تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

الاستعارة ، وحسّنها أنّ الشهداء أحياء ، فهو استعارة أو مشاكلة تقديرية لأنّ قولهم ، ما قتلنا هاهنا يتضمّن معنى أنّ الشهداء كانوا يبقون في بيوتهم متمتّعين بفروشهم.

(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) عطف على قوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) [آل عمران : ١٥٣] وما بينهما جمل بعضها عطف على الجملة المعلّلة ، وبعضها معترضة ، فهو خطاب للمؤمنين لا محالة ، وهو علّة ثانية لقوله : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) [آل عمران : ١٥٣].

والصّدور هنا بمعنى الضّمائر ، والابتلاء : الاختبار ، وهو هنا كناية عن أثره ، وهو إظهاره للنّاس والحجّة على أصحاب تلك الضّمائر بقرينة قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كما تقدّم في قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران : ١٤٠].

والتمحيص تخليص الشيء ممّا يخالطه ممّا فيه عيب له فهو كالتزكية. والقلوب هنا بمعنى العقائد ، ومعنى تمحيص ما فيه قلوبهم تطهيرها ممّا يخامرها من الريب حين سماع شبه المنافقين الّتي يبثّونها بينهم.

وأطلق الصدور على الضّمائر لأنّ الصدر في كلام العرب يطلق على الإحساس الباطني ، وفي الحديث : «الإثم ما حاك في الصّدر» وأطلق القلب على الاعتقاد لأنّ القلب في لسان العرب هو ما به يحصّل التفكّر والاعتقاد. وعدّي إلى الصّدور فعل الابتلاء لأنّه اختبار الأخلاق والضّمائر : ما فيها من خير وشرّ ، وليتميّز ما في النفس. وعدّي إلى القلوب فعل التمحيص لأنّ الظنون والعقائد محتاجة إلى التمحيص لتكون مصدر كلّ خير.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥))

استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفيّ ، وهي استزلال الشيطان إيّاهم ، وأراد ب (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) يوم أحد ، و (استزلّهم) بمعنى أزلّهم أي جعلهم زالّين ، والزلل مستعار لفعل الخطيئة ، والسين والتاء فيه للتأكيد ، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النّابغة :

وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة

أبا جابر فاستنكحوا أم جابر

أي نكحوا. ومنه قوله تعالى : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) [التغابن : ٦] وقوله : (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) [البقرة : ٣٤]. ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأنّ المقصود لومهم على

٢٦١

وقوعهم في معصية الرسول ، فهو زلل واقع.

والمراد بالزّلل الانهزام ، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضدّه وهو النّصر قال تعالى : (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) [آل عمران : ١٤٧].

والباء في (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) للسببية وأريد (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) مفارقة موقفهم ، وعصيان أمر الرّسول ، والتنازع ، والتعجيل إلى الغنيمة ، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان ، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم ، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم ، وإبطال ما عرّض به المنافقون من رمى تبعته على أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بالخروج ، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد. وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه ، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفيّ وضع أهل المنطق باب القضيّة اللزوميّة والقضيّة الاتفاقية.

ومناسبة ذكر هذه الآية عقب الّتي قبلها أنّه تعالى بعد أن بيّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة ، فبيّن لهم أنّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم ، فلم يتفطّنوا إلى السبب ، والتبس عليهم بالمقارن ، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطئ وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح ، وتزكية النفوس ، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين ، وتعظيمه عندهم ، وتنفيرهم من الشيطان ، والأفعال الذميمة ، ومعصية الرسول ، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين. وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ...) [آل عمران : ١٥٢] الآيات. وضمير (مِنْكُمْ) راجع إلى عامّة جيش أحد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا. وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة.

وللمفسّرين في قوله : (اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) احتمالات ذكرها صاحب «الكشاف» والفخر ، وهي بمعزل عن القصد.

وقوله : (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) أعيد الإخبار بالعفو تأنيسا لهم كقوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ

٢٦٢

يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦))

تحذير من العود إلى مخالجة عقائد المشركين ، وبيان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضا. والكلام استئناف. والإقبال على المؤمنين بالخطاب تلطّف بهم جميعا بعد تقريع فريق منهم الّذين تولّوا يوم التقى الجمعان. واللام في قولهم : (لِإِخْوانِهِمْ) ليست لام تعدية فعل القول بل هي لام العلّة كقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) لأنّ الإخوان ليسوا متكلّما معهم بل هم الّذين ماتوا وقتلوا ، والمراد بالإخوان الأقارب في النسب ، أي من الخزرج المؤمنين ، لأنّ الشهداء من المؤمنين.

و (إذ) هنا ظرف للماضي بدليل فعليّ (قالوا وضربوا) ، وقد حذف فعل دلّ عليه قوله : (ما ماتُوا) تقديره : فماتوا في سفرهم أو قتلوا في الغزو.

