تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

والطّلع : وعاء عرجون التّمر الّذي يبدو في أوّل خروجه يكون كشكل الأترجّة العظيمة مغلقا على العرجون ، ثمّ ينفتح كصورة نعلين فيخرج منه العنقود مجتمعا ، ويسمّى حينئذ الإغريض ، ثمّ يصير قنوا.

و (دانِيَةٌ) قريبة. والمراد قريبة التّناول كقوله تعالى : (قُطُوفُها دانِيَةٌ) [الحاقة : ٢٣]. والقنوان الدانية بعض قنوان النّخل خصّت بالذّكر هنا إدماجا للمنّة في خلال التّذكير بإتقان الصنعة فإنّ المنّة بالقنوان الدّانية أتمّ ، والدّانية هي الّتي تكون نخلتها قصيرة لم تتجاوز طول قامة المتناول ، ولا حاجة لذكر البعيدة التّناول لأنّ الذّكرى قد حصلت بالدّانية وزادت بالمنّة التّامّة.

و (جَنَّاتٍ) بالنّصب عطف على (خَضِراً). وما نسب إلى أبي بكر عن عاصم من رفع (جَنَّاتٍ) لم يصحّ.

وقوله : (مِنْ أَعْنابٍ) تمييز مجرور ب (مِنَ) البيانيّة لأنّ الجنّات للأعناب بمنزلة المقادير كما يقال جريت تمرا ، وبهذا الاعتبار عدّي فعل الإخراج إلى الجنّات دون الأعناب ، فلم يقل وأعنابا في جنّات. والأعناب جمع عنب ، وهو جمع عنبة ، وهو في الأصل ثمر شجر الكرم. ويطلق على شجرة الكرم عنب على تقدير مضاف ، أي شجرة عنب ، وشاع ذلك فتنوسي المضاف. قال الرّاغب : «العنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه» ا ه. ولا يعرف إطلاق المفرد على شجرة الكرم ، فلم أر في كلامهم إطلاق العنبة بالإفراد على شجرة الكرم ولكن يطلق بالجمع ، يقال : عنب ، مراد به الكرم ، كما في قوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً) [عبس : ٢٧ ، ٢٨] ، ويقال : أعناب كذلك ، كما هنا ، وظاهر كلام الرّاغب أنّه يقال : عنبة لشجرة الكرم ، فإنّه قال : «العنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه الواحدة عنبة».

(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) ـ بالنّصب ـ عطف على (جَنَّاتٍ) والتّعريف فيهما الجنس كالتّعريف في قوله : (وَمِنَ النَّخْلِ). والمراد بالزّيتون والرمّان شجرهما. وهما في الأصل اسمان للثمرتين ثمّ أطلقا على شجرتيهما كما تقدّم في الأعناب. وهاتان الشّجرتان وإن لم تكونا مثل النّخل في الأهميّة عند العرب إلّا أنّهما لعزّة وجودهما في بلاد العرب ولتنافس العرب في التّفكّه بثمرهما والإعجاب باقتنائهما ذكرا في مقام التّذكير بعجيب صنع الله تعالى ومنّته. وكانت شجرة الزّيتون موجودة بالشّام وفي سينا ، وشجرة الرمّان موجودة بالطّائف.

وقوله : (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) حال ومعطوف عليه ، والواو للتّقسيم بقرينة أنّ الشيء

٢٤١

الواحد لا يكون مشتبها وغير متشابه ، أي بعضه مشتبه وبعضه غير متشابه. وهما حالان من «الزّيتون والرمّان» معا ، وإنّما أفرد ولم يجمع اعتبارا بإفراد اللّفظ. والتّشابه والاشتباه مترادفان كالتساوي والاستواء ، وهما مشتقّان من الشبه. والجمع بينهما في الآية للتّفنّن كراهيّة إعادة اللّفظ ، ولأنّ اسم الفاعل من التّشابه أسعد بالوقف لما فيه من مدّ الصّوت بخلاف مشتبه. وهذا من بديع الفصاحة.

والتّشابه : التماثل في حالة مع الاختلاف في غيرها من الأحوال ، أي بعض شجره يشبه بعضا وبعضه لا يشبه بعضا ، أو بعض ثمره يشبه بعضا وبعضه لا يشبه بعضا ، فالتّشابه ممّا تقارب لونه أو طعمه أو شكله ممّا يتطلّبه النّاس من أحواله على اختلاف أميالهم ، وعدم التّشابه ما اختلف بعضه عن البعض الآخر فيما يتطلّبه النّاس من الصّفات على اختلاف شهواتهم ، فمن أعواد الشّجر غليظ ودقيق ، ومن ألوان ورقه قاتم وداكن ، ومن ألوان ثمره مختلف ومن طعمه كذلك ، وهذا كقوله تعالى : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد : ٤]. والمقصود من التّقييد بهذه الحال التّنبيه على أنّها مخلوقة بالقصد والاختيار لا بالصدفة.

ويجوز أن تجعل هذه الحال من جميع ما تقدّم من قوله : (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) ، فإنّ جميع ذلك مشتبه وغير متشابه. وجعله الزمخشري حالا من (الزَّيْتُونَ) لأنّه المعطوف عليه وقدّر ل (الرُّمَّانَ) حالا أخرى تدلّ عليها الأولى ، بتقدير : والرمّان كذلك. وإنّما دعاه إلى ذلك أنّه لا يرى تعدّد صاحب الحال الواحدة ولا التّنازع في الحال ونظره بإفراد الخبر بعد مبتدأ ومعطوف في قول الأزرق بن طرفة الباهلي ، جوابا لبعض بني قشير وقد اختصما في بئر فقال القشيري : أنت لصّ ابن لصّ :

رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطّوي رماني

ولا ضير في هذا الإعراب من جهة المعنى لأنّ التّنبيه إلى ما في بعض النّبات من دلائل الاختيار يوجّه العقول إلى ما في مماثله من أمثالها.

وجملة : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) بيان للجمل الّتي قبلها المقصود منها الوصول إلى معرفة صنع الله تعالى وقدرته ، والضّمير المضاف إليه في (ثَمَرِهِ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (مُشْتَبِهاً) من تخصيص أو تعميم. والمأمور به هو نظر الاستبصار والاعتبار بأطواره.

٢٤٢

والثمر : الجنى الّذي يخرجه الشّجر. وهو ـ بفتح الثّاء والميم ـ في قراءة الأكثر ، جمع ثمرة ـ بفتح الثّاء والميم ـ وقرأه حمزة والكسائي وخلف ـ بضمّ الثّاء والميم ـ وهو جمع تكسير ، كما جمعت : خشبة على خشب ، وناقة على نوق.

والينع : الطّيب والنّضج. يقال : ينع ـ بفتح النّون ـ يينع ـ بفتح النّون وكسرها ـ ويقال : أينع يونع ينعا ـ بفتح التّحتيّة بعدها نون ساكنة ـ.

و (إِذا) ظرف لحدوث الفعل ، فهي بمعنى الوقت الّذي يبتدئ فيه مضمون الجملة المضاف إليها ، أي حين ابتداء أثماره. وقوله : (وَيَنْعِهِ) لم يقيّد بإذا أينع لأنّه إذا ينع فقد تمّ تطوّره وحان قطافه فلم تبق للنّظر فيه عبرة لأنّه قد انتهت أطواره.

