تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

والذرّيّات جمع ذرّيّة ، وهي من تناسل من الآدمي من أبناء أدنين وأبنائهم فيشمل أولاد البنين وأولاد البنات. ووجه جمعه إرادة أنّ الهدى تعلّق بذرّيّة كلّ من له ذرّيّة من المذكورين للتنبيه على أنّ في هدي بعض الذرّية كرامة للجدّ ، فكلّ واحد من هؤلاء مراد وقوع الهدي في ذرّيّته. وإن كانت ذرّياتهم راجعين إلى جدّ واحد وهو نوح ـ عليه‌السلام ـ. ثمّ إن كان المراد بالهدى المقدّر الهدى المماثل للهدى المصرّح به ، وهو هدى النّبوءة ، فالآباء يشمل مثل آدم وإدريس ـ عليهم‌السلام ـ فإنّهم آباء نوح. والذّرّات يشمل أنبياء بني إسرائيل مثل يوشّع ودانيال. فهم من ذرّيّة نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، والأنبياء من أبناء إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ مثل حنظلة بن صفوان وخالد بن سنان ، وهودا ، وصالحا ، من ذرّيّة نوح ، وشعيبا ، من ذرّيّة إبراهيم. والإخوان يشمل بقيّة الأسباط إخوة يوسف.

وإن كان المراد من الهدى ما هو أعمّ من النّبوءة شمل الصالحين من الآباء مثل هابيل ابن آدم. وشمل الذّريّات جميع صالحي الأمم مثل أهل الكهف ، قال تعالى : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) [الكهف : ١٣] ، ومثل طالوت ملك إسرائيل ، ومثل مضر وربيعة فقد ورد أنّهما كانا مسلمين. رواه الديلمي عن ابن عبّاس. ومثل مؤمن آل فرعون وامرأة فرعون. ويشمل. الإخوان هاران بن تارح أخا إبراهيم ، وهو أبو لوط ، وعيسو أخا ، يعقوب وغير هؤلاء ممّن علمهم الله تعالى.

والاجتباء الاصطفاء والاختيار ، قالوا هو مشتقّ من الجبي ، وهو الجمع ، ومنه جباية الخراج ، وجبي الماء في الحوض الّذي سمّيت منه الجابية ، فالافتعال فيه للمبالغة مثل الاضطرار ، ووجه الاشتقاق أنّ الجمع إنّما يكون لشيء مرغوب في تحصيله للحاجة إليه. والمعنى : أنّ الله اختارهم فجعلهم موضع هديه لأنّه أعلم حيث يجعل رسالته ونبوءته وهديه.

وعطف قوله : (وَهَدَيْناهُمْ) على (اجْتَبَيْناهُمْ) عطفا يؤكّد إثبات هداهم اهتماما بهذا الهدي ، فبيّن أنّه هدى إلى صراط مستقيم ، أي إلى ما به نوال ما يعمل أهل الكمال لنواله ، فضرب الصّراط المستقيم مثلا لذلك تشبيها لهيئة العامل لينال ما يطلبه من الكمال بهيئة الساعي على طريق مستقيم يوصله إلى ما سار إليه بدون تردّد ولا تحيّر ولا ضلال ، وذكر من ألفاظ المركّب الدّال على الهيئة المشبّه بها بعضه وهو الصّراط المستقيم لدلالته على جميع الألفاظ المحذوفة للإيجاز.

والصراط المستقيم هو التّوحيد والإيمان بما يجب الإيمان به من أصول الفضائل

٢٠١

الّتي اشتركت فيها الشّرائع ، والمقصود مع الثّناء عليهم التّعريض بالمشركين الّذين خالفوا معتقدهم ، كما دلّ عليه قوله بعد ذلك (هُدَى اللهِ ـ إلى قوله ـ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨].

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨))

استئناف بياني ، أي لا تعجبوا من هديهم وضلال غيرهم. والإشارة إلى الهدى الّذي هو مصدر مأخوذ من أفعال الهداية الثلاثة المذكورة في الآية قبلها ، وخصوصا المذكور آخرا بقوله (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأنعام : ٨٧]. وقد زاد اسم الإشارة اهتماما بشأن الهدي إذ جعل كالشيء المشاهد فزيد باسم الإشارة كمال تمييز ، وأخبر عن الهدي بأنّه هدى الله لتشريف أمره وبيان عصمته من الخطأ والضلال ، وفيه تعريض بما عليه المشركون ممّا يزعمونه هدى ويتلقّونه عن كبرائهم ، أمثال عمرو بن لحيّ الذي وضع لهم عبادة الأصنام ، ومثل الكهّان وأضرابهم. وقد جاء هذا الكلام على طريقة الفذلكة لأحوال الهداية الّتي تكرّر ذكرها كأبيات حاتم الطائي :

ولله صعلوك يساور همّه

ويمضي على الأحداث والدهر مقدما

إلى أن قال بعد أبيات سبعة في محامد ذلك الصّعلوك :

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمّما

وقوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) جملة في موضع الحال من (هُدَى اللهِ). والمراد ب (مَنْ يَشاءُ) الّذين اصطفاهم الله واجتباهم وهو أعلم بهم وباستعدادهم لهداه ونبذهم المكابرة وإقبالهم على طلب الخير وتطلّعهم إليه وتدرّجهم فيه إلى أن يبلغوا مرتبة إفاضة الله عليهم الوحي أو التّوفيق والإلهام الصادق. ففي قوله : (مَنْ يَشاءُ) من الإبهام ما يبعث النّفوس على تطلّب هدى الله تعالى والتّعرّض لنفحاته ، وفيه تعريض بالمشركين الّذين أنكروا نبوءة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدا ، ولذلك أعقبه بقوله (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تفظيعا لأمر الشرك وأنّه لا يغتفر لأحد ولو بلغ من فضائل الأعمال مبلغا عظيما مثل هؤلاء المعدودين المنوّه بهم. والواو للحال. و «حبط» معناه تلف ، أي بطل ثوابه. وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) في سورة البقرة [٢١٧].

٢٠٢

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩))

استئناف ابتدائي للتّنويه بهم ، فهي فذلكة ثانية ، لأنّ الفذلكة الأولى راجعة إلى ما في الجمل السابقة من الهدى وهذه راجعة إلى ما فيها من المهديّين.

واسم الإشارة لزيادة الاعتناء بتمييزهم وإخطار سيرتهم في الأذهان. والمشار إليهم هم المعيّنون بأسمائهم والمذكورون إجمالا في قوله : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) [الأنعام : ٨٧]. و (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) خبر عن اسم الإشارة.

