تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

الدين وقد أضيفت هذه المحبة إلى أفلاطون ، فقيل محبة أفلاطونية : لأنّه بحث عنها وعلّلها فإننا نسمع بصفات مشاهير الرجال مثل الرسل وأهل الخير والذين نفعوا الناس ، والذين اتصفوا بمحامد الصفات كالعلم والكرم والعدل ، فنجد من أنفسنا ميلا إلى ذكرهم ثم يقوى ذلك الميل حتى يصير محبّة منا إياهم مع أننا ما عرفناهم ، ألا ترى أنّ مزاولة كتب الحديث والسيرة ممّا يقوّي محبة المزاول في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك صفات الخالق تعالى ، لما كانت كلها كمالات وإحسانا إلينا وإصلاحا لفاسدنا ، أكسبنا اعتقادها إجلالا لموصوفها ، ثم يذهب ذلك الإجلال يقوى إلى أن يصير محبّة وفي الحديث : «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبّه إلّا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» فكانت هذه الثلاثة من قبيل المحبّة ولذلك جعل عندها وجدان حلاوة الإيمان أي وجدانه جميلا عند معتقده.

فأصحاب الرأي الأول يرون تعليق المحبة بذات الله في هذه الآية ونحوها مجازا بتشبيه الرغبة في مرضاته بالمحبة ، وأصحاب الرأي الثاني يرونه حقيقة وهو الصحيح.

ومن آثار المحبّة تطلّب القرب من المحبوب والاتّصال به واجتناب فراقه. ومن آثارها محبة ما يسّره ويرضيه ، واجتناب ما يغضبه ، فتعليق لزوم اتّباع الرسول على محبة الله تعالى لأنّ الرسول دعا إلى ما يأمر الله به وإلى إفراد الوجهة إليه ، وذلك كمال المحبّة.

وأما إطلاق المحبة في قوله : (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) فهو مجاز لا محالة أريد به لازم المحبّة وهو الرضى وسوق المنفعة ونحو ذلك من تجليات لله يعلمها سبحانه. وهما المعبر عنهما بقوله : (يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فإنّ ذلك دليل المحبة وفي القرآن : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) [المائدة : ١٨].

وتعليق محبة الله إياهم على (فَاتَّبِعُونِي) المعلّق على قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) ينتظم منه قياس شرطي اقتراني. ويدل على الحب المزعوم إذا لم يكن معه اتّباع الرسول فهو حبّ كاذب ، لأنّ المحب لمن يحبّ مطيع ، ولأنّ ارتكاب ما يكرهه المحبوب إغاظة له وتلبس بعدوّه وقد قال أبو الطيب :

أأحبّه وأحبّ فيه ملامة

إنّ الملامة فيه من أعدائه

فعلم أنّ حب العدوّ لا يجامع الحب وقد قال العتابي :

٨١

تودّ عدوي ثم تزعم أنّني

صديقك ليس النوك عنك بعازب

وجملة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في قوة التذييل مثل جملة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٨٤] المتقدمة. ولم يذكر متعلّق للصفتين ليكون الناس ساعين في تحصيل أسباب المغفرة والرحمة.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))

عودة إلى الموعظة بطريق الإجمال البحت : فذلكة للكلام ، وحرصا على الإجابة ، فابتدأ الموعظة أولا بمقدمة وهي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [آل عمران : ١٠] ثم شرع في الموعظة بقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) [آل عمران : ١٢] الآية. وهو ترهيب ثم بذكر مقابله في الترغيب بقوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) [آل عمران : ١٥] الآية ثم بتأييد ما عليه المسلمون بقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] الآية وفي ذلك تفصيل كثير. ثم جاء بطريق المجادلة بقوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) [آل عمران : ٢٠] الآية ثم بترهيب بغير استدلال صريح ولكن بالإيماء إلى الدليل وذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ٢١] ثم بطريق التهديد والإنذار التعريضي بقوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) [آل عمران : ٢٦] الآيات. ثم أمر بالقطيعة في قوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) [آل عمران : ٢٨]. وختم بذكر عدم محبة الكافرين ردّا للعجز على الصدر المتقدم في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) [آل عمران : ١٠] الآية ليكون نفي المحبة عن جميع الكافرين ، نفيا عن هؤلاء الكافرين المعيّنين.

[٣٣ ، ٣٤] (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤))

انتقال من تمهيدات سبب السورة إلى واسطة بين التمهيد والمقصد ، كطريقة التخلّص ، فهذا تخلّص لمحاجّة وفد نجران وقد ذكرناه في أول السورة ، فابتدئ هنا بذكر آدم ونوح وهما أبوا البشر أو أحدهما وذكر إبراهيم وهو أبو المقصودين بالتفضيل وبالخطاب. فأما آدم فهو أبو البشر باتفاق الأمم كلها إلّا شذوذا من أصحاب النزعات الإلحادية الذين ظهروا في أوروبا واخترعوا نظرية تسلسل أنواع الحيوان بعضها من بعض وهي نظرية فائلة.

٨٢

وآدم اسم أبي البشر عند جميع أهل الأديان ، وهو علم عليه وضعه لنفسه بإلهام من الله تعالى كما وضع مبدأ اللغة ، ولا شك أنّ من أول ما يحتاج إليه هو وزوجه أن يعبّر أحدهما للآخر ، وظاهر القرآن أنّ الله أسماه بهذا الاسم من قبل خروجه من جنة عدن ولا يجوز أن يكون اسمه مشتقا من الأدمة ، وهي اللون المخصوص لأنّ تسمية ذلك اللون بالأدمة خاص بكلام العرب فلعلّ العرب وضعوا اسم ذلك اللون أخذا من وصف لون آدم أبي البشر.

وقد جاء في سفر التكوين من كتاب العهد عند اليهود ما يقتضى : أنّ آدم وجد على الأرض في وقت يوافق سنة ٣٩٤٢ اثنتين وأربعين وتسعمائة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى وأنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة فتكون وفاته في سنة ٣٠١٢ اثنتي عشرة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى هذا ما تقبّله المؤرّخون المتبعون لضبط السنين. والمظنون عند المحققين الناظرين في شواهد حضارة البشرية أنّ هذا الضبط لا يعتمد ، وأن وجود آدم متقادم في أزمنة مترامية البعد هي أكثر بكثير مما حدّده سفر التكوين.

