المظروفة فيها. واللعب واللهو في قوة الوصف ، لأنّهما مصدران أريد بهما الوصف للمبالغة ، كقول الخنساء :

فإنّما هي إقبال وإدبار

وهذا القصر ادّعائي يقصد به المبالغة ، لأنّ الأعمال الحاصلة في الحياة كثيرة ، منها اللهو واللعب ، ومنها غيرهما ، قال تعالى : (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) [الحديد : ٢٠]. فالحياة تشتمل على أحوال كثيرة منها الملائم كالأكل واللذات ، ومنها المؤلم كالأمراض والأحزان ، فأمّا المؤلمات فلا اعتداد بها هنا ولا التفات إليها لأنّها ليست ممّا يرغب فيه الراغبون ، لأنّ المقصود من ذكر الحياة هنا ما يحصل فيها ممّا يحبّها الناس لأجله ، وهو الملائمات.

وأمّا الملائمات فهي كثيرة ، ومنها ما ليس بلعب ولهو ، كالطعام والشراب والتدفّي في الشتاء والتبرّد في الصيف وجمع المال عند المولع به وقرى الضيف ونكاية العدوّ وبذل الخير للمحتاج ، إلّا أنّ هذه لمّا كان معظمها يستدعي صرف همّة وعمل كانت مشتملة على شيء من التعب وهو منافر. فكان معظم ما يحبّ الناس الحياة لأجله هو اللهو واللعب ، لأنّه الأغلب على أعمال الناس في أول العمر والغالب عليهم فيما بعد ذلك. فمن اللعب المزاح ومغازلة النساء ، ومن اللهو الخمر والميسر والمغاني والأسمار وركوب الخيل والصيد.

فأمّا أعمالهم في القربات كالحجّ والعمرة والنذر والطواف بالأصنام والعتيرة ونحوها فلأنّها لمّا كانت لا اعتداد بها بدون الإيمان كانت ملحقة باللعب ، كما قال تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥] ، وقال : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الأعراف : ٥١].

فلا جرم كان الأغلب على المشركين والغالب على الناس اللعب واللهو إلّا من آمن وعمل صالحا. فلذلك وقع القصر الادّعائي في قوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ).

٦٩

وعقّب بقوله : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، فعلم منه أنّ أعمال المتّقين في الدنيا هي ضدّ اللعب واللهو ، لأنّهم جعلت لهم دار أخرى هي خير ، وقد علم أنّ الفوز فيها لا يكون إلّا بعمل في الدنيا فأنتج أنّ عملهم في الدنيا ليس اللهو واللعب وأنّ حياة غيرهم هي المقصورة على اللهو واللعب.

والدار محلّ إقامة الناس ، وهي الأرض التي فيها بيوت الناس من بناء أو خيام أو قباب. والآخرة مؤنّث وصف الآخر ـ بكسر الخاء ـ وهو ضدّ الأول ، أي مقرّ الناس الأخير الذي لا تحوّل بعده.

وقرأ جمهور العشرة (وَلَلدَّارُ) ـ بلامين ـ لام الابتداء ولام التعريف ، وقرءوا (الْآخِرَةُ) ـ بالرفع ـ. وقرأ ابن عامر ولدار الآخرة ـ بلام الابتداء فقط وبإضافة دار منكّرة إلى الآخرة ـ فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، كقولهم : مسجد الجامع ، أو هو على تقدير مضاف تكون (الْآخِرَةُ) وصفا له. والتقدير : دار الحياة الآخرة.

و (خَيْرٌ) تفضيل على الدنيا باعتبار ما في الدنيا من نعيم عاجل زائل يلحق معظمة مؤاخذة وعذاب.

وقوله (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) تعريض بالمشركين بأنّهم صائرون إلى الآخرة لكنّها ليست لهم بخير ممّا كانوا في الدنيا. والمراد ب (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) المؤمنون التابعون لما أمر الله به ، كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] ، فإنّ الآخرة لهؤلاء خير محض. وأمّا من تلحقهم مؤاخذة على أعمالهم السيئة من المؤمنين فلمّا كان مصيرهم بعد إلى الجنّة كانت الآخرة خيرا لهم من الدنيا.

وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) عطف بالفاء على جملة : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) إلى آخرها لأنّه يتفرّع عليه مضمون الجملة المعطوفة. والاستفهام عن عدم عقلهم مستعمل في التوبيخ إن كان خطابا للمشركين ، أو في التحذير إن كان خطابا للمؤمنين. على أنّه لمّا كان استعماله في أحد هذين على وجه الكناية صحّ أن يراد منه الأمران باعتبار كلا الفريقين ، لأنّ المدلولات الكنائية تتعدّد ولا يلزم من تعدّدها الاشتراك ، لأنّ دلالتها التزامية ، على أنّنا نلتزم استعمال المشترك في معنييه.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ـ بتاء الخطاب ـ على طريقة الالتفات. وقرأه الباقون ـ بياء تحتية ـ ، فهو على هذه القراءة عائد

٧٠

لما عاد إليه ضمائر الغيبة قبله ، والاستفهام حينئذ للتعجيب من حالهم.

وفي قوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) تأييس للمشركين.

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣))

استئناف ابتدائي قصدت به تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره بالصبر ، ووعده بالنصر ، وتأييسه من إيمان المتغالين في الكفر ، ووعده بإيمان فرق منهم بقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ـ إلى قوله ـ يَسْمَعُونَ). وقد تهيّأ المقام لهذا الغرض بعد الفراغ من محاجّة المشركين في إبطال شركهم وإبطال إنكارهم رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والفراغ من وعيدهم وفضيحة مكابرتهم ابتداء من قوله : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) [الأنعام : ٤] إلى هنا.

وقد تحقيق للخبر الفعلي ، فهو في تحقيق الجملة الفعلية بمنزلة (إنّ) في تحقيق الجملة الاسمية. فحرف قد مختصّ بالدخول على الأفعال المتصرّفة الخبرية المثبتة المجرّدة من ناصب وجازم وحرف تنفيس ، ومعنى التحقيق ملازم له. والأصحّ أنّه كذلك سواء كان مدخولها ماضيا أو مضارعا ، ولا يختلف معنى قد بالنسبة للفعلين. وقد شاع عند كثير من النحويّين أنّ قد إذا دخل على المضارع أفاد تقليل حصول الفعل. وقال بعضهم : إنّه مأخوذ من كلام سيبويه ، ومن ظاهر كلام «الكشاف» في هذه الآية. والتحقيق أنّ كلام سيبويه لا يدلّ إلّا على أنّ قد يستعمل في الدلالة على التقليل لكن بالقرينة وليست بدلالة أصلية. وهذا هو الذي استخلصته من كلامهم وهو المعوّل عليه عندي. ولذلك فلا فرق بين دخول قد على فعل المضي ودخوله على الفعل المضارع في إفادة تحقيق الحصول ، كما صرّح به الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) في سورة النور [٦٤]. فالتحقيق يعتبر في الزمن الماضي إن كان الفعل الذي بعد قد فعل مضيّ ، وفي زمن الحال أو الاستقبال إن كان الفعل بعد (قد) فعلا مضارعا مع ما يضمّ إلى التحقيق من دلالة المقام ، مثل تقريب زمن الماضي من الحال في نحو : قد قامت الصلاة. وهو كناية تنشأ عن التعرّض لتحقيق فعل ليس من شأنه أن يشكّ السامع في أنّه يقع ، ومثل إفادة التكثير مع المضارع تبعا لما يقتضيه المضارع من الدلالة على التجدّد ، كالبيت الذي نسبه سيبويه للهذلي ، وحقّق ابن بري أنّه لعبيد بن الأبرص ، وهو :

قد أترك القرن مصفرّا أنامله

كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد

٧١

وبيت زهير :

أخا ثقة لا تهلك الخمر ماله

ولكنّه قد يهلك المال نائله

وإفادة استحضار الصورة ، كقول كعب :

لقد أقوم مقاما لو يقوم به

أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل

لظلّ يرعد إلّا أن يكون له

من الرسول بإذن الله تنويل

أراد تحقيق حضوره لدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع استحضار تلك الحالة العجيبة من الوجل المشوب بالرجاء.

