تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

الْكَذِبَ) في سورة العقود [١٠٣].

(وَمَنْ) موصولة مراد به الجنس ، أي كلّ من افترى أو قال ، وليس المراد فردا معيّنا ، فالّذين افتروا على الله كذبا هم المشركون لأنهم حلّلوا وحرّموا بهواهم وزعموا أنّ الله أمرهم بذلك ، وأثبتوا لله شفعاء عنده كذبا.

و (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) عطف على صلة (مَنْ) ، أي كلّ من ادّعى النّبوءة كذبا ، ولم يزل الرّسل يحذّرون النّاس من الّذين يدّعون النّبوءة كذبا كما قدّمته. روي أنّ المقصود بهذا مسيلمة متنبّئ أهل اليمامة ، قاله ابن عبّاس وقتادة وعكرمة. وهذا يقتضي أن يكون مسيلمة قد ادّعى النّبوءة قبل هجرة النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة لأنّ السّورة مكّية. والصّواب أنّ مسيلمة لم يدع النّبوءة إلّا بعد أن وفد على النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قومه بني حنيفة بالمدينة سنة تسع طامعا في أن يجعل له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمر بعده فلمّا رجع خائبا ادّعى النّبوءة في قومه.

وفي «تفسير» ابن عطيّة أنّ المراد بهذه الآية مع مسيلمة الأسود العنسي المتنبّئ بصنعاء. وهذا لم يقله غير ابن عطيّة. وإنّما ذكر الطّبري الأسود تنظيرا مع مسيلمة فإنّ الأسود العنسي ما ادّعى النّبوءة إلّا في آخر حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والوجه أنّ المقصود العموم ولا يضرّه انحصار ذلك في فرد أو فردين في وقت ما وانطباق الآية عليه.

وأمّا (مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) ، فقال الواحدي في «أسباب النّزول» ، عن ابن عبّاس وعكرمة : أنّها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وكان قد أسلم بمكّة ، وكان يكتب الوحي للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ ارتدّ وقال : أنا أقول مثل ما أنزل الله ، استهزاء ، وهذا أيضا لا ينثلج له الصّدر لأنّ عبد الله بن أبي سرح ارتدّ بعد الهجرة ولحق بمكّة وهذه السّورة مكّية. وذكر القرطبي عن عكرمة ، وابن عطيّة عن الزّهراوي والمهدوي أنّها : نزلت في النضر بن الحارث كان يقول : أنا أعارض القرآن. وحفظوا له أقوالا ، وذلك على سبيل الاستهزاء. وقد رووا أنّ أحدا من المشركين قال : إنّما هو قول شاعر وإنّي سأنزل مثله ؛ وكان هذا قد تكرّر من المشركين كما أشار إليه القرآن ، فالوجه أنّ المراد بالموصول العموم ليشمل كلّ من صدر منه هذا القول ومن يتابعهم عليه في المستقبل.

وقولهم : (مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) إمّا أن يكونوا قالوا هذه العبارة سخرية كما قالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] ، وإمّا أن يكون حكاية من الله تعالى بالمعنى ، أي قال سأنزل مثل هذا الكلام ، فعبّر الله عنه بقوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ) كقوله :

٢٢١

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) [النساء : ١٥٧].

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ).

عطفت جملة : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) على جملة : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) لأنّ هذه وعيد بعقاب لأولئك الظّالمين المفترين على الله والقائلين «أوحي إلينا» والقائلين (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ).

ف (الظَّالِمُونَ) في قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) يشمل أولئك ويشمل جميع الظّالمين المشركين ، ولذلك فالتّعريف في (الظَّالِمُونَ) تعريف الجنس المفيد للاستغراق. والخطاب في (تَرى) للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو كلّ من تتأتّى منه الرّؤية فلا يختصّ به مخاطب. ثمّ الرّؤية المفروضة يجوز أن يراد بها رؤية البصر إذا كان الحال المحكي من أحوال يوم القيامة ، وأن تكون علميّة إذا كانت الحالة المحكيّة من أحوال النّزع وقبض أرواحهم عند الموت.

ومفعول (تَرى) محذوف دلّ عليه الظّرف المضاف. والتّقدير : ولو ترى الظّالمين إذ هم في غمرات الموت ، أي وقتهم في غمرات الموت ، ويجوز جعل (إذ) اسما مجرّدا عن الظرفيّة فيكون هو المفعول كما في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) [الأعراف : ٨٦] فيكون التّقدير ، ولو ترى زمن الظّالمون في غمرات الموت. ويتعيّن على هذا الاعتبار جعل الرّؤية علميّة لأنّ الزّمن لا يرى.

والمقصود من هذا الشّرط تهويل هذا الحال ، ولذلك حذف جواب (لو) كما هو الشّأن في مقام التّهويل. ونظائره كثيرة في القرآن. والتّقدير : لرأيت أمرا عظيما.

والغمرة ـ بفتح الغين ـ ما يغمر ، أي يغمّ من الماء فلا يترك للمغمور مخلصا. وشاعت استعارتها للشدّة تشبيها بالشدّة الحاصلة للغريق حين يغمره الوادي أو السّيل حتّى صارت الغمرة حقيقة عرفيّة في الشدّة الشّديدة.

وجمع الغمرات يجوز أن يكون لتعدّد الغمرات بعدد الظّالمين فتكون صيغة الجمع مستعملة في حقيقتها. ويجوز أن يكون لقصد المبالغة في تهويل ما يصيبهم بأنّه أصناف من الشّدائد هي لتعدّد أشكالها وأحوالها لا يعبّر عنها باسم مفرد. فيجوز أن يكون هذا وعيدا بعذاب يلقونه في الدّنيا في وقت النّزع. ولمّا كان للموت سكرات جعلت غمرة الموت

٢٢٢

غمرات.

و (في) للظرفيّة المجازيّة للدّلالة على شدّة ملابسة الغمرات لهم حتّى كأنّها ظرف يحويهم ويحيط بهم. فالموت على هذا الوجه مستعمل في معناه الحقيقي وغمراته هي آلام النّزع.

وتكون جملة : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) حكاية قول الملائكة لهم عند قبض أرواحهم. فيكون إطلاق الغمرات مجازا مفردا ويكون الموت حقيقة. ومعنى بسط اليد تمثيلا للشدّة في انتزاع أرواحهم ولا بسط ولا أيدي. والأنفس بمعنى الأرواح ، أي أخرجوا أرواحكم من أجسادكم ، أي هاتوا أرواحكم ، والأمر للإهانة والإرهاق إغلاظا في قبض أرواحهم ولا يتركون لهم راحة ولا يعاملونهم بلين ، وفيه إشارة إلى أنّهم يجزعون فلا يلفظون أرواحهم وهو على هذا الوجه وعيد بالآلام عند النّزع جزاء في الدّنيا على شركهم ، وقد كان المشركون في شكّ من البعث فتوعّدوا بما لا شكّ فيه ، وهو حال قبض الأرواح بأنّ الله يسلّط عليهم ملائكة تقبض أرواحهم بشدّة وعنف وتذيقهم عذابا في ذلك. وذلك الوعيد يقع في نفوسهم موقعا عظيما لأنّهم كانوا يخافون شدائد النّزع وهو كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [الأنفال : ٥٠] الآية ، وقول (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) على هذا صادر من الملائكة.