وجملة : (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ) علّة للأمر بالنّظر. وموقع (إنّ) فيه موقع لام التّعليل ، كقول بشّار :

إنّ ذاك النّجاح في التّبكير

والإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى المذكور كلّه من قوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ ـ إلى قوله ـ وَيَنْعِهِ) فتوحيد اسم الإشارة بتأويل المذكور ، كما تقدّم في قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) في سورة البقرة [٦٨].

و (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وصف للآيات. واللّام للتّعليل ، والمعلّل هو ما في مدلول الآيات من مضمّن معنى الدّلالة والنّفع. وقد صرّح في هذا بأنّ الآيات إنّما تنفع المؤمنين تصريحا بأنّهم المقصود في الآيتين الأخريين بقوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأنعام : ٩٧] وقوله (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) [الأنعام : ٩٨] ، وإتماما للتّعريض بأنّ غير العالمين وغير الفاقهين هم غير المؤمنين يعني المشركين.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠))

عطف على الجمل قبله عطف القصّة على القصّة ، فالضّمير المرفوع في (جَعَلُوا) عائد إلى (قَوْمُكَ) من قوله تعالى : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) [الأنعام : ٦٦].

وهذا انتقال إلى ذكر شرك آخر من شرك العرب وهو جعلهم الجنّ شركاء لله في عبادتهم كما جعلوا الأصنام شركاء له في ذلك. وقد كان دين العرب في الجاهليّة خليطا

٢٤٣

من عبادة الأصنام ومن الصّابئيّة عبادة الكواكب وعبادة الشّياطين ، ومجوسيّة الفرس ، وأشياء من اليهوديّة ، والنّصرانيّة ، فإنّ العرب لجهلهم حينئذ كانوا يتلقّون من الأمم المجاورة لهم والّتي يرحلون إليها عقائد شتّى متقاربا بعضها ومتباعدا بعض ، فيأخذونه بدون تأمّل ولا تمحيص لفقد العلم فيهم ، فإنّ العلم الصّحيح هو الذّائد عن العقول من أنّ تعشّش فيها الأوهام والمعتقدات الباطلة ، فالعرب كان أصل دينهم في الجاهليّة عبادة الأصنام وسرت إليهم معها عقائد من اعتقاد سلطة الجنّ والشّياطين ونحو ذلك.

فكان العرب يثبتون الجنّ وينسبون إليهم تصرّفات ، فلأجل ذلك كانوا يتّقون الجنّ وينتسبون إليها ويتّخذون لها المعاذات والرّقى ويستجلبون رضاها بالقرابين وترك تسمية الله على بعض الذبائح. وكانوا يعتقدون أنّ الكاهن تأتيه الجنّ بالخبر من السّماء ، وأنّ الشّاعر له شيطان يوحى إليه الشّعر ، ثمّ إذ أخذوا في تعليل هذه التصرّفات وجمعوا بينها وبين معتقدهم في ألوهيّة الله تعالى تعلّلوا لذلك بأنّ للجنّ صلة بالله تعالى فلذلك قالوا : الملائكة بنات الله من أمّهات سروات الجنّ ، كما أشار إليه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨] وقال (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الصافات : ١٤٩ ـ ١٥٢]. ومن أجل ذلك جعل كثير من قبائل العرب شيئا من عبادتهم للملائكة وللجنّ. قال تعالى : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول (لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤٠ ، ٤١].

والّذين زعموا أنّ الملائكة بنات الله هم قريش وجهينة وبنو سلمة وخزاعة وبنو مليح. وكان بعض العرب مجوسا عبدوا الشّيطان وزعموا أنّه إله الشرّ وأنّ الله إله الخير ، وجعلوا الملائكة جند الله والجنّ جند الشّيطان. وزعموا أنّ الله خلق الشّيطان من نفسه ثمّ فوّض إليه تدبير الشرّ فصار إله الشرّ. وهم قد انتزعوا ذلك من الدّيانة المزدكيّة القائلة بإلهين إله للخير وهو (يزدان). وإله للشرّ وهو (أهرمن) وهو الشّيطان.

فقوله : (الْجِنَ) مفعول أوّل (جَعَلُوا) و (شُرَكاءَ) مفعوله الثّاني ، لأنّ الجنّ المقصود من السّياق لا مطلق الشّركاء ، لأنّ جعل الشركاء لله قد تقرّر من قبل. و (لِلَّهِ) متعلّق ب (شُرَكاءَ). وقدم المفعول الثّاني على الأوّل لأنّه محلّ تعجيب وإنكار فصار لذلك أهمّ وذكره أسبق.

وتقديم المجرور على المفعول في قوله : (لِلَّهِ شُرَكاءَ) للاهتمام والتعجيب من خطل

٢٤٤

عقولهم إذ يجعلون لله شركاء من مخلوقاته لأنّ المشركين يعترفون بأنّ الله هو خالق الجنّ ، فهذا التّقديم جرى على خلاف مقتضى الظّاهر لأجل ما اقتضى خلافه. وكلام «الكشاف» يجعل تقديم المجرور في الآية للاهتمام باعتقادهم الشّريك لله اهتماما في مقامه وهو الاستفظاع والإنكار التّوبيخي. وتبعه في «المفتاح» إذ قال في تقديم بعض المعمولات على بعض «للعناية بتقديمه لكونه نصب عينك كما تجدك إذا قال لك أحد : عرفت شركاء لله ، يقف شعرك وتقول : لله شركاء. وعليه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) ا ه. فيكون تقديم المجرور جاريا على مقتضى الظّاهر.

والجنّ ـ بكسر الجيم ـ اسم لموجودات من المجرّدات الّتي لا أجسام لها ذات طبع ناري ، ولها آثار خاصّة في بعض تصرّفات تؤثّر في بعض الموجودات ما لا تؤثّره القوى العظيمة. وهي من جنس الشّياطين لا يدرى أمد وجود أفرادها ولا كيفيّة بقاء نوعها. وقد أثبتها القرآن على الإجمال ، وكان للعرب أحاديث في تخيّلها. فهم يتخيّلونها قادرة على التشكّل بأشكال الموجودات كلّها ويزعمون أنّها إذا مسّت الإنسان آذته وقتلته. وأنّها تختطف بعض النّاس في الفيافي ، وأنّ لها زجلا وأصواتا في الفيافي ، ويزعمون أنّ الصدى هو من الجنّ ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٧١] ، وأنّها قد تقول الشّعر ، وأنّها تظهر للكهان والشّعراء.

وجملة (وَخَلَقَهُمْ) في موضع الحال والواو للحال. والضّمير المنصوب في (خَلَقَهُمْ) يحتمل أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير (جَعَلُوا) ، أي وخلق المشركين ، وموقع هذه الحال التّعجيب من أن يجعلوا لله شركاء وهو خالقهم ، من قبيل (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] ، وعلى هذا تكون ضمائر الجمع متناسقة والتعجيب على هذا الوجه من جعلهم ذلك مع أنّ الله خالقهم في نفس الأمر فكيف لا ينظرون في أنّ مقتضى الخلق أن يفرد بالإلهيّة إذ لا وجه لدعواها لمن لا يخلق كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧] فالتّعجيب على هذا من جهلهم وسوء نظرهم. ويجوز أن يكون ضمير (وَخَلَقَهُمْ) عائدا إلى الجنّ لصحّة ذلك الضمير لهم باعتبار أنّ لهم عقلا ، وموقع الحال التّعجيب من ضلال المشركين أنّ يشركوا الله في العبادة بعض مخلوقاته مع علمهم بأنّهم مخلوقون لله تعالى ، فإنّ المشركين قالوا : إنّ الله خالق الجنّ ، كما تقدّم ، وأنّه لا خالق إلّا هو ، فالتّعجيب من مخالفتهم لمقتضى علمهم. فالتّقدير : وخلقهم كما في علمهم ، أي وخلقهم بلا نزاع. وهذا الوجه أظهر.

