تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

المشركون يحاولون ارتداد بعض قرابتهم أو من لهم به صلة. كما ورد في خبر سعيد بن زيد وما لقي من عمر بن الخطاب. وقد روي أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق دعا أباه إلى عبادة الأصنام ، وأنّ الآية نزلت في ذلك ، ومعنى ذلك أنّ الآية نزلت مشيرة إلى ذلك وغيره وإلّا فإنّ سورة الأنعام نزلت جملة واحدة. وحاول المشركون صرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدعوة إلى الإسلام وهم يرضونه بما أحبّ كما ورد في خبر أبي طالب.

والاستفهام إنكار وتأييس ، وجيء ـ بنون المتكلّم ومعه غيره ـ لأنّ الكلام من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه وعن المسلمين كلّهم. و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلّق ب (نَدْعُوا). والمراد بما لا ينفع ولا يضرّ الأصنام ، فإنّها حجارة مشاهد عدم نفعها وعجزها عن الضرّ ، ولو كانت تستطيع الضرّ لأضرّت بالمسلمين لأنّهم خلعوا عبادتها وسفّهوا أتباعها وأعلنوا حقارتها ، فلمّا جعلوا عدم النفع ولا الضرّ علّة لنفي عبادة الأصنام فقد كنّوا بذلك عن عبادتهم النافع الضارّ وهو الله سبحانه.

وقوله : (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) عطف على (نَدْعُوا) فهو داخل في حيّز الإنكار.

والردّ : الإرجاع إلى المكان الذي يؤتى منه ، كقوله تعالى : (رُدُّوها عَلَيَ) [ص : ٣٣].

والأعقاب جمع عقب وهي مؤخّر القدم. وعقب كلّ شيء طرفه وآخره ويقال : رجع على عقبه وعلى عقبيه ونكص على عقبيه بمعنى رجع إلى المكان الذي جاء منه لأنّه كان جاعلا إيّاه وراءه فرجع.

وحرف (على) فيه للاستعلاء ، أي رجع على طريق جهة عقبه ، كما يقال : رجع وراءه ، ثم استعمل تمثيلا شائعا في التّلبّس بحالة ذميمة كان فارقها صاحبها ثم عاد إليها وتلبّس بها ، وذلك أنّ الخارج إلى سفر أو حاجة فإنّما يمشي إلى غرض يريده فهو يمشي القدمية فإذا رجع قبل الوصول إلى غرضه فقد أضاع مشيه ؛ فيمثّل حاله بحال من رجع على عقبيه. وفي الحديث : «اللهمّ امض لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم». فكذلك في الآية هو تمثيل لحال المرتدّ إلى الشرك بعد أن أسلم بحال من خرج في مهمّ فرجع على عقبيه ولم يقض ما خرج له. وهذا أبلغ في تمثيل سوء الحالة من أن يقال : ونرجع إلى الكفر بعد الإيمان.

وقد أضيف (بعد) إلى (إِذْ هَدانَا) وكلاهما اسم زمان ، فإنّ (بعد) يدلّ على الزمان المتأخّر عن شيء كقوله : (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) [النور : ٥٨] و (إذا) يدلّ على زمان معرّف بشيء ، ف (إذا) اسم زمن متصرّف مراد به الزمان وليس مفعولا فيه. والمعنى بعد الزمن

١٦١

الذي هدانا الله فيه ، ونظيره (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) في سورة آل عمران[٨].

(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا).

ارتقى في تمثيل حالهم لو فرض رجوعهم على أعقابهم بتمثيل آخر أدقّ ، بقوله : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) ، وهو تمثيل بهيئة متخيّلة مبنيّة على اعتقاد المخاطبين في أحوال الممسوسين. فالكاف في موضع الحال من الضمير في (نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) ، أي حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين فهذه الحال مؤكّدة لما في (نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) من معنى التمثيل بالمرتدّ على أعقابه.

والاستهواء استفعال ، أي طلب هوى المرء ومحبّته ، أي استجلاب هوى المرء إلى شيء يحاوله المستجلب. وقرّبه أبو علي الفارسي بمعنى همزة التعدية. فقال : استهواه بمعنى أهواه مثل استزلّ بمعنى أزلّ. ووقع في «الكشّاف» أنّه استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها ، ولا يعرف هذا المعنى من كلام أئمّة اللغة ولم يذكره هو في «الأساس» مع كونه ذكر (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) ولم ينبّه على هذا من جاء بعده.

والعرب يقولون : استهوته الشياطين ، إذا اختطفت الجنّ عقله فسيّرته كما تريد. وذلك قريب من قولهم : سحرته ، وهم يعتقدون أنّ الغيلان هي سحرة الجن ، وتسمّى السعالي أيضا ، واحدتها سعلاة ، ويقولون أيضا : استهامته الجنّ إذا طلبت هيامه بطاعتها.

وقوله : (فِي الْأَرْضِ) متعلّق ب (اسْتَهْوَتْهُ) ، لأنّه يتضمّن معنى ذهبت به وضلّ في الأرض. وذلك لأنّ الحالة التي تتوهّمها العرب استهواء الجنّ يصاحبها التوحّش وذهاب المجنون على وجهه في الأرض راكبا رأسه لا ينتصح لأحد ، كما وقع لكثير من مجانينهم ومن يزعمون أنّ الجنّ اختطفتهم. ومن أشهرهم عمرو بن عدي الأيادي اللخمي ابن أخت جذيمة بن مالك ملك الحيرة. وجوّز بعضهم أن يكون (فِي الْأَرْضِ) متعلّقا ب (حَيْرانَ) ، وهو بعيد لعدم وجود مقتض لتقديم المعمول.

و (حَيْرانَ) حال من (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ) ، وهو وصف من الحيرة ، وهي عدم الاهتداء إلى السبيل. يقال : حار يحار إذ تاه في الأرض فلم يعلم الطريق. وتطلق مجازا على التردّد في الأمر بحيث لا يعلم مخرجه ، وانتصب (حَيْرانَ) على الحال من (كَالَّذِي).

وجملة : (لَهُ أَصْحابٌ) حال ثانية ، أي له رفقة معه حين أصابه استهواء الجنّ. فجملة (يَدْعُونَهُ) صفة ل (أَصْحابٌ).

١٦٢

والدعاء : القول الدالّ على طلب عمل من المخاطب. والهدى : ضدّ الضلال. أي يدعونه إلى ما فيه هداه. وإيثار لفظ (الْهُدَى) هنا لما فيه من المناسبة للحالة المشبّهة. ففي هذا اللفظ تجريد للتمثيلية كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) في سورة البقرة [١٧]. ولذلك كان لتعقيبه بقوله : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) وقع بديع. وجوّز في «الكشاف» أن يكون الهدى مستعارا للطريق المستقيم.

وجملة : (ائْتِنا) بيان ل (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) لأنّ الدعاء فيه معنى القول. فصحّ أن يبيّن بما يقولونه إذا دعوه ، ولكونها بيانا فصلت عن التي قبلها ، وإنّما احتاج إلى بيان الدعاء إلى الهدى لتمكين التمثيل من ذهن السامع ، لأنّ المجنون لا يخاطب بصريح المقصد فلا يدعى إلى الهدى بما يفهم منه أنّه ضالّ لأنّ من خلق المجانين العناد والمكابرة ، فلذلك يدعونه بما يفهم منه رغبتهم في صحبته ومحبتهم إيّاه ، فيقولون : ائتنا ، حتّى إذا تمكّنوا منه أوثقوه وعادوا به إلى بيته.