ويجوز أن يكون هذا وعيدا بما يلاقيه المشركون من شدائد العذاب يوم القيامة لمناسبة قوله بعد (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) [الأنعام : ٩٤] ؛ فغمرات الموت تمثيل لحالهم يوم الحشر في منازعة الشّدائد وأهوال القيامة بحال منهم في غمرات الموت وشدائد النّزع فالموت تمثيل وليس بحقيقة. والمقصود من التّمثيل تقريب الحالة وإلّا فإنّ أهوالهم يومئذ أشدّ من غمرات الموت ولكن لا يوجد في المتعارف ما هو أقصى من هذا التّمثيل دلالة على هول الألم. وهذا كما يقال : وجدت ألم الموت ، وقول أبي قتادة في وقعة حنين : «فضمّني ضمّة وجدت منها ريح الموت» ، وقول الحارث بن هشام المخزومي :

وشممت ريح الموت من تلقائهم

في مأزق والخيل لم تتبدّد

وجملة : (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) حال ، أي والملائكة مادّون أيديهم إلى المشركين ليقبضوا عليهم ويدفعوهم إلى الحساب على الوجه الثّاني ، أو ليقبضوا أرواحهم على الوجه الأوّل ، فيكون بسط الأيدي حقيقة بأن تتشكّل الملائكة لهم في أشكال في صورة الآدميين. ويجوز أن يكون بسط الأيدي كناية عن المسّ والإيلام ، كقوله : (لَئِنْ

٢٢٣

بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) [المائدة : ٢٨].

وجملة : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) مقول لقول محذوف. وحذف القول في مثله شائع ، والقول على هذا من جانب الله تعالى. والتّقدير : نقول لهم : أخرجوا أنفسكم والأنفس بمعنى الذوات. والأمر للتعجيز ، أي أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم ، والإخراج مجاز في الإنقاذ والإنجاء لأنّ هذا الحال قبل دخولهم النّار. ويجوز إبقاء الإخراج على حقيقته إن كان هذا الحال واقعا في حين دخولهم النّار.

والتّعريف في (الْيَوْمَ) للعهد وهو يوم القيامة الّذي فيه هذا القول ، وإطلاق اليوم عليه مشهور ، فإن حمل الغمرات على النّزع عند الموت فاليوم مستعمل في الوقت ، أي وقت قبض أرواحهم.

وجملة : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) إلخ استئناف وعيد ، فصلت للاستقلال والاهتمام ، وهي من قول الملائكة. و (تُجْزَوْنَ) تعطون جزاء ، والجزاء هو عوض العمل وما يقابل به من أجر أو عقوبة. قال تعالى : (جَزاءً وِفاقاً) [النبأ : ٢٦] ، وفي المثل : المرء مجزيّ بما صنع إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ. يقال : جزاه يجزيه فهو جاز. وهو يتعدّى بنفسه إلى الشّيء المعطى جزاء ، ويتعدّى بالباء إلى الشّيء المكافأ عنه ، كما في هذه الآية. ولذلك كانت الباء في قوله تعالى في سورة يونس [٢٧] (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) متأوّلا على معنى الإضافة البيانيّة. أي جزاء هو سيّئة ، وأنّ مجرور الباء هو السيّئة المجزى عنها ، كما اختاره ابن جني. وقال الأخفش : الباء فيه زائدة لقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠]. ويقال : جازى بصيغة المفاعلة. قال الرّاغب : ولم يجيء في القرآن : جازى.

والهون : الهوان ، وهو الذّلّ. وفسّره الزّجاج بالهوان الشّديد ، وتبعه صاحب «الكشاف» ، ولم يقله غيرهما من علماء اللّغة. وكلام أهل اللّغة يقتضي أنّ الهون مرادف الهوان ، وقد قرأ ابن مسعود اليوم تجزون عذاب الهوان. وإضافة العذاب إلى الهون لإفادة ما تقتضيه الإضافة من معنى الاختصاص والملك ، أي العذاب المتمكّن في الهون الملازم له.

والباء في قوله : (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ) باء العوض لتعدية فعل (تُجْزَوْنَ) إلى المجزي عنه. ويجوز جعل الباء للسببيّة ، أي تجزون عذاب الهون بسبب قولكم ، ويعلم أنّ الجزاء على ذلك ، و (ما) مصدريّة. ثمّ إن كان هذا القول صادرا من جانب الله تعالى فذكر اسم

٢٢٤

الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار لقصد التّهويل. والأصل بما كنتم تقولون عليّ.

وضمّن (تَقُولُونَ) معنى تكذبون ، فعلّق به قوله : (عَلَى اللهِ) ، فعلم أنّ هذا القول كذب على الله كقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) [الحاقة : ٤٤] الآية ، وبذلك يصحّ تنزيل فعل (تَقُولُونَ) منزلة اللازم فلا يقدّر له مفعول لأنّ المراد به أنّهم يكذبون ، ويصحّ جعل غير الحقّ مفعولا ل (تَقُولُونَ) ، وغير الحقّ هو الباطل ، ولا تكون نسبته إلى الله إلّا كذبا.

وشمل (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ) الأقوال الثّلاثة المتقدّمة في قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ـ إلى قوله ـ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) وغيرها.

و (غَيْرَ الْحَقِ) حال من (ما) الموصولة أو صفة لمفعول مطلق أو هو المفعول به ل (تَقُولُونَ).

وقوله : (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ) عطف على (كُنْتُمْ تَقُولُونَ) ، أي وباستكباركم عن آياته. والاستكبار : الإعراض في قلّة اكتراث ، فبهذا المعنى يتعدّى إلى الآيات ، أو أريد من الآيات التأمّل فيها فيكون الاستكبار على حقيقته ، أي تستكبرون عن التدبّر في الآيات وترون أنفسكم أعظم من صاحب تلك الآيات.

وجواب (لو) محذوف لقصد التّهويل. والمعنى : لرأيت أمرا مفظعا. وحذف جواب (لو) في مثل هذا المقام شائع في القرآن. وتقدّم عند قوله تعالى : ولو ترى (الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) في سورة البقرة [١٦٥].

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤))

إن كان القول المقدّر في جملة (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [الأنعام : ٩٣] قولا من قبل الله تعالى كان قوله (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) عطفا على جملة (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [الأنعام : ٩٣] ، أي يقال لهم حين دفعهم الملائكة إلى العذاب : أخرجوا أنفسكم ، ويقال لهم : لقد جئتمونا فرادى. فالجملة في محلّ النّصب بالقول المحذوف. وعلى احتمال أن يكون(غَمَراتِ الْمَوْتِ) [الأنعام : ٩٣] حقيقة ، أي في حين النّزع يكون فعل (جِئْتُمُونا) من التّعبير بالماضي

٢٢٥

عن المستقبل القريب ، مثل : قد قامت الصّلاة ، فإنّهم حينئذ قاربوا أن يرجعوا إلى محض تصرّف الله فيهم.