والمراد بالكتاب الجنس : أي الكتب. وإيتاء الكتاب يكون بإنزال ما يكتب ، كما أنزل على الرسل وبعض الأنبياء ، وما أنزل عليهم يعتبر كتابا ، لأنّ شأنه أن يكتب سواء كتب أم لم يكتب. وقد نصّ القرآن على أنّ إبراهيم كانت له صحف بقوله : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى : ١٩] وكان لعيسى كلامه الذي كتب في الإنجيل. ولداود الكلام الصادر منه تبليغا عن الله تعالى ، وكان نبيئا ولم يكن رسولا ، ولسليمان الأمثال ، والجامعة ، والنشيد المنسوب في ثلاثتها أحكام أمر الله بها. ويقال : إنّ إدريس كتب الحكمة في صحف وهو الّذي يسمّيه الإسرائيليون (أخنوخ) ويدعوه القبط (توت) ويدعوه الحكماء (هرمس). ويكون إيتاء الكتاب بإيتاء النّبيء فهم ونبيين الكتب المنزّلة قبله ، كما أوتي أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى أمثال يحيى فقد قال تعالى له (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢].

والحكم هو الحكمة ، أي العلم بطرق الخير ودفع الشرّ. قال تعالى في شأن يحيى (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] ، ولم يكن يحيى حاكما أي قاضيا ، وقد يفسّر الحكم بالقضاء بالحقّ كما في قوله تعالى في شأن داود وسليمان (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء : ٧٩].

وإيتاء هذه الثلاث على التّوزيع ، فمنهم من أوتي جميعها وهم الرسل منهم والأنبياء الّذين حكموا بين النّاس مثل داود وسليمان ، ومنهم من أوتي بعضها وهم الأنبياء غير الرّسل والصّالحون منهم غير الأنبياء ، وهذا باعتبار شمول اسم الإشارة لآبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم.

والفاء في قوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ) عاطفة جملة الشّرط على جملة (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ

٢٠٣

الْكِتابَ) عقّبت بجملة الشّرط وفرّعت عليها لأنّ الغرض من الجمل السابقة من قوله (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) [الأنعام : ٧٤] هو تشويه أمر الشرك بالاستدلال على فساده بنبذ أهل الفضل والخير إيّاه ، فكان للفاء العاطفة عقب ذلك موقع بديع من أحكام نظم الكلام.

وضمير (بِها) عائد إلى المذكورات : الكتاب والحكم والنّبوءة. والإشارة في قوله : (هؤُلاءِ) إلى المشركين من أهل مكّة ، وهي إشارة إلى حاضر في أذهان السّامعين ، كما ورد في حديث سؤال القبر «فيقال له ما علمك بهذا الرجل» (يعني النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم). وفي «البخاري» قال الأحنف بن قيس : ذهبت لأنصر هذا الرجل (يعني عليّ بن أبي طالب).

وقد تقصيت مواقع آي القرآن فوجدته يعبّر عن مشركي قريش كثيرا بكلمة (هؤلاء) ، كقوله (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) [الزخرف : ٢٩] ولم أر من نبّه عليه من قبل.

وكفر المشركين بنبوة أولئك الأنبياء تابع لكفرهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك حكى الله عنهم بعد أنّهم (قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١].

ومعنى : (وَكَّلْنا بِها) وفّقنا للإيمان بها ومراعاتها والقيام بحقّها. فالتّوكيل هنا استعارة ، لأنّ حقيقة التّوكيل إسناد صاحب الشيء تدبير شيئه إلى من يتولّى تدبيره ويكفيه كلفة حفظه ورعاية ما به بقاؤه وصلاحه ونماؤه. يقال : وكّلته على الشيء ووكّلته بالشيء فيتعدّى بعلى وبالباء. وقد استعير في هذه الآية للتّوفيق إلى الإيمان بالنّبوءة والكتاب والحكم والنّظر في ما تدعو إليه ورعايته تشبيها لتلك الرّعاية برعاية الوكيل ، وتشبيها للتّوفيق إليها بإسناد النّظر إلى الوكيل ، لأنّ الوكالة تقتضي وجود الشيء الموكّل بيد الوكيل مع حفظه ورعايته ، فكانت استعارة (وَكَّلْنا) لهذا المعنى إيجازا بديعا يقابل ما يتضمّنه معنى الكفر بها من إنكارها الّذي فيه إضاعة حدودها.

والقوم هم المؤمنون الّذين آمنوا برسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن وبمن قبله من الرّسل وما جاءهم من الكتب والحكم والنّبوءة. والمقصود الأوّل منهم المؤمنون الّذين كانوا بمكّة ومن آمن من الأنصار بالمدينة إذ كانت هذه السّورة قد نزلت قبيل الهجرة. وقد فسّر في «الكشاف» القوم بالأنبياء المتقدّم ذكرهم وادّعى أنّ نظم الآية حمله عليه ، وهو تكلّف لا حامل إليه.

ووصف القوم بأنّهم (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) للدّلالة على أنّهم سارعوا إلى الإيمان بها بمجرّد دعوتهم إلى ذلك فلذلك جيء في وصفهم بالجملة الاسميّة المؤلّفة من اسم (ليس)

٢٠٤

وخبرها لأنّ ليس بمنزلة حرف نفي إذ هي فعل غير متصرّف فجملتها تدلّ على دوام نفي الكفر عنهم ، وأدخلت الباء في خبر (ليس) لتأكيد ذلك النّفي فصار دوام نفي مؤكّدا.

والمعنى إن يكفر المشركون بنبوتك ونبوءة من قبلك فلا يضرّك كفرهم لأنّا قد وفّقنا قوما مؤمنين للإيمان بك وبهم ، فهذا تسلية للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إعراض بعض قومه عن دعوته.

وتقديم المجرور على عامله في قوله (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بمعاد الضمير : الكتاب والحكم والنّبوءة.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).

جملة ابتدائية قصد من استئنافها استقلالها للاهتمام بمضمونها ، ولأنّها وقعت موقع التّكرير لمضمون الجملتين اللّتين قبلها : جملة (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأنعام : ٨٧] وجملة (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) والنبوءة [الأنعام : ٨٩]. وحقّ التكرير أن يكون مفصولا ، وليبنى عليها التّفريع في قوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ). والمشار إليهم باسم الإشارة هم المشار إليهم بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) والنبوءة [الأنعام : ٨٩] فإنّهم الّذين أمر نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء بهداهم. وتكرير اسم الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه ولما يقتضيه التكرير من الاهتمام بالخبر.

وأفاد تعريف المسند والمسند إليه قصر جنس الّذين هداهم الله على المذكورين تفصيلا وإجمالا ، لأنّ المهديين من البشر لا يعدون أن يكونوا أولئك المسمّين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ، فإنّ من آبائهم آدم وهو الأب الجامع للبشر كلّهم ، فأريد بالهدى هدى البشر ، أي الصرف عن الضلالة ، فالقصر حقيقي. ولا نظر لصلاح الملائكة لأنّه صلاح جبليّ. وعدل عن ضمير المتكلّم إلى اسم الجلالة الظاهر لقرن هذا الخبر بالمهابة والجلالة.

وقوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) تفريع على كمال ذلك الهدى ، وتخلّص إلى ذكر حظّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هدى الله بعد أن قدّم قبله مسهب ذكر الأنبياء وهديهم إشارة إلى علوّ منزلة

٢٠٥

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنّها منزلة جديدة بالتّخصيص بالذكر حيث لم يذكر مع الأنبياء المتقدّمين ، وأنّه جمع هدى الأوّلين ، وأكملت له الفضائل ، وجمع له ما تفرّق من الخصائص والمزايا العظيمة. وفي إفراده بالذكر وترك عدّه مع الأوّلين رمز بديع إلى فذاذته وتفرّد مقداره ، ورعي بديع لحال مجيء رسالته بعد مرور تلك العصور المتباعدة أو المتجاورة ، ولذلك قدّم المجرور وهو (فَبِهُداهُمُ) على عامله ، للاهتمام بذلك الهدى لأنّه هو منزلتك الجامعة للفضائل والمزايا ، فلا يليق به الاقتداء بهدى هو دون هداهم. ولأجل هذا لم يسبق للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقتداء بأحد ممّن تحنّفوا في الجاهليّة أو تنصّروا أو تهوّدوا. فقد لقي النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد بن عمرو بن نفيل قبل النّبوءة في بلدح وعرض عليه أن يأكل معه من سفرته ، فقال زيد «إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم» توهّما منه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدين بدين الجاهليّة ، وألهم الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم السكوت عن إجابته إلهاما لحفظ السرّ المدّخر فلم يقل له إنّي لا أذبح على نصب. ولقي ورقة بن نوفل غير مرّة بمكّة. ولقي بحيرا الرّاهب. ولم يقتد بأحد من أولئك وبقي على الفطرة إلى أن جاءته الرّسالة.

والاقتداء افتعال من القدوة ـ بضمّ القاف وكسرها ـ وقياسه على الإسوة يقتضي أنّ الكسر فيه أشهر. وقال في «المصباح» : الضمّ أكثر. ووقع في «المقامات» للحريري «وقدوة الشحّاذين» فضبط بالضمّ. وذكره الواسطي في شرح ألفاظ المقامات» في القاف المضمومة ، وروى فيه فتح القاف أيضا ، وهو نادر. والقدوة هو الّذي يعمل غيره مثل عمله ، ولا يعرف له في اللّغة فعل مجرّد فلم يسمع إلّا اقتدى. وكأنّهم اعتبروا القدوة اسما جامدا واشتقّوا منه الافتعال للدّلالة على التّكلّف كما اشتقّوا من اسم الخريف اخترف ، ومن الأسوة ائتسى ، وكما اشتقّوا من اسم النمر تنمّر ، ومن الحجر تحجّر. وقد تستعمل القدوة اسم مصدر لاقتدى. يقال : لي في فلان قدوة كما في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الممتحنة : ٦].

وفي قوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) تعريض للمشركين بأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جاء إلّا على سنّة الرّسل كلّهم وأنّه ما كان بدعا من الرّسل.

وأمر النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء بهداهم يؤذن بأنّ الله زوى إليه كلّ فضيلة من فضائلهم الّتي اختصّ كلّ واحد بها سواء ما اتّفق منه واتّحد ، أو اختلف وافترق ، فإنّما يقتدي بما أطلعه الله عليه من فضائل الرّسل وسيرهم ، وهو الخلق الموصوف بالعظيم في قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤].

٢٠٦

ويشمل هداهم ما كان منه راجعا إلى أصول الشّرائع ، وما كان منه راجعا إلى زكاء النّفس وحسن الخلق. وأمّا ما كان منه تفاريع عن ذلك وأحكاما جزئيّة من كلّ ما أبلغه الله إيّاه بالوحي ولم يأمره باتّباعه في الإسلام ولا بيّن له نسخه ، فقد اختلف علماؤنا في أنّ الشّرائع الإلهيّة السّابقة هل تعتبر أحكامها من شريعة الإسلام إذا أبلغها الله إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يجعل في شريعته ما ينسخها.

وأرى أنّ أصل الاستدلال لهذا أنّ الله تعالى إذا ذكر في كتابه أو أوحى إلى رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ حكاية حكم من الشرائع السابقة في مقام التّنويه بذلك والامتنان ولم يقارنه ما يدلّ على أنّه شرع للتّشديد على أصحابه عقوبة لهم ، ولا ما يدلّ على عدم العمل به ، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ الله تعالى يريد من المسلمين العمل بمثله إذا لم يكن من أحكام الإسلام ما يخالفه ولا من أصوله ما يأباه ، مثل أصل التّيسير ولا يقتضي القياس على حكم إسلامي ما يناقض حكما من شرائع من قبلنا. ولا حجّة في الآيات الّتي فيها أمر النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم باتّباع من قبله مثل هذه الآية ، ومثل قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] ومثل قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) [الشورى : ١٣] ، لأنّ المقصود من ذلك أصول الدّيانة وأسس التّشريع الّتي لا تختلف فيها الشّرائع ، فمن استدلّ بقوله تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فاستدلاله ضعيف. قال الغزالي في «المستصفى» «أراد بالهدى التّوحيد ودلالة الأدلّة العقليّة على الوحدانيّة والصّفات لأنّه تعالى أمره بالاقتداء بهداهم فلو كان المراد بالهدى شرائعهم لكان أمرا بشرائع مختلفة وناسخة ومنسوخة فدلّ أنّه أراد الهدى المشترك بين جميعهم» ا ه. ومعنى هذا أنّ الآية لا تقوم حجّة على المخالف فلا مانع من أن يكون فيها استئناس لمن رأى حجّيّة شرع من قبلنا على الصّفات الّتي ذكرتها آنفا. وفي «صحيح البخاري» في تفسير سورة (ص) عن العوّام قال : سألت مجاهدا عن سجدة ص فقال : سألت ابن عبّاس من أين سجدت (أي من أيّ دليل أخذت أن تسجد في هذه الآية ، يريد أنّها حكاية عن سجود داود وليس فيها صيغة أمر بالسجود) فقال : «أو ما تقرأ (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فكان داود ممّن أمر نبيئكم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها رسول الله».

والمذاهب في هذه المسألة أربعة : المذهب الأوّل : مذهب مالك فيما حكاه ابن بكير وعبد الوهّاب والقرافي ونسبوه إلى أكثر أصحاب مالك : أنّ شرائع من قبلنا تكون

٢٠٧

أحكاما لنا ، لأنّ الله أبلغها إلينا. والحجّة على ذلك ما ثبت في الصحاح من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قضية الرّبيع بنت النضر حين كسرت ثنيّة جارية عمدا أن تكسر ثنيّتها فراجعته أمّها وقالت : والله لا تكسر ثنيّة الرّبيع فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كتاب الله القصاص» ، وليس في كتاب الله حكم القصاص في السنّ إلّا ما حكاه عن شرع التّوراة بقوله (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ـ إلى قوله ـ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) [المائدة : ٤٥]. وما

في «الموطأ» أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من نسي الصلاة فليصلّها إذا ذكرها فإنّ الله تعالى يقول في كتابه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] وإنّما قاله الله حكاية عن خطابه لموسى ـ عليه‌السلام ـ ، وبظاهر هذه الآية لأنّ الهدى مصدر مضاف فظاهره العموم ، ولا يسلّم كون السياق مخصّصا له كما ذهب إليه الغزالي. ونقل علماء المالكية عن أصحاب أبي حنيفة مثل هذا. وكذلك نقل عنهم ابن حزم في كتابه «الإعراب في الحيرة والالتباس الواقعين في مذاهب أهل الرأي والقياس» (١). وفي «توضيح» صدر الشريعة حكايته عن جماعة من أصحابهم ولم يعيّنه. ونقله القرطبي عن كثير من أصحاب الشافعي. وهو منقول في كتب الحنفيّة عن عامّة أصحاب الشّافعي.