٢٤٥

وجملة : (وَخَرَقُوا) عطف على جملة : (وَجَعَلُوا) والضّمير عائد على المشركين.

وقرأ الجمهور (وَخَرَقُوا) ـ بتخفيف الرّاء ـ ، وقرأه نافع ، وأبو جعفر ـ بتشديد الرّاء ـ.

والخرق : أصله القطع والشقّ. وقال الراغب : هو القطع والشقّ على سبيل الفساد من غير تدبّر ، ومنه قوله تعالى : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) [الكهف : ٧١]. وهو ضدّ الخلق ، فإنّه فعل الشّيء بتقدير ورفق ، والخرق بغير تقدير. ولم يقيّده غيره من أئمّة اللّغة. وأيّا ما كان فقد استعمل الخرق مجازا في الكذب كما استعمل فيه افترى واختلق من الفري والخلق. وفي «الكشاف» : سئل الحسن عن قوله تعالى : (وَخَرَقُوا) فقال : كلمة عربيّة كانت العرب تقولها ، كان الرّجل إذا كذب كذبة في نادى القوم يقول بعضهم : «قد خرقها والله». وقراءة نافع تفيد المبالغة في الفعل لأنّ التّفعل يدلّ على قوّة حصول الفعل. فمعنى (خَرَقُوا) كذبوا على الله على سبيل الخرق ، أي نسبوا إليه بنين وبنات كذبا ، فأمّا نسبتهم البنين إلى الله فقد حكاها عنهم القرآن هنا. والمراد أنّ المشركين نسبوا إليه بنين وبنات. وليس المراد اليهود في قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، ولا النّصارى في قولهم : (الْمَسِيحُ)(١)(ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠]. كما فسّر به جميع المفسّرين ، لأنّ ذلك لا يناسب السّياق ويشوّش عود الضّمائر ويخرم نظم الكلام. فالوجه أنّ المراد أنّ بعض المشركين نسبوا لله البنين وهو الّذين تلقّنوا شيئا من المجوسيّة لأنّهم لمّا جعلوا الشّيطان متولّدا عن الله تعالى إذ قالوا إنّ الله لمّا خلق العالم تفكّر في مملكته واستعظمها فحصل له عجب تولّد عنه الشّيطان ، وربّما قالوا أيضا : إنّ الله شكّ في قدرة نفسه فتولّد من شكّه الشّيطان ، فقد لزمهم أنّ الشّيطان متولّد عن الله تعالى عمّا يقولون ، فلزمهم نسبة الابن إلى الله تعالى.

ولعلّ بعضهم كان يقول بأنّ الجنّ أبناء الله والملائكة بنات الله ، أو أنّ في الملائكة ذكورا وإناثا ، ولقد ينجرّ لهم هذا الاعتقاد من اليهود فإنّهم جعلوا الملائكة أبناء الله. فقد جاء في أوّل الإصحاح السّادس من سفر التّكوين «وحدث لمّا ابتدأ النّاس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أنّ أبناء الله رأوا بنات النّاس أنّهن حسنات فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كلّ ما اختاروا وإذ دخل بنو الله على بنات النّاس وولدن لهم أولادا هؤلاء هم الجبابرة الّذين منذ الدّهر ذوو اسم». وأمّا نسبتهم البنات إلى الله فهي مشهورة في العرب إذ جعلوا الملائكة إناثا ، وقالوا : هنّ بنات الله.

__________________

(١) في المطبوعة : (عيسى ابن الله) وهو خطأ ، والمثبت هو الموافق لرسم المصحف.

٢٤٦

وقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلّق ب (خَرَقُوا) ، أي اختلقوا اختلاقا عن جهل وضلالة ، لأنّه اختلاق لا يلتئم مع العقل والعلم فقد رموا بقولهم عن عمى وجهالة. فالمراد بالعلم هنا العلم بمعناه الصّحيح ، وهو حكم الذّهن المطابق للواقع عن ضرورة أو برهان.

والباء للملابسة ، أي ملابسا تخريقهم غير العلم فهو متلبّس بالجهل بدءا وغاية ، فهم قد اختلقوا بلا داع ولا دليل ولم يجدوا لما اختلقوه ترويجا ، وقد لزمهم به لازم الخطل وفساد القول وعدم التئامه ، فهذا موقع باء الملابسة في الآية الّذي لا يفيد مفاده غيره.

وجملة : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) مستأنفة تنزيها عن جميع ما حكي عنهم. فسبحان مصدر منصوب على أنّه بدل من فعله. وأصل الكلام أسبّح الله سبحانا. فلمّا عوّض عن فعله صار (سبحان الله) بإضافته إلى مفعوله الأصلي ، وقد تقدّم في قوله تعالى: (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) في سورة البقرة [٣٢].

ومعنى : (تَعالى) ارتفع ، وهو تفاعل من العلوّ. والتّفاعل فيه للمبالغة في الاتّصاف. والعلوّ هنا مجاز ، أي كونه لا ينقصه ما وصفوه به ، أي لا يوصف بذلك لأنّ الاتّصاف بمثل ذلك نقص وهو لا يلحقه النّقص فشبّه التّحاشي عن النّقائص بالارتفاع ، لأنّ الشّيء المرتفع لا تلتصق به الأوساخ الّتي شأنها أن تكون مطروحة على الأرض ، فكما شبّه النّقص بالسفالة شبّه الكمال بالعلوّ ، فمعنى (تعالى عن ذلك) أنّه لا يتطرّق إليه ذلك.

وقوله : (عَمَّا يَصِفُونَ) متعلّق ب (عن) للمجاوزة. وقد دخلت على اسم الموصول ، أي عن الّذي يصفونه.

والوصف : الخبر عن أحوال الشّيء وأوصافه وما يتميّز به ، فهو إخبار مبيّن مفصّل للأحوال حتّى كأنّ المخبر يصف الشّيء وينعته.

واختير في الآية فعل (يَصِفُونَ) لأنّ ما نسبوه إلى الله يرجع إلى توصيفه بالشّركاء والأبناء ، أي تباعد عن الاتّصاف به. وأمّا كونهم وصفوه به فذلك أمر واقع.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١))

جملة مستأنفة وهذا شروع في الإخبار بعظيم قدرة الله تعالى ، وهي تفيد مع ذلك

٢٤٧

تقوية التّنزيه في قوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنعام : ١٠٠] فتتنزّل منزلة التعليل لمضمون ذلك التّنزيه بمضمونها أيضا ، وبهذا الوجه رجح فصلها على عطفها فإنّ ما يصفونه هو قولهم : إنّ له ولدا وبنات ، لأنّ ذلك التّنزيه يتضمّن نفي الشيء المنزّه عنه وإبطاله ، فعلّل الإبطال بأنّه خالق أعظم المخلوقات دلالة على القدرة فإذا كنتم تدّعون بنوّة الجنّ والملائكة لأجل عظمتها في المخلوقات وأنتم لا ترون الجنّ ولا الملائكة فلما ذا لم تدّعوا البنوّة للسماوات والأرض المشاهدة لكم وأنتم ترونها وترون عظمها. فهذا الإبطال بمنزلة النّقض في علم الجدل والمناظرة.