وإن كان القول المقدّر قول الملائكة فجملة : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) عطف على جملة : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) [الأنعام : ٩٣] فانتقل الكلام من خطاب المعتبرين بحال الظّالمين إلى خطاب الظّالمين أنفسهم بوعيدهم بما سيقول لهم يومئذ.

فعلى الوجه الأوّل يكون (جِئْتُمُونا) حقيقة في الماضي لأنّهم حينما يقال لهم هذا القول قد حصل منهم المجيء بين يدي الله. و (قد) للتّحقيق.

وعلى الوجه الثّاني يكون الماضي معبّرا به عن المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه ، وتكون (قد) ترشيحا للاستعارة.

وإخبارهم بأنّهم جاءوا ليس المراد به ظاهر الإخبار لأنّ مجيئهم معلوم لهم ولكنّه مستعمل في تخطئتهم وتوقيفهم على صدق ما كانوا ينذرون به على لسان الرّسول فينكرونه وهو الرّجوع إلى الحياة بعد الموت للحساب بين يدي الله. وقد يقصد مع هذا المعنى معنى الحصول في المكنة والمصير إلى ما كانوا يحسبون أنّهم لا يصيرون إليه ، على نحو قوله تعالى : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) [النور : ٣٩] ، وقول الرّاجز :

قد يصبح الله إمام السّاري

والضّمير المنصوب في (جِئْتُمُونا) ضمير الجلالة وليس ضمير الملائكة بدليل قوله: (كَما خَلَقْناكُمْ).

و (فُرادى) حال من الضّمير المرفوع في (جِئْتُمُونا) أي منعزلين عن كلّ ما كنتم تعتزّون به في الحياة الأولى من مال وولد وأنصار ، والأظهر أنّ (فرادى) جمع فردان مثل سكارى لسكران. وليس فرادى المقصور مرادفا لفرادى المعدول لأنّ فراد المعدول يدلّ على معنى فردا فردا ، مثل ثلاث ورباع من أسماء العدد المعدولة. وأمّا فرادى المقصور فهو جمع فردان بمعنى المنفرد. ووجه جمعه هنا أنّ كلّ واحد منهم جاء منفردا عن ماله.

وقوله : (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الّذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأي العين ، فالكاف لتشبيه الخلق الجديد بالخلق الأوّل فهو في موضع المفعول المطلق. و (ما) المجرورة بالكاف مصدريّة. فالتّقدير : كخلقنا إيّاكم ، أي جئتمونا معادين مخلوقين كما خلقناكم أوّل مرّة ، فهذا كقوله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ

٢٢٦

الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥].

والتّخويل : التفضّل بالعطاء. قيل : أصله إعطاء الخول ـ بفتحتين ـ وهو الخدم ، أي إعطاء العبيد. ثمّ استعمل مجازا في إعطاء مطلق ما ينفع ، أي تركتم ما أنعمنا به عليكم من مال وغيره.

و (ما) موصولة ومعنى تركهم إيّاه وراء ظهورهم بعدهم عنه تمثيلا لحال البعيد عن الشّيء بمن بارحه سائرا ، فهو يترك من يبارحه وراءه حين مبارحته لأنّه لو سار وهو بين يديه لبلغ إليه ولذلك يمثّل القاصد للشّيء بأنّه بين يديه ، ويقال للأمر الّذي يهيّئه المرء لنفسه : قد قدّمه.

(وَتَرَكْتُمْ) عطف على (جِئْتُمُونا) وهو يبيّن معنى (فُرادى) إلّا أنّ في الجملة الثّانية زيادة بيان لمعنى الانفراد بذكر كيفية هذا الانفراد لأنّ كلا الخبرين مستعمل في التّخطئة والتّنديم ، إذ جاءوا إلى القيامة وكانوا ينفون ذلك المجيء وتركوا ما كانوا فيه في الدّنيا وكان حالهم حال من ينوي الخلود. فبهذا الاعتبار عطفت الجملة ولم تفصل. وأبو البقاء جعل الجملة حالا من الواو في (جِئْتُمُونا) فيصير ترك ما خوّلوه هو محلّ التّنكيل.

وكذلك القول في جملة (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أنّها معطوفة على (جِئْتُمُونا) ـ و (تَرَكْتُمْ) لأنّ هذا الخبر أيضا مراد به التّخطئة والتّلهيف ، فالمشركون كانوا إذا اضطربت قلوبهم في أمر الإسلام علّلوا أنفسهم بأنّ آلهتهم تشفع لهم عند الله. وقد روى بعضهم : أنّ النّضر بن الحارث قال ذلك ، ولعلّه قاله استسخارا أو جهلا ، وأنّ الآية نزلت ردّا عليه ، أي أن في الآية ما هو ردّ عليه لا أنّها نزلت لإبطال قوله لأنّ هذه الآيات متّصل بعضها ببعض ، وفي قوله : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) بيان أيضا وتقرير لقوله : (فُرادى).

وقوله : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) تهكّم بهم لأنّهم لا شفعاء لهم فسيق الخطاب إليهم مساق كلام من يترقّب ، أي يرى شيئا فلم يره على نحو قوله في الآية الأخرى (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) [النحل : ٢٧] ، بناء على أنّ نفي الوصف عن شيء يدلّ غالبا على وجود ذلك الشّيء ، فكان في هذا القول إيهام أنّ شفعاءهم موجودون سوى أنّهم لم يحضروا ، ولذلك جيء بالفعل المنفي بصيغة المضارع الدالّ على الحال دون الماضي ليشير إلى أنّ انتفاء رؤية الشّفعاء حاصل إلى الآن ، ففيه إيهام أنّ رؤيتهم محتملة الحصول بعد في المستقبل ، وذلك زيادة في التهكّم.

٢٢٧

وأضيف الشّفعاء إلى ضمير المخاطبين لأنّه أريد شفعاء معهودون ، وهم الآلهة الّتي عبدوها وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨]. وقد زيد تقرير هذا المعنى بوصفهم بقوله : (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ).

والزّعم : القول الباطل سواء كان عن تعمّد للباطل كما في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [النساء : ٦٠] أم كان عن سوء اعتقاد كما هنا ، وقوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٢٢] ، وقد تقدّم ذلك في هاتين الآيتين في سورة النساء وفي هذه السورة.