المذهب الثّاني : ذهب أكثر الشّافعيّة والظاهرية : أنّ شرع من قبلنا ليس شرعا لنا. واحتجّوا بقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨]. ونسب القرطبي هذا القول للكثير من أصحاب مالك وأصحاب الشّافعي. وفي «توضيح» صدر الشّريعة نسبة مثل هذا القول لجماعة من أصحابهم.

الثالث : إنّما يلزم الاقتداء بشرع إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣]. ولم أقف على تعيين من نسب إليه هذا القول.

الرّابع : لا يلزم إلّا اتّباع شريعة عيسى لأنّها آخر الشّرائع نسخت ما قبلها. ولم أقف على تعيين صاحب هذا القول. قال ابن رشد في «المقدّمات» : وهذا أضعف الأقوال.

والهاء في قوله : (اقْتَدِهْ) ساكنة عند جمهور القرّاء ، فهي هاء السكت الّتي تجلب عند الوقف على الفعل المعتلّ اللّام إذا حذفت لامه للجازم ، وهي تثبت في الوقف وتحذف في الوصل ، وقد ثبتت في المصحف لأنّهم كانوا يكتبون أواخر الكلم على مراعاة

__________________

(١) مخطوط في مكتبتنا.

٢٠٨

حال الوقف. وقد أثبتها جمهور القرّاء في الوصل ، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف وهو وارد في الكلام الفصيح. والأحسن للقارئ أن يقف عليها جريا على الأفصح ، فجمهور القرّاء أثبتوها ساكنة ما عدا رواية هشام عن ابن عامر فقد حرّكها بالكسر ، ووجّه أبو عليّ الفارسي هذه القراءة بأنّها تجعل الهاء ضمير مصدر «اقتد» ، أي اقتد الاقتداء ، وليست هاء السكت ، فهي كالهاء في قوله تعالى : (عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ١١٥] أي لا أعذّب ذلك العذاب أحدا. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، بحذف الهاء في حالة الوصل على القياس الغالب.

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ).

استئناف عقّب به ذلك البيان العظيم الجامع لأحوال كثير من الأمم. والإيماء إلى نبوءة جمع من الأنبياء والصّالحين ، وبيان طريقة الجدل في تأييد الدّين ، وأنّه ما جاء إلّا كما جاءت ملل تلك الرّسل ، فلذلك ذيّله الله بأمر رسوله أن يذكّر قومه بأنّه يذكّرهم. كما ذكّرت الرّسل أقوامهم ، وأنّه ما جاء إلّا بالنّصح لهم كما جاءت الرّسل. وافتتح الكلام بفعل (قُلْ) للتّنبيه على أهميّته كما تقدّم في هذه السّورة غير مرّة. وقدّم ذلك بقوله : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي لست طالب نفع لنفسي على إبلاغ القرآن ، ليكون ذلك تنبيها للاستدلال على صدقه لأنّه لو كان يريد لنفسه نفعا لصانعهم ووافقهم. قال في «الكشاف» في سورة هود [٥١] عند قوله تعالى حكاية من هود (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ). ما من رسول إلّا واجه قومه بهذا القول لأنّ شأنهم النّصيحة والنّصيحة لا يمحّصها ولا يمحّضها إلّا حسم المطامع وما دام يتوهّم شيء منها لم تنفع ولم تنجع ا ه.

قلت : وحكى الله عن نوح مثل هذا في قوله في سورة هود [٢٩] (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ). وقال لرسوله أيضا في سورة الشّورى [٢٣] (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). فليس المقصود من قوله : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) ردّ اعتقاد معتقد أو نفي تهمة قيلت ولكن المقصود به الاعتبار ولفت النّظر إلى محض نصح الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رسالته وأنّها لنفع النّاس لا يجرّ منها نفعا إلى نفسه.

والضمير في قوله : (عَلَيْهِ) وقوله : (إِنْ هُوَ) راجع إلى معروف في الأذهان ؛ فإنّ معرفة المقصود من الضمير مغنية عن ذكر المعاد مثل قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] ، وكما في حديث عمر في خبر إيلاء النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فنزل صاحبي

٢٠٩

الأنصاري يوم نوبته فضرب بأبي ضربا شديدا فقال : أثمّ هو». إلخ. والتّقدير : لا أسألكم على التّبليغ أو الدّعاء أجرا وما دعائي وتبليغي إلّا ذكرى بالقرآن وغيره من الأقوال.

والذّكرى اسم مصدر الذكر ـ بالكسر ـ ، وهو ضدّ النّسيان ، وتقدّم آنفا. والمراد بها هنا ذكر التّوحيد والبعث والثّواب والعقاب.

وجعل الدّعوة ذكرى للعالمين ، لأنّ دعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامّة لسائر النّاس. وقد أشعر هذا بأنّ انتفاء سؤال الأجر عليه لسببين : أحدهما : أنّه ذكرى لهم ونصح لنفعهم فليس محتاجا لجزاء منهم ، ثانيهما : أنّه ذكرى لغيرهم من النّاس وليس خاصّا بهم.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١))

وجود واو العطف في صدر هذه الجملة ينادي على أنّها نزلت متناسقة مع الجمل الّتي قبلها ، وأنّها وإيّاها واردتان في غرض واحد هو إبطال مزاعم المشركين ، فهذا عطف على جملة (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) [الأنعام : ٨٩] ، وأنّها ليست ابتدائيّة في غرض آخر. فواو الضّمير في قوله (قَدَرُوا) عائد على ما عاد إليه اسم الإشارة في قوله : (هؤُلاءِ) [الأنعام : ٨٩] كما علمت آنفا. ذلك أنّ المشركين لمّا استشعروا نهوض الحجّة عليهم في نزول القرآن بأنّه ليس بدعا ممّا نزل على الرّسل ، ودحض قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧] توغّلوا في المكابرة والجحود فقالوا (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) وتجاهلوا ما كانوا يقولونه عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وما يعلمونه من رسالة موسى ـ عليه‌السلام ـ وكتابه. فروى الطبري عن ابن عبّاس ومجاهد : أنّ قائل ذلك هم المشركون من قريش.