وقوله : (بَدِيعُ) خبر لمبتدإ ملتزم الحذف في مثله ، وهو من حذف المسند إليه الجاري على متابعة الاستعمال عند ما يتقدّم الحديث عن شيء ثمّ يعقّب بخبر عنه مفرد ، كما تقدّم في مواضع. وتقدّم الكلام على (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عند قوله تعالى : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سورة البقرة [١١٦ ، ١١٧].

والاستدلال على انتفاء البنوة عن الله تعالى بإبداع السّماوات والأرض لأنّ خلق المحلّ يقتضي خلق الحالّ فيه ، فالمشركون يقولون بأنّ الملائكة في السّماء وأنّ الجنّ في الأرض والفيافي ، فيلزمهم حدوث الملائكة والجنّ وإلّا لوجد الحالّ قبل وجود المحلّ ، وإذا ثبت الحدوث ثبت انتفاء البنوّة لله تعالى ، لأنّ ابن الإله لا يكون إلّا إلها فيلزم قدمه ، كيف وقد ثبت حدوثه ، ولذلك عقّب قولهم (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦]. بقوله : (سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) في سورة البقرة [١١٦]. وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) في أوّل هذه السّورة [١].

وجملة (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) تتنزّل منزلة التّعليل لمضمون التنزيه من الإبطال ، وإنّما لم تعطف على الّتي قبلها لاختلاف طريق الإبطال لأنّ الجملة الأولى أبطلت دعواهم من جهة فساد الشّبهة فكانت بمنزلة النقض في المناظرة. وهذه الجملة أبطلت الدّعوى من جهة إبطال الحقيقة فكأنّها من جهة خطأ الدّليل ، لأنّ قولهم بأنّ الملائكة بنات الله والجنّ أبناء الله يتضمّن دليلا محذوفا على النبوّة وهو أنّهم مخلوقات شريفة ، فأبطل ذلك بالاستدلال بما ينافي الدّعوى وهو انتفاء الزّوجة الّتي هي أصل الولادة ، فهذا الإبطال الثّاني بمنزلة المعارضة في المناظرة. و (أَنَّى) بمعنى من أين وبمعنى كيف.

٢٤٨

والواو في (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) واو الحال لأنّ هذا معلوم للمخاطبين فلذلك جيء به في صيغة الحال.

والصّاحبة : الزّوجة لأنّها تصاحب الزّوج في معظم أحواله. وقد جعل انتفاء الزّوجة مسلّما لأنّهم لم يدعوه فلزمهم انتفاء الولد لانتفاء شرط التولّد ، وهذا مبنيّ على المحاجّة العرفيّة بناء على ما هو المعلوم في حقيقة الولادة.

وقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) عطف على جملة : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) باعتبار ظاهرها وهو التّوصيف بصفات العظمة والقدرة ، فبعد أن أخبر بأنّه تعالى مبدع السّماوات والأرض أخبر أنّه خالق كلّ شيء ، أي كلّ موجود فيشمل ذوات السّماوات والأرض ، وشمل ما فيهما ، والملائكة من جملة ما تحويه السّماوات ، والجنّ من جملة ما تحويه الأرض عندهم ، فهو خالق هذين الجنسين ، والخالق لا يكون أبا كما علمت. ففي هذه الجملة إبطال والولد أيضا ، وهذا إبطال ثالث بطريق الكليّة بعد أن أبطل إبطالا جزئيا ، والمعنى أنّ الموجودات كلّها متساوية في وصف المخلوقيّة ، ولو كان له أولاد لكانوا غير مخلوقين.

وجملة : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تذييل لإتمام تعليم المخاطبين بعض صفات الكمال الثّابتة لله تعالى ، فهي جملة معطوفة على جملة : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) باعتبار ما فيها من التّوصيف لا باعتبار الردّ. ولكون هذه الجملة الأخيرة بمنزلة التّذييل عدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : (بِكُلِّ شَيْءٍ) دون أن يقول «به» لأنّ التّذييلات يقصد فيها أن تكون مستقلّة الدّلالة بنفسها لأنّها تشبه الأمثال في كونها كلاما جامعا لمعان كثيرة.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢))

وقوع اسم الإشارة بعد إجراء الصّفات والأخبار المتقدّمة ، للتّنبيه على أنّ المشار إليه حقيق بالأخبار والأوصاف الّتي ترد بعد اسم الإشارة ، كما تقدّم عند قوله : (ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [الأنعام : ٩٥] قبل هذا ، وقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥].

والمشار إليه هو الموصوف بالصّفات المضمّنة بالأخبار المتقدّمة ، ولذلك استغنى عن اتباع اسم الإشارة ببيان أو بدل ، والمعنى : ذلكم المبدع للسّماوات والأرض والخالق

٢٤٩

كلّ شيء والعليم بكلّ شيء هو الله ، أهو الّذي تعلمونه. وقوله : (رَبُّكُمْ) صفة لاسم الجلالة. وجملة : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) حال من (رَبُّكُمْ) أو صفة. وقوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) صفة ل (رَبُّكُمْ) أو لاسم الجلالة ، وإنّما لم نجعله خبرا لأنّ الإخبار قد تقدّم بنظائره في قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).

وجملة : (فَاعْبُدُوهُ) مفرّعة على قوله : (رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وقد جعل الأمر بعبادته مفرّعا على وصفه بالرّبوبيّة والوحدانيّة لأنّ الربوبيّة مقتضية استحقاق العبادة ، والانفراد بالربوبيّة يقتضي تخصيصه بالعبادة ، وقد فهم هذا التّخصيص من التّفريع.

ووجه أمرهم بعبادته أنّ المشركين كانوا معرضين عن عبادة الله تعالى بحيث لا يتوجّهون بأعمال البرّ في اعتقادهم إلّا إلى الأصنام فهم يزورونها ويقرّبون إليها القرابين وينذرون لها النّذور ويستعينون بها ويستنجدون بنصرتها ، وما كانوا يذكرون الله إلّا في موسم الحجّ ، على أنّهم قد خلطوه بالتّقرّب إلى الأصنام إذ جعلوا فوق الكعبة (هبل) ، وجعلوا فوق الصّفا والمروة (إسافا ونائلة). وكان كثير منهم يهلّ (لمناة) في منتهى الحجّ ، فكانوا معرضين عن عبادة الله تعالى ، فلذلك أمروا بها صريحا ، وأمروا بالاقتصار عليها بطريق الإيماء بالتّفريع.

وجملة : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يجوز أن تكون معطوفة على الصّفات المتقدّمة فتكون جملة (فَاعْبُدُوهُ) معترضة ، ويجوز أن تكون معطوفة على جملة (فَاعْبُدُوهُ) بناء على جواز عطف الخبر على الإنشاء والعكس (وهو الحقّ) ، على وجه تكميل التّعليل للأمر بعبادته دون غيره ، بأنّه متكفّل بالأشياء كلّها من الخلق والرّزق والإنعام وكلّ ما يطلب المرء حفظه له ، فالوجه عبادته ولا وجه لعبادة غيره ، فإنّ اسم الوكيل جامع لمعنى الحفظ والرّقابة ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) في سورة آل عمران [١٧٣].