وتقديم المجرور في قوله : (فِيكُمْ شُرَكاءُ) للاهتمام الّذي وجهه التعجيب من هذا المزعوم إذ جعلوا الأصنام شركاء لله في أنفسهم وقد علموا أنّ الخالق هو الله تعالى فهو المستحقّ للعبادة وحده فمن أين كانت شركة الأصنام لله في استحقاق العبادة ، يعني لو ادّعوا للأصنام شيئا مغيبا لا يعرف أصل تكوينه لكان العجب أقلّ ، لكن العجب كلّ العجب من ادّعائهم لهم الشركة في أنفسهم ، لأنّهم لمّا عبدوا الأصنام وكانت العبادة حقّا لأجل الخالقيّة ، كان قد لزمهم من العبادة أن يزعموا أنّ الأصنام شركاء لله في أنفس خلقه ، أي في خلقهم ، فلذلك علّقت النّفوس بالوصف الدالّ على الشركة.

وتقدّم معنى الشّفاعة عند قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) في سورة البقرة [٤٨].

وجملة : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) استئناف بياني لجملة : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) لأنّ المشركين حين يسمعون قوله : (ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) يعتادهم الطّمع في لقاء شفعائهم فيتشوّفون لأن يعلموا سبيلهم ، فقيل لهم : لقد تقطّع بينكم تأييسا لهم بعد الإطماع التهكمي ، والضّمير المضاف إليه عائد إلى المخاطبين وشفعائهم.

وقرأ نافع ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ـ بفتح نون ـ (بَيْنَكُمْ). ف (بين) على هذه القراءة ظرف مكان دالّ على مكان الاجتماع والاتّصال فيما يضاف هو إليه. وقرأ البقيّة ـ بضمّ نون ـ (بَيْنَكُمْ) على إخراج (بين) عن الظّرفية فصار اسما متصرّفا وأسند إليه التقطّع على طريقة المجاز العقلي.

وحذف فاعل تقطّع على قراءة الفتح لأنّ المقصود حصول التقطّع ، ففاعله اسم مبهم

٢٢٨

ممّا يصلح للتقطّع وهو الاتّصال. فيقدّر : لقد تقطّع الحبل أو نحوه. قال تعالى : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [البقرة : ١٦٦]. وقد صار هذا التّركيب كالمثل بهذا الإيجاز. وقد شاع في كلام العرب ذكر التقطّع مستعارا للبعد وبطلان الاتّصال تبعا لاستعارة الحبل للاتّصال ، كما قال امرؤ القيس :

تقطّع أسباب اللّبانة والهوى

عشيّة جاوزنا حماة وشيزرا

فمن ثمّ حسن حذف الفاعل في الآية على هذه القراءة لدلالة المقام عليه فصار كالمثل. وقدّر الزمخشري المصدر المأخوذ من (تَقَطَّعَ) فاعلا ، أي على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التّأويل ، أي وقع التقطّع بينكم. وقال التفتازانيّ : «الأولى أنّه أسند إلى ضمير الأمر لتقرّره في النّفوس ، أي تقطّع الأمر بينكم».

وقريب من هذا ما يقال : إنّ (بَيْنَكُمْ) صفة أقيمت مقام الموصوف الّذي هو المسند إليه ، أي أمر بينكم ، وعلى هذا يكون الاستعمال من قبيل الضّمير الّذي لم يذكر معاده لكونه معلوما من الفعل كقوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] ، لكن هذا لا يعهد في الضّمير المستتر لأنّ الضّمير المستتر ليس بموجود في الكلام وإنّما دعا إلى تقديره وجود معاده الدّال عليه. فأمّا والكلام خليّ عن معاد وعن لفظ الضّمير فالمتعيّن أن نجعله من حذف الفاعل كما قرّرته لك ابتداء ، ولا يقال : إنّ (تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ليس فيه لفظ ضمير إذ التّاء علامة لإسناد الفعل إلى مؤنّث لأنّا نقول : التّحقيق أنّ التّاء في الفعل المسند إلى الضّمير هي الفاعل.

وعلى قراءة الرّفع جعل (بَيْنَكُمْ) فاعلا ، أي أخرج عن الظّرفية وجعل اسما للمكان الّذي يجتمع فيه ما صدق الضمير المضاف إليه اسم المكان ، أي انفصل المكان الّذي كان محلّ اتّصالكم فيكون كناية عن انفصال أصحاب المكان الّذي كان محلّ اجتماع.

والمكانية هنا مجازيّة مثل (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : ١].

وقوله : (وَضَلَّ عَنْكُمْ) عطف على (تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) وهو من تمام التهكّم والتأييس. ومعنى ضلّ : ضدّ اهتدى ، أي جهل شفعاؤكم مكانكم لمّا تقطّع بينكم فلم يهتدوا إليكم ليشفعوا لكم. و (ما) موصولة ما صدقها الشفعاء لاتّحاد صلتها وصلة (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) ، أي الّذين كنتم تزعمونهم شركاء ، فحذف مفعولا الزّعم لدلالة نظيره عليهما في قوله : (زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) ، وعبّر عن الآلهة ب (ما) الغالبة في غير العاقل لظهور عدم جدواها ، وفسّر ابن عطيّة وغيره ضلّ بمعنى غاب وتلف وذهب ،

٢٢٩

وجعلوا (ما) مصدريّة ، أي ذهب زعمكم أنّها تشفع لكم. وما ذكرناه في تفسير الآية أبلغ وأوقع.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦))

استئناف ابتدائي انتقل به من تقرير التّوحيد والبعث والرّسالة وأفانين المواعظ والبراهين الّتي تخلّلت ذلك إلى الاستدلال والاعتبار بخلق الله تعالى وعجائب مصنوعاته المشاهدة ، على انفراده تعالى بالإلهيّة المستلزم لانتفاء الإلهيّة عمّا لا تقدر على مثل هذا الصّنع العجيب ، فلا يحقّ لها أن تعبد ولا أن تشرك مع الله تعالى في العبادة إذ لا حقّ لها في الإلهيّة ، فيكون ذلك إبطالا لشرك المشركين من العرب ، وهو مع ذلك إبطال لمعتقد المعطّلين من الدهريين منهم بطريق الأولى ، وفي ذلك امتنان على المقصودين من الخطاب وهم المشركون بقرينة قوله: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) ، أي فتكفرون النّعمة. وفيه علم ويقين للمؤمنين من المصدّقين واستزادة لمعرفتهم بربّهم وشكرهم.

وافتتاح الجملة ب (إِنَ) مع أنّه لا ينكر أحد أنّ الله هو فاعل الأفعال المذكورة هنا ، ولكنّ النّظر والاعتبار في دلالة الزّرع على قدرة الخالق على الإحياء بعد الموت كما قدر على إماتة الحي ، لمّا كان نظرا دقيقا قد انصرف عنه المشركون فاجترءوا على إنكار البعث ، كان حالهم كحال من أنكر أو شكّ في أنّ الله فالق الحبّ والنّوى ، فأكّد الخبر بحرف (إن).

وجيء بالجملة الاسميّة للدّلالة على ثبات هذا الوصف دوامه لأنّه وصف ذاتي لله تعالى ، وهو وصف الفعل أو وصف القدرة وتعلّقاتها في مصطلح من لا يثبت صفات الأفعال ، ولمّا كان المقصود الاكتفاء بدلالة فلق الحبّ والنّوى على قدرة الله على إخراج الحيّ من الميّت ، والانتقال من ذلك إلى دلالته على إخراج الحيّ من الميّت في البعث ، لم يؤت في هذا الخبر بما يقتضي الحصر إذ ليس المقام مقام القصر.