وقد جاءت هذه الآية في هذا الموقع كالنتيجة لما قبلها من ذكر الأنبياء وما جاءوا به

من الهدى والشّرائع والكتب ، فلا جرم أنّ الّذين قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، قد جاءوا إفكا وزورا وأنكروا ما هو معلوم في أجيال البشر بالتّواتر. وهذه الجملة مثل ما حكاه الله عنهم في قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [سبأ : ٣١]. ومن أئمّة التّفسير من جعل هذا حكاية لقول بعض اليهود ، واختلفوا في أنّه معيّن أو غير معيّن ، فعن ابن عبّاس أيضا ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، والسديّ : أنّ قائل (ما

٢١٠

أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) بعض اليهود وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة أنّ قائل ذلك مالك بن الصيف القرظي وكان من أحبار اليهود بالمدينة ، وكان سمينا وأنّه جاء يخاصم النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له النّبيء «أنشدك بالّذي أنزل التّوراة على موسى أما تجد في التّوراة أنّ الله يبغض الحبر السمين» فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء. وعن السدّي : أنّ قائله فنحاص اليهودي. ومحمل ذلك كلّه على أنّ قائل ذلك منهم قاله جهلا بما في كتبهم فهو من عامّتهم ، أو قاله لجاجا وعنادا. وأحسب أنّ هذه الرّوايات هي الّتي ألجأت رواتها إلى ادّعاء أنّ هذه الآيات نزلت بالمدينة ، كما تقدّم في الكلام على أوّل هذه السورة.

وعليه يكون وقع هذه الآيات في هذا الموقع لمناسبة قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) [الأنعام : ٨٩] الآية ، وتكون الجملة كالمعترضة في خلال إبطال حجاج المشركين. وحقيقة (قَدَرُوا) عيّنوا القدر وضبطوه أي ، علّموه علما عن تحقّق.

والقدر ـ بفتح فسكون ـ مقياس الشيء وضابطه ، ويستعمل مجازا في علم الأمر بكنهه وفي تدبير الأمر. يقال : قدر القوم أمرهم يقدرونه ـ بضمّ الدّالّ ـ في المضارع ، أي ضبطوه ودبّروه. وفي الحديث قول عائشة : «فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ». وهو هنا مجاز في العلم الصّحيح ، أي ما عرفوا الله حقّ معرفته وما علموا شأنه وتصرّفاته حقّ العلم بها ، فانتصب (حَقَ) على النّيابة عن المفعول المطلق لإضافته إلى المصدر وهو (قَدْرِهِ) ، والإضافة هنا من إضافة الصّفة إلى الموصوف. والأصل : ما قدروا الله قدره الحقّ.

و (إِذْ قالُوا) ظرف ، أي ما قدروه حين قالوا (ما أَنْزَلَ اللهُ) لأنّهم لمّا نفوا شأنا عظيما من شئون الله ، وهو شأن هديه النّاس وإبلاغهم مراده بواسطة الرّسل ، قد جهلوا ما يفضي إلى الجهل بصفة من صفات الله تعالى الّتي هي صفة الكلام ، وجهلوا رحمته للنّاس ولطفه بهم.

ومقالهم هذا يعمّ جميع البشر لوقوع النكرة في سياق النّفي لنفي الجنس ، ويعمّ جميع ما أنزل باقترانه ب (مِنْ) في حيز النّفي للدّلالة على استغراق الجنس أيضا ، ويعمّ إنزال الله تعالى الوحي على البشر بنفي المتعلّق بهذين العمومين.

والمراد ب (شَيْءٍ) هنا شيء من الوحي ، ولذلك أمر الله نبيّه بأن يفحمهم باستفهام تقرير وإلجاء بقوله : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) فذكّرهم بأمر لا يستطيعون جحده لتواتره في بلاد العرب ، وهو رسالة موسى ومجيئه بالتّوراة وهي تدرس بين اليهود

٢١١

في البلد المجاور مكّة ، واليهود يتردّدون على مكّة في التّجارة وغيرها ، وأهل مكّة يتردّدون على يثرب وما حولها وفيها اليهود وأحبارهم ، وبهذا لم يذكّرهم الله برسالة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لأنّهم كانوا يجهلون أنّ الله أنزل عليه صحفا فكان قد يتطرّقه اختلاف في كيفية رسالته ونبوءته. وإذا كان ذلك لا يسع إنكاره كما اقتضاه الجواب آخر الآية بقوله : (قُلِ اللهُ) فقد ثبت أنّ الله أنزل على أحد من البشر كتابا فانتقض قولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) على حسب قاعدة نقض السالبة الكليّة بموجبة جزئيّة. وافتتح بالأمر بالقول للاهتمام بهذا الإفحام ، وإلّا فإنّ القرآن كلّه مأمور النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله.

والنّور : استعارة للوضوح والحقّ ، فإنّ الحقّ يشبّه بالنّور ، كما يشبّه الباطل بالظلمة. قال أبو القاسم عليّ التّنوخي :

وكأنّ النّجوم بين دجاها

سنن لاح بينهنّ ابتداع

ولذلك عطف عليه (هُدىً). ونظيره قوله في سورة المائدة [٤٤] (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ). ولو أطلق النّور على سبب الهدى لصحّ لو لا هذا العطف ، كما قال تعالى عن القرآن (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢]. وقد انتصب (نُوراً) على الحال.

والمراد بالنّاس اليهود ، أي ليهديهم ، فالتّعريف فيه للاستغراق ، إلّا أنّه استغراق عرفي ، أي النّاس الّذين هم قومه بنو إسرائيل.

وقوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) يجوز أن يكون صفة سببيّة للكتاب ، ويجوز أن يكون معترضا بين المتعاطفات.

قرأ (تَجْعَلُونَهُ) ـ و (تُبْدُونَها) ـ و (تُخْفُونَ) ـ بتاء الخطاب ـ من عدا ابن كثير ، وأبا عمرو ، ويعقوب ، من العشرة ، فإمّا أن يكون الخطاب لغير المشركين إذ الظاهر أن ليس لهم عمل في الكتاب الذي أنزل على موسى ولا باشروا إبداء بعضه وإخفاء بعضه فتعيّن أن يكون خطابا لليهود على طريقة الإدماج (أي الخروج من خطاب إلى غيره) تعريضا باليهود وإسماعا لهم وإن لم يكونوا حاضرين من باب إياك أعني واسمعي يا جارة ، أو هو التفات من طريق الغيبة الّذي هو مقتضى المقام إلى طريق الخطاب. وحقّه أن يقال يجعلونه ـ بياء المضارع للغائب ـ كما قرأ غير هؤلاء الثّلاثة القرّاء. وإمّا أن يكون خطابا للمشركين. ومعنى كونهم يجعلون كتاب موسى قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها أنّهم سألوا

٢١٢

اليهود عن نبوءة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرءوا لهم ما في التّوراة من التمسّك بالسبت ، أي دين اليهود ، وكتموا ذكر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الّذي يأتي من بعد ، فأسند الإخفاء والإبداء إلى المشركين مجازا لأنّهم كانوا مظهرا من مظاهر ذلك الإخفاء والإبداء. ولعلّ ذلك صدر من اليهود بعد أن دخل الإسلام المدينة وأسلم من أسلم من الأوس والخزرج ، فعلم اليهود وبال عاقبة ذلك عليهم فأغروا المشركين بما يزيدهم تصميما على المعارضة. وقد قدّمت ما يرجّح أنّ سورة الأنعام نزلت في آخر مدّة إقامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكّة ، وذلك يوجب ظننّا بأنّ هذه المدّة كانت مبدأ مداخلة اليهود لقريش في مقاومة الدّعوة الإسلاميّة بمكّة حين بلغت إلى المدينة.

قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب يجعلونه ، ويبدونها ، ويخفون ـ بالتحتيّة ـ فتكون ضمائر الغيبة عائدة إلى معروف عند المتكلّم ، وهم يهود الزّمان الّذين عرفوا بذلك.

والقراطيس جمع قرطاس. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) في هذه السّورة [٧]. وهو الصحيفة من أي شيء كانت من رقّ أو كاغد أو خرقة. أي تجعلون الكتاب الّذي أنزل على موسى أوراقا متفرّقة قصدا لإظهار بعضها وإخفاء بعض آخر.

وقوله : (تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) صفة لقراطيس ، أي تبدون بعضها وتخفون كثيرا منها ، ففهم أنّ المعنى تجعلونه قراطيس لغرض إبداء بعض وإخفاء بعض.

وهذه الصّفة في محلّ الذمّ فإنّ الله أنزل كتبه للهدى ، والهدى بها متوقّف على إظهارها وإعلانها ، فمن فرّقها ليظهر بعضا ويخفي بعضا فقد خالف مراد الله منها. فأمّا لو جعلوه قراطيس لغير هذا المقصد لما كان فعلهم مذموما ، كما كتب المسلمون القرآن في أجزاء منفصلة لقصد الاستعانة على القراءة ، وكذلك كتابة الألواح في الكتاتيب لمصلحة.

وفي «جامع العتبية» في سماع ابن القاسم عن مالك سئل مالك ـ رحمه‌الله ـ عن القرآن يكتب أسداسا وأسباعا في المصاحف ، فكره ذلك كراهية شديدة وعابها وقال لا يفرّق القرآن وقد جمعه الله وهؤلاء يفرّقونه ولا أرى ذلك ا ه. قال ابن رشد في «البيان والتّحصيل» : القرآن أنزل إلى النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا بعد شيء حتّى كمل واجتمع جملة واحدة فوجب أن يحافظ على كونه مجموعا ، فهذا وجه كراهيّة مالك لتفريقه ا ه.

قلت : ولعلّه إنّما كره ذلك خشية أن يكون ذلك ذريعة إلى تفرّق أجزاء المصحف

٢١٣

الواحد فيقع بعضها في يد بعض المسلمين فيظنّ أنّ ذلك الجزء هو القرآن كلّه ، ومعنى قول مالك : وقد جمعه الله ، أنّ الله أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجمعه بعد أن نزل منجّما ، فدلّ ذلك على أنّ الله أراد جمعه فلا يفرّق أجزاء. وقد أجاز فقهاء المذهب تجزئة القرآن للتعلّم ومسّ جزئه على غير وضوء ، ومنه كتابته في الألواح.

وقوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا) في موضع الحال من كلام مقدّر دلّ عليه قوّة الاستفهام لأنّه في قوّة أخبروني ، فإنّ الاستفهام يتضمّن معنى الفعل.

ووقوع الاستفهام بالاسم الدّال على طلب تعيين فاعل الإنزال يقوّي معنى الفعل في الاستفهام إذ تضمّن اسم الاستفهام فعلا وفاعلا مستفهما عنهما ، أي أخبروني عن ذلك وقد علّمكم الله بالقرآن الّذي أنكرتم كونه من عند الله ، احتججتم على إنكار ذلك بنفي أن ينزل الله على بشر شيئا ، ولو أنصفتم لوجدتم وإمارة نزوله من عند الله ثابتة فيه غير محتاج معها للاستدلال عليه. وهذا الخطاب أشدّ انطباقا على المشركين لأنّهم لم يكونوا عالمين بأخبار الأنبياء وأحوال التّشريع ونظامه فلمّا جاءهم محمّد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ علم ذلك من آمن علما راسخا ، وعلم ذلك من بقي على كفره بما يحصل لهم من سماع القرآن عند الدّعوة ومن مخالطيهم من المسلمين ، وقد وصفهم الله بمثل هذا في آيات أخرى ، كقوله تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩].

ويجوز أن تكون جملة : (وَعُلِّمْتُمْ) عطفا على جملة : (أَنْزَلَ الْكِتابَ) على اعتبار المعنى كأنّه قيل : وعلّمكم ما لم تعلموا. ووجه بناء فعل (عُلِّمْتُمْ) للمجهول ظهور الفاعل ، ولأنّه سيقول (قُلِ اللهُ).

فإذا تأوّلنا الآية بما روي من قصّة مالك بن الصّيف المتقدّمة فالاستفهام بقوله (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) تقريري ، إمّا لإبطال ظاهر كلامهم من جحد تنزيل كتاب على بشر ، على طريقة إفحام المناظر بإبداء ما في كلامه من لوازم الفساد ، مثل فساد اطّراد التّعريف أو انعكاسه ، وإمّا لإبطال مقصودهم من إنكار رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريقة الإلزام لأنّهم أظهروا أنّ رسالة محمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ كالشيء المحال فقيل لهم على سبيل التّقرير (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) ولا يسعهم إلّا أن يقولوا : الله ، فإذا اعترفوا بذلك فالّذي أنزل على موسى كتابا لم لا ينزل على محمّد مثله ، كما قال تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٤] الآية.

٢١٤

ثمّ على هذا القول تكون قراءة : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) بالفوقيّة جارية على الظاهر ، وقراءته بالتّحتيّة من قبيل الالتفات. ونكتته أنّهم لمّا أخبر عنهم بهذا الفعل الشّنيع جعلوا كالغائبين عن مقام الخطاب.

والمخاطب بقوله : (وَعُلِّمْتُمْ) على هذا الوجه هم اليهود ، فتكون الجملة حالا من ضمير (تَجْعَلُونَهُ) ، أي تجعلونه قراطيس تخفون بعضها في حال أنّ الله علّمكم على لسان محمّد ما لم تكونوا تعلمون ، ويكون ذلك من تمام الكلام المعترض به.

ويجيء على قراءة يجعلونه قراطيس ـ بالتّحتيّة ـ أن يكون الرّجوع إلى الخطاب بعد الغيبة التفاتا أيضا. وحسّنه أنّه لمّا أخبر عنهم بشيء حسن عاد إلى مقام الخطاب ، أو لأنّ مقام الخطاب أنسب بالامتنان.

واعلم أنّ نظم الآية صالح للردّ على كلا الفريقين مراعاة لمقتضى الروايتين. فعلى الرّواية الأولى فواو الجماعة في «قدروا ـ وقالوا» عائدة إلى ما عاد إليه إشارة هؤلاء ، وعلى الرّواية الثّانية فالواو واو الجماعة مستعملة في واحد معيّن على طريقة التّعريض بشخص من باب «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله» ، وذلك من قبيل عود الضّمير على غير مذكور اعتمادا على أنّه مستحضر في ذهن السامع.

وقوله : (قُلِ اللهُ) جواب الاستفهام التّقريري. وقد تولّى السائل الجواب لنفسه بنفسه لأنّ المسئول لا يسعه إلّا أن يجيب بذلك لأنّه لا يقدر أن يكابر ، على ما قرّرته في تفسير قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) في هذه السّورة [١٢].