وقد شبّهت بهذا التمثيل العجيب حالة من فرض ارتداده إلى ضلالة الشرك بعد هدى الإسلام لدعوة المشركين إيّاه وتركه أصحابه المسلمين الذين يصدّونه عنه ، بحال الذي فسد عقله باستهواء من الشياطين والجنّ ، فتاه في الأرض بعد أن كان عاقلا عارفا بمسالكها ، وترك رفقته العقلاء يدعونه إلى موافقتهم ، وهذا التركيب البديع صالح للتفكيك بأن يشبّه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بها ، بأن يشبه الارتداد بعد الإيمان بذهاب عقل المجنون ، ويشبّه الكفر بالهيام في الأرض ، ويشبّه المشركون الذين دعوهم إلى الارتداد بالشياطين وتشبّه دعوة الله الناس للإيمان ونزول الملائكة بوحيه بالأصحاب الذين يدعون إلى الهدى. وعلى هذا التفسير يكون (كَالَّذِي) صادقا على غير معيّن ، فهو بمنزلة المعرّف بلام الجنس. وروي عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق حين كان كافرا وكان أبوه وأمّه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى ، وقد أسلم في صلح الحديبية وحسن إسلامه.

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))

١٦٣

جملة : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) مستأنفة استئناف تكرير لما أمر أن يقوله للمشركين حين يدعون المسلمين إلى الرجوع إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ، وقد روي أنّهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعبد آلهتنا زمنا ونعبد إلهك زمنا. وكانوا في خلال ذلك يزعمون أنّ دينهم هدى فلذلك خوطبوا بصيغة القصر. وهي (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) فجيء بتعريف الجزأين ، وضمير الفصل ، وحرف التوكيد ، فاجتمع في الجملة أربعة مؤكّدات ، لأنّ القصر بمنزلة مؤكّدين إذ ليس القصر إلّا تأكيدا على تأكيد ، وضمير الفصل تأكيد ، و (إنّ) تأكيد ، فكانت مقتضى حال المشركين المنكرين أنّ الإسلام هدى.

وتعريف المسند إليه بالإضافة للدلالة على الهدى الوارد من عند الله تعالى ، وهو الدين الموصى به ، وهو هنا الإسلام ، بقرينة قوله (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ). وقد وصف الإسلام بأنّه (هُدَى اللهِ) في قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) في سورة البقرة [١٢٠] ، أي القرآن هو الهدى لا كتبهم.

وتعريف المسند بلام الجنس للدلالة على قصر جنس الهدى على دين الإسلام ، كما هو الغالب في تعريف المسند بلام الجنس ، وهو قصر إضافي لأنّ السياق لردّ دعوة المشركين إيّاهم الرجوع إلى دينهم المتضمّنة اعتقادهم أنّه هدى ، فالقصر للقلب إذ ليسوا على شيء من الهدى ، فلا يكون قصر الهدى على هدى القرآن بمعنى الهدى الكامل ، بخلاف ما في سورة البقرة.

وجملة : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) عطف على المقول. وهذا مقابل قوله (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأنعام : ٥٦] ، وقوله (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) الآية.

واللام في (لِنُسْلِمَ) أصلها للتعليل وتنوسي منها معنى التعليل فصارت لمجرّد التأكيد. وهي اللام التي يكثر ورودها بعد مادّة الأمر ومادّة الإرادة. وسمّاها بعضهم لام أن ـ بفتح الهمزة وسكون النون ـ قال الزجّاج : العرب تقول : أمرتك بأن تفعل وأمرتك أن تفعل وأمرتك لتفعل. فالباء للإلصاق ، وإذا حذفوها فهي مقدّرة مع (أن). وأمّا أمرتك لتفعل ، فاللام للتعليل ، فقد أخبر بالعلّة التي لها وقع الأمر. يعني وأغنت العلّة عن ذكر المعلّل. وقيل : اللام بمعنى الباء ، وقيل : زائدة ، وعلى كلّ تقدير ف (أن) مضرة بعدها ، أي لأجل أن نسلم. والمعنى : وأمرنا بالإسلام ، أي أمرنا أن أسلموا. وتقدّم الكلام على هذه اللام عند قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) في سورة النساء [٢٦].

١٦٤

واللام في قوله : (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) متعلّقة ب (لِنُسْلِمَ) لأنّه معنى تخلّص له ، قال : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ). وقد تقدّم القول في معنى الإسلام عند قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) في سورة البقرة [١٣١]. وفي ذكر اسم الله تعالى بوصف الربوبية لجميع الخلق دون اسمه العلم إشارة إلى تعليل الأمر وأحقّيّته.

وقوله : (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) إن جعلت (أن) فيه مصدرية على قول سيبويه ، إذ يسوّغ دخول (أن) المصدرية على فعل الأمر فتفيد الأمر والمصدرية معا لأنّ صيغة الأمر لم يؤت بها عبثا ، فقول المعربين : إنّه يتجرّد عن الأمرية ، مرادهم به أنّه تجرّد عن معنى فعل الأمر إلى معنى المصدرية فهو من عطف المفردات. وهو إمّا عطف على (لِنُسْلِمَ) بتقدير حرف جرّ محذوف قبل (أن) وهو الباء. وتقدير الحرف المحذوف يدلّ عليه معنى الكلام ، وإمّا عطف على معنى (لِنُسْلِمَ) لأنّه وقع في موقع بأن نسلم ، كما تقدّم عن الزجّاج. فالتقدير : أمرنا بأن نسلم ، ثم عطف عليه (وَأَنْ أَقِيمُوا) أي وأمرنا بأن أقيموا ، والعطف على معنى اللفظ وموقعه استعمال عربي ، كقوله تعالى : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون : ١٠] إذ المعنى إن تؤخّرني أصّدّق وأكن.

وإن جعلت (أن) فيه تفسيرية فهو من عطف الجمل. فيقدّر قوله : (أُمِرْنا لِنُسْلِمَ) بأمرنا أن أسلموا لنسلم (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، أي لنقيم فيكون في الكلام احتباك.

وأظهر من هذا أن تكون (أن) تفسيرية. وهي تفسير لما دلّت عليه واو العطف من تقدير العامل المعطوف عليه ، وهو (وَأُمِرْنا) ، فإنّ (أُمِرْنا) فيه معنى القول دون حروفه فناسب موقع (أن) التفسيرية.

وتقدّم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة [٣].

و (اتَّقُوهُ) عطف على (أَقِيمُوا) ويجري فيه ما قرّر في قوله (وَأَنْ أَقِيمُوا). والضمير المنصوب عائد إلى (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وهو من الكلام الذي أمروا بمقتضاه بأن قال الله للمؤمنين : أسلموا لربّ العالمين وأقيموا الصلاة واتّقوه. ويجوز أن يكون محكيا بالمعنى بأن قال الله : اتّقون ، فحكي بما يوافق كلام النبي المأمور بأن يقوله بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) ، كما في حكاية قول عيسى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : ١١٧].

وجمع قوله : (وَاتَّقُوهُ) جميع أمور الدين ، وتخصيص إقامة الصلاة بالذكر

١٦٥

للاهتمام.