والتحقيق أنّ كلام سيبويه بريء ممّا حمّلوه ، وما نشأ اضطراب كلام النحاة فيه إلّا من فهم ابن مالك لكلام سيبويه. وقد ردّه عليه أبو حيّان ردّا وجيها.

فمعنى الآية علمنا بأنّ الذي يقولونه يحزنك محقّقا فتصبّر. وقد تقدّم لي كلام في هذه المسألة عند قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) في سورة البقرة [١٤٤] ، فكان فيه إجمال وأحلت على تفسير آية سورة الأنعام ، فهذا الذي استقرّ عليه رأيي.

وفعل (نَعْلَمُ) معلّق عن العمل في مفعولين بوجود اللام.

والمراد ب (الَّذِي يَقُولُونَ) أقوالهم الدّالة على عدم تصديقهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما دلّ عليه قوله بعده (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ) [الأنعام : ٣٤] ، فعدل عن ذكر اسم التكذيب ونحوه إلى اسم الموصول وصلته تنزيها للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن ذكر هذا اللفظ الشنيع في جانبه تلطّفا معه.

وقرأ نافع ، وأبو جعفر (لَيَحْزُنُكَ) ـ بضم الياء وكسر الزاي ـ. وقرأه الباقون ـ بفتح الياء وضمّ الزاي ـ يقال : أحزنت الرجل ـ بهمزة تعدية لفعل حزن ، ويقال : حزنته أيضا. وعن الخليل : أنّ حزنته ، معناه جعلت فيه حزنا كما يقال : دهنته. وأمّا التعدية فليست إلّا بالهمزة. قال أبو علي الفارسي : حزنت الرجل ، أكثر استعمالا ، وأحزنته ، أقيس. و (الَّذِي يَقُولُونَ) هو قولهم ساحر ، مجنون ، كاذب ، شاعر. فعدل عن تفصيل قولهم إلى إجماله إيجازا أو تحاشيا عن التصريح به في جانب المنزّه عنه.

والضمير المجعول اسم (إنّ) ضمير الشأن ، واللام لام القسم ، وفعل (لَيَحْزُنُكَ)

٧٢

فعل القسم ، و (الَّذِي يَقُولُونَ) فاعله ، واللام في (لَيَحْزُنُكَ) لام الابتداء ، وجملة (لَيَحْزُنُكَ) خبر إنّ ، وضمائر الغيبة راجعة إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) في قوله (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

والفاء في قوله : (فَإِنَّهُمْ) يجوز أن تكون للتعليل ، والمعلّل محذوف دلّ عليه قوله : (قَدْ نَعْلَمُ) ، أي فلا تحزن فإنّهم لا يكذبونك ، أي لأنّهم لا يكذبونك. ويجوز كونها للفصيحة ، والتقدير : فإن كان يحزنك ذلك لأجل التكذيب فإنّهم لا يكذبونك ، فالله قد سلّى رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن أخبره بأنّ المشركين لا يكذبونه ولكنّهم أهل جحود ومكابرة. وكفى بذلك تسلية. ويجوز أن تكون للتفريع على (قَدْ نَعْلَمُ) ، أي فعلمنا بذلك يتفرّع عليه أنّا نثبّت فؤادك ونشرح صدرك بإعلامك أنّهم لا يكذبونك ، وإن نذكّرك بسنة الرسل من قبلك ، ونذكّرك بأنّ العاقبة هي نصرك كما سبق في علم الله.