وأمّا نوح فتقول التوراة : إنه ابن لامك وسمّي عند العرب لمك بن متوشالخ بن أخنوخ (وهو إدريس عند العرب) ابن يارد بتحتية في أوله بن مهلئيل بميم مفتوحة فهاء ساكنة فلام مفتوحة بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم. وعلى تقديرها وتقدير سني أعمارهم يكون قد ولد سنة ست وثمانين وثمانمائة وألفين قبل ميلاد عيسى وتوفي سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف قبل ميلاد عيسى والقول فيه كما تقدم في ضبط تاريخ وجود آدم.

وفي زمن نوح وقع الطوفان على جميع الأرض ونجاه الله وأولاده وأزواجهم في الفلك فيكون أبا ثانيا للبشر. ومن الناس من يدّعى أنّ الطوفان لم يعم الأرض وعلى هذا الرأي ذهب مؤرّخو الصين وزعموا أنّ الطوفان لم يشمل قطرهم فلا يكون نوح عندهم أبا ثانيا للبشر. وعلى رأي الجمهور فالبشر كلهم يرجعون إلى أبناء نوح الثلاثة سام ، حام ، ويافث ، وهو أول رسول بعثه الله إلى الناس حسب الحديث الصحيح ، وعمّر نوح تسعمائة وخمسين سنة على ما في التوراة فهو ظاهر قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) [العنكبوت : ١٤] وفي التوراة : أنّ الطوفان حدث وعمر نوح ستمائة سنة وأنّ نوحا صار بعد الطوفان فلّاحا وغرس الكرم واتّخذ الخمر. وذكر الألوسي صفته بدون سند فقال : كان نوح دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين ضخم

٨٣

السرّة طويل القامة جسيما طويل اللحية ، قيل : إنّ مدفنه بالعراق في نواحي الكوفة ، وقيل في ذيل جبل لبنان ، وقيل بمدينة الكرك ، وسيأتي ذكر الطوفان : في سورة الأعراف ، وفي سورة العنكبوت ، وذكر شريعته في سورة الشورى ، وفي سورة نوح.

والآل : الرهط ، وآل إبراهيم : أبناؤه وحفيده وأسباطه ، والمقصود تفضيل فريق منهم. وشمل آل إبراهيم الأنبياء من عقبه كموسى ، ومن قبله ومن بعده ، وكمحمد عليه الصلاة والسلام ، وإسماعيل ، وحنظلة بن صفوان ، وخالد بن سنان.

وأما آل عمران : فهم مريم ، وعيسى ، فمريم بنت عمران بن ماتان كذا سماه المفسرون ، وكان من أحبار اليهود ، وصالحيهم ، وأصله بالعبرانية عمرام بميم في آخره فهو أبو مريم ، قال المفسّرون : هو من نسل سليمان بن داود ، وهو خطأ ، والحق أنه من نسل هارون أخي موسى ، كما سيأتي قريبا. وفي كتب النصارى : أنّ اسمه يوهاقيم ، فلعله كان له اسمان ومثله كثير. وليس المراد هنا عمران والد موسى وهارون ؛ إذ المقصود هنا التمهيد لذكر مريم وابنها عيسى بدليل قوله : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ).

وتقدم الكلام على احتمال معنى الآل عند قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) في سورة البقرة [٤٩] ولكنّ الآل هنا متعين للحمل على رهط الرجل وقرابته.

ومعنى اصطفاء هؤلاء على العالمين اصطفاء المجموع على غيرهم ، أو اصطفاء كلّ فاضل منهم على أهل زمانه.

وقوله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) حال من آل إبراهيم وآل عمران. والذرية تقدم تفسيرها عند قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) في سورة البقرة [١٢٤] وقد أجمل البعض هنا : لأنّ المقصود بيان شدّة الاتصال بين هذه الذرية ، فمن للاتصال لا للتبعيض أي بين هذه الذرية اتّصال القرابة ، فكل بعض فيها هو متّصل بالبعض الآخر ، كما تقدم في قوله تعالى : (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) [آل عمران : ٢٨].

والغرض من ذكر هؤلاء تذكير اليهود والنصارى بشدّة انتساب أنبيائهم إلى النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما كان ينبغي أن يجعلوا موجب القرابة موجب عداوة وتفريق. ومن هنا ظهر موقع قوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع بأقوال بعضكم في بعض هذه الذرية : كقول اليهود في عيسى وأمه ، وتكذيبهم وتكذيب اليهود والنصارى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٣٥ ، ٣٦] (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي

٨٤

إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦))

تقدم القول في موقع إذ في أمثال هذا المقام عند تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠]. وموقعها هنا أظهر في أنها غير متعلقة بعامل ، فهي لمجرد الاهتمام بالخبر ولذا قال أبو عبيدة : إذ هنا زائدة ، ويجوز أن تتعلق باذكر محذوفا ، ولا يجوز تعلقها باصطفى : لأنّ هذا خاص بفضل آل عمران ، ولا علاقة له بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم.

وامرأة عمران هي حنّة بنت فاقوذا. قيل : مات زوجها وتركها حبلى فنذرت حبلها ذلك محرّرا أي مخلّصا لخدمة بيت المقدس ، وكانوا ينذرون ذلك إذا كان المولود ذكرا. وإطلاق المحرّر على هذا المعنى إطلاق تشريف لأنّه لما خلص لخدمة بيت المقدس فكأنّه حرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعالى. قيل : إنّها كانت تظنّه ذكرا فصدر منها النذر مطلقا عن وصف الذكورة وإنّما كانوا يقولون : إذا جاء ذكرا فهو محرّر. وأنّث الضمير في قوله : (فَلَمَّا وَضَعَتْها) وهو عائد إلى (ما فِي بَطْنِي) باعتبار كونه انكشف ما صدقه على أنثى.

وقولها : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) خبر مستعمل في إنشاء التحذير لظهور كون المخاطب عليما بكل شيء.