وجملة : (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) إمّا عطف على جملة (اتَّقُوهُ) عطف الخبر على الإنشاء فتكون من جملة المقول المأمور به بقوله : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) ، أي وقل لهم وهو الذي إليه تحشرون ، أو عطف على (قُلْ) فيكون من غير المقول. وفي هذا إثبات للحشر على منكريه وتذكير به للمؤمنين به تحريضا على إقامة الصلاة والتقوى.

واشتملت جملة (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) على عدّة مؤكّدات وهي : صيغة الحصر بتعريف الجزأين ، وتقديم معمول (تُحْشَرُونَ) المفيد للتقوّي لأنّ المقصود تحقيق وقوع الحشر على من أنكره من المشركين وتحقيق الوعد والوعيد للمؤمنين ، والحصر هنا حقيقي إذ هم لم ينكروا كون الحشر إلى الله وإنّما أنكروا وقوع الحشر ، فسلك في إثباته طريق الكناية بقصره على الله تعالى المستلزم وقوعه وأنّه لا يكون إلّا إلى الله ، تعريضا بأنّ آلهتهم لا تغني عنهم شيئا.

وجملة : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) عطف على (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ، والقصر حقيقي إذ ليس ثم ردّ اعتقاد لأنّ المشركين يعترفون بأنّ الله هو الخالق للأشياء التي في السماء والأرض كما قدّمناه في أول السورة. فالمقصود الاستدلال بالقصر على أنّه هو المستحقّ للعبادة لأنّ الخلائق عبيده كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧].

والباء من قوله : (بِالْحَقِ) للملابسة ، والمجرور متعلّق ب (خَلَقَ) أو في موضع الحال من الضمير.

والحقّ في الأصل مصدر (حقّ) إذا ثبت ، ثم صار اسما للأمر الثابت الذي لا ينكر من إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل مثل فلان عدل. والحقّ ضدّ الباطل. فالباطل اسم لضدّ ما يسمّى به الحقّ فيطلق الحقّ إطلاقا شائعا على الفعل أو القول الذي هو عدل وإعطاء المستحقّ ما يستحقّه ، وهو حينئذ مرادف العدل ويقابله الباطل فيرادف الجور والظلم ، ويطلق الحق على الفعل أو القول السديد الصالح البالغ حدّ الإتقان والصواب ، ويرادف الحكمة والحقيقة ، ويقابله الباطل فيرادف العبث واللعب. والحقّ في هذه الآية بالمعنى الثاني ، كما في قوله تعالى : (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الدخان : ٣٩] بعد قوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [الدخان : ٣٨] وكقوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : ١٩١]. فالله تعالى أخرج

١٦٦

السماوات والأرض وما فيهنّ من العدم إلى الوجود لحكم عظيمة وأودع في جميع المخلوقات قوى وخصائص تصدر بسببها الآثار المخلوقة هي لها ورتّبها على نظم عجيبة تحفظ أنواعها وتبرز ما خلقت لأجله ، وأعظمها خلق الإنسان وخلق العقل فيه والعلم ، وفي هذا تمهيد لإثبات الجزاء إذ لو أهملت أعمال المكلّفين لكان ذلك نقصانا من الحقّ الذي خلقت السماوات والأرض ملابسة له ، فعقّب بقوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ).

وجملة : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) معطوفة على التي قبلها لمناسبة ملابسة الحقّ لأفعاله تعالى فبينت ملابسة الحقّ لأمره تعالى الدّال عليه (يَقُولُ). والمراد ب (يَوْمَ يَقُولُ كُنْ) يوم البعث ، لقوله بعده : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ).

وقد أشكل نظم قوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) ، وذهب فيه المفسّرون طرائق. والوجه أنّ قوله (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) ظرف وقع خبره مقدّما للاهتمام به ، والمبتدأ هو (قَوْلُهُ) ويكون (الْحَقُ) صفة للمبتدإ. وأصل التركيب : وقوله الحقّ يوم يقول : كن فيكون. ونكتة الاهتمام بتقديم الظرف الردّ على المشركين المنكرين وقوع هذا التكوين بعد العدم.

ووصف القول بأنّه الحقّ للردّ على المشركين أيضا. وهذا القول هو عين المقول لفعل (يَقُولُ كُنْ) ، وحذف المقول له (كُنْ) لظهوره من المقام ، أي يقول لغير الموجود الكائن : كن. وقوله : (فَيَكُونُ) اعتراض ، أي يقول لمّا أراد تكوينه (كن) فيوجد المقول له (كُنْ) عقب أمر التكوين.

والمعنى أنّه أنشأ خلق السماوات والأرض بالحقّ ، وأنّه يعيد الخلق الذي بدأه بقول حقّ ، فلا يخلو شيء من تكوينه الأول ولا من تكوينه الثاني عن الحقّ. ويتضمّن أنّه قول مستقبل ، وهو الخلق الثاني المقابل للخلق الأول ، ولذلك أتي بكلمة (يَوْمَ) للإشارة إلى أنّه تكوين خاصّ مقدّر له يوم معيّن.

وفي قوله : (قَوْلُهُ الْحَقُ) صيغة قصر للمبالغة ، أي هو الحقّ الكامل لأنّ أقوال غيره وإن كان فيها كثير من الحقّ فهي معرّضة للخطإ وما كان فيها غير معرض للخطإ فهو من وحي الله أو من نعمته بالعقل والإصابة ، فذلك اعتداد بأنّه راجع إلى فضل الله. ونظير هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه : «قولك الحقّ ووعدك الحقّ».

١٦٧

والمراد بالقول كلّ ما يدلّ على مراد الله تعالى وقضائه في يوم الحشر ، وهو يوم يقول كن ، من أمر تكوين ، أو أمر ثواب ، أو عقاب ، أو خبر بما اكتسبه الناس من صالح الأعمال وأضدادها ، فكلّ ذلك من قول الله في ذلك اليوم وهو حقّ. وخصّ من بين الأقوال أمر التكوين لما اقتضاه التقديم من تخصيصه بالذكر كما علمت.

وللمفسّرين في إعراب هذه الآية وإقامة المعنى من ذلك مسالك أخرى غير جارية على السبل الواضحة.

وقوله (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) جملة مستقلّة وانتظامها كانتظام جملة (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) إلّا أنّ في تقديم المسند إليه على المسند قصر المسند إليه على المسند ، أي الملك مقصور على الكون له لا لغيره لردّ ما عسى أن يطمع فيه المشركون من مشاركة أصنامهم يومئذ في التصرّف والقضاء. والمقصود من هذا الظرف تهويل ذلك اليوم.

والنفخ في الصور مثل ضرب للأمر التكويني بحياة الأموات الذي يعمّ سائر الأموات ، فيحيون به ويحضرون للحشر كما يحضر الجيش بنفخ الأبواق ودقّ الطبول.

والصّور : البوق. وورد في الحديث : «أن الملك الموكّل بنفخ الصور هو إسرافيل ، ولا يعلم كنه هذا النفخ إلّا الله تعالى». ويوم النّفخ في الصّور هو يوم يقول : كن فيكون ، ولكنّه عبّر عنه هنا ب (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) لإفادة هذا الحال العجيب ، ولأنّ اليوم لمّا جعل ظرفا للقول عرّف بالإضافة إلى جملة (يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ). ولمّا جعل اليوم ظرفا للملك ناسب أن يعرّف اليوم بما هو من شعار الملك والجند.