والمعنى قل الله أنزل الكتاب على موسى. وإذا كان (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا) معطوفا على جملة (أَنْزَلَ) كان الجواب شاملا له ، أي الله علّمكم ما لم تعلموا فيكون جوابا عن الفعل المسند إلى المجهول بفعل مسند إلى المعلوم على حدّ قول ضرار بن نهشل أو الحارث النهشلي يرثي أخاه يزيد :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح

كأنّه سئل من يبكيه فقال : ضارع.

وعطف (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) بثمّ للدّلالة على التّرتيب الرتبي ، أي أنّهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلّة فتركهم وخوضهم بعد التّبليغ هو الأولى ولكن الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم.

٢١٥

وقوله : (فِي خَوْضِهِمْ) متعلّق ب (ذَرْهُمْ). وجملة (يَلْعَبُونَ) حال من ضمير الجمع. وتقدّم القول في «ذر» في قوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) [الأنعام : ٧٠].

والخوض تقدّم في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨]. واللّعب تقدّم في (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً) في هذه السّورة [٧٠].

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢))

(وَهذا كِتابٌ) عطف على جملة (قُلِ اللهُ) [الأنعام : ٩١] ، أي وقل لهم الله أنزل الكتاب على موسى وهذا كتاب أنزلناه. والإشارة إلى القرآن لأنّ المحاولة في شأنه من ادّعائهم نفي نزوله من عند الله ، ومن تبكيتهم بإنزال التّوراة ، يجعل القرآن كالحاضر المشاهد ، فأتي باسم الإشارة لزيادة تمييزه تقوية لحضوره في الأذهان.

وافتتاح الكلام باسم الإشارة المفيد تمييز الكتاب أكمل تمييز ، وبناء فعل (أَنْزَلْناهُ) على خبر اسم الإشارة ، وهو (كِتابٌ) الّذي هو عينه في المعنى ، لإفادة التّقوية ، كأنّه قيل : وهذا أنزلناه.

وجعل (كِتابٌ) الّذي حقّه أن يكون مفعول أنزلنا مسندا إليه ، ونصب فعل أنزلنا لضميره ، لإفادة تحقيق إنزاله بالتّعبير عنه مرّتين ، وذلك كلّه للتّنويه بشأن هذا الكتاب.

وجملة : (أَنْزَلْناهُ) يجوز أن تكون حالا من اسم الإشارة ، أو معترضة بينه وبين خبره. و (مُبارَكٌ) خبر ثان. والمبارك اسم مفعول من باركه ، وبارك عليه ، وبارك فيه ، وبارك

له ، إذا جعل له البركة. والبركة كثرة الخير ونماؤه يقال : باركه. قال تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) [النمل : ٨] ، ويقال : بارك فيه ، قال تعالى : (وَبارَكَ فِيها) [فصلت : ١٠].

ولعلّ قولهم (بارك فيه) إنّما يتعلّق به ما كانت البركة حاصلة للغير في زمنه أو مكانه ، وأمّا (باركه) فيتعلّق به ما كانت البركة صفة له ، و (بارك عليه) جعل البركة متمكّنة منه ، (وبارك له) جعل أشياء مباركة لأجله ، أي بارك فيما له.

٢١٦

والقرآن مبارك لأنّه يدلّ على الخير العظيم ، فالبركة كائنة به ، فكأنّ البركة جعلت في ألفاظه ، ولأنّ الله تعالى قد أودع فيه بركة لقارئه المشتغل به بركة في الدّنيا وفي الآخرة ، ولأنّه مشتمل على ما في العمل به كمال النّفس وطهارتها بالمعارف النّظريّة ثمّ العمليّة. فكانت البركة ملازمة لقراءته وفهمه. قال فخر الدّين «قد جرت سنّة الله تعالى بأنّ الباحث عنه (أي عن هذا الكتاب) المتمسّك به يحصل له عزّ الدّنيا وسعادة الآخرة. وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النّقليّة والعقليّة فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السّعادات في الدّنيا مثل ما حصل لي بسبب خدمة هذا العلم (يعني التّفسير).

و (مُصَدِّقُ) خبر عن (كِتابٌ) بدون عطف. والمصدّق تقدّم عند قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) في سورة البقرة [٩٧] ، وقوله (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) وفي سورة آل عمران [٥٠]. و (الَّذِي) من قوله : (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) اسم موصول مراد به معنى جمع. وإذ قد كان جمع الّذي وهو لا يستعمل في كلام العرب إلّا إذا أريد به العاقل وشبهه ، نحو (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) [الأعراف : ١٩٤] لتنزيل الأصنام منزلة العاقل في استعمال الكلام عرفا. فلا يستعمل في جمع غير العاقل إلّا الّذي المفرد ، نحو قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر : ٣٣].

والمراد ب (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ما تقدّمه من كتب الأنبياء ، وأخصّها التّوراة والإنجيل والزّبور ، لأنّها آخر ما تداوله النّاس من الكتب المنزّلة على الأنبياء ، وهو مصدّق الكتب النّازلة قبل هذه الثّلاثة وهي صحف إبراهيم وموسى.

ومعنى كون القرآن مصدّقها من وجهين ، أحدهما : أنّ في هذه الكتب الوعد بمجيء الرّسول المقفّى على نبوءة أصحاب تلك الكتب ، فمجيء القرآن قد أظهر صدق ما وعدت به تلك الكتب ودلّ على أنّها من عند الله.

وثانيهما : أنّ القرآن مصدّق أنبيائها وصدّقها وذكر نورها وهداها ، وجاء بما جاءت به من أصول الدّين والشّريعة. ثم إنّ ما جاء به من الأحكام الّتي لم تكن ثابتة فيها لا يخالفها. وأمّا ما جاء به من الأحكام المخالفة للأحكام المذكورة فيها من فروع الشّريعة فذلك قد يبيّن فيه أنّه لأجل اختلاف المصالح ، أو لأنّ الله أراد التّيسير بهذه الأمّة.

ومعنى : (بَيْنَ يَدَيْهِ) ما سبقه ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) في سورة البقرة [٩٧] ، وعند قوله : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) في سورة آل عمران [٥٠].

٢١٧

وأمّا جملة (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) فوجود واو العطف في أوّلها مانع من تعليق (لِتُنْذِرَ) بفعل (أَنْزَلْناهُ) ، ومن جعل المجرور خبرا عن (كِتابٌ) خلافا للتفتازاني ، إذ الخبر إذا كان مجرورا لا يقترن بواو العطف ولا نظير لذاك في الاستعمال ، فوجود لام التّعليل مع الواو مانع من جعلها خبرا آخر ل (كِتابٌ) ، فلا محيص عند توجيه انتظامها مع ما قبلها من تقدير محذوف أو تأويل بعض ألفاظها ، والوجه عندي أنّه معطوف على مقدّر ينبئ عنه السّياق. والتّقدير : ليؤمن أهل الكتاب بتصديقه ولتنذر المشركين. ومثل هذا التّقدير يطّرد في نظائر هذه الآية بحسب ما يناسب أن يقدّر. وهذا من أفانين الاستعمال الفصيح. ونظيره قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) في سورة إبراهيم [٥٢].