والفلق : شقّ وصدع بعض أجزاء الشّيء عن بعض ، والمقصود الفلق الّذي تنبثق منه وشائج النّبت والشّجر وأصولها ، فهو محلّ العبرة من علم الله تعالى وقدرته وحكمته.

والحبّ اسم جمع لما يثمره النّبت ، واحده حبّة. والنّوى اسم جمع نواة ، والنّواة قلب التّمرة. ويطلق على ما في الثّمار من القلوب الّتي منها ينبت شجرها مثل العنب

٢٣٠

والزّيتون ، وهو العجم بالتّحريك اسم جمع عجمة.

وجملة : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) في محلّ خبر ثان عن اسم (إنّ) تتنزّل منزلة بيان المقصود من الجملة قبلها وهو الفلق الّذي يخرج منه نبتا أو شجرا ناميا ذا حياة نباتية بعد أن كانت الحبّة والنّواة جسما صلبا لا حياة فيه ولا نماء. فلذلك رجّح فصل هذه الجملة عن الّتي قبلها إلّا أنّها أعمّ منها لدلالتها على إخراج الحيوان من ماء النطفة أو من البيض ، فهي خبر آخر ولكنّه بعمومه يبيّن الخبر الأوّل ، فلذلك يحسن فصل الجملة ، أو عدم عطف أحد الأخبار.

وعطف على (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) قوله (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) لأنّه إخبار بضدّ مضمون (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) وصنع آخر عجيب دالّ على كمال القدرة وناف تصرّف الطّبيعة بالخلق ، لأنّ الفعل الصّادر من العالم المختار يكون على أحوال متضادة بخلاف الفعل المتولد عن سبب طبعي ، وفي هذا الخبر تكملة بيان لما أجمله قوله : (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) ، لأنّ فلق الحبّ عن النّبات والنّوى عن الشّجر يشمل أحوالا مجملة ، منها حال إثمار النّبات والشّجر : حبّا ييبس وهو في قصب نباته فلا تكون فيه حياة ، ونوى في باطن الثّمار يبسا لا حياة فيه كنوى الزّيتون والتّمر ، ويزيد على ذلك البيان بإخراج البيض واللّبن والمسك واللّؤلؤ وحجر (البازهر) من بواطن الحيوان الحيّ ، فظهر صدور الضدّين عن القدرة الإلهيّة تمام الظّهور.

وقد رجح عطف هذا الخبر لأنّه كالتكملة لقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي يفعل الأمرين معا كقوله بعده (فالِقُ الْإِصْباحِ) وجاعل (اللَّيْلَ سَكَناً). وجعله في «الكشاف» عطفا على (فالِقُ الْحَبِ) بناء على أنّ مضمون قوله : (مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) ليس فيه بيان لمضمون (فالِقُ الْحَبِ) لأنّ فلق الحبّ ينشأ عنه إخراج الحيّ من الميّت لا العكس ، وهو خلاف الظّاهر لأنّ علاقة وصف (مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) بخبر (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أقوى من علاقته بخبر (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى).

وقد جيء بجملة : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) فعليّة للدّلالة على أنّ هذا الفعل يتجدّد ويتكرّر في كلّ آن ، فهو مراد معلوم وليس على سبيل المصادفة والاتّفاق.

وجيء في قوله : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) اسما للدّلالة على الدّوام والثّبات ، فحصل بمجموع ذلك أنّ كلا الفعلين متجدّد وثابت ، أي كثير وذاتيّ ، وذلك لأنّ أحد الإخراجين ليس أولى بالحكم من قرينه فكان في الأسلوب شبه الاحتباك.

٢٣١

والإشارة ب (ذلِكُمُ) لزيادة التّمييز وللتّعريض بغباوة المخاطبين المشركين لغفلتهم عن هذه الدّلالة على أنّه المنفرد بالإلهيّة ، أي ذلكم الفاعل الأفعال العظيمة من الفلق وإخراج الحيّ من الميّت والميّت من الحيّ هو الّذي يعرفه الخلق باسمه العظيم الدالّ على أنّه الإله الواحد ، المقصور عليه وصف الإلهيّة فلا تعدلوا به في الإلهيّة غيره ، ولذلك عقّب بالتّفريع بالفاء قوله : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

والأفك ـ بفتح الهمزة ـ مصدر أفكه يأفكه ، من باب ضرب ، إذا صرفه عن مكان أو عن عمل ، أي فكيف تصرفون عن توحيده.

و (أنّى) بمعنى من أين. وهو استفهام تعجيبي إنكاري ، أي لا يوجد موجب يصرفكم عن توحيده. وبني فعل (تُؤْفَكُونَ) للمجهول لعدم تعيّن صارفهم عن توحيد الله ، وهو مجموع أشياء : وسوسة الشّيطان ، وتضليل قادتهم وكبرائهم ، وهوى أنفسهم.

وجملة (ذلكم الله) مستأنفة مقصود منها الاعتبار ، فتكون جملة : (ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) اعتراضا.

و (فالِقُ الْإِصْباحِ) يجوز أن يكون خبرا رابعا عن اسم (إنّ) ، ويجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة المخبر به عن اسم الإشارة ، فيكون قوله : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) اعتراضا. والإصباح ـ بكسر الهمزة ـ في الأصل مصدر أصبح الأفق ، إذا صار ذا صباح ، وقد سمّي به الصباح ، وهو ضياء الفجر فيقابل اللّيل وهو المراد هنا.

وفلق الإصباح استعارة لظهور الضّياء في ظلمة اللّيل ، فشبّه ذلك بفلق الظلمة عن الضّياء ، كما استعير لذلك أيضا السّلخ في قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧]. فإضافة (فالِقُ) إلى (الْإِصْباحِ) حقيقيّة وهي لأدنى ملابسة على سبيل المجاز. وسنبيّنه في الآية الآتية لأنّ اسم الفاعل له شائبة الاسميّة فيضاف إضافة حقيقيّة ، وله شائبة فعلية فيضاف إضافة لفظيّة. وهو هنا لمّا كان دالا على وصف في الماضي ضعف شبهه بالفعل لأنّه إنّما يشبه المضارع في الوزن وزمن الحال أو الاستقبال. وقد يعتبر فيه المفعوليّة على التّوسّع فحذف حرف الجرّ ، أي فالق عن الإصباح فانتصب على نزع الخافض ، ولذلك سمّوا الصّبح فلقا ـ بفتحتين ـ بزنة ما بمعنى المفعول كما قالوا مسكن ، أي مسكون إليه فتكون الإضافة على هذا لفظية بالتأويل وليست إضافته من إضافة الوصف إلى معموله إذ ليس الإصباح مفعول الفلق والمعنى فالق عن الإصباح فيعلم أنّ المفلوق هو الليل ولذلك فسّروه فالق ظلمة الإصباح ، أي الظلمة التي يعقبها الصبح وهي ظلمة

٢٣٢

الغبش ، فإنّ فلق الليل عن الصبح أبدع في مظهر القدرة وأدخل في المنّة بالنعمة ، لأنّ الظلمة عدم والنور وجود. والإيجاد هو مظهر القدرة ولا يكون العدم ومظهرا للقدرة إلّا إذا تسلّط على موجود وهو الإعدام ، وفلق الإصباح نعمة أيضا على النّاس لينتفعوا بحياتهم واكتسابهم.

