تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

الأرض وقت نزول الآية ، وليس للمسلمين يومئذ تمكين. والالتفات هنا عكس الالتفات في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ). والمعنى أنّ الأمم الخالية من العرب البائدة كانوا أشدّ قوة وأكثر جمعا من العرب المخاطبين بالقرآن وأعظم منهم آثار حضارة وسطوة. وحسبك أنّ العرب كانوا يضربون الأمثال للأمور العظيمة بأنّها عادية أو ثمودية أو سبئية قال تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي عمر الذين من قبل أهل العصر الأرض أكثر ممّا عمرها أهل العصر.

والسماء من أسماء المطر ، كما في حديث «الموطأ» من قول زيد بن خالد : صلّى لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إثر سماء ، أي عقب مطر. وهو المراد هنا لأنّه المناسب لقوله : (أَرْسَلْنَا) بخلافه في نحو قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً). والمدرار صيغة مبالغة ، مثل منحار لكثير النحر للأضياف ، ومذكار لمن يولد له الذكور ، من درّت الناقة ودرّ الضرع إذا سمح ضرعها باللبن ، ولذلك سمّي اللبن الدّر. ووصف المطر بالمدرار مجاز عقلي ، وإنّما المدرار سحابه. وهذه الصيغة يستوي فيها المذكّر والمؤنّث.

والمراد إرسال المطر في أوقات الحاجة إليه بحيث كان لا يخلفهم في مواسم نزوله. ومن لوازم ذلك كثرة الأنهار والأودية بكثرة انفجار العيون من سعة ري طبقات الأرض ، وقد كانت حالة معظم بلاد العرب في هذا الخصب والسعة ، كما علمه الله ودلّت عليه آثار مصانعهم وسدودهم ونسلان الأمم إليها ، ثم تغيّرت الأحوال بحوادث سماوية كالجدب الذي حلّ سنين ببلاد عاد ، أو أرضية ، فصار معظمها قاحلا فهلكت أممها وتفرّقوا أيادي سبا.

وقد تقدّم القول في معنى الأنهار تجري من تحتهم في نظيره وهو (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في سورة البقرة [ ].

والفاء في قوله : (فَأَهْلَكْناهُمْ) للتعقيب عطف على (مَكَّنَّاهُمْ) وما بعده. ولمّا تعلّق بقوله : (فَأَهْلَكْناهُمْ) قوله : (بِذُنُوبِهِمْ) دلّ على أنّ تعقيب التمكين وما معه بالإهلاك وقع بعد أن أذنبوا. فالتقدير : فأذنبوا فأهلكناهم بذنوبهم ، أو فبطروا النعمة فأهلكناهم ، ففيه إيجاز حذف على حدّ قوله تعالى : أن (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) الآية ، أي فضرب فانفجرت إلخ. ولك أن تجعل الفاء للتفصيل تفصيلا ل (أَهْلَكْنا) الأول على نحو قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) في سورة الأعراف[ ].

والإهلاك : الإفناء ، وهو عقاب للأمّة دالّ على غضب الله عليها ، لأنّ فناء الأمم لا

٢١

يكون إلّا بما تجرّه إلى نفسها من سوء فعلها ، بخلاف فناء الأفراد فإنه نهاية محتّمة ولو استقام المرء طول حياته ، لأنّ تركيب الحيوان مقتض للانتهاء بالفناء عند عجز الأعضاء الرئيسية عن إمداد البدن بمواد الحياة فلا يكون عقابا إلّا فيما يحفّ به من أحوال الخزي للهالك.

والذنوب هنا هي الكفر وتكذيب الرسل ونحو ذلك ممّا دلّ عليه التنظير بحال الذين

قال الله فيهم هنا : (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) ، وما قاله بعد ذلك (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) الآية.

وقوله : (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) : الإنشاء الإيجاد المبتكر ، قال تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً). والمراد به إنشاؤهم بتلك الصفات التي كان القرن الذين من قبلهم من التمكين في الأرض والإسعاف بالخصب ، فخلفوا القرن المنقرضين سواء كان إنشاؤهم في ديار القوم الذين هلكوا ، كما أنشأ قريشا في ديار جرهم ، أم في ديار أخرى كما أنشأ الله ثمودا بعد عاد في منازل أخرى. والمقصود من هذا تعريض بالمشركين بأنّ الله مهلكهم ومنشئ من بعدهم قرن المسلمين في ديارهم. ففيه نذارة بفتح مكّة وسائر بلاد العرب على أيدي المسلمين. وليس المراد بالإنشاء الولادة والخلق ، لأنّ ذلك أمر مستمرّ في البشر لا ينتهي ، وليس فيه عظة ولا تهديد لجبابرة المشركين. وأفرد (قَرْناً) مع أنّ الفعل الناصب له مقيّد بأنّه من بعد جمع القرون ، على تقدير مضاف ، أي أنشأنا من بعد كلّ قرن من المهلكين قرنا آخرين.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

يجوز أن تكون الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) إلخ ، وما بينهما جملا تعلّقت بالجملة الأولى على طريقة الاعتراض ، فلمّا ذكر الآيات في الجملة الأولى على وجه العموم ذكر هنا فرض آية تكون أوضح الآيات دلالة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي أن ينزّل الله عليه كتابا من السماء على صورة الكتب المتعارفة ، فرأوه بأبصارهم ولمسوه بأيديهم لمّا آمنوا ولادّعوا أنّ ذلك الكتاب سحر.

ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير (كَذَّبُوا) في قوله : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا

٢٢

جاءَهُمْ) أي أنكروا كون القرآن من عند الله ، وكونه آية على صدق الرسول ، وزعموا أنّه لو كان من عند الله لنزل في صورة كتاب من السماء ، فإنّهم قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) وقالوا (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) فكان قوله : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) مشتملا بالإجمال على أقوالهم فصحّ مجيء الحال منه. وما بينهما اعتراض أيضا.

وعلى الوجه الأول فالكتاب الشيء المكتوب سواء كان سفرا أم رسالة ، وعلى الثاني فالمراد بكتاب سفر أي مثل التوراة.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا محالة لأنّ كلّ ينزل من القرآن موجّه إليه لأنّه المبلّغ ، فانتقال الخطاب إليه بعد الحديث عن ذوي ضمائر أخرى لا يحتاج إلى مناسبة في الانتقال. وليس يلزم أن يكون المراد كتابا فيه تصديقه بل أعمّ من ذلك.