وقد انتصب (يَوْمَ يُنْفَخُ) على الظرفية ، والعامل فيه للاستقرار الذي في قوله (وَلَهُ الْمُلْكُ). ويجوز أن يجعل بدلا من (يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ). ويجعل (وَلَهُ الْمُلْكُ) عطفا على (قَوْلُهُ الْحَقُ) على أنّ الجميع جملة واحدة.

وعن ابن عبّاس : الصور هنا جمع صورة ، أي ينفخ في صور الموجودات.

ولما انتهى المقصود من الإخبار عن شئون من شأن الله تعالى أتبع بصفات تشير إلى المحاسبة على كلّ جليل ودقيق ظاهر وباطن بقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ). وجاء أسلوب الكلام على طريقة حذف المخبر عنه في مقام تقدّم صفاته. فحذف المسند إليه في مثله تبع لطريقة الاستعمال في تعقيب الأخبار بخبر أعظم منها يجعل فيه المخبر عنه مسندا

١٦٨

إليه ويلتزم حذفه. وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) في سورة آل عمران [٩٧] ، فلذلك قال هنا (عالِمُ الْغَيْبِ) فحذف المسند إليه ثم لم يحذف المسند إليه في قوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

والغيب : ما هو غائب. وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) في سورة البقرة [٣] ، وعند قوله (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) في هذه السورة [٥٩].

والشهادة : ضدّ الغيب ، وهي الأمور التي يشاهدها الناس ويتوصّلون إلى علمها يقال : شهد ، بمعنى حضر ، وضدّه غاب ، ولا تخرج الموجودات عن الاتّصاف بهذين الوصفين ، فكأنّه قيل : العالم بأحوال جميع الموجودات. والتعريف في (الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) للاستغراق ، أي عالم كلّ غيب وكلّ شهادة.

وقوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) عطف على قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ). وصفة (الْحَكِيمُ) تجمع إتقان الصنع فتدلّ على عظم القدرة مع تعلّق العلم بالمصنوعات. وصفة (الْخَبِيرُ) تجمع العلم بالمعلومات ظاهرها وخفيّها. فكانت الصفتان كالفذلكة لقوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ولقوله (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤))

عطف على الجمل السابقة التي أولاها (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) [الأنعام : ٦٦] المشتملة على الحجج والمجادلة في شأن إثبات التوحيد وإبطال الشرك ، فعقّبت تلك الحجج بشاهد من أحوال الأنبياء بذكر مجادلة أول رسول أعلن التوحيد وناظر في إبطال الشرك بالحجّة الدامغة والمناظرة الساطعة ، ولأنّها أعدل حجّة في تاريخ الدين إذ كانت مجادلة رسول لأبيه ولقومه ، وكانت أكبر حجّة على المشركين من العرب بأنّ أباهم لم يكن مشركا ولا مقرّا للشرك في قومه ، وأعظم حجّة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ جاءهم بالإقلاع عن الشرك.

والكلام في افتتاح القصّة ب (إِذْ) بتقدير اذكر تقدّم عند قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) في سورة البقرة [٣٠].

و (آزَرَ) ظاهر الآية أنّه أبو إبراهيم. ولا شكّ أنّه عرف عند العرب أنّ أبا إبراهيم

١٦٩

اسمه آزر فإنّ العرب كانوا معتنين بذكر إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ونسبه وأبنائه. وليس من عادة القرآن التعرّض لذكر أسماء غير الأنبياء فما ذكر اسمه في هذه الآية إلّا لقصد سنذكره. ولم يذكر هذا الاسم في غير هذه الآية. والذي في كتب الإسرائيليّين أنّ اسم أبي إبراهيم (تارح) ـ بمثناة فوقية فألف فراء مفتوحة فحاء مهملة ـ. قال الزجاج : لا خلاف بين النسّابين في أنّ اسم أبي إبراهيم تارح. وتبعه محمد بن الحسن الجويني الشافعي في «تفسير النكت». وفي كلامهما نظر لأنّ الاختلاف المنفي إنّما هو في أنّ آزر اسم لأبي إبراهيم ولا يقتضي ذلك أنه ليس له اسم آخر بين قومه أو غيرهم أو في لغة أخرى غير لغة قومه. ومثل ذلك كثير. وقد قيل : إنّ (آزر) وصف. قال الفخر : قيل معناه الهرم بلغة خوارزم ، وهي الفارسية الأصلية. وقال ابن عطية عن الضحّاك : (آزر) الشيخ. وعن الضحّاك : أنّ اسم أبي إبراهيم بلغة الفرس (آزر). وقال ابن إسحاق ومقاتل والكلبي والضحّاك : اسم أبي إبراهيم تارح وآزر لقب له مثل يعقوب الملقب إسرائيل ، وقال مجاهد : (آزر) اسم الصنم الذي كان يعبده أبو إبراهيم فلقّب به. وأظهر منه أن يقال : أنّه الصنم الذي كان أبو إبراهيم سادن بيته.

وعن سليمان التيمي والفرّاء : (آزر) كلمة سبّ في لغتهم بمعنى المعوجّ ، أي عن طريق الخير. وهذا وهم لأنّه يقتضي وقوع لفظ غير عربي ليس بعلم ولا بمعرّب في القرآن. فإنّ المعرّب شرطه أن يكون لفظا غير علم نقله العرب إلى لغتهم. وفي «تفسير الفخر» : أنّ من الوجوه أن يكون (آزر) عمّ إبراهيم وأطلق عليه اسم الأب لأنّ العمّ قد يقال له : أب. ونسب هذا إلى محمد بن كعب القرظي. وهذا بعيد لا ينبغي المصير إليه فقد تكرّر في القرآن ذكر هذه المجادلة مع أبيه ، فيبعد أن يكون المراد أنّه عمّه في تلك الآيات كلّها.

قال الفخر : وقالت الشيعة : لا يكون أحد من آباء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجداده كافرا. وأنكروا أنّ (آزر) أب لإبراهيم وإنّما كان عمّه. وأمّا أصحابنا فلم يلتزموا ذلك. قلت : هو كما قال الفخر من عدم التزام هذا وقد بيّنت في «رسالة» لي في طهارة نسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ الكفر لا ينافي خلوص النسب النبوي خلوصا جبليّا لأنّ الخلوص المبحوث عنه هو الخلوص ممّا يتعيّر به في العادة.

والذي يظهر لي أنّه : أنّ (تارح) لقّب في بلد غربة بلقب (آزر) باسم البلد الذي جاء منه ، ففي «معجم ياقوت» ـ آزر ـ بفتح الزاي وبالراء ـ ناحية بين سوق الأهواز ورامهرمز.

١٧٠

وفي الفصل الحادي عشر من سفر التكوين من التوراة أنّ بلد تارح أبي إبراهيم هو (أور الكلدانيين). وفي «معجم ياقوت» (أور) ـ بضم الهمزة وسكون الواو ـ من أصقاع رامهرمز من خوزستان». ولعلّه هو أور الكلدانيين أو جزء منه أضيف إلى سكّانه. وفي سفر التكوين أنّ (تارح) خرج هو وابنه إبراهيم من بلده أور الكلدانيين قاصدين أرض كنعان وأنهما مرّا في طريقهما ببلد (حاران) وأقاما هناك ومات تارح في حاران. فلعلّ أهل حاران دعوه آزر لأنّه جاء من صقع آزر. وفي الفصل الثاني عشر من سفر التكوين ما يدلّ على أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ نبّئ في حاران في حياة أبيه.