وقرأ نافع ، والكسائي ، وأبو جعفر (لا يُكَذِّبُونَكَ) ، ـ بسكون الكاف وتخفيف الذال ـ. وقرأه الجمهور ـ بفتح الكاف وتشديد الذال ـ. وقد قال بعض أئمة اللغة إنّ أكذب وكذّب بمعنى واحد ، أي نسبه إلى الكذب. وقال بعضهم : أكذبه ، وجده كاذبا ، كما يقال : أحمده ، وجده محمودا. وأمّا كذّب ـ بالتشديد ـ فهو لنسبة المفعول إلى الكذب. وعن الكسائي : أنّ أكذبه هو بمعنى كذّب ما جاء به ولم ينسب المفعول إلى الكذب ، وأنّ كذّبه هو نسبه إلى الكذب. وهو معنى ما نقل عن الزجّاج معنى كذبته ، قلت له : كذبت ، ومعنى أكذبته ، أريته أنّ ما أتى به كذب.

وقوله : (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) استدراك لدفع أن يتوهّم من قوله : (لا يُكَذِّبُونَكَ) على قراءة نافع ومن وافقه أنّهم صدّقوا وآمنوا ، وعلى قراءة البقية (لا يُكَذِّبُونَكَ) أنّهم لم يصدر منهم أصل التكذيب مع أنّ الواقع خلاف ذلك ، فاستدرك عليه بأنّهم يجحدون بآيات الله فيظهر حالهم كحال من ينسب الآتي بالآيات إلى الكذب وما هم بمكذّبين في نفوسهم.

والجحد والجحود ، الإنكار للأمر المعروف ، أي الإنكار مع العلم بوقوع ما ينكر ، فهو نفي ما يعلم النافي ثبوته ، فهو إنكار مكابرة.

وعدل عن الإضمار إلى قوله (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) ذمّا لهم وإعلاما بأنّ شأن الظالم الجحد بالحجّة ، وتسجيلا عليهم بأنّ الظلم سجيّتهم.

٧٣

وعدّي (يَجْحَدُونَ) بالباء كما عدّي في قوله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النحل : ١٤] لتأكيد تعلّق الجحد بالمجحود ، كالباء في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] ، وفي قوله : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩] ، وقول النابغة :

لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا

وأصبح جدّ الناس يظلع عاثرا

ثم إنّ الجحد بآيات الله أريد به الجحد بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات. وجحدها إنكار أنّها من آيات الله ، أي تكذيب الآتي بها في قوله : إنّها من عند الله ، فآل ذلك إلى أنّهم يكذّبون الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكيف يجمع هذا مع قوله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) على قراءة الجمهور. والذي يستخلص من سياق الآية أنّ المراد فإنّهم لا يعتقدون أنّك كاذب لأنّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ معروف عندهم بالصدق وكان يلقّب بينهم بالأمين. وقد قال النضر بن الحارث لمّا تشاورت قريش في شأن الرسول : «يا معشر قريش قد كان محمد فيكم غلاما أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا حتّى إذا رأيتم الشيب في صدغيه قلتم ساحر وقلتم كاهن وقلتم شاعر وقلتم مجنون وو الله ما هو بأولئكم». ولأنّ الآيات التي جاء بها لا يمتري أحد في أنّها من عند الله ، ولأنّ دلائل صدقه بيّنة واضحة ولكنّكم ظالمون.

والظالم هو الذي يجري على خلاف الحقّ بدون شبهة. فهم ينكرون الحق مع علمهم بأنّه الحق ، وذلك هو الجحود. وقد أخبر الله عنهم بذلك وهو أعلم بسرائرهم. ونظيرها قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] فيكون في الآية احتباك. والتقدير : فإنّهم لا يكذّبونك ولا يكذّبون الآيات ولكنّهم يجحدون بالآيات ويجحدون بصدقك ، فحذف من كلّ لدلالة الآخر.

وأخرج الترمذي عن ناجية بن كعب التابعي أنّ أبا جهل قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا نكذّبك ولكن نكذّب ما جئت به. فأنزل الله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ). ولا أحسب هذا هو سبب نزول الآية. لأنّ أبا جهل إن كان قد قال ذلك فقد أراد الاستهزاء ، كما قال ابن العربي في «العارضة» : ذلك أنّه التكذيب بما جاء به تكذيب له لا محالة ، فقوله : لا نكذّبك ، استهزاء بإطماع التصديق.