وقوله : (فِي قِرْطاسٍ) صفة لكتاب ، والظرفية مجازية من ظرفية اسم الشيء في اسم جزئه. والقرطاس ـ بكسر القاف ـ على الفصيح ، ونقل ـ ضمّ القاف ـ وهو ضعيف. وهو اسم للصحيفة التي يكتب فيها ويكون من رقّ ومن بردى ومن كاغد ، ولا يختصّ بما كان من كاغذ بل يسمّى قرطاسا ما كان من رقّ. ومن النّاس من زعم أنّه لا يقال قرطاس إلّا لما كان مكتوبا وإلّا سمّي طرسا ، ولم يصحّ. وسمّى العرب الأديم الذي يجعل غرضا لمتعلّم الرمي قرطاسا فقالوا : سدّد القرطاس ، أي سدّد رميه. قال الجواليقي : القرطاس تكلّموا به قديما ويقال : إنّ أصله غير عربي. ولم يذكر ذلك الراغب ولا لسان العرب ولا القاموس ، وأثبته الخفاجي في شفاء الغليل. وقال : كان معرّبا فلعلّه معرّب عن الرومية ، ولذلك كان اسم الورقة في لغة بعضهم اليوم (كارتا).

وقوله : (فَلَمَسُوهُ) عطف على (نَزَّلْنا). واللمس وضع اليد على الشيء لمعرفة وجوده ، أو لمعرفة وصف ظاهره من لين أو خشونة ، ومن برودة أو حرارة ، أو نحو ذلك. فقوله : (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد لمعنى اللمس لرفع احتمال أن يكون مجازا في التأمّل ، كما في قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) ، وللإفصاح عن منتهى ما اعتيد من مكابرتهم ووقاحتهم في الإنكار والتكذيب ، وللتمهيد لقوله : (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) لأنّ المظاهر السحرية تخيّلات لا تلمس.

وجاء قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) دون أن يقول : لقالوا ، كما قال : (فَلَمَسُوهُ) إظهارا في مقام الإضمار لقصد تسجيل أنّ دافعهم إلى هذا التعنّت هو الكفر ، لأنّ الموصول يؤذن

٢٣

بالتعليل.

ومعنى : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أنّهم يغالطون أنفسهم ويغالطون قومهم لستر مكابرتهم ولدفع ما ظهر من الغلبة عليهم. وهذا شأن المغلوب المحجوج أن يتعلّق بالمعاذير الكاذبة.

والمبين : البيّن الواضح ، مشتقّ من (أبان) مرادف (بان). وتقدّم معنى السحر عند قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) في سورة البقرة [ ].

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

عطف على قوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً) ، لأنّ هذا خبر عن تورّكهم وعنادهم ، وما قبله بيان لعدم جدوى محاولة ما يقلع عنادهم ، فذلك فرض بإنزال كتاب عليهم ، من السماء فيه تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا حكاية لاقتراح منهم آية يصدّقونه بها. وفي سيرة ابن إسحاق أنّ هذا القول واقع ، وأنّ من جملة من قال هذا زمعة بن الأسود ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، وعبدة بن عبد يغوث ؛ وأبي ابن خلف ، والعاصي بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومن معهم ، أرسلوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : سل ربّك أن يبعث معك ملكا يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك.

فقوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي لو لا أنزل عليه ملك نشاهده ويخبرنا بصدقه ، لأنّ ذلك هو الذي يتطلّبه المعاند. أمّا نزول الملك الذي لا يرونه فهو أمر واقع ، وفسّره قوله تعالى في الآية الأخرى : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) في سورة الفرقان [ ].

والضمير عائد إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) وإن كان قاله بعضهم ، لأنّ الجميع قائلون بقوله: وموافقون عليه.

و (لَوْ لا) للتحضيض بمعنى (هلا). والتحضيض مستعمل في التعجيز على حسب اعتقادهم. وضمير (عَلَيْهِ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعاد الضمير معلوم من المقام ، لأنّه إذا جاء في الكلام ضمير غائب لم يتقدّم له معاد وكان بين ظهرانيهم من هو صاحب خبر أو قصة يتحدّث الناس بها تعيّن أنّه المراد من الضمير. ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر بن الخطاب حين

٢٤

استأذنه في قتل ابن صيّاد : «إن يكنه فلن تسلّط عليه وإلّا يكنه فلا خير لك في قتلة». يريد من مائر الغيبة الثلاثة الأولى الدجّال لأنّ الناس كانوا يتحدّثون أنّ ابن صيّاد هو الدجّال. ومثل الضمير اسم الإشارة إذا لم يذكر في الكلام اسم يشار إليه. كما ورد في حديث أبي ذرّ أنّه قال لأخيه عند بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذهب فاستعلم لنا علم هذا الرجل». وفي حديث سؤال القبر «فيقال له (أي للمقبور) : ما علمك بهذا الرجل» يعني أنّ هذا قولهم فيما بينهم ، أو قولهم للذي أرسلوه إلى النبي أن يسأل الله أن يبعث معه ملكا. وقد افهوه به مرة أخرى فيما حكاه الله عنهم : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فإنّ (لو ما) أخت (لو لا) في إفادة التحضيض.

وقوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) معناه : لو أنزلنا ملكا على الصفة التي اقترحوها يكلّمهم لقضي الأمر ، أي أمرهم ؛ فاللام عوض عن المضاف إليه بقرينة السياق ، أي لقضي أمر عذابهم الذي يتهدّدهم به.

ومعنى : (لَقُضِيَ) تمّم ، كما دلّ عليه قوله : (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) ؛ ذلك أنّه لا تنزل ملائكة غير الذين سخّرهم الله للأمور المعتادة مثل الحفظة ، وملك الموت ، والملك الذي يأتي بالوحي ؛ إلّا ملائكة تنزل لتأييد الرسل بالنصر على من يكذّبهم ، مثل الملائكة التي نزلت لنصر المؤمنين في بدر. ولا تنزل الملائكة بين القوم المغضوب عليهم إلّا لإنزال العذاب بهم ، كما نزلت الملائكة في قوم لوط. فمشركو مكة لمّا سألوا النبي أن يريهم ملكا معه ظنّوا مقترحهم تعجيزا ، فأنبأهم الله تعالى بأنّهم اقترحوا أمرا لو أجيبوا إليه لكان سببا في مناجزة هلاكهم الذي أمهلهم إليه فيه رحمة منه.

ولعلّ حكمة ذلك أنّ الله فطر الملائكة على الصلابة والغضب للحقّ بدون هوادة ، وجعل الفطرة الملكية سريعة لتنفيذ الجزاء على وفق العمل ، كما أشار إليه قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ، فلذلك حجزهم الله عن الاتّصال بغير العباد المكرّمين الذين شابهت نفوسهم الإنسانية النفوس الملكية ، ولذلك حجبهم الله عن النزول إلى الأرض إلّا في أحوال خاصّة ، كما قال تعالى عنهم : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) ، وكما قال : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) فلو أنّ الله أرسل ملائكة في الوسط البشري لما أمهلوا أهل الضلال والفساد ولما جزوهم جزاء العذاب ، ألا ترى أنّ الملائكة الذين أرسلهم الله لقوم لوط لمّا لقوا لوطا قالوا : (يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ). ولمّا جادلهم إبراهيم في قوم لوط بعد أن بشّروه واستأنس بهم قالوا (يا إِبْراهِيمُ

٢٥

أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) وهو نزول الملائكة ؛ فليس للملائكة تصرف في غير ما وجّهوا إليه.