ولم يرد في التوراة ذكر للمحاورة بين إبراهيم وأبيه ولا بينه وبين قومه.

ولذا فالأظهر أن يكون (آزَرَ) في الآية منادى وأنّه مبني على الفتح. ويؤيد ذلك قراءة يعقوب (آزَرَ) مضموما. ويؤيّده أيضا ما روي : أنّ ابن عباس قرأه أإزر ـ بهمزتين أولاهما مفتوحة والثانية مكسورة ـ ، وروي : عنه أنّه قرأه ـ بفتح الهمزتين ـ وبهذا يكون ذكر اسمه حكاية لخطاب إبراهيم إيّاه خطاب غلظة ، فذلك مقتضى ذكر اسمه العلم.

وقرأ الجمهور (آزَرَ) ـ بفتح الراء ـ وقرأه يعقوب ـ بضمّها ـ. واقتصر المفسّرون على جعله في قراءة ـ فتح الراء ـ بيانا من (لِأَبِيهِ) ، وقد علمت أنّه لا مقتضي له.

والاستفهام في (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) استفهام إنكار وتوبيخ.

والظاهر أنّ المحكي في هذه الآية موقف من مواقف إبراهيم مع أبيه ، وهو موقف غلظة ، فيتعيّن أنّه كان عند ما أظهر أبوه تصلّبا في الشّرك. وهو ما كان بعد أن قال له أبوه (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم : ٤٦] وهو غير الموقف الذي خاطبه فيه بقوله : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) الآيات في سورة مريم [٤٢].

و (تَتَّخِذُ) مضارع اتّخذ ، وهو افتعال من الأخذ ، فصيغة الافتعال فيه دالّة على التكلّف للمبالغة في تحصيل الفعل. قال أهل اللغة : قلبت الهمزة الأصلية تاء لقصد الإدغام تخفيفا وليّنوا الهمزة ثم اعتبروا التاء كالأصلية فربما قالوا : تخذ بمعنى اتّخذ ، وقد قرئ بالوجهين قوله تعالى : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف : ٧٧] و (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) فأصل فعل اتّخذ أن يتعدّى إلى مفعول واحد وكان أصل المفعول الثاني حالا ، وقد وعدنا عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) في سورة البقرة [٦٧] بأن نبيّن استعمال (اتّخذ) وتعديته في هذه السورة. ومعنى تتّخذ هنا تصطفي وتختار ؛ فالمراد أتعبد أصناما.

١٧١

وفي فعل (تَتَّخِذُ) إشعار بأنّ ذلك شيء مصطنع مفتعل وأنّ الأصنام ليست أهلا للإلهية. وفي ذلك تعريض بسخافة عقله أن يجعل إلهه شيئا هو صنعه.

والأصنام جمع صنم ، والصنم الصورة التي تمثّل شكل إنسان أو حيوان ، والظاهر أنّ اعتبار كونه معبودا داخل في مفهوم اسم صنم كما تظافرت عليه كلمات أهل اللغة فلا يطلق على كلّ صورة ، وفي «شفاء الغليل» : أنّ صنم معرّب عن (شمن) ، وهو الوثن ، أي مع قلب في بعض حروفه ، ولم يذكر اللغة المعرّب منها ، وعلى اعتبار كون العبادة داخلة في مفهوم الاسم يكون قوله (أَصْناماً) مفعول (تَتَّخِذُ) على أن تتّخذ متعدّ إلى مفعول واحد على أصل استعماله ومحلّ الإنكار هو المفعول ، أي (أَصْناماً) ، ويكون قوله (آلِهَةً) حالا من (أَصْناماً) مؤكّدة لمعنى صاحب الحال ، أو بدلا من (أَصْناماً). وهذا الذي يناسب تنكير (أَصْناماً) لأنّه لو كان مفعولا أوّل ل (تَتَّخِذُ) لكان معرّفا لأنّ أصله المبتدأ. وعلى احتمال أنّ الصنم اسم للصورة سواء عبدت أم لم تعبد يكون قوله (آلِهَةً) مفعولا ثانيا ل (تَتَّخِذُ) على أنّ (تَتَّخِذُ) مضمّن معنى تجعل وتصيّر ، أي أتجعل صورا آلهة لك كقوله (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٩٥].

وقد تضمّن ما حكي من كلام إبراهيم لأبيه أنّه أنكر عليه شيئين : أحدهما جعله الصور آلهة مع أنّها ظاهرة الانحطاط عن صفة الإلهية ، وثانيهما تعدّد الآلهة ولذلك جعل مفعولا (تَتَّخِذُ) جمعين ، ولم يقل : أتتّخذ الصنم إلها.

وجملة : (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ) مبيّنة للإنكار في جملة : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً). وأكّد الإخبار بحرف التأكيد لما يتضمّنه ذلك الإخبار من كون ضلالهم بيّنا ، وذلك ممّا ينكره المخاطب ؛ ولأنّ المخاطب لمّا لم يكن قد سمع الإنكار عليه في اعتقاده قبل ذلك يحسب نفسه على هدى ولا يحسب أنّ أحدا ينكر عليه ما هو فيه ، ويظن أنّ إنكار ابنه عليه لا يبلغ به إلى حدّ أن يراه وقومه في ضلال مبين. فقد يتأوّله بأنّه رام منه ما هو أولى.

والرؤية يجوز أن تكون بصرية قصد منها في كلام إبراهيم أنّ ضلال أبيه وقومه صار كالشيء المشاهد لوضوحه في أحوال تقرّباتهم للأصنام من الحجارة فهي حالة مشاهد ما فيها من الضلال. وعليه فقوله : (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في موضع الحال. ويجوز كون الرؤية علمية ، وقوله : (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في موضع المفعول الثاني.

وفائدة عطف (وَقَوْمَكَ) على ضمير المخاطب مع العلم بأنّ رؤيته أباه في ضلال

١٧٢

يقتضي أن يرى مماثليه في ضلال أيضا لأنّ المقام مقام صراحة لا يكتفي فيه بدلالة الالتزام ولينبئه من أول وهلة على أنّ موافقة جمع عظيم أباه على ضلاله لا تعضد دينه ولا تشكّك من ينكر عليه ما هو فيه. و (مُبِينٍ) اسم فاعل من أبان بمعنى بان ، أي ظاهر. ووصف الضلال ب (مُبِينٍ) نداء على قوة فساد عقولهم حيث لم يتفطّنوا لضلالهم مع أنّه كالمشاهد المرئي.

ومباشرته إيّاه بهذا القول الغليظ كانت في بعض مجادلاته لأبيه بعد أن تقدّم له بالدعوة بالرفق ، كما حكى الله عنه في موضع آخر (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا ـ إلى قوله ـ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٢ ـ ٤٧]. فلما رأى تصميمه على الكفر سلك معه الغلظة استقصاء لأساليب الموعظة لعلّ بعضها أن يكون أنجع في نفس أبيه من بعض فإنّ للنفوس مسالك ولمجال أنظارها ميادين متفاوتة ، ولذلك قال الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، وقال له في موضع آخر (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣]. فحكى الله تعالى عن إبراهيم في هذه الآية بعض مواقفه مع أبيه وليس في ذلك ما تنافي البرور به لأنّ المجاهرة بالحقّ دون سبّ ولا اعتداء لا ينافي البرور. ولم يزل العلماء يخطّئون أساتذتهم وأئمّتهم وآباءهم في المسائل العلمية بدون تنقيص. وقد قال أرسطاليس في اعتراض على أفلاطون : أفلاطون صديق والحقّ صديق لكن الحقّ أصدق. على أنّ مراتب برّ الوالدين متفاوتة في الشرائع. وقد قال أبناء يعقوب (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) [يوسف : ٩٥].