وتأكيد الخبر بإنّ مراعاة لأصل الخبرية ، تحقيقا لكون المولود أنثى ؛ إذ هو بوقوعه على خلاف المترقّب لها كان بحيث تشك في كونه أنثى وتخاطب نفسها بنفسها بطريق التأكيد ، فلذا أكّدته. ثم لما استعملت هذا الخبر في الإنشاء استعملته برمّته على طريقة المجاز المركّب المرسل ، ومعلوم أنّ المركب يكون مجازا بمجموعه لا بأجزائه ومفرداته. وهذا التركيب بما اشتمل عليه من الخصوصيات يحكي ما تضمنه كلامها في لغتها من المعاني : وهي الروعة والكراهية لولادتها أنثى ، ومحاولتها مغالطة نفسها في الإذعان لهذا الحكم ، ثم تحقيقها ذلك لنفسها وتطمينها بها ، ثم التنقل إلى التحسير على ذلك ، فلذلك أودع حكاية كلامها خصوصيات من العربية تعبر عن معان كثيرة قصدتها في مناجاتها بلغتها.

وأنّث الضمير في (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) باعتبار ما دلت عليه الحال اللازمة في قولها

٨٥

(أُنْثى) إذ بدون الحال لا يكون الكلام مفيدا فلذلك أنّث الضمير باعتبار تلك الحال.

وقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) جملة معترضة ، وقرأ الجمهور : وضعت ـ بسكون التاء ـ فيكون الضمير راجعا إلى امرأة عمران. وهو حينئذ من كلام الله تعالى وليس من كلامها المحكي ، والمقصود منه : أنّ الله أعلم منها بنفاسة ما وضعت ، وأنها خير من مطلق الذكر الذي سألته ، فالكلام إعلام لأهل القرآن بتغليطها ، وتعليم بأنّ من فوّض أمره إلى الله لا ينبغي أن يتعقّب تدبيره.

وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب : بضم التاء ، على أنها ضمير المتكلمة امرأة عمران فتكون الجملة من كلامها المحكي ، وعليه فاسم الجلالة التفات من الخطاب إلى الغيبة فيكون قرينة لفظية على أنّ الخبر مستعمل في التحسر.

وجملة (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) خبر مستعمل في التحسر لفوات ما قصدته في أن يكون المولود ذكرا ، فتحرره لخدمة بيت المقدس.

وتعريف الذكر تعريف الجنس لما هو مرتكز في نفوس الناس من الرغبة في مواليد الذكور ، أي ليس جنس الذكر مساويا لجنس الأنثى. وقيل : التعريف في (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) تعريف العهد للمعهود في نفسها. وجملة (وَلَيْسَ الذَّكَرُ) تكملة للاعتراض المبدوء بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) والمعنى : وليس الذكر الذي رغبت فيه بمساو للأنثى التي أعطيتها لو كانت تعلم علوّ شأن هاته الأنثى وجعلوا نفي المشابهة على بابه من نفي مشابهة المفضول للفاضل وإلى هذا مال صاحب «الكشاف» وتبعه صاحب «المفتاح» والأول أظهر.

ونفي المشابهة بين الذكر والأنثى يقصد به معنى التفصيل في مثل هذا المقام وذلك في قول العرب : ليس سواء كذا وكذا ، وليس كذا مثل كذا ، ولا هو مثل كذا ، كقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ـ وقوله ـ يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب : ٣٢] وقول السموأل :

فليس سواء عالم وجهول

وقولهم : «مرعى ولا كالسعدان ، وماء ولا كصدّى».

ولذلك لا يتوخون أن يكون المشبه في مثله أضعف من المشبه به ؛ إذ لم يبق للتشبيه أثر ، ولذلك قيل هنا : وليس الذكر كالأنثى ، ولو قيل : وليست الأنثى كالذكر لفهم

٨٦

المقصود. ولكن قدّم الذكر هنا لأنه هو المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم. وقد يجيء النفي على معنى كون المشبه المنفي أضعف من المشبه به كما قال الحريري في المقامة الرابعة : «غدوت قبل استقلال الركاب ، ولا اغتداء اغتداء الغراب» وقال في الحادية عشرة : «وضحكتم وقت الدفن ، ولا ضحككم ساعة الزّفن» وفي الرابعة عشرة : «وقمت» ولا كعمرو بن عبيد» فجاء بها كلها على نسق ما في هذه الآية.

وقوله : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) الظاهر أنها أرادت تسميتها باسم أفضل نبيئة في بني إسرائيل وهي مريم أخت موسى وهارون ، وخوّلها أنّ أباها سميّ أبي مريم أخت موسى.

وتكرّر التأكيد في (وَإِنِّي سَمَّيْتُها وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) للتأكيد : لأنّ حال كراهيتها يؤذن بأنها ستعرض عنها فلا تشتغل بها ، وكأنها أكدت هذا الخبر إظهارا للرضا بما قدّر الله تعالى ، ولذلك انتقلت إلى الدعاء لها الدال على الرضا والمحبة ، وأكدت جملة أعيذها مع أنها مستعملة في إنشاء الدعاء : لأنّ الخبر مستعمل في الإنشاء برمّته التي كان عليها وقت الخبرية ، كما قدّمناه في قوله تعالى : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) وكقول أبي بكر : «إنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطاب».

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً).

تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة ، وضمائر النصب لمريم. ومعنى تقبلها : تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس ، أي أقام الله مريم مقام منقطع لله تعالى ، ولم يكن ذلك مشروعا من قبل.

وقوله : (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) الباء فيه للتأكيد ، وأصل نظم الكلام : فتقبّلها قبولا حسنا ، فأدخلت الباء على المفعول المطلق ليصير كالآلة للتقبل فكأنه شيء ثان ، وهذا إظهار للعناية بها في هذا القبول ، وقد عرف هذا القبول بوحي من الله إلى زكرياء بذلك ، وأمره بأن يكفلها زكرياء أعظم أحبارهم ، وأن يوحى إليه بإقامتها بعد ذلك لخدمة المسجد ، ولم يكن ذلك للنساء قبلها ، وكل هذا إرهاص بأنه سيكون منها رسول ناسخ لأحكام كثيرة من التوراة ؛ لأنّ خدمة النساء للمسجد المقدّس لم تكن مشروعة.

٨٧

ومعنى : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) : أنشأها إنشاء صالحا ، وذلك في الخلق ونزاهة الباطن ، فشبه إنشاؤها وشبابها بإنبات النبات الغضّ على طريق الاستعارة ، (ونبات) مفعول مطلق لأنبت وهو مصدر نبت وإنما أجري على أنبت للتخفيف.

(وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا).

عدّ هذا في فضائل مريم ، لأنه من جملة ما يزيد فضلها لأنّ أبا التربية يكسب خلقه وصلاحه مربّاه.

وزكرياء كاهن إسرائيلي اسمه زكرياء من بني أبيّا بن باكر بن بنيامين من كهنة اليهود ، جاءته النبوءة في كبره وهو ثاني من اسمه زكرياء من أنبياء بني إسرائيل وكان متزوجا امرأة من ذرية هارون اسمها (اليصابات) وكانت امرأته نسيبة مريم كما في إنجيل لوقا قيل : كانت أختها والصحيح أنّها كانت خالتها ، أو من قرابة أمها ، ولما ولدت مريم كان أبوها قد مات فتنازع كفالتها جماعة من أحبار بني إسرائيل حرصا. على كفالة بنت حبرهم الكبير ، واقترعوا على ذلك كما يأتي ، فطارت القرعة لزكرياء ، والظاهر أنّ جعل كفالتها للأحبار لأنّها محررة لخدمة المسجد فيلزم أن تربّى تربية صالحة لذلك.

وقرأ الجمهور : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ـ بتخفيف الفاء من كفلها ـ أي تولّى كفالتها ، وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : وكفّلها ـ بتشديد الفاء ـ أي أنّ الله جعل زكرياء كافلا لها ، وقرأ الجمهور زكرياء بهمزة في آخره ، ممدودا وبرفع الهمزة. وقرأه حمزة ، والكسائي وحفص عن عاصم ، وخلف : بالقصر ، وقرأه أبو بكر عن عاصم : بالهمز في آخره ونصب الهمزة.

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

دل قوله : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) على كلام محذوف ، أي فكانت مريم ملازمة لخدمة بيت المقدس ، وكانت تتعبد بمكان تتخذه بها محرابا ، وكان زكرياء يتعهد تعبدها فيرى كرامة لها أنّ عندها ثمارا في غير وقت وجود صنفها.

(كُلَّما) مركّبة من (كلّ) الذي هو اسم لعموم ما يضاف هو إليه ، ومن (ما) الظرفية وصلتها المقدّرة بالمصدر ، والتّقدير : كلّ وقت دخول زكرياء عليها وجد عندها رزقا.

٨٨

وانتصب كل على النيابة عن المفعول فيه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) في سورة البقرة [٢٥].

فجملة (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) حال من (زَكَرِيَّا) في قوله (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) [آل عمران : ٣٦].

ولك أن تجعل جملة (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) بدل اشتمال من جملة (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا).

والمحراب بناء يتّخذه أحد ليخلو فيه بتعبده وصلاته ، وأكثر ما يتخذ في علوّ يرتقي إليه بسلّم أو درج ، وهو غير المسجد. وأطلق على غير ذلك إطلاقات ، على وجه التشبيه أو التوسّع كقول عمر بن أبي ربيعة :

دمية عند راهب قسيس

صوّروها في مذبح المحراب

أراد في مذبح البيعة ، لأنّ المحراب لا يجعل فيه مذبح. وقد قيل : إنّ المحراب مشتق من الحرب لأن المتعبّد كأنّه يحارب الشيطان فيه ، فكأنّهم جعلوا ذلك المكان آلة لمحرب الشيطان.

ثم أطلق المحراب عند المسلمين على موضع كشكل نصف قبّة في طول قامة ونصف يجعل بموضع القبلة ليقف فيه الإمام للصلاة. وهو إطلاق مولد وأول محراب في الإسلام محراب مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صنع في خلافة الوليد بن عبد الملك ، مدة إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة. والتعريف في (الْمِحْرابَ) تعريف الجنس ويعلم أنّ المراد محراب جعلته مريم للتعبّد.

و (أنّى) استفهام عن المكان ، أي من أين لك هذا ، فلذلك كان جواب استفهامه قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ).

واستفهام زكرياء مريم عن الرزق لأنه في غير إبّانه ووقت أمثاله. قيل : كان عنبا في فصل الشتاء. والرزق تقدم آنفا عند قوله : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

وجملة (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) من كلام مريم المحكي.

والحساب في قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) بمعنى الحصر لأنّ الحساب يقتضي حصر الشيء المحسوب بحيث لا يزيد ولا ينقص ، فالمعنى إنّ الله يرزق من يريد رزقه بما لا يعرف مقداره لأنه موكول إلى فضل الله.

٨٩

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨))

أي في المكان ، قبل أن يخرج ، وقد نبّهه إلى الدعاء مشاهدة خوارق العادة مع قول مريم : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [آل عمران : ٣٧] والحكمة ضالة المؤمن ، وأهل النفوس الزكية يعتبرون بما يرون ويسمعون ، فلذلك عمد إلى الدعاء بطلب الولد في غير إبانه ، وقد كان في حسرة من عدم الولد كما حكى الله عنه في سورة مريم. وأيضا فقد كان حينئذ في مكان شهد فيه فيضا إلهيا. ولم يزل أهل الخير يتوخون الأمكنة بما حدث فيها من خير ، والأزمنة الصالحة كذلك ، وما هي إلّا كالذوات الصالحة في أنها محالّ تجلّيات رضا الله.

وسأل الذرية الطيّبة لأنها التي يرجى منها خير الدنيا والآخرة بحصول الآثار الصالحة النافعة. ومشاهدة خوارق العادات خوّلت لزكرياء الدعاء بما هو من الخوارق ، أو من المستبعدات ، لأنّه رأى نفسه غير بعيد عن عناية الله تعالى ، لا سيما في زمن الفيض أو مكانه ، فلا يعد دعاؤه بذلك تجاوزا لحدود الأدب مع الله على نحو ما قرّره القرافي في الفرق بين ما يجوز من الدعاء وما لا يجوز. وسميع هنا معنى مجيب.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

الفاء في قوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) للتعقيب أي استجيبت دعوته للوقت.

وقوله : (وَهُوَ قائِمٌ) جملة حالية والمقصود من ذكرها بيان سرعة إجابته ؛ لأنّ دعاءه كان في صلاته.

ومقتضى قوله تعالى : (هُنالِكَ) والتفريع عليه بقوله : فنادته أنّ المحراب محراب مريم.