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣))

جملة ابتدائيّة لإفادة عظمته تعالى وسعة علمه ، فلعظمته جلّ عن أن يحيط به شيء من أبصار المخلوقين ، وذلك تعريض بانتفاء الإلهيّة عن الأصنام الّتي هي أجسام محدودة محصورة متحيّزة ، فكونها مدركة بالأبصار من سمات المحدثات لا يليق بالإلهيّة ولو كانت آلهة لكانت محتجبة عن الأبصار ، وكذلك الكواكب الّتي عبدها بعض العرب ، وأمّا الجنّ

٢٥٠

والملائكة وقد عبدوهما فإنّهما وإن كانا غير مدركين بالأبصار في المتعارف لكلّ النّاس ولا في كلّ الأوقات إلّا أنّ المشركين يزعمون أنّ الجنّ تبدو لهم تارات في الفيافي وغيرها. قال شمر بن الحارث الضبي :

أتوا ناري فقلت منون أنتم

فقالوا الجنّ قلت عموا ظلاما

ويتوهّمون أنّ الملائكة يظهرون لبعض النّاس ، يتلقّون ذلك عن اليهود.

والإدراك حقيقته الوصول إلى المطلوب. ويطلق مجازا على شعور الحاسّة بالمحسوس أو العقل بالمعقول يقال : أدرك بصري وأدرك عقلي تشبيها لآلة العلم بشخص أو فرس وصل إلى مطلوبه تشبيه المعقول بالمحسوس ، ويقال : أدرك فلان ببصره وأدرك بعقله ، ولا يقال : أدرك فلان بدون تقييد ، واصطلح المتأخّرون من المتكلّمين والحكماء على تسمية الشعور العقلي إدراكا ، وجعلوا الإدراك جنسا في تعريف التصوّر والتّصديق ، ووصفوا صاحب الفهم المستقيم بالدّراكة.

وأمّا قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) فيجوز أن يكون إسناد الإدراك إلى اسم الله مشاكلة لما قبله من قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ). ويجوز أن يكون الإدراك فيه مستعارا للتصرّف لأنّ الإدراك معناه النوال.

والأبصار جمع بصر ، وهو اسم للقوّة الّتي بها النّظر المنتشرة في إنسان العين الّذي في وسط الحدقة وبه إدراك المبصرات. والمعنى : لا تحيط به أبصار المبصرين لأنّ المدرك في الحقيقة هو المبصر لا الجارحة ، وإنّما الجارحة وسيلة للإدراك لأنّها توصّل الصّورة إلى الحسّ المشترك في الدّماغ. والمقصود من هذا بيان مخالفة خصوصيّة الإله الحقّ عن خصوصيات آلهتهم في هذا العالم ، فإنّ الله لا يرى وأصنامهم ترى ، وتلك الخصوصيّة مناسبة لعظمته تعالى ، فإنّ عدم إحاطة الأبصار بالشّيء يكون من عظمته فلا تطيقه الأبصار ، فعموم النّكرة في سياق النّفي يدلّ على انتفاء أن يدركه شيء من أبصار المبصرين في الدّنيا كما هو السّياق.

ولا دلالة في هذه الآية على انتفاء أن يكون الله يرى في الآخرة ، كما تمسّك به نفاة الرّؤية ، وهم المعتزلة لأنّ للأمور الآخرة أحوالا لا تجري على متعارفنا ، وأحرى أن لا دلالة فيها على جواز رؤيته تعالى في الآخرة. ومن حاول ذلك فقد تكلّف ما لا يتمّ كما صنع الفخر في «تفسيره».

٢٥١

والخلاف في رؤية الله في الآخرة شائع بين طوائف المتكلّمين ؛ فأثبته جمهور أهل السنّة لكثرة ظواهر الأدلّة من الكتاب والسنّة مع اتّفاقهم على أنّها رؤية تخالف الرّؤية المتعارفة. وعن مالك ـ رحمه‌الله ـ «لو لم ير المؤمنون ربّهم يوم القيامة لم يعيّر الكفّار بالحجاب في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥]. وعنه أيضا «لم ير الله في الدّنيا لأنّه باق ولا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي». وأمّا المعتزلة فقد أحالوا رؤية الله في الآخرة لاستلزامها الانحياز في الجهة. وقد اتّفقنا جميعا على التّنزيه عن المقابلة والجهة ، كما اتّفقنا على جواز الانكشاف العلمي التّامّ للمؤمنين في الآخرة لحقيقة الحقّ تعالى ، وعلى امتناع ارتسام صورة المرئي في العين أو اتّصال الشّعاع الخارج من العين بالمرئي تعالى لأنّ أحوال الأبصار في الآخرة غير الأحوال المتعارفة في الدّنيا. وقد تكلّم أصحابنا بأدلّة الجواز وبأدلّة الوقوع ، وهذا ممّا يجب الإيمان به مجملا على التّحقيق. وأدلّة المعتزلة وأجوبتنا عليها مذكورة في كتب الكلام وليست من غرض التّفسير ومرجعها جميعا إلى إعمال الظاهر أو تأويله.

ثمّ اختلف أئمّتنا هل حصلت رؤية الله تعالى للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنفى ذلك جمع من الصّحابة منهم عائشة وابن مسعود وأبو هريرة ـ رضي‌الله‌عنهم ـ وتمسّكوا بعموم هذه الآية كما ورد في حديث البخاري عن عكرمة عن عائشة. وأثبتها الجمهور ، ونقل عن أبيّ بن كعب وابن عبّاس ـ رضي‌الله‌عنهما ـ ، وعليه يكون العموم مخصوصا. وقد تعرّض لها عياض في «الشّفاء». وقد سئل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأجاب بجواب اختلف الرّواة في لفظه ، فحجب الله بذلك الاختلاف حقيقة الأمر إتماما لمراده ولطفا بعباده.

وقوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) معطوف على جملة : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فإسناد الإدراك إلى ضمير اسمه تعالى إمّا لأنّ فعل (يُدْرِكُ) استعير لمعنى ينال ، أي لا تخرج عن تصرّفه كما يقال : لحقه فأدركه ، فالمعنى يقدر على الأبصار ، أي على المبصرين ، وإمّا لاستعارة فعل (يُدْرِكُ) لمعنى يعلم لمشاكلة قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا تعلمه الأبصار. وذلك كناية عن العلم بالخفيّات لأنّ الأبصار هي العدسات الدّقيقة الّتي هي واسطة إحساس الرّؤية أو هي نفس الإحساس وهو أخفى. وجمعه باعتبار المدركين.

وفي قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) محسّن الطّباق.

وجملة : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) معطوفة على جملة : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فهي صفة

٢٥٢

أخرى. أو هي تذييل للاحتراس دفعا لتوهّم أنّ من لا تدركه الأبصار لا يعلم أحوال من لا يدركونه.

واللّطيف : وصف مشتقّ من اللّطف أو من اللّطافة. يقال : لطف ـ بفتح الطّاء ـ بمعنى رفق ، وأكرم ، واحتفى. ويتعدّى بالباء وباللّام باعتبار ملاحظة معنى رفق أو معنى أحسن. ولذلك سمّيت الطّرفة والتّحفة الّتي يكرم بها المرء لطفا (بالتّحريك) ، وجمعها ألطاف. فالوصف من هذا لاطف ولطيف ؛ فيكون اللّطيف اسم فاعل بمعنى المبالغة يدلّ على حذف فعل من فاعله ، ومنه قوله تعالى عن يوسف (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) [يوسف : ١٠٠]. ويقال لطف ـ بضمّ الطّاء ـ أي دقّ وخفّ ضدّ ثقل وكثف.