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥))

عطف على جملة : (قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) [الأنعام : ٧٤]. فالمعنى وإذ نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إراءة لا إراءة أوضح منها في جنسها والإشارة بقوله : (وَكَذلِكَ) إلى الإراء المأخوذ من قوله (نُرِي إِبْراهِيمَ) أي مثل ذلك الإراء العجيب نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض. وهذا على طريقة قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣]. وقد تقدّم بيانه في سورة البقرة ، فاسم الإشارة في مثل هذا الاستعمال يلازم الإفراد والتذكير لأنّه جرى مجرى المثل.

١٧٣

وقوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى حجّة مستنبطة من دلالة أحوال الموجودات على وجود صانعها.

والرؤية هنا مستعملة للانكشاف والمعرفة ، فالإراءة بمعنى الكشف والتعريف ، فتشمل المبصرات والمعقولات المستدلّ بجميعها على الحق وهي إراءة إلهام وتوفيق ، كما في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٨٥] ، فإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ابتدئ في أوّل أمره بالإلهام إلى الحقّ كما ابتدئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرؤية الصادقة. ويجوز أن يكون المراد بالإراءة العلم بطريق الوحي. وقد حصلت هذه الإراءة في الماضي فحكاها القرآن بصيغة المضارع لاستحضار تلك الإراءة العجيبة كما في قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [فاطر : ٩].

والملكوت اتّفق أئمّة اللغة على أنّه مصدر كالرغبوت والرّحموت والرّهبوت والجبروت. وقالوا : إنّ الواو والتاء فيه للمبالغة. وظاهره أنّ معناه الملك ـ بكسر الميم ـ لأنّ مصدر ملك الملك ـ بكسر الميم ـ ولمّا كان فيه زيادة تفيد المبالغة كان معناه الملك القوي الشديد. ولذلك فسّره الزمخشري بالربوبية والإلهية. وفي «اللسان» : ملك الله وملكوته سلطانه ولفلان ملكوت العراق ، أي سلطانه وملكه. وهذا يقتضي أنّه مرادف للملك ـ بضمّ الميم ـ وفي طبعة «اللسان» في بولاق رقمت على ميم ملكه ضمّة.

وفي «الإتقان» عن عكرمة وابن عبّاس : أنّ الملكوت كلمة نبطيّة. فيظهر أنّ صيغة (فعلوت) في جميع الموارد التي وردت فيها أنّها من الصيغ الدخيلة في اللغة العربية ، وأنّها في النبطيّة دالّة على المبالغة ، فنقلها العرب إلى لغتهم لما فيها من خصوصية القوّة. ويستخلص من هذا أنّ الملكوت يطلق مصدرا للمبالغة في الملك ، وأنّ الملك (بالضمّ) لما كان ملكا (بالكسر) عظيما يطلق عليه أيضا الملكوت. فأمّا في هذه الآية فهو مجاز على كلا الإطلاقين لأنّه من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول ، وهو المملوك ، كالخلق على المخلوق ، إمّا من الملك ـ بكسر الميم ـ أو من الملك ـ بضمّها ـ.

وإضافة ملكوت السماوات والأرض على معنى (في). والمعنى ما يشمله الملك أو الملك ، والمراد ملك الله. والمعنى نكشف لإبراهيم دلائل مخلوقاتنا أو عظمة سلطاننا كشفا يطلعه على حقائقها ومعرفة أن لا خالق ولا متصرّف فيما كشفنا له سوانا.

وعطف قوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) على قوله : (وَكَذلِكَ) لأنّ (وَكَذلِكَ) أفاد كون المشبّه به تعليما فائقا. ففهم منه أنّ المشبّه به علّة لأمر مهمّ هو من جنس المشبّه به.

١٧٤

فالتقدير : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إراء تبصير وفهم ليعلم علما على وفق لذلك التفهيم ، وهو العلم الكامل وليكون من الموقنين. وقد تقدّم بيان هذا عند تفسير قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ)(١)(الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) في هذه السورة [٥٦].

والموقن هو العالم علما لا يقبل الشكّ ، وهو الإيقان. والمراد الإيقان في معرفة الله تعالى وصفاته. وقوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أبلغ من أن يقال : وليكون موقنا كما تقدّم عند قوله تعالى : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في هذه السورة [٥٦].

[٧٦ ـ ٧٩] (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩))

(فَلَمَّا جَنَ) تفريع على قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] بقرينة قوله : (رَأى كَوْكَباً) فإنّ الكوكب من ملكوت السماوات ، وقوله في المعطوف عليه (نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥]. فهذه الرؤية الخاصّة التي اهتدى بها إلى طريق عجيب فيه إبكات لقومه ملجئ إيّاهم للاعتراف بفساد معتقدهم ، هي فرع من تلك الإراءة التي عمّت ملكوت السماوات والأرض ، لأنّ العطف بالفاء يستدعي مزيد الاتّصال بين المعطوف والمعطوف عليه لما في معنى الفاء من التفريع والتسبّب ، ولذلك نعدّ جعل الزمخشري (فَلَمَّا جَنَ) عطفا على (قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ) [الأنعام : ٧٤] ، وجعله ما بينهما اعتراضا ، غير رشيق.

وقوله : (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي أظلم الليل إظلاما على إبراهيم ، أي كان إبراهيم محوطا بظلمة الليل ، وهو يقتضي أنّه كان تحت السّماء ولم يكن في بيت.

ويؤخذ من قوله بعده (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أنّه كان سائرا مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب ، وقد كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصوّرون لها

__________________

(١) في المطبوعة : (نصرف) ، وهو خطأ ، والمثبت هو الموافق للمصحف.

١٧٥

أصناما. وتلك ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم.

يقال : جنّة الليل ، أي أخفاه ، وجنان الليل ـ بفتح الجيم ـ ، وجنّه : ستره الأشياء المرئية بظلامه الشديد. يقال : جنّة الليل ، وهو الأصل. ويقال : جنّ عليه الليل ، وهذا يقصد به المبالغة في الستر بالظلمة حتّى صارت كأنّها غطاء ، ومع ذلك لم يسمع في كلامهم جنّ اللّيل قاصرا بمعنى أظلم.

وظاهر قوله : (رَأى كَوْكَباً) أنّه حصلت له رؤية الكواكب عرضا من غير قصد للتأمّل وإلّا فإنّ الأفق في الليل مملوء كواكب ، وأنّ الكواكب كان حين رآه واضحا في السماء مشرقا بنوره ، وذلك أنور ما يكون في وسط السماء. فالظاهر أنّه رأى كوكبا من بينها شديد الضوء. فعن زيد بن علي أنّ الكوكب هو الزهرة. وعن السدّي أنّه المشتري. ويجوز أن يكون نظر الكواكب فرأى كوكبا فيكون في الكلام إيجاز حذف مثل (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] ، أي فضرب فانفلق. وجملة (رَأى كَوْكَباً) جواب (فَلَمَّا). والكوكب : النجم.