وقرأ الجمهور : فنادته ـ بتاء تأنيث ـ لكون الملائكة جمعا ، وإسناد الفعل للجمع

٩٠

يجوز فيه التأنيث على تأويله بالجماعة أي نادته جماعة من الملائكة. ويجوز أن يكون الذي ناداه ملكا واحدا وهو جبريل وقد ثبت التصريح بهذا في إنجيل لوقا ، فيكون إسناد النداء إلى الملائكة من قبيل إسناد فعل الواحد إلى قبيلته كقولهم : قتلت بكر كليبا.

وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف : فناداه الملائكة على اعتبار المنادي واحدا من الملائكة وهو جبريل.

وقرأ الجمهور : أنّ الله بفتح همزة أن على أنه في محل جر بباء محذوفة أي نادته الملائكة بأنّ الله يبشرك بيحيى.

وقرأ ابن عامر وحمزة : إنّ ـ بكسر الهمزة ـ على الحكاية. وعلى كلتا القراءتين فتأكيد الكلام بإنّ المفتوحة الهمزة والمكسورتها لتحقيق الخبر ؛ لأنّه لغرابته ينزّل المخبر به منزلة المتردّد الطالب.

ومعنى «يبشرك بيحيى» يبشرك بمولود يسمّى يحيى فعلم أن يحيى اسم لا فعل بقرينة دخول الباء عليه وذكر في سورة مريم [٧] : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى).

ويحيى معرّب يوحنا بالعبرانية فهو عجمي لا محالة نطق به العرب على زنة المضارع من حيي وهو غير منصرف للعجمة أو لوزن الفعل. وقتل يحيى في كهولته ـ عليه‌السلام ـ بأمر (هيرودس) قبل رفع المسيح بمدة قليلة.

وقد ضمت إلى بشارته بالابن بشارة بطيبه كما رجا زكرياء ، فقيل له مصدّقا بكلمة من الله ، فمصدّقا حال من يحيى أي كامل التوفيق لا يتردّد في كلمة تأتي من عند الله. وقد أجمل هذا الخبر لزكرياء ليعلم أنّ حادثا عظيما سيقع يكون ابنه فيه مصدّقا برسول يجيء وهو عيسى عليهما‌السلام.

ووصف عيسى كلمة من الله لأنّ خلق بمجرد أمر التكوين الإلهي المعبر عنه بكلمة «كن» أي كان تكوينه غير معتاد وسيجيء عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) [آل عمران : ٤٥]. والكلمة على هذا إشارة إلى مجيء عيسى عليه‌السلام. ولا شكّ أنّ تصديق الرسول ، ومعرفة كونه صادقا بدون تردّد ، هدى عظيم من الله لدلالته على صدق التأمل السريع لمعرفة الحق ، وقد فاز بهذا الوصف يحيى في الأولين ، وخديجة وأبو بكر في الآخرين ، قال تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)[الزمر : ٣٣] ، وقيل : الكلمة هنا التوراة ، وأطلق عليها الكلمة لأنّ الكلمة تطلق على الكلام ، وأنّ الكلمة

٩١

هي التوراة.

والسيد فيعل من ساد يسود إذا فاق قومه في محامد الخصال حتى قدموه على أنفسهم ، واعترفوا له بالفضل. فالسؤدد عند العرب في الجاهلية يعتمد كفاية مهمّات القبيلة والبذل لها وإتعاب النفس لراحة الناس قال الهذلي :

وإنّ سيادة الأقوام فاعلم

لها صعداء مطلبها طويل

أترجو أن تسود ولن تعنّى

وكيف يسود ذو الدعة البخيل

وكان السؤدد عندهم يعتمد خلال مرجعها إلى إرضاء الناس على أشرف الوجوه ، وملاكه بذل الندى ، وكفّ الأذى ، واحتمال العظائم ، وأصالة الرأي ، وفصاحة اللسان.

والسيّد في اصطلاح الشرع من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معا وفي الحديث «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» وفيه «إنّ ابني هذا سيّد» ـ يعني الحسن بن علي ـ فقد كان الحسن جامعا خصال السؤدد الشرعي ، وحسبك من ذلك أنّه تنازل عن حق الخلافة لجمع كلمة الأمة ، ولإصلاح ذات البين ، وفي تفسير ابن عطية عن عبد الله بن عمر : أنه قال : «ما رأيت أحدا أسود من معاوية ابن أبي سفيان ـ فقيل له وأبو بكر وعمر ـ قال : هما خير من معاوية ومعاوية أسود منهما» قال ابن عطية : «أشار إلى أنّ أبا بكر وعمر كانا من الاستصلاح وإقامة الحقوق بمنزلة هما فيها خير من معاوية ، ولكن مع تتبع الجادّة ، وقلّة المبالاة برضا الناس ينخرم فيه كثير من خصال السؤدد ومعاوية قد برّز في خصال السؤدد التي هي الاعتمال في إرضاء الناس على أشرف الوجوه ولم يواقع محذورا».

ووصف الله يحيى بالسيّد لتحصيله الرئاسة الدينية فيه من صباه ، فنشأ محترما من جميع قومه قال تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا* وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً) [مريم : ١٢ ، ١٣] ، وقد قيل السيّد هنا الحليم التقيّ معا : قاله قتادة ، والضحاك ، وابن عباس ، وعكرمة. وقيل الحليم فقط : قاله ابن جبير. وقيل السيّد هنا الشريف : قاله جابر بن زيد ، وقيل السيّد هنا العالم : قاله ابن المسيّب ، وقتادة أيضا.

وعطف سيّدا على مصدّقا ، وعطف حصورا وما بعده عليه ، يؤذن بأنّ المراد به غير العليم ، ولا التقي ، وغير ذلك محتمل. والحصور فعول بمعنى مفعول مثل رسول أي حصور عن قربان النساء.

٩٢

وذكر هذه الصفة في أثناء صفات المدح إمّا أن يكون مدحا له ، لما تستلزمه هذه الصفة من البعد عن الشهوات المحرّمة ، بأصل الخلقة ، ولعلّ ذلك لمراعاة براءته ممّا يلصقه أهل البهتان ببعض أهل الزهد من التهم ، وقد كان اليهود في عصره في أشدّ البهتان والاختلاق ، وإمّا ألّا يكون المقصود بذكر هذه الصفة مدحا له لأنّ من هو أفضل من يحيى من الأنبياء والرسل كانوا مستكملين المقدرة على قربان النّساء فتعيّن أن يكون ذكر هذه الصفة ليحيى إعلاما لزكرياء بأنّ الله وهبه ولدا إجابة لدعوته ، إذ قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم : ٥ ، ٦] وأنّه قد أتمّ مراده تعالى من انقطاع عقب زكرياء لحكمة علمها ، وذلك إظهار لكرامة زكرياء عند الله تعالى.