وجاعل الليل سكنا عطف على (فالِقُ الْإِصْباحِ).

وقرأه الجمهور ـ بصيغة اسم الفاعل وجرّ (اللَّيْلَ) ـ لمناسبة الوصفين في الاسميّة والإضافة. وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف. (وَجَعَلَ) بصيغة فعل الماضي وبنصب (اللَّيْلَ).

وعبّر في جانب اللّيل بمادة الجعل لأنّ الظلمة عدم فتعلّق القدرة فيها هو تعلّقها بإزالة ما يمنع تلك الظلمة من الأنوار العارضة للأفق. والمعنى أنّ الله فلق الإصباح بقدرته نعمة منه على الموجودات ولم يجعل النّور مستمرا في الأفق فجعله عارضا مجزأ أوقاتا لتعود الظّلمة إلى الأفق رحمة منه بالموجودات ليسكنوا بعد النّصب والعمل فيستجمّوا راحتهم.

والسكن ـ بالتّحريك ـ على زنة مرادف اسم المفعول مثل الفلق على اعتباره مفعولا بالتوسّع بحذف حرف الجرّ وهو ما يسكن إليه ، أي تسكن إليه النّفس ويطمئنّ إليه القلب ، والسّكون فيه مجاز. وتسمّى الزّوجة سكنا والبيت سكنا قال تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) [النحل : ٨٠] ، فمعنى جعل اللّيل سكنا أنّه جعل لتحصل فيه راحة النّفس من تعب العمل.

وعطف (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) على (اللَّيْلَ) بالنّصب رعيا لمحلّ اللّيل لأنّه في محلّ المفعول ل جاعل بناء على الإضافة اللّفظيّة. والعطف على المحلّ شائع في مواضع من كلام العرب مثل رفع المعطوف على اسم (إنّ) ، ونصب المعطوف على خبر ليس المجرور بالباء.

والحسبان في الأصل مصدر حسب ـ بفتح السّين ـ كالغفران ، والشّكران ، والكفران ، أي جعلها حسابا ، أي علامة حساب للنّاس يحسبون بحركاتها أوقات اللّيل والنّهار ، والشّهور ، والفصول ، والأعوام. وهذه منّة على النّاس وتذكير بمظهر العلم والقدرة ، ولذلك جعل للشّمس حسبان كما جعل للقمر ، لأنّ كثيرا من الأمم يحسبون شهورهم

٢٣٣

وأعوامهم بحساب سير الشّمس بحلولها في البروج وبتمام دورتها فيها. والعرب يحسبون بسير القمر في منازله. وهو الذي جاء به الإسلام ، وكان العرب في الجاهليّة يجعلون الكبس لتحويل السنة إلى فصول متماثلة ، فموقع المنّة أعمّ من الاعتبار الشّرعي في حساب الأشهر والأعوام بالقمري ، وإنّما استقام ذلك للنّاس بجعل الله حركات الشّمس والقمر على نظام واحد لا يختلف ، وذلك من أعظم دلائل علم الله وقدرته ، وهذا بحسب ما يظهر للنّاس منه ولو اطّلعوا على أسرار ذلك النّظام البديع لكانت العبرة به أعظم.

والإخبار عنهما بالمصدر إسناد مجازي لأنّه في معنى اسم الفاعل ، أي حاسبين. والحاسب هم النّاس بسبب الشّمس والقمر.

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى الجعل المأخوذ من جاعل.

والتّقدير : وضع الأشياء على قدر معلوم كقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢].

والعزيز : الغالب ، القاهر ، والله هو العزيز حقّا لأنّه لا تتعاصى عن قدرته الكائنات كلّها. والعليم مبالغة في العلم ، لأنّ وضع الأشياء على النّظام البديع لا يصدر إلّا عن عالم عظيم العلم.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧))

عطف على جملة : وجاعل الليل سكنا [الأنعام : ٩٦] ، وهذا تذكير بوحدانيّة الله ، وبعظيم خلقة النّجوم ، وبالنّعمة الحاصلة من نظام سيرها إذ كانت هداية للنّاس في ظلمات البرّ والبحر يهتدون بها. وقد كان ضبط حركات النّجوم ومطالعها ومغاربها من أقدم

العلوم البشريّة ظهر بين الكلدانيّين والمصريّين القدماء. وذلك النّظام هو الّذي أرشد العلماء إلى تدوين علم الهيئة.

والمقصود الأوّل من هذا الخبر الاستدلال على وحدانيّة الله تعالى بالإلهيّة ، فلذلك صيغ بصيغة القصر بطريق تعريف المسند والمسند إليه ، لأنّ كون خلق النّجوم من الله وكونها ممّا يهتدى بها لا ينكره المخاطبون ولكنّهم لم يجروا على ما يقتضيه من إفراده بالعبادة.

٢٣٤

والنّجوم جمع نجم ، وهو الكوكب ، أي الجسم الكروي المضيء في الأفق ليلا الّذي يبدو للعين صغيرا ، فليس القمر بنجم.

و (جَعَلَ) هنا بمعنى خلق ، فيتعدّى إلى مفعول واحد و (لَكُمُ). متعلّق ب (جَعَلَ) ، والضّمير للبشر كلّهم ، فلام (لَكُمُ) للعلّة.

وقوله : (لِتَهْتَدُوا بِها) علّة ثانية ل (جَعَلَ) فاللّام للعلّة أيضا ، وقد دلّت الأولى على قصد الامتنان ، فلذلك دخلت على ما يدلّ على الضّمير الدالّ على الذّوات ، كقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] ، واللّام الثّانية دلّت على حكمة الجعل وسبب الامتنان وهو ذلك النّفع العظيم. ولمّا كان الاهتداء من جملة أحوال المخاطبين كان موقع قوله : (لِتَهْتَدُوا) قريبا من موقع بدل الاشتمال بإعادة العامل ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) في سورة المائدة [١١٤].

والمراد بالظلمات : الظلمة الشّديدة ، فصيغة الجمع مستعملة في القوّة. وقد تقدّم أنّ الشّائع أن يقال : ظلمات ، ولا يقال : ظلمة ، عند قوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) في سورة البقرة [١٧].