فمعنى الآية أنّ ما اقترحوه لو وقع لكان سيئ المغبّة عليهم من حيث لا يشعرون. وليس المراد أنّ سبب عدم إنزال الملك رحمة بهم بل لأنّ الله ما كان ليظهر آياته عن اقتراح الضالين ، إذ ليس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدد التصدّي لرام كلّ من عرضت عليه الدعوة أن تظهر له آية حسب مقترحه فيصير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضيّعا مدّة الإرشاد وتلتفّ عليه الناس التفافهم على المشعوذين ، وذلك ينافي حرمة النبوة ، ولكن الآيات تأتي عن محض اختيار من الله تعالى دون مسألة. وأنّما أجاب الله اقتراح الحواريّين إنزال المائدة لأنّهم كانوا قوما صالحين ، وما أرادوا إلّا خيرا. ولكنّ الله أنبأهم أنّ إجابتهم لذلك لحكمة أخرى وهي تستتبع نفعا لهم من حيث لا يشعرون ، فكانوا أحرياء بأن يشكروا نعمة الله عليهم فيما فيه استبقاء لهم لو كانوا موفّقين. وسيأتي عند قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) زيادة بيان لهذا.

ومن المفسّرين من فسّر (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) بمعنى هلاكهم من هول رؤية الملك في صورته الأصلية. وليس هذا بلازم لأنّهم لم يسألوا ذلك. ولا يتوقّف تحقّق ملكيّته عندهم على رؤية صورة خارقة للعادة ، بل يكفي أن يروه نازلا من السماء مثلا حتى يصاحب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين يدعوهم إلى الإسلام ، كما يدلّ عليه قوله الآتي : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً).

وقوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) عطف على قوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) فهو جواب ثان عن مقترحهم ، فيه ارتقاء في الجواب ، وذلك أنّ مقترحهم يستلزم الاستغناء عن بعثة رسول من البشر لأنّه إذا كانت دعوة الرسول البشري غير مقبولة عندهم إلّا إذا قارنه ملك يكون معه نذيرا كما قالوه وحكي عنهم في غير هذه الآية ، فقد صار مجيء رسول بشري إليهم غير مجد للاستغناء عنه بالملك الذي يصاحبه ، على أنّهم صرّحوا بهذا اللازم فيما حكي عنهم في غير هذه الآية ، وهو قوله تعالى : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) ، فجاء هذا الجواب الثاني صالحا لردّ الاقتراحين ، ولكنّه روعي في تركيب ألفاظه ما يناسب المعنى الثاني لكلامهم فجيء بفعل جعلنا المقتي تصيير شيء آخر أو تعويضه به. فضمير (جَعَلْناهُ) عائد إلى الرسول الذي عاد إليه ضمير (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ، أي ولو اكتفينا عن إرسال رسول من نوع البشر وجعلنا الرسول إليهم ملكا

٢٦

لتعيّن أن نصوّر ذلك الملك بصورة رجل ، لأنّه لا محيد عن تشكّله بشكل لتمكّن إحاطة أبصارهم به وتحيّزه فإذا تشكّل فإنّما يتشكّل في صورة رجل ليطيقوا رؤيته وخطابه ، وحينئذ يلتبس عليهم أمره كما التبس عليهم أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فجملة (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) من تمام الدليل والحجّة عليهم بعدم جدوى إرسال الملك.

واللّبس : خلط يعرض في الصفات والمعاني بحيث يعسر تمييز بعضها عن بعض. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) في سورة البقرة [ ]. وقد عدّي هنا بحرف (على) لأنّ المراد لبس فيه غلبة لعقولهم.

والمعنى : وللبسنا على عقولهم ، فشكّوا في كونه ملكا فكذّبوه ، إذ كان دأب عقولهم تطلّب خوارق العادات استدلالا بها على الصدق ، وترك إعمال النظر الذي يعرف به صدق الصادق.

و (ما) في قوله : (ما يَلْبِسُونَ) مصدرية مجرّدة عن الظرفية ، والمعنى على التشبيه ، أي وللبسنا عليهم لبسهم الذي وقع لهم حين قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ، أي مثل لبسهم السابق الذي عرض لهم في صدق محمد عليه الصلاة والسلام.

وفي الكلام احتباك لأنّ كلا اللبسين هو بتقدير الله تعالى ، لأنّه حرمهم التوفيق. فالتقدير : وللبسنا عليهم في شأن الملك فيلبسون على أنفسهم في شأنه كما لبسنا عليهم في شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يلبسون على أنفسهم في شأنه. وهذا الكلام كلّه منظور فيه إلى حمل اقتراحهم على ظاهر حاله من إرادتهم الاستدلال ، فلذلك أجيبوا عن كلامهم إرخاء للعنان ، وإلّا فإنّهم ما أرادوا بكلامهم إلّا التعجيز والاستهزاء ، ولذلك عقّبه بقوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) الآية.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

عطف على جملة : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) لبيان تفنّنهم في المكابرة والعناد تصلّبا في شركهم وإصرارا عليه ، فلا يتركون وسيلة من وسائل التنفير من قبول دعوة الإسلام إلّا توسّلوا بها. ومناسبة عطف هذا الكلام على قوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ

٢٧

مَلَكٌ) أنّهم كانوا في قولهم ذلك قاصدين التعجيز والاستهزاء معا ، لأنّهم ما قالوه ألّا عن يقين منهم أنّ ذلك لا يكون ، فابتدئ الردّ عليهم بإبطال ظاهر كلامهم بقوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ). ثم ثنّى بتهديدهم على ما أرادوه من الاستهزاء ، والمقصود مع ذلك تهديدهم بأنّهم سيحيق بهم العذاب وأنّ ذلك سنة الله في كلّ أمّة استهزأت برسول له.

فقوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) يدلّ على جملة مطوية إيجازا ، تقديرها : واستهزءوا بك ولقد استهزأ أمم برسل من قبلك ، لأنّ قوله من (قَبْلِكَ) ، لأنّ قوله من (قَبْلِكَ) يؤذن بأنّه قد استهزئ به هو أيضا وإلّا لم تكن فائدة في وصف الرسل بأنّهم من قبله لأنّ ذلك معلوم. وحذف فاعل الاستهزاء فبنى الفعل إلى المجهول لأنّ المقصود هنا هو ترتّب أثر الاستهزاء لا تعيين المستهزئين.