ووسطت هذه الصفة بين صفات الكمال تأنيسا لزكرياء وتخفيفا من وحشته لانقطاع نسله بعد يحيى.

وقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استفهام مراد منه التعجّب ، قصد منه تعرّف إمكان الولد ، لأنّه لما سأل الولد فقد تهيّأ لحصول ذلك فلا يكون قوله أنّى يكون لي غلام إلّا تطلبا لمعرفة كيفية ذلك على وجه يحقّق له البشارة ، وليس من الشك في صدق الوعد ، وهو كقول إبراهيم : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] ، فأجيب بأنّ الممكنات داخلة تحت قدرة الله تعالى وإن عز وقوعها في العادة.

و (أنّى) فيه بمعنى كيف ، أو بمعنى المكان ، لتعذّر عمل المكانين اللذين هما سبب التناسل وهما الكبر والعقرة. وهذا التعجّب يستلزم الشكر على هذه المنّة فهو كناية عن الشكر. وفيه تعريض بأن يكون الولد من زوجه العاقر دون أن يؤمر بتزوّج امرأة أخرى وهذه كرامة لامرأة زكرياء.

وقوله : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) جاء على طريق القلب ، وأصله وقد بلغت الكبر ، وفائدته إظهار تمكّن الكبر منه كأنه يتطلبه حتى بلغه كقوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨].

والعاقر المرأة التي لا تلد عقرت رحمها أي قطعته. ولأنه وصف خاص بالأنثى لم يؤنّث كقولهم حائض ونافس ومرضع ، ولكنه يؤنث في غير صيغة الفاعل فمنه قولهم عقرى دعاء على المرأة ، وفي الحديث : «عقرى حلقى» وكذلك نفساء.

وقوله : (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي كهذا الفعل العجيب وهو تقدير الحمل من

٩٣

شيخ هرم لم يسبق له ولد وامرأة عاقر كذلك ، ولعلّ هذا التكوين حصل بكون زكرياء كان قبل هرمه ذا قوة زائدة لا تستقرّ بسببها النطفة في الرحم فلما هرم اعتدلت تلك القوة فصارت كالمتعارف ، أو كان ذلك من أحوال في رحم امرأته ولذلك عبر عن هذا التكوين بجملة (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي هو تكوين قدّره الله وأوجد أسبابه ومن أجل ذلك لم يقل هنا يخلق ما يشاء كما قاله في جانب تكوين عيسى.

وقوله : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أراد آية على وقت حصول ما بشّر به ، وهل هو قريب أو بعيد ، فالآية هي العلامة الدالة على ابتداء حمل زوجه. وعن السدي والربيع : آية تحقق كون الخطاب الوارد عليه واردا من قبل الله تعالى ، وهو ما في إنجيل لوقا. وعندي في هذا نظر ، لأنّ الأنبياء لا يلتبس عليهم الخطاب الوارد عليهم من الله ويعلمونه بعلم ضروري.

وقوله : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) جعل الله حبسة لسانه عن الكلام آية على الوقت الذي تحمل فيه زوجته ، لأنّ الله صرف ما له من القوة في أعصاب الكلام المتصلة بالدماغ إلى أعصاب التناسل بحكمة عجيبة يقرب منها ما يذكر من سقوط بعض الإحساس لمن يأكل البلاذر لقوة الفكر. أو أمره بالامتناع من الكلام مع الناس إعانة على انصراف القوة من المنطق إلى التناسل ، أي متى تمت ثلاثة الأيام كان ذلك أمارة ابتداء الحمل. قال الربيع جعل الله ذلك له عقوبة لتردّده في صحة ما أخبره به الملك ، وبذلك صرح في إنجيل لوقا ، فيكون الجواب على هذا الوجه من قبيل أسلوب الحكيم لأنه سأل آية فأعطي غيرها.

وقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أمر بالشكر. والذّكر المراد به: الذّكر بالقلب والصلاة إن كان قد سلب قوة النطق ، أو الذكر اللساني إن كان قد نهي عنها فقط. والاستثناء في قوله إلّا رمزا استثناء منقطع.

[٤٢ ـ ٤٤] (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)

عطف على جملة (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ). انتقال من ذكر أمّ مريم إلى ذكر مريم.

ومريم علم عبراني ، وهو في العبرانية بكسر الميم ، وهو اسم قديم سميت به أخت موسى عليه‌السلام ، وليس في كتب النصارى ذكر لاسم أبي مريم أمّ عيسى ولا لمولدها

٩٤

ولكنها تبتدئ فجأة بأنّ عذراء في بلد الناصرة مخطوبة ليوسف النجار ، قد حملت من غير زوج.

والعرب يطلقون اسم مريم على المرأة المترجّلة التي تكثر مجالسة الرجال كما قال رؤبة : قلت لزير لم تصله مريمه.

(والزير بكسر الزاي الذي يكثر زيارة النساء) وقال في «الكشاف» : مريم في لغتهم ـ أي لغة العبرانيين ـ بمعنى العابدة.

وتكرّر فعل (اصْطَفاكِ) لأنّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذاتي ، وهو جعلها منزّهة زكية ، والثاني بمعنى التفضيل على الغير. فلذلك لم يعدّ الأول إلى متعلّق. وعديّ الثاني. ونساء العالمين نساء زمانها ، أو نساء سائر الأزمنة. وتكليم الملائكة والاصطفاء يدلان على نبوءتها والنبوءة تكون للنساء دون الرسالة.

وإعادة النداء في قول الملائكة : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي) لقصد الإعجاب بحالها ، لأنّ النداء الأول كفى في تحصيل المقصود من إقبالها لسماع كلام الملائكة ، فكان النداء الثاني مستعملا في مجرّد التنبيه الذي ينتقل منه إلى لازمه وهو التنويه بهذه الحالة والإعجاب بها ، ونظيره قول امرئ القيس :

تقول وقد مال الغبيط بنامعا

عقرت بعيري يا إمرأ القيس فانزل

(فهو مستعمل في التنبيه المنتقل منه إلى التوبيخ).