وإضافة (ظُلُماتِ) إلى (الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) على معنى (في) لأنّ الظّلمات واقعة في هذين المكانين ، أي لتهتدوا بها في السّير في الظّلمات. ومن ينفي الإضافة على معنى (في) يجعلها إضافة على معنى اللّام لأدنى ملابسة كما في «كوكب الخرقاء» (١). والإضافة لأدنى ملابسة ، إمّا مجاز لغوي مبني على المشابهة ، فهو استعارة على ما هو ظاهر كلام «المفتاح» في مبحث البلاغة والفصاحة إذ جعل في قوله تعالى : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) [هود : ٤٤] إضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتّصال الماء بالأرض باتّصال الملك بالمالك ا ه. فاستعمل فيه الإضافة الّتي هي على معنى لام الملك فهو استعارة تبعيّة ؛ وإمّا مجاز عقليّ على رأي التفتازانيّ في موضع آخر إذ قال في «كوكب الخرقاء» «حقيقة الإضافة اللّاميّة الاختصاص الكامل ، فالإضافة لأدنى ملابسة تكون مجازا حكميا». ولعلّ التفتازانيّ يرى الاختلاف في المجاز باختلاف قرب الإضافة لأدنى ملابسة من معنى الاختصاص وبعدها منه كما يظهر الفرق بين المثالين ، على أنّ قولهم : لأدنى ملابسة ،

__________________

(١) في قول الشاعر الذي لم يعرف اسمه :

إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة

سهيل أذاعت غزلها في القرائب

٢٣٥

يؤذن بالمجاز العقلي لأنّه إسناد الحكم أو معناه إلى ملابس لما هو له.

وجملة : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) مستأنفة للتّسجيل والتّبليغ وقطع معذرة من لم يؤمنوا.

واللّام للتّعليل متعلّق ب (فَصَّلْنَا) كقوله :

ويوم عقرت للعذاري مطيّتي

أي فصّلنا لأجل قوم يعلمون.

وتفصيل الآيات تقدّم عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) في هذه السّورة [٥٥]. وجعل التّفصيل لقوم يعلمون تعريضا بمن لم ينتفعوا من هذا التّفصيل بأنّهم قوم لا يعلمون.

والتّعريف في (الْآياتِ) للاستغراق فيشمل آية خلق النّجوم وغيرها. والعلم في كلام العرب إدراك الأشياء على ما هي عليه قال السّموأل أو عبد الملك الحارثي :

فليس سواء عالم وجهول

وقال النّابغة :

وليس جاهل شيء مثل من علما

والّذين يعلمون هم الّذين انتفعوا بدلائل الآيات. وهم الّذين آمنوا بالله وحده ، كما قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ٩٩].

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨))

هذا تذكير بخلق الإنسان وكيف نشأ هذا العدد العظيم من نفس واحدة كما هو معلوم لهم ، فالّذي أنشأ النّاس وخلقهم هو الحقيق بعبادتهم دون غيره ممّا أشركوا به ، والنّظر في خلقة الإنسان من الاستدلال بأعظم الآيات. قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

والقصر الحاصل من تعريف المسند إليه والمسند تعريض بالمشركين ، إذ أشركوا في عبادتهم مع خالقهم غير من خلقهم على نحو ما قررته في الآية قبل هذه.

والإنشاء : الإحداث والإيجاد. والضّمير المنصوب مراد به البشر كلّهم. والنّفس

٢٣٦

الواحدة هي آدم ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله : (فَمُسْتَقَرٌّ) الفاء للتّفريع عن (أَنْشَأَكُمْ) ، وهو تفريع المشتمل عليه المقارن على المشتمل.

وقرأه الجمهور مستقر ـ بفتح القاف ـ وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وروح عن يعقوب «بكسر القاف». فعلى قراءة ـ فتح القاف ـ يكون مصدرا ميميا ، و (مُسْتَوْدَعٌ) كذلك ، ورفعهما على أنّه مبتدأ حذف خبره ، تقديره : لكم أو منكم ، أو على أنّه خبر لمبتدإ محذوف تقديره : فأنتم مستقرّ ومستودع. والوصف بالمصدر للمبالغة في الحاصل به ، أي فتفرّع عن إنشائكم استقرار واستيداع ، أي لكم.

وعلى قراءة ـ كسر القاف ـ يكون المستقرّ اسم فاعل. والمستودع اسم مفعول من استودعه بمعنى أودعه ، أي فمستقرّ منكم أقررناه فهو مستقرّ ، ومستودع منكم ودّعناه فهو مستودع. والاستقرار هو القرار ، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد مثل استجاب. يقال : استقرّ في المكان بمعنى قرّ. وتقدّم عند قوله تعالى : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) في هذه السورة [٦٧].

والاستيداع : طلب التّرك ، وأصله مشتقّ من الودع ، وهو التّرك على أن يسترجع المستودع. يقال : استودعه مالا إذا جعله عنده وديعة ، فالاستيداع مؤذن بوضع موقّت ، والاستقرار مؤذن بوضع دائم أو طويل.

وقد اختلف المفسّرون في المراد بالاستقرار والاستيداع في هذه الآية مع اتّفاقهم على أنّهما متقابلان. فعن ابن مسعود : المستقرّ الكون فوق الأرض ، والمستودع الكون في القبر. وعلى هذا الوجه يكون الكلام تنبيها لهم بأنّ حياة النّاس في الدّنيا يعقبها الوضع في القبور وأنّ ذلك الوضع استيداع موقّت إلى البعث الّذي هو الحياة الأولى ردّا على الّذين أنكروا البعث.

وعن ابن عبّاس : المستقرّ في الرّحم والمستودع في صلب الرجل ، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضا ، وقاله مجاهد والضحاك وعطاء وإبراهيم النخعي ، وفسّر به الزجّاج. قال الفخر : وممّا يدلّ على قوّة هذا القول أنّ النّطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا والجنين يبقى في رحم الأمّ زمانا طويلا. وعن غير هؤلاء تفسيرات أخرى لا يثلج لها الصّدر أعرضنا عن التّطويل بها. وقال الطّبري «إنّ الله لم يخصّص معنى دون غيره» ، ولا شكّ أنّ من بني آدم مستقرّا في الرّحم ومستودعا في الصلب ، ومنهم من هو مستقرّ

٢٣٧

على ظهر الأرض أو بطنها ومستودع في أصلاب الرّجال ، ومنهم مستقرّ في القبر مستودع على ظهر الأرض ، فكلّ مستقرّ أو مستودع بمعنى من هذه المعاني داخل في عموم قوله : (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) ا ه.

وقال ابن عطيّة : الّذي يقتضيه النّظر أنّ ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقرّ فيه لأنّه ينتقل لا محالة ثمّ ينتقل إلى الرّحم ثمّ ينتقل إلى الدّنيا ثمّ ينتقل إلى القبر ثمّ ينتقل إلى الحشر ثمّ ينتقل إلى الجنّة أو النّار. وهو في كلّ رتبة بين هذين الظرفين مستقرّ بالإضافة إلى الّتي قبلها ومستودع بالإضافة إلى الّتي بعدها ا ه.