واللام للقسم ، وقد للتحقيق ، وكلاهما يدلّ على تأكيد الخبر. والمقصود تأكيده باعتبار ما تفرّع عنه ، وهو قوله : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا) إلخ ، لأنّ حال المشركين حال من يتردّد في أنّ سبب هلاك الأمم السالفة هو الاستهزاء بالرسل ، إذ لو لا تردّدهم في ذلك لأخذوا الحيطة لأنفسهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام ، الذي جاءهم فنظروا في دلائل صدقه وما أعرضوا ، ليستبرءوا لأنفسهم من عذاب متوقّع ، أو نزّلوا منزلة المتردّد إن كانوا يعلمون ذلك لعدم جريهم على موجب علمهم. واستهزاؤهم له أفانين ، منها قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ).

ومعنى الاستهزاء تقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) في سورة البقرة. وهو مرادف للسخرية في كلام أئمّة اللغة ، فذكر (اسْتُهْزِئَ) أولا لأنّه أشهر ، ولمّا أعيد عبّر ب (سَخِرُوا) ، ولمّا أعيد ثالث مرّة رجع إلى فعل (يَسْتَهْزِؤُنَ) ، لأنّه أخفّ من (يسخرون). وهذا من بديع فصاحة القرآن المعجزة.

و (سَخِرُوا) بمعنى هزءوا ، ويتعدّى إلى المفعول ب (مِنْ) ، قيل : لا يتعدّى بغيرها. وقيل : يتعدّى بالباء. وكذا الخلاف في تعدية هزأ واستهزأ. والأصحّ أنّ كلا الفعلين يتعدّى بحرف (من) والباء ، وأنّ الغالب في (هزأ) أن يتعدّى بالباء ، وفي سخر أن يتعدّى بمن. وأصل مادّة سخر مؤذن بأنّ الفاعل اتّخذ المفعول مسخّرا يتصرف فيه كيف شاء بدون حرمة لشدّة قرب مادّة سخر المخفّف من مادّة التسخير ، أي التطويع فكأنّه حوّله عن حقّ الحرمة الذاتية فاتّخذ منه لنفسه سخرية.

وفعل (فَحاقَ) اختلف أئمّة اللغة في معناه. فقال الزجّاج : هو بمعنى أحاط ، وتبعه

٢٨

الزمخشري ، وفسّره الفرّاء بمعنى عاد عليه. وقال الراغب : أصله حقّ ، أي بمعنى وجب ، فأبدل أحد حرفي التضعيف حرف علّة تخفيفا ، كما قالوا تظنّي في تظنّن ، أي وكما قالوا : تقضّى البازي ، بمعنى تقضّض. والأظهر ما قاله أبو إسحاق الزجّاج.

واختير فعل الإحاطة للدلالة على تمكّن ذلك منهم وعدم إفلاته أحدا منهم.

وإنّما جيء بالموصول في قوله : (بِالَّذِينَ سَخِرُوا) ولم يقل بالساخرين للإيماء إلى تعليل الحكم ، وهو قوله (فَحاقَ).

و (مِنْهُمْ) يتعلّق ب (سَخِرُوا) ، والضمير المجرور عائد إلى الرسل ، لزيادة تقرير كون العقاب لأجلهم ترفيعا لشأنهم. و (ما) في قوله : (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) موصولة. والباء في (بِهِ) لتعدية فعل الاستهزاء. ووجود الباء مانع من جعل (ما) غير موصولة. وهو ما أطال التردّد فيه الكاتبون.

والمراد ب (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ما أنذرهم الرسل به من سوء العاقبة وحلول العذاب بهم ، فحصل بذلك فائدة أخرى ، وهي أنّ المستهزئين كانوا يستهزءون بالرسل وخاصّة بما ينذرونهم به من حلول العذاب إن استمرّوا على عدم التصديق بما جاءوا به. فاستهزاؤهم بما أنذروا به جعل ما أنذروا به كالشخص المهزوء به إذا جعلنا الباء للتعدية ، أو استهزاؤهم بالرسل بسبب ما أنذروهم به إذا جعلت الباء للسببية.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

هذه الجملة وزانها وزان البيان لمضمون الجملة التي قبلها ولذلك فصلت ، فإنّ الجملة التي قبلها تخبر بأنّ الذين استهزءوا بالرسل قد حاق بهم عواقب استهزائهم ، وهذه تحدوهم إلى مشاهدة ديار أولئك المستهزئين. وليس افتتاح هذه الجملة بخطاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منافيا لكونها بيانا لأنّه خوطب بأن يقول ذلك البيان. فالمقصود ما بعد القول.

وافتتاحها بالأمر بالقول لأنّها واردة مورد المحاورة على قولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ١].

وهذه سلسلة ردود وأجوبة على مقالتهم المحكية آنفا لتضمّنها التصميم على الشرك وتكذيب الرسالة ، فكانت منحلّة إلى شبه كثيرة أريد ردّها وتفنيدها فكانت هاته الردود كلّها مفتتحة بكلمة (قُلْ) عشر مرات.

٢٩

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي ، كما هو شأنها في عطف الجمل ، فإنّ النظر في عاقبة المكذّبين هو المقصد من السير ، فهو ممّا يرتقى إليه بعد الأمر بالسير ، ولأنّ هذا النظر محتاج إلى تأمّل وترسّم فهو أهمّ من السير.

والنظر يحتمل أن يكون بصريا وأن يكون قلبيا ، وعلى الاحتمالين فقد علّقه الاستفهام عن نصب مفعوله أو مفعوليه. و (كَيْفَ) خبر ل (كانَ) مقدّم عليها وجوبا.

والعاقبة آخر الشيء ومآله وما يعقبه من مسبّباته. ويقال : عاقبة وعقبى ، وهي اسم كالعافية والخاتمة.

وإنّما وصفوا ب (الْمُكَذِّبِينَ) دون المستهزئين للدلالة على أنّ التكذيب والاستهزاء كانا خلقين من أخلاقهم ، وأنّ الواحد من هذين الخلقين كاف في استحقاق تلك العاقبة ، إذ قال في الآية السابقة (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنعام : ١٠] وقال في هذه الآية (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

وهذا ردّ جامع لدحض ضلالاتهم الجارية على سنن ضلالات نظرائهم من الأمم السالفة المكذّبين.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢))

جملة (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تكرير في مقام الاستدلال ، فإنّ هذا الاستدلال تضمّن استفهاما تقريريا ، والتقرير من مقتضيان التكرير ، لذلك لم تعطف الجملة. ويجوز أن يجعل تصدير هذا الكلام بالأمر بأن يقوله مقصودا به الاهتمام بما بعد فعل الأمر بالقول على الوجه الذي سنبيّنه عند قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) في هذه السورة [٤٠]. والاستفهام مستعمل مجازا في التقرير. والتقرير هنا مراد به لازم معناه ، وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يفضي إلى إبطال معتقدهم الشرك ، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح ، والمقصود هو المعنى الكنائي.