والقنوت ملازمة العبادة ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) في سورة البقرة [٢٣٨].

وقدم السجود ، لأنّ أدخل في الشكر والمقام هنا مقام شكر.

وقوله : (مَعَ الرَّاكِعِينَ) إذن لها بالصلاة مع الجماعة ، وهذه خصوصية لها من بين نساء إسرائيل إظهارا لمعنى ارتفاعها عن بقية النساء ، ولذلك جيء في الراكعين بعلامة جمع التذكير.

وهذا الخطاب مقدمة للخطاب الذي بعده وهو (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران : ٤٥] لقصد تأنيسها بالخبر الموالي لأنه لما كان حاصله يجلب لها حزنا وسوء قالة بين الناس ، مهّد له بما يجلب إليها مسرّة ، ويوقنها بأنّها بمحل عناية الله ، فلا جرم أن

٩٥

تعلم بأنّ الله جاعل لها مخرجا وأنّه لا يخزيها.

وقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) إيماء إلى خلوّ كتبهم عن بعض ذلك ، وإلّا لقال : وما كنت تتلو كتبهم مثل : «وما كنت تتلو من قبله من كتاب» أي إنّك تخبرهم عن أحوالهم كأنّك كنت لديهم.

وقوله : (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) وهي الأقلام التي يكتبون بها التوراة كانوا يقترعون بها في المشكلات : بأن يكتبوا عليها أسماء المقترعين أو أسماء الأشياء المقترع عليها ، والناس يصيرون إلى القرعة عند انعدام ما يرجّح الحق ، فكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام وجعل اليهود الاقتراع بالأقلام التي يكتبون بها التوراة في المدراس رجاء أن تكون بركتها مرشدة إلى ما هو الخير. وليس هذا من شعار الإسلام وليس لإعمال القرعة في الإسلام إلّا مواضع تمييز الحقوق المتساوية من كل الجهات وتفصيله في الفقه. وأشارت الآية إلى أنّهم تنازعوا في كفالة مريم حين ولدتها أمها حنّة ، إذ كانت يتيمة كما تقدم فحصل من هذا الامتنان إعلام بأنّ كفالة زكرياء مريم كانت بعد الاستقسام وفيه تنبيه على تنافسهم في كفالتها.

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦))

بدل اشتمال من جملة (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) [آل عمران : ٤٢] قصد منه التكرير لتكميل المقول بعد الجمل المعترضة. ولكونه بدلا لم يعطف على إذ قالت الأول. وتقدّم الكلام على يبشرك.

والكلمة مراد بها كلمة التكوين وهي تعلق القدرة التنجيزي كما في حديث خلق الإنسان من قوله : «ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله» إلخ.

ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين أي بدون الأسباب المعتادة.

وقوله : (مِنْهُ) من للابتداء المجازي أي بدون واسطة أسباب النسل المعتادة وقد دلّ على ذلك قوله : (إِذا قَضى أَمْراً) [البقرة : ١١٧].

٩٦

وقوله : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) عبر عن العلم واللقب والوصف بالاسم. لأنّ لثلاثتها أثرا في تمييز المسمّى. فأما اللقب والعلم فظاهر. وأما الوصف المفيد للنسب فلأنّ السامعين تعارفوا ذكر اسم الأب في ذكر الأعلام للتمييز وهو المتعارف ، وتذكر الأمّ في النسب إما للجهل بالأب كقول بعضهم : زياد بن سمية قبل أن يلحق بأبي سفيان في زمن معاوية بن أبي سفيان ، وإما لأنّ لأمّه مفخرا عظيما كقولهم : عمرو ابن هند ، وهو عمرو بن المنذر ملك العرب.

والمسيح كلمة عبرانية بمعنى الوصف. ونقلت إلى العربية علما بالغلبة على عيسى وقد سمى متنصرة العرب بعض أبنائهم «عبد المسيح» وأصلها مسّيّح ـ بميم مفتوحة ثم سين مهملة مكسورة مشدّدة ثم ياء مثنّاة مكسورة مشدّدة ثم حاء مهملة ساكنة ـ ونطق به بعض العرب بوزن سكّين.

ومعنى مسيح ممسوح بدهن المسحة وهو الزيت المعطّر الذي أمر الله موسى أن يتّخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون حينما جعله كاهنا لبني إسرائيل ، وصارت كهنة بني إسرائيل يمسحون بمثله من يملّكونهم عليهم من عهد شاول الملك ، فصار المسيح عندهم بمعنى الملك : ففي أول سفر صمويل الثاني من كتب العهد القديم قال داود للذي أتاه بتاج شاول الملك المعروف عند العرب بطالوت «كيف لم تخف أن تمدّ يدك لتهلك مسيح الرب».

فيحتمل أنّ عيسى سمّي بهذا الوصف كما يسمّون بملك ويحتمل أنه لقب لقبه به اليهود تهكما عليه إذ اتهموه بأنه يحاول أن يصير ملكا على إسرائيل ثم غلب عليه إطلاق هذا الوصف بينهم واشتهر بعد ذلك ، فلذلك سمي به في القرآن.

والوجيه ذو الوجاهة وهي : التقدّم على الأمثال ، والكرامة بين القوم ، وهي وصف مشتق من الوجه للإنسان وهو أفضل أعضائه الظاهرة منه ، وأجمعها لوسائل الإدراك وتصريف الأعمال ، فأطلق الوجه على أول الشيء على طريقة الاستعارة الشائعة فيقال : وجه النهار لأول النهار قال تعالى : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) [آل عمران : ٧٢] وقال الربيع بن زياد العبسي :

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

وقال الأعشى :

٩٧

ولاح لهم وجه العشيّات سملق

ويقولون : هو وجه القوم أي سيّدهم والمقدّم بينهم. واشتق من هذا الاسم فعل وجه بضم الجيم ككرم فجاء منه وجيه صفة مشبّهة ، فوجيه الناس المكرّم بينهم ، ومقبول الكلمة فيهم ، قال تعالى في وصف موسى عليه‌السلام : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً).

والمهد شبه الصندوق من خشب لا غطاء له يمهد فيه مضجع للصبي مدة رضاعه يوضع فيه لحفظه من السقوط.