واللّطيف : صفة مشبّهة أو اسم فاعل. فإن اعتبرت وصفا جاريا على لطف ـ بضمّ الطّاء ـ فهي صفة مشبّهة تدلّ على صفة من صفات ذات الله تعالى ، وهي صفة تنزيهه تعالى عن إحاطة العقول بماهيته أو إحاطة الحواس بذاته وصفاته ، فيكون اختيارها للتّعبير عن هذا الوصف في جانب الله تعالى هو منتهى الصّراحة والرّشاقة في الكلمة لأنّها أقرب مادّة في اللّغة العربيّة تقرّب معنى وصفه تعالى بحسب ما وضعت له اللّغة من متعارف النّاس ، فيقرب أن تكون من المتشابه ، وعليه فتكون أعمّ من مدلول جملة (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، فتتنزّل من الجملة الّتي قبلها منزلة التّذييل أو منزلة الاستدلال على الجزئيّة بالكلّية فيزيد الوصف قبله تمكّنا. وعلى هذا المعنى حملها الزمخشري في «الكشاف» لأنّه أنسب بهذا المقام وهو من معاني الكلمة المشهورة في كلام العرب ، واستحسنه الفخر وجوّزه الرّاغب والبيضاوي ، وهو الّذي ينبغي التّفسير به في كلّ موضع اقترن فيه وصف اللّطيف بوصف الخبير كالّذي هنا والّذي في سورة الملك.

وإن اعتبر اللّطيف اسم فاعل من لطف ـ بفتح الطّاء ـ فهو من أمثلة المبالغة يدلّ على وصفه تعالى بالرّفق والإحسان إلى مخلوقاته وإتقان صنعه في ذلك وكثرة فعله ذلك ، فيدلّ على صفة من صفات الأفعال. وعلى هذا المعنى حمله سائر المفسّرين والمبيّنين لمعنى اسمه اللّطيف في عداد الأسماء الحسنى. وهذا المعنى هو المناسب في كلّ موضع جاء فيه وصفه تعالى به مفردا معدّى باللّام أو بالباء نحو (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) [يوسف : ١٠٠] ، وقوله : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) [الشورى : ١٩]. وبه فسّر الزمخشري قوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) فلله درّه ، فإذا حمل على هذا المحمل هنا كان وصفا مستقلا عمّا قبله لزيادة تقرير استحقاقه تعالى للإفراد بالعبادة دون غيره.

٢٥٣

و «خبير» صفة مشبّهة من خبر ـ بضمّ الباء ـ في الماضي ، خبرا ـ بضمّ الخاء وسكون الباء ـ بمعنى علم وعرف ، فالخبير الموصوف بالعلم بالأمور الّتي شأنها أن يخبر عنها علما موافقا للواقع.

ووقوع الخبير بعد اللّطيف على المحمل الأوّل وقوع صفة أخرى هي أعمّ من مضمون (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ، فيكمل التّذييل بذلك ويكون التّذييل مشتملا على محسّن النشر بعد اللّف ؛ وعلى المحمل الثّاني موقعه موقع الاحتراس لمعنى اللّطيف ، أي هو الرّفيق المحسن الخبير بمواقع الرّفق والإحسان وبمستحقّيه.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤))

هذا انتقال من محاجّة المشركين ، وإثبات الوحدانيّة لله بالربوبيّة من قوله : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ـ إلى قوله ـ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ٩٥ ـ ١٠٣]. فاستؤنف الكلام بتوجيه خطاب للنّبي ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ مقول لفعل أمر بالقول في أوّل الجملة ، حذف على الشّائع من حذف القول للقرينة في قوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [الأنعام : ١٠٤]. ومناسبة وقوع هذا الاستئناف عقب الكلام المسوق إليهم من الله تعالى أنّه كالتّوقيف والشّرح والفذلكة للكلام السّابق فيقدر : قل يا محمّد قد جاءكم بصائر.

وبصائر جمع بصيرة ، والبصيرة : العقل الّذي تظهر به المعاني والحقائق ، كما أنّ البصر إدراك العين الّذي تتجلّى به الأجسام ، وأطلقت البصائر على ما هو سبب فيها. وإسناد المجيء إلى البصائر استعارة للحصول في عقولهم ، شبّه بمجيء شيء كان غائبا ، تنويها بشأن ما حصل عندهم بأنّه كالشّيء الغائب المتوقّع مجيئه كقوله تعالى : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١]. وخلو فعل «جاء» عن علامة التّأنيث مع أنّ فاعله جمع مؤنّث لأنّ الفعل المسند إلى جمع تكسير مطلقا أو جمع مؤنّث يجوز اقترانه بتاء التّأنيث وخلوّه عنها.

و (من) ابتدائيّة تتعلّق ب «جاء» أو صفة ل (بَصائِرُ) ، وقد جعل خطاب الله بها بمنزلة ابتداء السّير من جانبه تعالى ، وهو منزّه عن المكان والزّمان ، فالابتداء مجاز لغوي ، أو هو مجاز بالحذف بتقدير : من إرادة ربّكم. والمقصود التّنويه بهذه التّعاليم والذّكريات الّتي بها البصائر ، والحثّ على العمل بها ، لأنّها مسداة إليهم ممّن لا يقع في هديه خلل ولا خطأ ،

٢٥٤

مع ما في ذكر الربّ وإضافته من تربية المهابة وتقوية داعي العمل بهذه البصائر.

ولذلك فرّع عليه قوله : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) ، أي فلا عذر لكم في الاستمرار على الضّلال بعد هذه البصائر ، ولا فائدة لغيركم فيها «فمن أبصر فلنفسه أبصر» ، أي من علم الحقّ فقد علم علما ينفع نفسه ، (وَمَنْ عَمِيَ) أي ضلّ عن الحقّ فقد ضلّ ضلالا وزره على نفسه.

فاستعير الإبصار في قوله : (أَبْصَرَ) للعلم بالحقّ والعمل به لأنّ المهتدي بهذا الهدي الوارد من الله بمنزلة الّذي نوّر له الطّريق بالبدر أو غيره ، فأبصره وسار فيه ، وبهذا الاعتبار يجوز أن يكون (أَبْصَرَ) تمثيلا موجزا ضمّن فيه تشبيه هيئة المرشد إلى الحقّ إذا عمل بها أرشد به ، بهيئة المبصر إذا انتفع ببصره.

واستعير العمى في قوله : (عَمِيَ) للمكابرة والاستمرار على الضّلال بعد حصول ما شأنه أن يقلعه لأنّ المكابر بعد ذلك كالأعمى لا ينتفع بإنارة طريق ولا بهدي هاد خرّيت. ويجوز اعتبار التّمثيليّة فيه أيضا كاعتبارها في ضدّه السابق.