ولكونه مرادا به الإلجاء إلى الإقرار كان الجواب عنه بما يريده السائل من إقرار المسئول محقّقا لا محيص عنه ، إذ لا سبيل إلى الجحد فيه أو المغالطة ، فلذلك لم ينتظر

٣٠

السائل جوابهم وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله : (لِلَّهِ) تبكيتا لهم ، لأنّ الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجّة مقدّرة فيه محاورة وليس هو محاورة حقيقية. وهذا من أسلوب الكلام الصادر من متكلّم واحد. فهؤلاء القوم المقدّر إلجاؤهم إلى الجواب سواء أنصفوا فأقرّوا حقّيّة الجواب أم أنكروا وكابروا فقد حصل المقصود من دمغهم بالحجّة. وهذا أسلوب متّبع في القرآن ، فتارة لا يذكر جواب منهم كما هنا ، وكما في قوله تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) [الرعد : ١٦] ، وقوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى ـ إلى قوله ـ قُلِ اللهُ) [الأنعام : ٩١] ، وتارة يذكر ما سيجيبون به بعد ذكر السؤال منسوبا إليهم أنّهم يجيبون به ثم ينتقل إلى ما يترتّب عليه من توبيخ ونحوه ، كقوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ـ إلى قوله ـ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [المؤمنون : ٨٤ ـ ٨٩].

وابتدئ بإبطال أعظم ضلالهم. وهو ضلال الإشراك. وأدمج معه ضلال إنكارهم البعث المبتدأ به السورة بعد أن انتقل من ذلك إلى الإنذار الناشئ عن تكذيبهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك لمّا كان دليل الوحدانية السالف دالا على خلق السماوات والأرض وأحوالها بالصراحة ، وعلى عبودية الموجودات التي تشملها بالالتزام ، ذكر في هذه الآية تلك العبودية بالصراحة فقال : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ).

وقوله : (لِلَّهِ) خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه (ما فِي السَّماواتِ). إلخ. ويقدّر المبتدأ مؤخّرا عن الخبر على وزان السؤال لأنّ المقصود إفادة الحصر.

واللام في قوله : (لِلَّهِ) للملك ؛ دلّت على عبودية الناس لله دون غيره ، وتستلزم أنّ العبد صائر إلى مالكه لا محالة ، وفي ذلك تقرير لدليل البعث السابق المبني على إثبات العبودية بحقّ الخلق. ولا سبب للعبوديّة أحقّ وأعظم من الخالقية ، ويستتبع هذا الاستدلال الإنذار بغضبه على من أشرك معه.

وهذا استدلال على المشركين بأنّ غير الله ليس أهلا للإلهيّة ، لأنّ غير الله لا يملك ما في السماوات وما في الأرض إذ ملك ذلك لخالق ذلك. وهو تمهيد لقوله بعده (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، لأنّ مالك الأشياء لا يهمل محاسبتها.

وجملة : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) معترضة ، وهي من المقول الذي أمر الرسول بأن يقوله. وفي هذا الاعتراض معان :

٣١

أحدها : أنّ ما بعده لمّا كان مشعرا بإنذار بوعيد قدّم له التذكير بأنّه رحيم بعبيده عساهم يتوبون ويقلعون عن عنادهم ، على نحو قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام : ٥٤] ، والشرك بالله أعظم سوء وأشدّ تلبّسا بجهالة.

والثاني : أنّ الإخبار بأنّ لله ما في السماوات وما في الأرض يثير سؤال سائل عن عدم تعجيل أخذهم على شركهم بمن هم ملكه. فالكافر يقول : لو كان ما تقولون صدقا لعجّل لنا العذاب ، والمؤمن يستبطئ تأخير عقابهم ، فكان قوله : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) جوابا لكلا الفريقين بأنّه تفضّل بالرحمة ، فمنها رحمة كاملة : وهذه رحمته بعباده الصالحين ، ومنها رحمة موقّتة وهي رحمة الإمهال والإملاء للعصاة والضّالّين.

والثالث : أنّ ما في قوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) من التمهيد لما في جملة (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) من الوعيد والوعد.

ذكرت رحمة الله تعريضا ببشارة المؤمنين وبتهديد المشركين.

الرابع : أنّ فيه إيماء إلى أنّ الله قد نجّى أمّة الدعوة المحمدية من عذاب الاستئصال الذي عذّب به الأمم المكذّبة رسلها من قبل ، وذلك ببركة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ جعله رحمة للعالمين في سائر أحواله بحكم قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ، وإذ أراد تكثير تابعيه فلذلك لم يقض على مكذّبيه قضاء عاجلا بل أمهلهم وأملى لهم ليخرج منهم من يؤمن به ، كما رجا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولذلك لمّا قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] قال الله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣]. وقد حصل ما رجاه رسول الله فلم يلبث من بقي من المشركين أن آمنوا بالله ورسوله بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجا ، وأيّد الله بهم بعد ذلك دينه ورسوله ونشروا كلمة الإسلام في آفاق الأرض. وإذ قد قدّر الله تعالى أن يكون هذا الدين خاتمة الأديان كان من الحكمة إمهال المعاندين له والجاحدين ، لأنّ الله لو استأصلهم في أول ظهور الدين لأتى على من حوته مكة من مشرك ومسلم ، ثم يحشرون على نيّاتهم ، كما ورد في الحديث لمّا قالت أمّ سلمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنهلك وفينا الصالحون ، قال : نعم ، إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نيّاتهم». فلو كان ذلك في وقت ظهور الإسلام لارتفع بذلك هذا الدين فلم يحصل المقصود من جعله خاتمة الأديان. وقد استعاذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا نزل عليه (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ

٣٢

يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فقال : أعوذ بسبحات وجهك الكريم.

ومعنى (كَتَبَ) تعلّقت إرادته ، بأن جعل رحمته الموصوف بها بالذات متعلّقة تعلّقا عامّا مطّردا بالنسبة إلى المخلوقات وإن كان خاصّا بالنسبة إلى الأزمان والجهات. فلما كان ذلك مطّردا شبّهت إرادته بالإلزام ، فاستعير لها فعل (كتب) الذي هو حقيقة في الإيجاب ، والقرينة هي مقام الإلهية ، أو جعل ذلك على نفسه لأنّ أحدا لا يلزم نفسه بشيء إلّا اختيارا وإلّا فإنّ غيره يلزمه. والمقصود أنّ ذلك لا يتخلّف كالأمر الواجب المكتوب ، فإنّهم كانوا إذا أرادوا تأكيد وعد أو عهد كتبوه ، كما قال الحارث بن حلّزة :

واذكروا حلف ذي المجاز وما قدّم فيه العهود والكفلاء

حذر الجور والتطاخي وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

فالرحمة هنا مصدر ، أي كتب على نفسه أن يرحم ، وليس المراد الصفة ، أي كتب على نفسه الاتّصاف بالرحمة ، أي بكونه رحيما ، لأنّ الرحمة صفة ذاتية لله تعالى واجبة له ، والواجب العقلي لا تتعلّق به الإرادة ، إلّا إذا جعلنا (كَتَبَ) مستعملا في تمجّز آخر ، وهو تشبيه الوجوب الذاتي بالأمر المحتّم المفروض ، والقرينة هي هي إلّا أنّ المعنى الأول أظهر في الامتنان ، وفي المقصود من شمول الرحمة للعبيد المعرضين عن حقّ شكره والمشركين له في ملكه غيره.

وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لمّا قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش «إنّ رحمتي سبقت غضبي».

وجملة (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) واقعة موقع النتيجة من الدليل والمسبّب من السبب ، فإنّه لمّا أبطلت أهلية أصنامهم للإلهية ومحّضت وحدانية الله بالإلهية بطلت إحالتهم البعث بشبهة تفرق أجزاء الأجساد أو انعدامها.

ولام القسم ونون التوكيد أفادا تحقيق الوعيد. والمراد بالجمع استقصاء متفرّق جميع الناس أفرادا وأجزاء متفرّقة. وتعديته ب (إِلى) لتضمينه معنى السوق. وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) في سورة النساء [٨٧].

وضمير الخطاب في قوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) مراد به خصوص المحجوجين من

٣٣

المشركين ، لأنّهم المقصود من هذا القول من أوله ؛ فيكون نذارة لهم وتهديدا وجوابا عن أقلّ ما يحتمل من سؤال ينشأ عن قوله : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) كما تقدّم.

وجملة (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الأظهر عندي أنّها متفرّعة على جملة (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وأنّ الفاء من قوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) للتفريع والسببية. وأصل التركيب : فأنتم لا تؤمنون لأنّكم خسرتم أنفسكم في يوم القيامة ؛ فعدل عن الضمير إلى الموصول لإفادة الصلة أنّهم خسروا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم. وجعل (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) خبر مبتدأ محذوف. والتقدير : أنتم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون. ونظم الكلام على هذا الوجه أدعى لإسماعهم ، وبهذا التقدير يستغنى عن سؤال «الكشاف» عن صحّة ترتّب عدم الإيمان على خسران أنفسهم مع أنّ الأمر بالعكس.

وقيل : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) مبتدأ ، وجملة : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) خبره ، وقرن بالفاء لأنّ الموصول تضمّن معنى الشرط على نحو قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) [النساء : ١٥]. وأشرب الموصول معنى الشرط ليفيد شموله كلّ من اتّصف بمضمون الصلة ، ويفيد تعليق حصول مضمون جملة الخبر المنزّل منزلة جواب الشرط على حصول مضمون الصلة المنزّلة منزلة جملة الشرط ، فيفيد أنّ ذلك مستمرّ الارتباط والتعليل في جميع أزمنة المستقبل التي يتحقّق فيها معنى الصلة. فقد حصل في هذه الجملة من الخصوصيات البلاغية ما لا يوجد مثله في غير الكلام المعجز.

ومعنى : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أضاعوها كما يضيّع التاجر رأس ماله ، فالخسران مستعار لإضاعة ما شأنه أن يكون سبب نفع. فمعنى (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) عدموا فائدة الانتفاع بما ينتفع به الناس من أنفسهم وهو العقل والتفكير ، فإنّه حركة النفس في المعقولات لمعرفة حقائق الأمور. وذلك أنّهم لمّا أعرضوا عن التدبّر في صدق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد أضاعوا عن أنفسهم أنفع سبب للفوز في العاجل والآجل ، فكان ذلك سبب أن لا يؤمنوا بالله والرسول واليوم الآخر. فعدم الإيمان مسبّب عن حرمانهم الانتفاع بأفضل نافع. ويتسبّب عن عدم الإيمان خسران آخر ، وهو خسران الفوز في الدنيا بالسلامة من العذاب ، وفي الآخرة بالنجاة من النار ، وذلك يقال له خسران ولا يقال له خسران الأنفس. وقد أشار إلى الخسرانين قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) [هود : ٢١ ، ٢٢].

٣٤

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣))

جملة معطوفة على (لِلَّهِ) من قوله : (قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام : ١٢] الذي هو في تقدير الجملة ، أي ما في السماوات والأرض لله ، وله ما سكن.

والسكون استقرار الجسم في مكان ، أي حيّز لا ينتقل عنه مدّة ، فهو ضدّ الحركة ، وهو من أسباب الاختفاء ، لأنّ المختفي يسكن ولا ينتشر. والأحسن عندي أن يكون هنا كناية عن الخفاء مع إرادة المعنى الصريح. ووجه كونه كناية أنّ الكلام مسوق للتذكير بعلم الله تعالى وأنّه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ومحاسبكم عليها يوم يجمعكم إلى يوم القيامة ، فهو كقوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) ـ إلى أن قال ـ (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) [الرعد : ٨ ـ ١٠]. فالذي سكن بالليل والنهار بعض ما في السماوات والأرض ، فلمّا أعلمهم بأنّه يملك ما في السموات والأرض عطف عليه الإعلام بأنه يملك ما سكن من ذلك لأنّه بحيث يغفل عن شمول ما في السماوات والأرض إيّاه ، لأنّ المتعارف بين الناس إذا أخبروا عن أشياء بحكم أن يريدوا الأشياء المعروفة المتداولة. فهذا من ذكر الخاصّ بعد العامّ لتقرير عموم الملك لله تعالى بأنّ ملكه شمل الظاهرات والخفيّات ، ففي هذا استدعاء ليوجّهوا النظر العقلي في الموجودات الخفيّة وما في إخفائها من دلالة على سعة القدرة وتصرّفات الحكمة الإلهية.

و (فِي) للظرفية الزمانية ، وهي ظرف مستقرّ ، لأنّ فعل السكون لا يتعدّى إلى الزمان تعدية الظرف اللغو كما يتعدّى إلى المكان لو كان بمعنى حلّ واستقرّ وهو ما لا يناسب حمل معنى الآية عليه. والكلام تمهيد لسعة العلم ، لأنّ شأن المالك أن يعلم مملوكاته.

وتخصيص الليل بالذكر لأنّ الساكن في ذلك الوقت يزداد خفاء ، فهو كقوله : (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) [الأنعام : ٥٩]. وعطف النهار عليه لقصد زيادة الشمول ، لأنّ الليل لمّا كان مظنّة الاختفاء فيه قد يظنّ أنّ العالم يقصد الاطّلاع على الساكنات فيه بأهميّة ولا يقصد إلى الاطّلاع على الساكنات في النهار ، فذكر النهار لتحقيق تمام الإحاطة بالمعلومات.