والأظهر أن لا يقيّد الاستيداع بالقبور بل هو استيداع من وقت الإنشاء ، لأنّ المقصود التّذكير بالحياة الثّانية ، ولأنّ الأظهر أنّ الواو ليست للتّقسيم بل الأحسن أن تكون للجمع ، أي أنشأكم فشأنكم استقرار واستيداع فأنتم في حال استقراركم في الأرض ودائع فيها ومرجعكم إلى خالقكم كما ترجع الوديعة إلى مودعها. وإيثار التّعبير بهذين المصدرين ما كان إلّا لإرادة توفير هذه الجملة.

وعلى قراءة ـ كسر القاف ـ هو اسم فاعل. (وَمُسْتَوْدَعٌ) اسم مفعول ، والمعنى هو هو.

وقوله : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) تقرير لنظيره المتقدّم مقصود به التّذكير والإعذار.

وعدل عن (يعلمون) إلى (يَفْقَهُونَ) لأنّ دلالة إنشائهم على هذه الأطوار من الاستقرار والاستيداع وما فيهما من الحكمة دلالة دقيقة تحتاج إلى تدبّر ، فإنّ المخاطبين كانوا معرضين عنها فعبّر عن علمها بأنّه فقه ، بخلاف دلالة النّجوم على حكمة الاهتداء بها فهي دلالة متكرّرة ، وتعريضا بأنّ المشركين لا يعلمون ولا يفقهون ، فإنّ العلم هو المعرفة الموافقة للحقيقة ، والفقه هو إدراك الأشياء الدّقيقة. فحصل تفصيل الآيات للمؤمنين وانتفى الانتفاع به للمشركين ، ولذلك قال بعد هذا (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: ٩٩].

[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٩]

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ

٢٣٨

وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩))

القول في صيغة القصر من قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) إلخ كالقول في نظيره السّابق.

و (من) في قوله : (مِنَ السَّماءِ) ابتدائية لأنّ ماء المطر يتكوّن في طبقات الجوّ العليا الزمهريرية عند تصاعد البخار الأرضي إليها فيصير البخار كثيفا وهو السّحاب ثمّ يستحيل ماء. فالسّماء اسم لأعلى طبقات الجوّ حيث تتكوّن الأمطار. وتقدّم في قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) في سورة البقرة. وعدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير التكلّم في قوله : (فَأَخْرَجْنا) على طريقة الالتفات. والباء للسّببيّة جعل الله الماء سببا لخروج النّبات ، والضّمير المجرور بالباء عائد إلى الماء.

والنّبات اسم لما ينبت ، وهو اسم مصدر نبت ، سمّي به النّابت على طريقة المجاز الّذي صار حقيقة شائعة فصار النّبات اسما مشتركا مع المصدر.

و (شَيْءٍ) مراد به صنف من النّبات بقرينة إضافة (نَباتَ) إليه. والمعنى : فأخرجنا بالماء ما ينبت من أصناف النّبت. فإنّ النبت جنس له أنواع كثيرة ؛ فمنه زرع وهو ما له ساق ليّنة كالقصب ؛ ومنه شجر وهو ما له ساق غليظة كالنّخل ، والعنب ؛ ومنه نجم وأب وهو ما ينبت لاصقا بالتّراب ، وهذا التّعميم يشير إلى أنّها مختلفة الصّفات والثّمرات والطبائع والخصوصيات والمذاق ، وهي كلّها نابتة من ماء السّماء الّذي هو واحد ، وذلك آية على عظم القدرة ، قال تعالى : تسقى (بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد : ٤] وهو تنبيه للنّاس ليعتبروا بدقائق ما أودعه الله فيها من مختلف القوى الّتي سبّبت اختلاف أحوالها.

والفاء في قوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) فاء التّفريع.

وقوله : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) تفصيل لمضمون جملة (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) ، فالفاء للتّفصيل ، و (من) ابتدائية أو تبعيضيّة ، والضّمير المجرور بها عائد إلى النّبات ، أي فكان من النبت خضر ونخل وجنّات وشجر ، وهذا تقسيم الجنس إلى أنواعه.

والخضر : الشّيء الّذي لونه أخضر ، يقال : أخضر وخضر كما يقال : أعور وعور ، ويطلق الخضر اسما للنّبت الرّطب الّذي ليس بشجر كالقصيل والقضب. وفي الحديث : «وإنّ ممّا ينبت الرّبيع لما يقتل حبطا أو يلمّ إلّا آكلة الخضر أكلت حتّى إذا امتدّت

٢٣٩

خاصرتاها» الحديث. وهذا هو المراد هنا لقوله في وصفه (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) ، فإنّ الحبّ يخرج من النّبت الرّطب.

وجملة : (نُخْرِجُ مِنْهُ) صفة لقوله (خَضِراً) لأنّه صار اسما ، و (من) اتّصاليّة أو ابتدائيّة ، والضّمير المجرور بها عائد إلى (خَضِراً).

والحبّ : هو ثمر النّبات ، كالبرّ والشّعير والزّراريع كلّها.

والمتراكب : الملتصق بعضه على بعض في السنبلة ، مثل القمح وغيره ، والتّفاعل للمبالغة في ركوب بعضه بعضا.

وجملة : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) عطف على (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً).

ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضيّة ، وقوله : (مِنَ النَّخْلِ) خبر مقدّم و (قِنْوانٌ) مبتدأ مؤخّر.

والمقصود بالإخبار هنا التّعجيب من خروج القنوان من الطلع وما فيه من بهجة ، وبهذا يظهر وجه تغيير أسلوب هذه الجملة عن أساليب ما قبلها وما بعدها إذ لم تعطف أجزاؤها عطف المفردات ، على أنّ موقع الجملة بين أخواتها يفيد ما أفادته أخواتها من العبرة والمنّة.

والتّعريف في (النَّخْلِ) تعريف العهد الجنسي ، وإنّما جيء بالتّعريف فيه للإشارة إلى أنّه الجنس المألوف المعهود للعرب ، فإنّ النّخل شجرهم وثمره قوتهم وحوائطه منبسط نفوسهم ، ولك أن تجعله حالا من (النَّخْلِ) اعتدادا بالتّعريف اللّفظي كقوله (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً) ، ويجوز أن يكون (مِنْ طَلْعِها) بدل بعض من (النَّخْلِ) بإعادة حرف الجرّ الدّاخل على المبدل منه.

و (قِنْوانٌ) ـ بكسر القاف ـ جمع قنو ـ بكسر القاف أيضا ـ على المشهور فيه عند العرب

غير لغة قيس وأهل الحجاز فإنّهم يضمّون القاف. فقنوان ـ بالكسر ـ جمع تكسير.

وهذه الصّيغة نادرة ، غير جمع فعل (بضمّ ففتح) وفعل (بضمّ فسكون) وفعل (بفتح فسكون) إذا كانا واويي العين وفعال.

والقنو : عرجون التّمر ، كالعنقود للعنب ، ويسمّى العذق ـ بكسر العين ـ ويسمّى الكباسة ـ بكسر الكاف ـ.

٢٤٠