واستعمل اللّام في الأوّل استعارة للنّفع لدلالتها على الملك وإنّما يملك الشّيء النّافع المدّخر للنّوائب ، واستعيرت (على) في الثّاني للضرّ والتّبعة لأنّ الشّيء الضّارّ ثقيل على صاحبه يكلّفه تعبا وهو كالحمل الموضوع على ظهره ، وهذا معروف في الكلام البليغ ، قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) [فصلت : ٤٦] ، وقال (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) [الإسراء : ١٥] ، وقال (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) ، ولأجل ذلك سمّي الإثم وزرا كما تقدّم في قوله تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) [الأنعام : ٣١] ، وقد جاء اللّام في موضع (على) في بعض الآيات ، كقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧].

وفي الآية محسّن جناس الاشتقاق بين «البصائر» و «أبصر» ، وملاحظة مناسبة في الإبصار والبصائر. وفيها محسّن المطابقة بين قوله : (أَبْصَرَ) و (عَمِيَ) ، وبين (اللّام) و (على).

ويتعلّق قوله : (فَلِنَفْسِهِ) بمحذوف دلّ عليه فعل الشّرط. وتقديره : فمن أبصر فلنفسه أبصر. واقترن الجواب بالفاء نظرا لصدره إذ كان اسما مجرورا وهو غير صالح لأن يلي أداة الشّرط.

٢٥٥

وإنّما نسج نظم الآية على هذا النّسج للإيذان بأنّ (فَلِنَفْسِهِ) مقدّم في التّقدير على متعلّقه المحذوف. والتّقدير : فلنفسه أبصر ، ولو لا قصد الإيذان بهذا التّقديم لقال : فمن أبصر أبصر لنفسه ، كما قال : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [الإسراء : ٧] والمقام يقتضي تقديم المعمول هنا ليفيد القصر ، أي فلنفسه أبصر لا لفائدة غيره ، لأنّهم كانوا يحسبون أنّهم يغيظون النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعراضهم عن دعوته إيّاهم إلى الهدى ، وقرينة ذلك أن هذا الكلام مقول من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أومأ إلى هذا صاحب «الكشاف» ، بخلاف آية (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [الإسراء : ٧] ، فإنّها حكت كلاما خوطب به بنو إسرائيل من جانب الله تعالى وهم لا يتوهّمون أنّ إحسانهم ينفع الله أو إساءتهم تضرّ الله.

والكلام على قوله : (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) نظير الكلام على قوله : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ). وعدّي فعل (عَمِيَ) بحرف (على) لأنّ العمى لمّا كان مجازا كان ضرّا يقع على صاحبه.

وجملة : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) تكميل لما تضمّنه قوله : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) ، أي فلا ينالني من ذلك شيء فلا يرجع لي نفعكم ولا يعود عليّ ضرّكم ولا أنا وكيل على نفعكم وتجنّب ضرّكم فلا تحسبوا أنّكم حتّى تمكرون بي بالإعراض عن الهدى والاستمرار في الضّلال.

والحفيظ : الحارس ومن يجعل إليه نظر غيره وحفظه ، وهو بمنزلة الوكيل إلّا أنّ الوكيل يكون مجعولا له الحفظ من جانب الشيء المحفوظ ، والحفيظ أعمّ لأنّه يكون من جانبه ومن جانب مواليه. وهذا قريب من معنى قوله (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام : ٦٦].

والإتيان بالجملة الاسميّة هنا دقيق ، لأنّ الحفيظ وصف لا يفيد غيره مفاده ، فلا يقوم مقامه فعل حفظ ، فالحفيظ صفة مشبّهة يقدّر لها فعل منقول إلى فعل ـ بضمّ العين ـ لم ينطق به مثل الرّحيم.

ولا يفيد تقديم المسند إليه في الجملة الاسميّة اختصاصا خلافا لما يوهمه ظاهر تفسير الزمخشري وإن كان العلامة التّفتازاني مال إليه ، وسكت عنه السيّد الجرجاني وهو وقوف مع الظّاهر. وتقديم (عَلَيْكُمْ) على (بِحَفِيظٍ) للاهتمام ولرعاية الفاصلة.

(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥))

٢٥٦

جملة معترضة تذييلا لما قبلها. والواو اعتراضية فهو متّصل بجملة : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأنعام : ١٠٤] الّتي هي من خطاب الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقدير «قل» كما تقدّم ، والإشارة بقوله : (وَكَذلِكَ) إلى التّصريف المأخوذ من قوله : (نُصَرِّفُ الْآياتِ). أي ومثل ذلك التّصريف نصرّف الآيات. وتقدّم نظيره غير مرّة وأوّلها قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

والقول في تصريف الآيات تقدّم في قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) في هذه السّورة [٤٦].

وقوله : (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) معطوف على (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) وقد تقدّم بيان معنى هذا العطف في نظيره في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) من هذه السّورة [٥٥]. ولكن ما هنا يخالف ما تقدّم مخالفة ما فإنّ قول المشركين للرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ (دَرَسْتَ) لا يناسب أن يكون علّة لتصريف الآيات ، فتعيّن أن تكون اللّام مستعارة لمعنى العاقبة والصيرورة كالّتي في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨]. المعنى. فكان لهم عدوّا. وكذلك هنا ، أي نصرّف الآيات مثل هذا التّصريف الساطع فيحسبونك اقتبسته بالدّراسة والتّعليم فيقولوا : درست. والمعنى : أنّا نصرّف الآيات ونبيّنها تبيينا من شأنه أن يصدر من العالم الّذي درس العلم فيقول المشركون درست هذا وتلقّيته من العلماء والكتب ، لإعراضهم عن النّظر الصّحيح الموصل إلى أنّ صدور مثل هذا التّبيين من رجل يعلمونه أمّيّا لا يكون إلّا من قبل وحي من الله إليه ، وهذا كقوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] وهم قد قالوا ذلك من قبل ويقولونه ويزيدون بمقدار زيادة تصريف الآيات ، فشبّه ترتّب قولهم على التّصريف بترتّب العلّة الغائيّة ، واستعير لهذا المعنى الحرف الموضوع للعلّة على وجه الاستعارة التّبعيّة ، ولذلك سمّى بعض النّحويين مثل هذه اللّام لام الصّيرورة ، وليس مرادهم أنّ الصّيرورة معنى من معاني اللّام ولكنّه إفصاح عن حاصل المعنى.

والدّراسة : القراءة بتمهّل للحفظ أو للفهم ، وتقدّم عند قوله تعالى : (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) في سورة آل عمران [٧٩]. وفعله من باب نصر. يقال : درس الكتاب ، أي تعلّم. وقد تقدّم في قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران : ٧٩] ، وقال (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) [الأعراف : ١٦٩]. وسمّي بيت تعلّم اليهود المدراس ، وسمّي

٢٥٧

البيت الّذي يسكنه التّلامذة ويتعلّمون فيه المدرسة. والمعنى يقولون : تعلّمت ، طعنا في أمّية الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لئلّا يلزمهم أنّ ما جاء به من العلم وحي من الله تعالى.

وقرأ الجمهور (دَرَسْتَ) ـ بدون ألف وبفتح التّاء ـ. وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو «دارست» ـ على صيغة المفاعلة وبفتح التّاء ـ أي يقولون : قرأت وقرئ عليك ، أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم في علمهم. وقرأه ابن عامر ويعقوب «درست» ـ بصيغة الماضي وتاء التأنيث ـ أي الآيات ، أي تكرّرت.

وأمّا اللّام في قوله : (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فهي لام التّعليل الحقيقيّة. وضمير (لِنُبَيِّنَهُ) عائد إلى القرآن لأنّه ما صدق (الْآياتِ) ، ولأنّه معلوم من السّياق.