وتقديم المجرور للدلالة على الحصر ، وهو حصر الساكنات في كونها له لا لغيره ، أي في كون ملكها التامّ له ، كما تقدّم في قوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام : ١٢].

٣٥

وقد جاء قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) كالنتيجة للمقدمة ، لأنّ المقصود من الإخبار بأنّ الله يملك الساكنات التمهيد لإثبات عموم علمه ، وإلّا فإنّ ملك المتحرّكات المتصرّفات أقوى من ملك الساكنات التي لا تبدي حراكا ، فظهر حسن وقع قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) عقب هذا.

والسميع : العالم العظيم بالمسموعات أو بالمحسوسات. والعليم : الشديد العلم بكلّ معلوم.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤))

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ).

استئناف آخر ناشئ عن جملة : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام : ١٢].

وأعيد الأمر بالقول اهتماما بهذا المقول ، لأنّه غرض آخر غير الذي أمر فيه بالقول قبله ، فإنّه لمّا تقرّر بالقول ، السابق عبودية ما في السماوات والأرض لله وأنّ مصير كلّ ذلك إليه انتقل إلى تقرير وجوب إفراده بالعبادة ، لأنّ ذلك نتيجة لازمة لكونه مالكا لجميع ما احتوته السماوات والأرض ، فكان هذا التقرير جاريا على طريقة التعريض إذ أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالتبري من أن يعبد غير الله. والمقصود الإنكار على الذين عبدوا غيره واتّخذوهم أولياء ، كما يقول القائل بمحضر المجادل المكابر (لا أجحد الحقّ) لدلالة المقام على أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصدر منه ذلك ، كيف وقد علموا أنّه دعاهم إلى توحيد الله من أول بعثته ، وهذه السورة ما نزلت إلّا بعد البعثة بسنين كثيرة ، كما استخلصناه ممّا تقدّم في صدر السورة. وقد ذكر ابن عطية عن بعض المفسّرين أنّ هذا القول أمر به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليجيب المشركين الذين دعوه إلى عبادة أصنامهم ، أي هو مثل ما في قوله تعالى: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤] ، وهو لعمري ممّا يشعر به أسلوب الكلام وإن قال ابن عطية : إنّ ظاهر الآية لا يتضمّنه كيف ولا بدّ للاستئناف من نكتة.

والاستفهام للإنكار. وقدّم المفعول الأول ل (أَتَّخِذُ) على الفعل وفاعله ليكون مواليا للاستفهام لأنّه هو المقصود بالإنكار لا مطلق اتّخاذ الوليّ. وشأن همزة الاستفهام بجميع

٣٦

استعمالاته أن يليها جزء الجملة المستفهم عنه كالمنكر هنا ، فالتقديم للاهتمام به ، وهو من جزئيات العناية التي قال فيها عبد القاهر أن لا بدّ من بيان وجه العناية ، وليس مفيدا للتخصيص في مثل هذا لظهور أنّ داعي التقديم هو تعيين المراد بالاستفهام فلا يتعيّن أن يكون لغرض غير ذلك. فمن جعل التقديم هنا مفيدا للاختصاص ، أي انحصار إنكار اتّخاذ الولي في غير الله كما مال إليه بعض شرّاح «الكشاف» فقد تكلّف ما يشهد الاستعمال والذوق بخلافه ، وكلام «الكشاف» بريء منه بل الحقّ أنّ التقديم هنا ليس إلّا للاهتمام بشأن المقدّم ـ ليلي أداة الاستفهام فيعلم أن محلّ الإنكار هو اتّخاذ غير الله وليّا ، وأما ما زاد على ذلك فلا التفات إليه من المتكلم. ولعلّ الذي حداهم إلى ذلك أنّ المفعول في هذه الآية ونظائرها مثل (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر : ٦٤] (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) [الأنعام : ٤٠] هو كلمة (غَيْرَ) المضافة إلى اسم الجلالة ، وهي عامّة في كلّ ما عدا الله ، فكان الله ملحوظا من لفظ المفعول فكان إنكار اتّخاذ الله وليّا لأنّ إنكار اتّخاذ غيره وليّا مستلزما عدم إنكار اتّخاذ الله وليّا ، لأنّ إنكار اتّخاذ غير الله لا يبقى معه إلّا اتّخاذ الله وليّا ؛ فكان هذا التركيب مستلزما معنى القصر وائلا إليه وليس هو بدالّ على القصر مطابقة ، ولا مفيدا لما يفيده القصر الإضافي من قلب اعتقاد أو إفراد أو تعيين ، ألا ترى أنّه لو كان المفعول خلاف كلمة (غير) لما صحّ اعتبار القصر ، كما لو قلت : أزيدا أتتّخذ صديقا ، لم يكن مفيدا إلّا إنكار اتّخاذ زيد صديقا من غير التفات إلى اتّخاذ غيره ، وإنّما ذلك لأنّك تراه ليس أهلا للصداقة فلا فرق بينه وبين قولك : أتتّخذ زيدا صديقا ، إلّا أنّك أردت توجّه الإنكار للمتّخذ لا للاتّخاذ اهتماما به. والفرق بينهما دقيق فأجد فيه نظرك.

ثم إن كان المشركون قد سألوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتّخذ أصنامهم أولياء كان لتقديم المفعول نكتة اهتمام ثانية وهي كونه جوابا لكلام هو المقصود منه كما في قوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤] وقوله : (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ـ إلى قوله ـ قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) [الأعراف : ١٢]. وأشار صاحب «الكشاف» في قوله : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) الآتي في آخر السورة إلى أنّ تقديم (غَيْرَ اللهِ) على (أَبْغِي) لكونه جوابا عن ندائهم له إلى عبادة آلهتهم. قال الطيبي : لأنّ كل تقديم إمّا للاهتمام أو لجواب إنكار.

والوليّ : الناصر المدبّر ، ففيه معنى العلم والقدرة. يقال : تولّى فلانا ، أي اتّخذه ناصرا. وسمّي الحليف وليّا لأنّ المقصود من الحلف النصرة. ولمّا كان الإله هو الذي

٣٧

يرجع إليه عابده سمّي وليّا لذلك. ومن أسمائه تعالى الولي.

والفاطر : المبدع والخالق. وأصله من الفطر وهو الشقّ. وعن ابن عباس : ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيات في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها. وإجراء هذا الوصف على اسم الجلالة دون وصف آخر استدلال على عدم جدارة غيره لأن يتّخذ وليّا ، فهو ناظر إلى قوله : في أول السورة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١]. وليس يغني عنه قوله قبله (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام : ١٢] لأنّ ذلك استدلال عليهم بالعبودية لله وهذا استدلال بالافتقار إلى الله في أسباب بقائهم إلى أجل.

وقوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ) جملة في موضع الحال ، أي يعطي الناس ما يأكلونه ممّا أخرج لهم من الأرض : من حبوب وثمار وكلإ وصيد. وهذا استدلال على المشركين بما هو مسلّم عندهم ، لأنّهم يعترفون بأنّ الرازق هو الله وهو خالق المخلوقات وإنّما جعلوا الآلهة الأخرى شركاء في استحقاق العبادة. وقد كثر الاحتجاج على المشركين في القرآن بمثل هذا كقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة : ٦٣ ، ٦٤].

وأمّا قوله : (وَلا يُطْعَمُ) ـ بضم الياء وفتح العين ـ فتكميل دالّ على الغنى المطلق كقوله تعالى : (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٧]. ولا أثر له في الاستدلال إذ ليس في آلهة العرب ما كانوا يطعمونه الطعام. ويجوز أن يراد التعريض بهم فيما يقدّمونه إلى أصنامهم من القرابين وما يهرقون عليها من الدماء ، إذ لا يخلو فعلهم من اعتقاد أنّ الأصنام تنعم بذلك.

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

استئناف مكرّر لأسلوب الاستئناف الذي قبله. ومثار الاستئنافين واحد ولكن الغرض منهما مختلف ، لأنّ ما قبله يحوم حول الاستدلال بدلالة العقل على إبطال الشرك ، وهذا استدلال بدلالة الوحي الذي فيه الأمر باتّباع دين الإسلام وما بني عليه اسم الإسلام من صرف الوجه إلى الله ، كما قال في الآية الأخرى (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [آل عمران : ٢٠] ، فهذا إبطال لطعنهم في الدين الذي جاء به المسمّى بالإسلام ، وشعاره كلمة التوحيد المبطلة للإشراك.

٣٨

وبني فعل (أُمِرْتُ) للمفعول ، لأنّ فاعل هذا الأمر معلوم بما تكرّر من إسناد الوحي إلى الله.

ومعنى (أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أنّه أول من يتّصف بالإسلام الذي بعثه الله به ، فهو الإسلام الخاصّ الذي جاء به القرآن ، وهو زائد على ما آمن به الرسل من قبل ، بما فيه من وضوح البيان والسماحة ، فلا ينافي أنّ بعض الرسل وصفوا بأنّهم مسلمون ، كما في قوله تعالى : حكاية عن إبراهيم ويعقوب (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). وقد تقدّم بيان ذلك عند ذكر تلك الآية في سورة البقرة [١٣٢].

ويجوز أن يكون المراد أول من أسلم ممّن دعوا إلى الإسلام. ويجوز أن يكون الأول كناية عن الأقوى والأمكن في الإسلام ، لأنّ الأول في كلّ عمل هو الأحرص عليه والأعلق به ، فالأوليّة تستلزم الحرص والقوة في العمل ، كما حكى الله تعالى عن موسى قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٤٣]. فإنّ كونه أوّلهم معلوم وإنّما أراد : أنّي الآن بعد الصعقة أقوى الناس إيمانا. وفي الحديث : «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة». وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) في سورة البقرة [٤١].

والمقصود من هذا على جميع الوجوه تأييس المشركين من عوده إلى دينهم لأنّهم ربّما كانوا إذا رأوا منه رحمة بهم ولينا في القول طمعوا في رجوعه إلى دينهم وقالوا إنّه دين آبائه.

وقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على قوله : (قُلْ) ، أي قل لهم ذلك لييأسوا. والكلام نهي من الله لرسوله مقصود منه تأكيد الأمر بالإسلام ، لأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، فذكر النهي عن الضدّ بعد ذلك تأكيد له ، وهذا التأكيد لتقطع جرثومة الشرك من هذا الدين.

و (مَنْ) تبعيضية ، فمعنى (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي من جملة الذين يشركون ، ويحتمل أنّ النهي عن الانتماء إلى المشركين ، أي هو أمر بالبراءة منهم فتكون (مَنْ) اتّصالية ويكون (الْمُشْرِكِينَ) بالمعنى اللقبي ، أي الذي اشتهروا بهذا الاسم ، أي لا يكن منك شيء فيه صلة بالمشركين ، كقول النّابغة :

فإنّي لست منك ولست منّي

والتأييس على هذا الوجه أشدّ وأقوى.

٣٩

وقد يؤخذ من هذه الآية استدلال للمأثور عن الأشعري : أنّ الإيمان بالله وحده ليس ممّا يجب بدليل العقل بل تتوقّف المؤاخذة به على بعثة الرسول ، لأنّ الله أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينكر أن يتّخذ غير الله وليّا لأنّه فاطر السماوات والأرض ، ثم أمره أن يقول (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) ثم أمره بما يدلّ على المؤاخذة بقوله : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ـ إلى قوله ـ فَقَدْ رَحِمَهُ) [الأنعام : ١٥ ، ١٦].

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦))

هذا استئناف مكرّر لما قبله ، وهو تدرّج في الغرض المشترك بينها من أنّ الشرك بالله متوعّد صاحبه بالعذاب وموعود تاركه بالرحمة. فقوله : (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) [الأنعام : ١٤] الآية رفض للشرك بالدليل العقلي ، وقوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [الأنعام : ١٤] الآية ، رفض للشرك امتثالا لأمر الله وجلاله.

وقوله هنا : (قُلْ إِنِّي أَخافُ) الآية تجنّب للشرك خوفا من العقاب وطمعا في الرحمة. وقد جاءت مترتّبة على ترتيبها في نفس الأمر.

وفهم من قوله : (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أنّ الآمر له بأن يكون أول من أسلم والناهي عن كونه من المشركين هو الله تعالى. وفي العدول عن اسم الجلالة إلى قوله : (رَبِّي) إيماء إلى أنّ عصيانه أمر قبيح لأنّه ربّه فكيف يعصيه.

وأضيف العذاب إلى (يَوْمٍ عَظِيمٍ) تهويلا له لأنّ في معتاد العرب أن يطلق اليوم على يوم نصر فريق وانهزام فريق من المحاربين ، فيكون اليوم نكالا على المنهزمين ، إذ يكثر فيهم القتل والأسر ويسام المغلوب سوء العذاب ، فذكر (يَوْمٍ) يثير من الخيال مخاوف مألوفة ، ولذلك قال الله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء : ١٨٩] ولم يقل عذاب الظلّة أنّه كان عذابا عظيما. وسيأتي بيان ذلك مفصّلا عند قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) في سورة التغابن [٩] ، وبهذا الاعتبار حسن جعل إضافة العذاب إلى اليوم العظيم كناية عن عظم ذلك العذاب ، لأنّ عظمة اليوم العظيم تستلزم عظم ما يقع فيه عرفا.

وقوله : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) جملة من شرط وجزاء وقعت موقع الصفة ل (عَذابَ).

٤٠