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا

٧٤

مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤))

عطف على جملة (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) [الأنعام : ٣٣] أو على جملة (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣]. ويجوز أن تكون الواو واو الحال من الكلام المحذوف قبل الفاء ، أي فلا تحزن ، أو إن أحزنك ذلك فإنّهم لا يكذّبونك والحال قد كذّبت رسل من قبلك. والكلام على كلّ تقدير تسلية وتهوين وتكريم بأنّ إساءة أهل الشرك لمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ هي دون ما أساء الأقوام إلى الرسل من قبله ؛ فإنّهم كذّبوا بالقول والاعتقاد وأمّا قومه فكذّبوا بالقول فقط. وفي الكلام أيضا تأسّ للرسول بمن قبله من الرسل.

ولام القسم لتأكيد الخبر بتنزيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلة من ذهل طويلا عن تكذيب الرسل لأنّه لمّا أحزنه قول قومه فيه كان كمن بعد علمه بذلك. و (مِنْ قَبْلِكَ) وصف كاشف ل (رُسُلٌ) جيء به لتقرير معنى التأسّي بأنّ ذلك سنّة الرسل.

وفي موقع هذه الآية بعد التي قبلها إيماء لرجاحة عقول العرب على عقول من سبقهم من الأمم ، فإنّ الأمم كذّبت رسلها باعتقاد ونطق ألسنتها ، والعرب كذّبوا باللسان وأيقنوا بصدق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعقولهم التي لا يروج عندها الزيف.

و (ما) مصدرية ، أي صبروا على التكذيب ، فيجوز أن يكون قوله (وَأُوذُوا) عطفا على (كُذِّبُوا) وتكون جملة (فَصَبَرُوا) معترضة. والتقدير : ولقد كذّبت وأوذيت رسل فصبروا. فلا يعتبر الوقف عند قوله (عَلى ما كُذِّبُوا) بل يوصل الكلام إلى قوله (نَصْرُنا) ، وأن يكون عطفا على (كُذِّبَتْ رُسُلٌ) ، أي كذّبت وأوذوا. ويفهم الصبر على الأذى من الصبر على التكذيب لأنّ التكذيب أذى فيحسن الوقف عند قوله : (عَلى ما كُذِّبُوا).

وقرن فعل (كُذِّبَتْ) بعلامة التأنيث لأنّ فاعل الفعل إذا كان جمع تكسير يرجّح اتّصال الفعل بعلامة التأنيث على التأويل بالجماعة. ومن ثمّ جاء فعلا (فَصَبَرُوا) و (كُذِّبُوا) مقترنين بواو الجمع ، لأنّ فاعليهما ضميران مستتران فرجح اعتبار التذكير.

وعطف (وَأُوذُوا) على (كُذِّبَتْ) عطف الأعمّ على الأخصّ ، والأذى أعمّ من التكذيب ، لأنّ الأذى هو ما يسوء ولو إساءة ما ، قال تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) [آل عمران : ١١١] ويطلق على الشديد منه. فالأذى اسم اشتقّ منه آذى إذا جعل له أذى وألحقه

٧٥

به. فالهمزة به للجعل أو للتصيير. ومصادر هذا الفعل أذى وأذاة وأذيّة. وكلّها أسماء مصادر وليست مصادر. وقياس مصدره الإيذاء لكنّه لم يسمع في كلام العرب. فلذلك قال صاحب «القاموس» : لا يقال : إيذاء. وقال الراغب : يقال : إيذاء. ولعلّ الخلاف مبني على الخلاف في أنّ القياسي يصحّ إطلاقه ولو لم يسمع في كلامهم أو يتوقّف إطلاقه على سماع نوعه من مادّته. ومن أنكر على صاحب «القاموس» فقد ظلمه. وأيّا ما كان فالإيذاء لفظ غير فصيح لغرابته. ولقد يعدّ على صاحب «الكشاف» استعماله هنا وهو ما هو في علم البلاغة.