والقوم هم الّذين اهتدوا وآمنوا كما تقدّم في قوله : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأنعام : ٩٧] ، والكلام تعريض كما تقدّم.

والمعنى أنّ هذا التّصريف حصل منه هدى للموفّقين ومكابرة للمخاذيل. كقوله تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦].

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))

استئناف في خطاب النّبيء ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لأمره بالإعراض عن بهتان المشركين وأن لا يكترث بأقوالهم ، فابتداؤه بالأمر باتّباع ما أوحي إليه يتنزّل منزلة المقدّمة للأمر بالإعراض عن المشركين ، وليس هو المقصد الأصلي من الغرض المسوق له الكلام ، لأنّ اتّباع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحي إليه أمر واقع بجميع معانيه ؛ فالمقصود من الأمر الدّوام على اتّباعه. والمعنى : أعرض عن المشركين اتّباعا لما أنزل إليك من ربّك. والمراد بما أوحي إليه القرآن.

والاتّباع في الأصل اقتفاء أثر الماشي ، ثمّ استعمل في العمل بمثل عمل الغير ، كما في قوله : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) [التوبة : ١٠٠]. ثمّ استعمل في امتثال الأمر والعمل بما يأمر به المتبوع فهو الائتمار ، ويتعدّى فعله إلى ذات المتّبع فيقال : اتّبعت فلانا بهذه

٢٥٨

المعاني الثّلاثة وهو على حذف مضاف في جميع ذلك لأنّ الاتّباع لا يتعلّق بالذّات.

وإطلاق الاتّباع بمعنى الائتمار شائع في القرآن لأنّه جاء بالأمر والنّهي وأمر النّاس باتّباعه ، واستعمل أيضا في معنى الملازمة على سبيل المجاز المرسل ، لأنّ من يتّبع أحدا يلازمه. ومنه سمّي الرّئيّ من الجنّ في خرافات العرب تابعة ، ومنه سمّى من لازم الصّحابي وروى عنه تابعيا.

فيجوز أن يكون الاتّباع في الآية مرادا به دوام الامتثال لما أمر به القرآن من الإعراض عن أذى المشركين وعنادهم ، فالاتّباع المأمور به اتّباع في شيء مخصوص ، وهذا مأمور به غير مرّة ، فالأمر بالفعل مستمرّ في الأمر بالدّوام عليه.

ويجوز أن يكون أمرا بملازمة الدّعوة إلى الله والإعلان بها ودعاء المشركين إلى التّوحيد والإيمان وأن لا يعتريه في ذلك لين ولا هوادة حتّى لا يكون لبذاءتهم وتكذيبهم إيّاه تأثير على نفسه يوهن دعوتهم والحرص على إيمانهم واعتقاد أنّ محاولة إيمانهم لا جدوى لها. فالمراد بما أوحي إليه ما أوحي من القرآن خطابا للمشركين ، أو أمرا بدعوتهم للإسلام وعدم الانقطاع عن ذلك ، فيكون الكلام شدّا لساعد النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مقامات دعوته إلى الله ، وهذا هو المناسب لقوله : (لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأنعام : ١٠٨] كما سنبيّنه. وقد تقدّم شيء من هذا آنفا عند قوله تعالى : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام : ٥٠]. وليس المراد من الأمر بالاتّباع الأمر باتّباع أوامر القرآن ونواهيه مطلقا ، لأنّه لا مناسبة له بهذا السّياق ، وفي الإتيان بلفظ : (رَبِّكَ) دون اسم الجلالة تأنيس للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلطّف معه.

وجملة : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) معترضة ، والمقصود منها إدماج التّذكير بالوحدانيّة لزيادة تقرّرها وإغاظة المشركين.

والمراد بالإعراض عن المشركين الإعراض عن مكابرتهم وأذاهم لا الإعراض عن دعوتهم ، فإنّ الله لم يأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع الدّعوة لأي صنف من النّاس ، وكلّ آية فيها الأمر بالإعراض عن المشركين فإنّما هو إعراض عن أقوالهم وأذاهم ، ألا ترى كلّ آية من هذه الآيات قد تلتها آيات كثيرة تدعو المشركين إلى الإسلام والإقلاع عن الشّرك كقوله تعالى في سورة النّساء [٦٣] : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) وقد تقدّم.

وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) عطف على جملة (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).

٢٥٩

وهذا تلطّف مع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإزالة لما يلقاه من الكدر من استمرارهم على الشّرك وقلّة إغناء آيات القرآن ونذره في قلوبهم ، فذكّره الله بأنّ الله قادر على أن يحوّل قلوبهم فتقبل الإسلام بتكوين آخر ولكنّ الله أراد أن يحصل الإيمان ممّن يؤمن بالأسباب المعتادة في الإرشاد والاهتداء ليميز الله الخبيث من الطيّب وتظهر مراتب النّفوس في ميادين التلقّي ، فأراد الله أن تختلف النّفوس في الخير والشّر اختلافا ناشئا عن اختلاف كيفيّات الخلقة والخلق والنّشأة والقبول ، وعن مراتب اتّصال العباد بخالقهم ورجائهم منه. فالمشركون بلغوا إلى حضيض الشّرك بأسباب ووسائل متسلسلة مترتّبة خلقية ، وخلقيّة ، واجتماعيّة ، تهيأت في أزمنة وأحوال هيّأتها لهم ، فلمّا بعث الله إليهم المرشد كان إصغاؤهم إلى إرشاده متفاوتا على تفاوت صلابة عقولهم في الضّلال وعراقتهم فيه ، وعلى تفاوت إعداد نفوسهم للخير وجموحهم عنه ، ولم يجعل الله إيمان النّاس حاصلا بخوارق العادات ولا بتبديل خلق العقول ، وهذا هو القانون في معنى مثل هذه الآية ، فهذا معنى انتفاء مشيئة الله في هذا المقام المراد به تطمين قلب الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وتذكيره بحقائق الأحوال وليس في مثل هذا عذر لهم ولا لأمثالهم من العصاة ، ولذلك ردّ الله عليهم الاعتذار بمثل هذا في قوله في الآية الآتية (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) [الأنعام : ١٤٨] الآية. وفي قوله : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الزخرف : ٢٠] في سورة الزخرف (١) ، لأنّ هذه حقيقة كاشفة عن الواقع لا تصلح عذرا لمن طلب منهم أن لا يكونوا في عداد الّذين لم يشإ الله أن يرشدهم ، قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة : ٤١].

ومفعول المشيئة محذوف دلّ عليه جواب (لو) على الطّريقة المعروفة. والتّقدير : ولو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا. وتقدّم عند قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) في هذه السّورة [٣٥].

وقوله : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تذكير وتسلية ليزيح عنه كرب إعراضهم عن الإسلام لأنّ ما يحصل له من الكدر لإعراض قومه عن الإسلام يجعل في نفسه انكسارا كأنّه انكسار من عهد إليه بعمل فلم يتسنّ له ما يريده من حسن القيام ، فذكّره الله تعالى بأنّه قد أدّى الأمانة وبلّغ الرّسالة وأنّه لم يبعثه مكرها لهم ليأتي بهم مسلمين ، وإنّما بعثه مبلّغا

__________________

(١) في المطبوعة : (فصلت) وهو خطأ.

٢٦٠