وجملة : (قالَ هذا رَبِّي) مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن مضمون جملة (رَأى كَوْكَباً) وهو أن يسأل سائل : فما ذا كان عند ما رآه ، فيكون قوله : (قالَ هذا رَبِّي) جوابا لذلك.

واسم الإشارة هنا لقصد تمييز الكوكب من بين الكواكب ولكن إجراؤه على نظيريه في قوله حين رأى القمر وحين رأى الشمس (هذا رَبِّي) ـ (هذا رَبِّي) يعيّن أنّ يكون القصد الأصلي منه هو الكناية بالإشارة عن كون المشار إليه أمرا مطلوبا مبحوثا عنه فإذا عثر عليه أشير إليه ، وذلك كالإشارة في قوله تعالى : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) [الروم : ٥٦] ، وقوله : (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [يوسف : ٣٢] ولم يقل فهو الذي لمتنني. ولعلّ منه قوله : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) [يوسف : ٦٥] إذ لم يقتصروا على «بضاعتنا ردّت إلينا». وفي «صحيح البخاري» قال الأحنف بن قيس : «ذهبت لأنصر هذا الرجل» (يعني عليّ بن أبي طالب) ولم يتقدّم له ذكر ، لأنّ عليّا وشأنه هو الجاري في خواطر الناس أيام صفّين ، وسيأتي قوله تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) [الأنعام : ٨٩] يعني كفّار قريش ، وفي حديث سؤال القبر : «فيقال له ما علمك بهذا الرجل» (يعني الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وهذا من الأغراض الداعية للتعريف باسم الإشارة التي أهملها علماء البلاغة فيصحّ هنا أن يجعل مستعملا في معنييه الصريح والكناية.

١٧٦

وتعريف الجزأين مفيد للقصر لأنّه لم يقل : هذا ربّ. فدلّ على أنّ إبراهيم عليه‌السلام أراد استدراج قومه فابتدأ بإظهار أنّه لا يرى تعدّد الآلهة ليصل بهم إلى التوحد واستبقى واحدا من معبوداتهم ففرض استحقاقه الإلهية كيلا ينفروا من الإصغاء إلى استدلاله.

وظاهر قوله (قالَ) إنّه خاطب بذلك غيره ، لأنّ القول حقيقته الكلام ، وإنّما يساق الكلام إلى مخاطب. ولذلك كانت حقيقة القول هي ظاهر الآية من لفظها ومن ترتيب نظمها إذ رتّب قوله (فَلَمَّا جَنَ) على قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] وقوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام : ٧٥] ورتّب ذلك كلّه على قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) [الأنعام : ٧٤] الآية ، ولقوله تعالى : (قالَ هذا رَبِّي) وإنّما يقوله لمخاطب ، ولقوله عقب ذلك (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) ، ولأنّه اقتصر على إبطال كون الكواكب آلهة واستدلّ به على براءته ممّا يشركون مع أنّه لا يلزم من بطلان إلهية الكواكب بطلان إلهية أجرام أخرى لو لا أنّ ذلك هو مدّعى قومه ؛ فدلّ ذلك كلّه على أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قال ذلك على سبيل المجادلة لقومه وإرخاء العنان لهم ليصلوا إلى تلقّي الحجّة ولا ينفروا من أول وهلة فيكون قد جمع جمعا من قومه وأراد الاستدلال عليهم.

وقوله : (هذا رَبِّي) أي خالقي ومدبّري فهو مستحقّ عبادتي. قاله على سبيل الفرض جريا على معتقد قومه ليصل بهم إلى نقض اعتقادهم فأظهر أنّه موافق لهم ليهشّوا إلى ذلك ثم يكرّ عليهم بالإبطال إظهارا للإنصاف وطلب الحقّ. ولا يريبك في هذا أنّ صدور ما ظاهره كفر على لسانه ـ عليه‌السلام ـ لأنّه لمّا رأى أنّه ذلك طريق إلى إرشاد قومه وإنقاذهم من الكفر ، واجتهد فرآه أرجى للقبول عندهم ساغ له التصريح به لقصد الوصول إلى الحقّ وهو لا يعتقده ، ولا يزيد قوله هذا قومه كفرا ، كالذي يكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئنّ بالإيمان فإنّه إذا جاز ذلك لحفظ نفس واحدة وإنقاذها من الهلاك كان جوازه لإنقاذ فريق من النّاس من الهلاك في الدنيا والآخرة أولى. وقد يكون فعل ذلك بإذن من الله تعالى بالوحي.

وعلى هذا فالآية تقتضي أنّ قومه يعبدون الكواكب وأنّهم على دين الصابئة وقد كان ذلك الدين شائعا في بلدان الكلدان التي نشأ فيها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وأنّ الأصنام التي كانوا يعبدونها أرادوا بها أنّها صور للكواكب وتماثيل لها على حسب تخيّلاتهم

١٧٧

وأساطيرهم مثلما كان عليه اليونان القدماء ، ويحتمل أنّهم عبدوا الكواكب وعبدوا صورا أخرى على أنّها دون الكواكب كما كان اليونان يقسمون المعبودات إلى آلهة وأنصاف آلهة. على أنّ الصابئة يعتقدون أنّ للكواكب روحانيات تخدمها.

وأفل النجم أفولا : غاب ، والأفول خاصّ بغياب النيّرات السماوية ، يقال : أفل النجم وأفلت الشمس ، وهو المغيب الذي يكون بغروب الكوكب وراء الأفق بسبب الدورة اليومية للكرة الأرضية ، فلا يقال : أفلت الشمس أو أفل النجم إذا احتجب بسحاب.

وقوله : (لا أُحِبُ) الحبّ فيه بمعنى الرضى والإرادة ، أي لا أرضى بالآفل إلها ، أو لا أريد الآفل إلها. وقد علم أنّ متعلّق المحبّة هو إرادته إلها له بقوله : (هذا رَبِّي).

وإطلاق المحبّة على الإرادة شائع في الكلام ، كقوله تعالى : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) [التوبة : ١٠٨]. وقدّره في «الكشّاف» بحذف مضاف ، أي لا أحبّ عبادة الآفلين.

وجاء ب (الْآفِلِينَ) بصيغة جمع الذكور العقلاء المختصّ بالعقلاء بناء على اعتقاد قومه أنّ الكواكب عاقلة متصرّفة في الأكوان ، ولا يكون الموجود معبودا إلّا وهو عالم.

ووجه الاستدلال بالأقوال على عدم استحقاق الإلهية أنّ الأفول مغيب وابتعاد عن الناس ، وشأن الإله أن يكون دائم المراقبة لتدبير عباده فلمّا أفل النجم كان في حالة أفوله محجوبا عن الاطّلاع على النّاس ، وقد بنى هذا الاستدلال على ما هو شائع عند القوم من كون أفول النجم مغيبا عن هذا العالم ، يعني أنّ ما يغيب لا يستحقّ أن يتّخذ إلها لأنّه لا يغني عن عباده فيما يحتاجونه حين مغيبه. وليس الاستدلال منظورا فيه إلى التغيّر لأنّ قومه لم يكونوا يعلمون الملازمة بين التغيّر وانتفاء صفة الإلهية ، ولأنّ الأفول ليس بتغيّر في ذات الكوكب بل هو عرض للأبصار المشاهدة له ، أمّا الكوكب فهو باق في فلكه ونظامه يغيب ويعود إلى الظهور وقوم إبراهيم يعلمون ذلك فلا يكون ذلك مقنعا لهم.