وخص تكليمه بحالين : حال كونه في المهد ، وحال كونه كهلا ، مع أنه يتكلّم فيما بين ذلك لأنّ لذينك الحالين مزيد اختصاص بتشريف الله إياه فأما تكليمه الناس في المهد فلأنه خارق عادة إرهاصا لنبوءته. وأما تكليمهم كهلا فمراد به دعوته الناس إلى الشريعة. فالتكليم مستعمل في صريحه وفي كنايته باعتبار القرينة المعينة للمعنيين وهي ما تعلق بالفعل من المجرورين.

وعطف عليه (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) فالمجرور ظرف مستقرّ في موضع الحال.

والصالحون الذين صفتهم الصلاح لا تفارقهم ، والصلاح استقامة الأعمال وطهارة النفس قال إبراهيم : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١٠٠].

والكهل من دخل في عشرة الأربعين وهو الذي فارق عصر الشباب ، والمرأة شهلة بالشين ، ولا يقال كهلة كما لا يقال شهل للرجل إلّا أن العرب قديما سمّوا شهلا مثل شهل بن شيبان الملقب الفند الزّماني فدلنا ذلك على أنّ الوصف أميت. وقد كان عيسى عليه‌السلام حيث بعث ابن نيف وثلاثين.

وقوله : (وَجِيهاً) حال من (بِكَلِمَةٍ) باعتبار ما صدقها. (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عطف على الحال ، (وَيُكَلِّمُ) جملة معطوفة على الحال المفردة : لأنّ الجملة التي لها محل من الإعراب لها حكم المفرد.

وقوله : (فِي الْمَهْدِ) حال من ضمير (يكلّم). وكهلا عطف على محلّ الجار والمجرور ، لأنهما في موضع الحال ، فعطف عليهما بالنصب ، (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) معطوف على (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ

٩٨

إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧))

قوله : (قالَتْ رَبِ) جملة معترضة ، من كلامها ، بين كلام الملائكة.

والنداء للتحسر وليس للخطاب : لأنّ الذي كلمها هو الملك ، وهي قد توجهت إلى الله.

والاستفهام في قولها (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) للإنكار والتعجّب ولذلك أجيب جوابين أحدهما كذلك الله يخلق ما يشاء فهو لرفع إنكارها ، والثاني إذا قضى أمرا إلخ لرفع تعجّبها.

وجملة (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ) إلخ جواب استفهامها ولم تعطف لأنّها جاءت على طريقة المحاورات كما تقدم في قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها) وما بعدها في سورة البقرة [٣٠] والقائل لها هو الله تعالى بطريق الوحي.

واسم الإشارة في قوله : (كَذلِكِ) راجع إلى معنى المذكور في قوله : (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ـ إلى قوله ـ وَكَهْلاً) [آل عمران : ٤٥ ، ٤٦] أي مثل ذلك الخلق المذكور يخلق الله ما يشاء. وتقديم اسم الجلالة على الفعل في قوله : (اللهُ يَخْلُقُ) لإفادة تقوى الحكم وتحقيق الخبر.

وعبر عن تكوين الله لعيسى بفعل يخلق : لأنّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادة لإيجاد مثله ، فهو خلق أنف غير ناشئ عن أسباب إيجاد الناس ، فكان لفعل يخلق هنا موقع متعين ، فإنّ الصانع إذا صنع شيئا من موادّ معتادة وصنعة معتادة ، لا يقول خلقت وإنما يقول صنعت.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩))

جملة (وَيُعَلِّمُهُ) معطوفة على جملة (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) [آل عمران : ٤٦] بعد انتهاء الاعتراض.

وقرأ نافع ، وعاصم : ويعلّمه ـ بالتحتية ـ أي يعلّمه الله. وقرأه الباقون بنون

٩٩

العظمة ، على الالتفات.

والكتاب مراد به الكتاب المعهود. وعطف التوراة تمهيد لعطف الإنجيل ـ ويجوز أن يكون الكتاب بمعنى الكتابة ـ وتقدم الكلام على التوراة والإنجيل في أول السورة.

(وَرَسُولاً) عطف على جملة (يعلّمه) لأنّ جملة الحال ، لكونها ذات محل من الإعراب ، هي في قوة المفرد فنصب رسولا على الحال ، وصاحب الحال هو قوله بكلمة ، فهو من بقية كلام الملائكة.

وفتح همزة أنّ في قوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) لتقدير باء الجر بعد رسولا ، أي رسولا بهذا المقال لما تضمنه وصف رسولا من كونه مبعوثا بكلام ، فهذا مبدأ كلام بعد انتهاء كلام الملائكة.

ومعنى (جِئْتُكُمْ) أرسلت إليكم من جانب الله ونظيرة قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) [الزخرف : ٦٣].

وقوله : (بِآيَةٍ) حال من ضمير (جِئْتُكُمْ) لأنّ المقصود الإخبار بأنه رسول لا بأنه جاء بآية. شبه أمر الله إياه بأن يبلّغ رسالة بمجيء المرسل من قوم إلى آخرين ولذلك سمّي النبي رسولا.

والباء في قوله (بِآيَةٍ) للملابسة أي مقارنا للآيات الدالة على صدقي في هذه الرسالة المعبّر عنها بفعل المجيء. والمجرور متعلق بجئتكم على أنه ظرف لغو ، ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من (جِئْتُكُمْ) لأن معنى جئتكم : أرسلت إليكم ، فلا يحتاج إلى ما يتعلق به. وقوله : (أَنِّي أَخْلُقُ ـ بكسر الهمزة ـ استئناف لبيان آية وهي قراءة نافع ، وأبي جعفر. وقرأه الباقون بفتح همزة (أَنِّي) على أنه بدل من (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ).

والخلق : حقيقته تقدير شيء بقدر ، ومنه خلق الأديم تقديره بحسب ما يراد من قطعه قبل قطع القطعة منه قال زهير :

ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

يريد تقدير الأديم قبل قطعه والقطع هو الفري ، ويستعمل مجازا مشهورا أو مشتركا في الإنشاء ، والإبداع على غير مثال ولا احتذاء ، وفي الإنشاء على مثال يبدع ويقدّر ، قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف : ١١] فهو إبداع الشيء وإبرازه للوجود

١٠٠