و (حَتَّى) ابتدائية أفادت غاية ما قبلها ، وهو التكذيب والأذى والصبر عليهما ، فإنّ النصر كان بإهلاك المكذّبين المؤذين ، فكان غاية للتكذيب والأذى ، وكان غاية للصبر الخاصّ ، وهو الصبر على التكذيب والأذى ، وبقي صبر الرسل على أشياء ممّا أمر بالصبر عليه.

والإتيان في قوله : (أَتاهُمْ نَصْرُنا) مجاز في وقوع النصر بعد انتظاره ، فشبّه وقوعه بالمجيء من مكان بعيد كما يجيء المنادى المنتظر. وتقدّم بيان هذا عند قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) في هذه السورة [٤].

وجملة (وَلا مُبَدِّلَ) عطف على جملة : (أَتاهُمْ نَصْرُنا).

وكلمات الله وحيه للرسل الدّالّ على وعده إيّاهم بالنصر ، كما دلّت عليه إضافة النصر إلى ضمير الجلالة. فالمراد كلمات من نوع خاصّ ، فلا يرد أنّ بعض كلمات الله في التشريع قد تبدّل بالنسخ ؛ على أنّ التبديل المنفي مجاز في النقض ، كما تقدّم في قوله تعالى: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) في سورة البقرة [١٨١]. وسيأتي تحقيق لهذا المعنى عند قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) في هذه السورة [١١٥].

وهذا تطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنّ الله ينصره كما نصر من قبله من الرسل ، ويجوز أن تكون كلمات الله ما كتبه في أزله وقدره من سننه في الأمم ، أي أنّ إهلاك المكذّبين يقع كما وقع إهلاك من قبلهم.

ونفي المبدّل كناية عن نفي التبديل ، أي لا تبديل ، لأنّ التبديل لا يكون إلّا من مبدّل. ومعناه : أنّ غير الله عاجز عن أن يبدّل مراد الله ، وأن الله أراد أن لا يبدّل كلماته

٧٦

في هذا الشأن.

وقوله : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) عطف على جملة : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) ، وهو كلام جامع لتفاصيل ما حلّ بالمكذّبين ، وبكيف كان نصر الله رسله. وذلك في تضاعيف ما نزل من القرآن في ذلك.

والقول في (جاءَكَ) كالقول في (أَتاهُمْ نَصْرُنا) ، فهو مجاز في بلوغ ذلك وإعلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به.

و (من) في قوله : (مِنْ نَبَإِ) إمّا اسم بمعنى (بعض) فتكون فاعلا مضافة إلى النبأ ، وهو ناظر إلى قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨]. والأحسن أن تجعل صفة لموصوف محذوف تقديره : لقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين. والنبأ الخبر عن أمر عظيم ، قال تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ، ٢] ، وقال : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) [ص : ٦٧ ، ٦٨] ، وقال في هذه السورة [٦٧] (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))

عطف على جملة : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) [الأنعام : ٣٣] ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحزنه ما يقولونه فيه من التكذيب به وبالقرآن حزنا على جهل قومه بقدر النصيحة وإنكارهم فضيلة صاحبها ، وحزنا من جرّاء الأسف عليهم من دوام ضلالهم شفقة عليهم ، وقد سلّاه الله تعالى عن الحزن الأول بقوله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) [الأنعام : ٣٣] وسلّاه عن الثاني بقوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) الآية.

و (كَبُرَ) ككرم ، كبرا كعنب : عظمت جثّته. ومعنى (كَبُرَ) هنا شقّ عليك. وأصله عظم الجثّة ، ثم استعمل مجازا في الأمور العظيمة الثقيلة لأنّ عظم الجثّة يستلزم الثقل ، ثم استعمل مجازا في معنى (شقّ) لأنّ الثقيل يشق حمله. فهو مجاز مرسل بلزومين.

وجيء في هذا الشرط بحرف (إن) الذي يكثر وروده في الشرط الذي لا يظنّ حصوله للإشارة إلى أنّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليس بمظنّة ذلك ولكنّه على سبيل الفرض.