ولأجل هذا احتجّ بحالة الأفول دون حالة البزوغ فإنّ البزوغ وإن كان طرأ بعد أفول لكن الأفول السابق غير مشاهد لهم فكان الأفول أخصر في الاحتجاج من أن يقول : إنّ هذا البازغ كان من قبل آفلا.

وقوله : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) إلخ عطف على جملة محذوفة دلّ عليها الكلام. والتقدير : فطلع القمر فلما رآه بازغا ، فحذفت الجملة للإيجاز وهو يقتضي أنّ القمر طلع بعد أفول الكوكب ، ولعلّه اختار لمحاجّة قومه الوقت الذي يغرب فيه الكوكب ويطلع القمر

١٧٨

بقرب ذلك ، وأنّه كان آخر اللّيل ليعقبهما طلوع الشمس. وأظهر اسم (الْقَمَرَ) لأنّه حذف معاد الضمير. والبازغ : الشارق في ابتداء شروقه ، والبزوغ ابتداء الشروق.

وقوله (هذا رَبِّي) أفاد بتعريف الجزأين أنّه أكثر ضوءا من الكوكب فإذا كان استحقاق الإلهية بسبب النّور فالذي هو أشدّ نورا أولى بها من الأضعف. واسم الإشارة مستعمل في معناه الكنائي خاصّة وهو كون المشار إليه مطلوبا مبحوثا عنه كما تقدّم آنفا.

وقوله : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) قصد به تنبيه قومه للنظر في معرفة الربّ الحقّ وأنّه واحد ، وأنّ الكوكب والقمر كليهما لا يستحقّان ذلك مع أنّه عرّض في كلامه بأنّ له ربّا يهديه وهم لا ينكرون عليه ذلك لأنّهم قائلون بعدّة أرباب. وفي هذا تهيئة لنفوس قومه لما عزم عليه من التصريح بأنّ له ربّا غير الكواكب. ثم عرّض بقومه أنّهم ضالّون وهيّأهم قبل المصارحة للعلم بأنّهم ضالّون ، لأنّ قوله : (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) يدخل على نفوسهم الشكّ في معتقدهم أن يكون ضلالا ، ولأجل هذا التعريض لم يقل : لأكوننّ ضالّا ، وقال (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ليشير إلى أنّ في النّاس قوما ضالّين ، يعني قومه.

وإنّما تريّث إلى أفول القمر فاستدلّ به على انتفاء إلهيته ولم ينفها عنه بمجرّد رؤيته بازغا مع أنّ أفوله محقّق بحسب المعتاد لأنّه أراد أن يقيم الاستدلال على أساس المشاهدة على ما هو المعروف في العقول لأنّ المشاهدة أقوى.

وقوله : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) أي في الصباح بعد أن أفل القمر ، وذلك في إحدى الليالي التي يغرب فيها القمر قبيل طلوع الشمس لأنّ الظاهر أنّ هذا الاستدلال كلّه وقع في مجلس واحد.

وقوله للشمس (هذا رَبِّي) باسم إشارة المذكّر مع أنّ الشمس تجري مجرى المؤنّث لأنّه اعتبرها ربّا ، فروعي في الإشارة معنى الخبر ، فكأنّه قال : هذا الجرم الذي تدعونه الشمس تبيّن أنّه هو ربّي. وجملة (هذا رَبِّي) جارية مجرى العلّة لجملة (هذا رَبِّي) المقتضية نقض ربوبية الكوكب والقمر وحصر الرّبوبيّة في الشمس ونفيها عن الكوكب والقمر ، ولذلك حذف المفضّل عليه لظهوره ، أي هو أكبر منهما ، يعني أن الأكبر الأكثر إضاءة أولى باستحقاق الإلهية.

وقوله : (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) ، إقناع لهم بأن لا يحاولوا موافقته

١٧٩

إيّاهم على ضلالهم لأنّه لما انتفى استحقاق الإلهية عن أعظم الكواكب التي عبدوها فقد انتفى عمّا دونها بالأحرى.

والبريء فعيل بمعنى فاعل من برىء ـ بكسر الرّاء لا غير ـ يبرأ ـ بفتح الرّاء لا غير ـ بمعنى تفصّى وتنزّه ونفى المخالطة بينه وبين المجرور ب (من). ومنه (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٣] ، (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) [الأحزاب : ٦٩] ، (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) [يوسف : ٥٣]. فمعنى قوله (بَرِيءٌ) هنا أنّه لا صلة بينه وبين ما يشركون. والصلة في هذا المقام هي العبادة إن كان ما يشركون مرادا به الأصنام ، أو هي التلبّس والاتّباع إن كان ما يشركون بمعنى الشرك.

والأظهر أنّ (ما) في قوله (مِمَّا تُشْرِكُونَ) موصولة وأنّ العائد محذوف لأجل الفاصلة ، أي ما تشركون به ، كما سيأتي في قوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) [الأنعام : ٨٠] لأنّ الغالب في فعل البراءة أن يتعلّق بالذوات ، ولئلّا يتكرّر مع قوله بعده (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). ويجوز أن تكون (ما) مصدرية ، أي من إشراككم ، أي لا أتقلّده.

وتسميته عبادتهم الأصنام إشراكا لأنّ قومه كانوا يعترفون بالله ويشركون معه في الإلهية غيره كما كان إشراك العرب وهو ظاهر أي القرآن حيث ورد فيها الاحتجاج عليهم بخالق السماوات والأرض ، وهو المناسب لضرب المثل لمشركي العرب بشأن إبراهيم وقومه ، ولقوله الآتي (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام : ٨٢].

وجملة (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) بمنزلة بدل الاشتمال من جملة (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) ، لأنّ البراءة من الإشراك تشتمل على توجيه الوجه إلى الله ، وهو إفراده بالعبادة. والوجه في قوله : (وَجْهِيَ). و (وَجَّهْتُ) مشتقّ من الجهة والوجهة ، أي صرفته إلى جهة ، أي جعلت كذا جهة له يقصدها. يقال : وجّهه فتوجّه إلى كذا إذا ذهب إليه. ويقال للمكان المقصود وجهة ـ بكسر الواو ـ ، وكأنّهم صاغوه على زنة الهيئة من الوجه لأنّ القاصد إلى مكان يقصده من نحو وجهه ، وفعلوه على زنة الفعلة ـ بكسر الفاء ـ لأنّ قاصد المكان بوجهه تحصل هيئة في وجهه وهي هيئة العزم وتحديق النظر. فمعنى (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) صرفته وأدرته. وهذا تمثيل : شبّهت حالة إعراضه عن الأصنام وقصده إلى إفراد الله تعالى بالعبادة بمن استقبل بوجهه شيئا وقصده وانصرف عن غيره.

وأتي بالموصول في قوله : (لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ليومئ إلى علّة توجّهه إلى عبادته ، لأنّ الكواكب من موجودات السماء ، والأصنام من موجودات الأرض فهي

١٨٠