ووقع في «الكشاف» أنّ (وَلِتُنْذِرَ) معطوف على ما دلّت عليه صفة الكتاب ، كأنّه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدّمه والإنذار ا ه. وهذا وإن استتبّ في هذه الآية فهو لا يحسن في آية سورة إبراهيم ، لأنّ لفظ «بلاغ» اسم ليس فيه ما يشعر بالتّعليل ، و «للنّاس» متعلّق به واللّام فيه للتّبليغ لا للتّعليل ، فتعيّن تقدير شيء بعده نحو لينتبهوا أو لئلّا يؤخذوا على غفلة ولينذروا به.

والإنذار : الإخبار بما فيه توقّع ضرّ ، وضدّه البشارة. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) في سورة البقرة [١١٩]. واقتصر عليه لأنّ المقصود تخويف المشركين إذ قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١].

وأمّ القرى : مكّة ، وأمّ الشيء استعارة شائعة في الأمر الّذي يرجع إليه ويلتفّ حوله ، وحقيقة الأمّ الأنثى الّتي تلد الطفل فيرجع الولد إليها ويلازمها ، وشاعت استعارة الأمّ للأصل والمرجع حتّى صارت حقيقة ، ومنه سمّيت الراية أمّا ، وسمّي أعلى الرأس أمّ الرأس ، والفاتحة أمّ القرآن. وقد تقدّم ذلك في تسمية الفاتحة. وإنّما سمّيت مكّة أمّ القرى لأنّها أقدم القرى وأشهرها وما تقرّت القرى في بلاد العرب إلّا بعدها ، فسمّاها العرب أمّ القرى ، وكان عرب الحجاز قبلها سكّان خيام.

وإنذار أمّ القرى بإنذار أهلها ، وهذا من مجاز الحذف كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، وقد دلّ عليه قوله (وَمَنْ حَوْلَها) ، أي القبائل القاطنة حول مكّة مثل خزاعة ، وسعد بن بكر ، وهوازن ، وثقيف ، وكنانة.

ووجه الاقتصار على أهل مكّة ومن حولها في هذه الآية أنّهم الّذين جرى الكلام

٢١٨

والجدال معهم من قوله : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) [الأنعام : ٦٦] ، إذ السّورة مكّية وليس في التّعليل ما يقتضي حصر الإنذار بالقرآن فيهم حتّى نتكلّف الادّعاء أنّ (مَنْ حَوْلَها) مراد به جميع أهل الأرض.

وقرأ الجمهور (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) بالخطاب ، وقرأه أبو بكر وحده عن عاصم ولينذر ـ بياء الغائب ـ على أن يكون الضّمير عائدا إلى (كِتابٌ).

وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) احتراس من شمول الإنذار للمؤمنين الّذين هم يومئذ بمكّة وحولها المعروفون بهذه الصّلة دون غيرهم من أهل مكّة ، ولذلك عبّر عنهم بهذا الموصول لكونه كاللّقب لهم ، وهو مميّزهم عن أهل الشّرك لأنّ أهل الشّرك أنكروا الآخرة. وليس في هذا الموصول إيذان بالتّعليل ، فإنّ اليهود والنّصارى يؤمنون بالآخرة ولم يؤمنوا بالقرآن ولكنّهم لم يكونوا من أهل مكّة يومئذ.

وأخبر عن المؤمنين بأنّهم يؤمنون بالقرآن تعريضا بأنّهم غير مقصودين بالإنذار فيعلم أنّهم أحقّاء بضدّه وهو البشارة.

وزادهم ثناء بقوله : (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) إيذانا بكمال إيمانهم وصدقه ، إذ كانت الصّلاة هي العمل المختصّ بالمسلمين ، فإنّ الحجّ كان يفعله المسلمون والمشركون ، وهذا كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) [البقرة : ٢ ، ٣] ولم يكن الحجّ مشروعا للمسلمين في مدّة نزول هذه السّورة.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣))

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ).

لمّا تقضّى إبطال ما زعموه من نفي الإرسال والإنزال والوحي ، النّاشئ عن مقالهم الباطل ، إذ قالوا (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ، وعقّب ذلك بإثبات ما لأجله جحدوا إرسال الرّسل وإنزال الوحي على بشر ، وهو إثبات أنّ هذا الكتاب منزّل من

٢١٩

الله ، عقّب بعد ذلك بإبطال ما اختلقه المشركون من الشّرائع الضّالة في أحوالهم الّتي شرعها لهم عمرو بن لحيّ من عبادة الأصنام ، وزعمهم أنّهم شفعاء لهم عند الله ، وما يستتبع ذلك من البحيرة ، والسّائبة ، وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح ، وغير ذلك. فهم ينفون الرّسالة تارة في حين أنّهم يزعمون أنّ الله أمرهم بأشياء فكيف بلغهم ما أمرهم الله به في زعمهم ، وهم قد قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١]. فلزمهم أنّهم قد كذبوا على الله فيما زعموا أنّ الله أمرهم به لأنّهم عطّلوا طريق وصول مراد الله إلى خلقه وهو طريق الرّسالة فجاءوا بأعجب مقالة.

وذكر من استخفّوا بالقرآن فقال بعضهم : أنا أوحي إليّ ، وقال بعضهم : أنا أقول مثل قول القرآن ، فيكون المراد بقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) تسفيه عقائد أهل الشّرك والضّلالة منهم على اختلافها واضطرابها. ويجوز أن يكون المراد مع ذلك تنزيه النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّا رموه به من الكذب على الله حين قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] لأنّ الّذي يعلم أنّه لا ظلم أعظم من الافتراء على الله وادّعاء الوحي باطلا لا يقدم على ذلك ، فيكون من ناحية قول هرقل لأبي سفيان «وسألتك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أنّ لا ، فقد أعرف أنّه لم يكن ليذر الكذب على النّاس ويكذب على الله».

والاستفهام إنكاري فهو في معنى النّفي ، أي لا أحد أظلم من هؤلاء أصحاب هذه الصّلات. ومساقه هنا مساق التّعريض بأنّهم الكاذبون إبطالا لتكذيبهم إنزال الكتاب ، وهو تكذيب دلّ عليه مفهوم قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [الأنعام : ٩٢] لاقتضائه أنّ الّذين لا يؤمنون بالآخرة وهم المشركون يكذّبون به ؛ ومنهم الّذي قال : أوحي إليّ ؛ ومنهم الّذي قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ؛ ومنهم من افترى على الله كذبا فيما زعموا أنّ الله أمرهم بخصال جاهليتهم. ومثل هذا التّعريض قوله تعالى في سورة العقود [٦٠] (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) الآية عقب قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥٧] الآية.

وتقدّم القول في (وَمَنْ أَظْلَمُ) عند قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) في سورة البقرة [١١٤].

وافتراء : الاختلاق ، وتقدّم في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ

٢٢٠