٧٧

وزيدت (كان) بعد (إن) الشرطية بينها وبين ما هو فعل الشرط في المعنى ليبقى فعل الشرط على معنى المضي فلا تخلّصه (إن) الشرطيّة إلى الاستقبال ، كما هو شأن أفعال الشروط بعد (إن) ، فإنّ (كان) لقوّة دلالته على المضي لا تقلبه أداة الشرط إلى الاستقبال.

والإعراض المعرّف بالإضافة هو الذي مضى ذكره في قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) [الأنعام : ٤]. وهو حالة أخرى غير حالة التكذيب ، وكلتاهما من أسباب استمرار كفرهم.

وقوله : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) جواب (إِنْ كانَ كَبُرَ) ، وهو شرط ثان وقع جوابا للشرط الأول. والاستطاعة : القدرة. والسين والتاء فيها للمبالغة في طاع ، أي انقاد.

والابتغاء : الطلب. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) في سورة آل عمران [٨٣] ، أي أن تطلب نفقا أو سلّما لتبلغ إلى خبايا الأرض وعجائبها وإلى خبايا السماء. ومعنى الطلب هنا : البحث.

وانتصب (نَفَقاً) و (سُلَّماً) على المفعولين ل (تَبْتَغِيَ).

والنفق : سرب في الأرض عميق.

والسّلّم ـ بضمّ ففتح مع تشديد اللّام ـ آلة للارتقاء تتّخذ من حبلين غليظين متوازيين تصل بينهما أعواد أو حبال أخرى متفرّقة في عرض الفضاء الذي بين الحبلين من مساحة ما بين كلّ من تلك الأعواد بمقدار ما يرفع المرتقي إحدى رجليه إلى العود الذي فوق ذلك ، وتسمّى تلك الأعواد درجات. ويجعل طول الحبلين بمقدار الارتفاع الذي يراد الارتقاء إليه. ويسمّى السلّم مرقاة ومدرجة. وقد سمّوا الغرز الذي يرتقي به الراكب على رحل ناقته سلّما. وكانوا يرتقون بالسلّم إلى النخيل للجذاذ. وربما كانت السلاليم في الدور تتّخذ من العود فتسمّى المرقاة. فأمّا الدرج المبنيّة في العلالي فإنّها تسمّى سلّما وتسمّى الدّرجة كما ورد في حديث مقتل أبي رافع قول عبد الله بن عتيك في إحدى الروايات «حتّى انتهيت إلى درجة له» ، وفي رواية «حتّى أتيت السلّم أريد أن أنزل فأسقط منه».

وقوله (فِي الْأَرْضِ) صفة (نَفَقاً) أي متغلغلا ، أي عميقا. فذكر هذا المجرور لإفادة المبالغة في العمق مع استحضار الحالة وتصوير حالة الاستطاعة إذ من المعلوم أنّ النفق لا يكون إلّا في الأرض.

٧٨

وأمّا قوله : (فِي السَّماءِ) فوصف به (سُلَّماً) ، أي كائنا في السماء ، أي واصلا إلى السماء. والمعنى تبلغ به إلى السماء. كقول الأعشى :

ورقّيت أسباب السّماء بسلّم

والمعنى : فإن استطعت أن تطلب آية من جميع الجهات للكائنات. ولعلّ اختيار الابتغاء في الأرض والسماء أنّ المشركين سألوا الرسول ـ عليه والصلاة والسلام ـ آيات من جنس ما في الأرض ، كقولهم (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] ، ومن جنس ما في السماء ، كقولهم : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) [الإسراء : ٩٣].

وقوله : (بِآيَةٍ) أي بآية يسلّمون بها ، فهنالك وصف محذوف دلّ عليه قوله : (إِعْراضُهُمْ) ، أي عن الآيات التي جئتهم بها.

وجواب الشرط محذوف دلّ عليه فعل الشرط ، وهو (اسْتَطَعْتَ). والشرط وجوابه مستعملان مجازا في التأييس من إيمانهم وإقناعهم ، لأنّ الله جعل على قلوبهم أكنّة وفي آذانهم وقرا وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها.

ويتعيّن تقدير جواب الشرط ممّا دلّ عليه الكلام السابق ، أي فأتهم بآية فإنّهم لا يؤمنون بها ، كما يقول القائل للراغب في إرضاء ملحّ. إن استطعت أن تجلب ما في بيتك ، أي فهو لا يرضى بما تقصر عنه الاستطاعة بله ما في الاستطاعة. وهو استعمال شائع ، وليس فيه شيء من اللوم ولا من التوبيخ ، كما توهّمه كثير من المفسّرين.

وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) شرط امتناعي دلّ على أنّ الله لم يشأ ذلك ، أي لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم عليه ؛ فمفعول المشيئة محذوف لقصد البيان بعد الإبهام على الطريقة المسلوكة في فعل المشيئة إذا كان تعلّقه بمفعوله غير غريب وكان شرطا لإحدى أدوات الشرط كما هنا ، وكقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) [النساء: ١٣٣].

ومعنى : (لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) لهداهم أجمعين. فوقع تفنّن في أسلوب التعبير فصار تركيبا خاصّيّا عدل به على التركيب المشهور في نحو قوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩] للإشارة إلى تمييز الذين آمنوا من أهل مكّة على من بقي فيها من المشركين ، أي لو شاء لجمعهم مع المؤمنين على ما هدى إليه المؤمنين من قومهم.

والمعنى : لو شاء الله أن يخلقهم بعقول قابلة للحقّ لخلقهم بها فلقبلوا الهدى ،

٧٩

ولكنّه خلقهم على ما وصف في قوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الأنعام : ٢٥] الآية ، كما تقدّم بيانه. وقد قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) [هود : ١١٨] ، وبذلك تعلم أنّ هذه مشيئة كليّة تكوينيّة ، فلا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى في آخر هذه السورة [١٤٨] (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) الآية. فهذا من المشيئة المتعلّقة بالخلق والتكوين لا من المشيئة المتعلّقة بالأمر والتشريع. وبينهما بون ، سقط في مهواته من لم يقدّر له صون.

وقوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) تذييل مفرّع على ما سبق.

والمراد ب (الْجاهِلِينَ) يجوز أن يكون من الجهل الذي هو ضدّ العلم ، كما في قوله تعالى خطابا لنوح (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] ، وهو ما حمل عليه المفسّرون هنا. ويجوز أن يكون من الجهل ضدّ الحلم ، أي لا تضق صدرا بإعراضهم. وهو أنسب بقوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ). وإرادة كلا المعنيين ينتظم مع مفاد الجملتين : جملة : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) وجملة (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى). ومع كون هذه الجملة تذييلا للكلام السابق فالمعنى : فلا يكبر عليك إعراضهم ولا تضق به صدرا ، وأيضا فكن عالما بأنّ الله لو شاء لجمعهم على الهدى. وهذا إنباء من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر من علم الحقيقة يختصّ بحالة خاصّة فلا يطّرد في غير ذلك من مواقف التشريع.

وإنّما عدل على الأمر بالعلم لأنّ النّهي عن الجهل يتضمّنه فيتقرّر في الذهن مرتين ، ولأنّ في النهي عن الجهل بذلك تحريضا على استحضار العلم به ، كما يقال للمتعلّم : لا تنسى هذه المسألة. وليس في الكلام نهي عن شيء تلبّس به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما توهّمه جمع من المفسّرين ، وذهبوا فيه مذاهب لا تستبين.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦))

تعليل لما أفاده قوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ـ إلى قوله ـ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥] من تأييس من ولوج الدعوة إلى أنفسهم ، أي لا يستجيب الذين يسمعون دون هؤلاء الذين حرمهم فائدة السمع وفهم المسموع.

ومفهوم الحصر مؤذن بإعمال منطوقه الذي يومئ إلى إرجاء بعد تأييس بأنّ الله جعل لقوم آخرين قلوبا يفقهون بها وآذانا يسمعون بها فأولئك يستجيبون.

٨٠