والضرب في الأرض هو السفر ، فالضرب مستعمل في السير لأنّ أصل الضّرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به ، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل ، فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [المزمل : ٢٠] ، وعلى مطلق السفر كما هنا ، وعلى السفر للغزو كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) [النساء : ٩٤] وقوله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) [النساء : ١٠١] والظاهر أنّ المراد هنا السفر في مصالح المسلمين لأنّ ذلك هو الّذي يلومهم عليه الكفار ، وقيل : أريد بالضرب في الأرض التجارة.

وعليه يكون قرنه مع القتل في الغزو لكونهما كذلك في عقيدة الكفار.

و (غُزًّى) جمع غاز. وفعّل قليل في جمع فاعل الناقص. وهو مع ذلك فصيح. ونظيره عفّى في قول امرئ القيس :

لها قلب عفّى الحياض أجون

وقوله : (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) علّة ل (قالوا) باعتبار ما يتضمّنه من اعتقاد ذلك مع الإعلان به توجيها للنّهي عن التشبيه بهم أي فإنّكم إن اعتقدتم اعتقادهم لحقكم أثره كما لحقهم ، فالإشارة بقوله : (ذلك) إلى القول الدال على الاعتقاد ، وعلى هذا الوجه فالتعليل خارج عن التشبيه. وقيل : اللام لام العاقبة ، أي : لا تكونوا كالّذين

٢٦٣

قالوا فترتّب على قولهم أن كان ذلك حسرة في قلوبهم ، فيكون قوله : (لِيَجْعَلَ) على هذا الوجه من صلة (الّذين) ، ومن جملة الأحوال المشبّه بها ، فيعلم أنّ النّهي عن التّشبّه بهم فيها لما فيها من الضرّ.

والحسرة : شدّة الأسف أي الحزن ، وكان هذا حسرة عليهم لأنّهم توهّموا أنّ مصابهم نشأ عن تضييعهم الحزم ، وأنّهم لو كانوا سلكوا غير ما سلكوه لنجوا فلا يزالون متلهّفين على ما فاتهم. والمؤمن يبذل جهده فإذا خاب سلّم لحكم القدر.

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذير لهم من أن يضمروا العود إلى ما نهوا عنه.

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))

ذكر ترغيبا وترهيبا ، فجعل الموت في سبيل الله والموت في غير سبيل الله ، إذا أعقبتهما المغفرة خيرا من الحياة وما يجمعون فيها ، وجعل الموت والقتل في سبيل الله وسيلة للحشر والحساب فليعلم أحد بما ذا يلاقي ربّه. والواو للعطف على قوله : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) وعلى قوله : (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) [آل عمران : ١٥٦].

واللام في قوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) موطّئة للقسم أي مؤذنة بأنّ قبلها قسما مقدّرا ، ورد بعده شرط فلذلك لا تقع إلّا مع الشرط. واللام في قوله : (لَمَغْفِرَةٌ) هي لام جواب القسم. والجواب هو قوله : (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ) لظهور أنّ التقدير : لمغفرة ورحمة لكم. وقرأه نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : متّم ـ بكسر الميم ـ على لغة الحجاز لأنّهم جعلوا ماضيه مثل خاف ، اعتبروه مكسور العين وجعلوا مضارعه من باب قام فقالوا : يموت ، ولم يقولوا : يمات ، فهو من تداخل اللغتين. وأمّا سفلى مضر فقد جاءوا به في الحالين من باب : قام فقرأوه : متّم. وبها قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب. وقرأ الجمهور ، مما تجمعون ـ بتاء الخطاب ـ وقرأ حفص عن عاصم ـ بياء الغائب ـ على أنّ الضّمير عائد إلى المشركين أي خير لكم من غنائم المشركين الّتي جمعوها وطمعتم أنتم في غنمها.

وقدّم القتل في الأولى والموت في الثانية اعتبارا بعطف ما يظنّ أنّه أبعد عن الحكم فإنّ كون القتل في سبيل الله سببا للمغفرة أمر قريب ، ولكن كون الموت في غير السبيل مثل ذلك أمر خفي مستبعد ، وكذلك تقديم الموت في الثّانية لأنّ القتل في سبيل الله قد

٢٦٤

يظنّ أنّه بعيد عن أن يعقبه الحشر ، مع ما فيه من التفنّن ، ومن ردّ العجز على الصدر وجعل القتل مبدأ الكلام وعوده.

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩))

الفاء للتفريع على ما اشتمل عليه الكلام السابق الّذي حكي فيه مخالفة طوائف لأمر الرسول من مؤمنين ومنافقين ، وما حكي من عفو الله عنهم فيما صنعوا. ولأنّ في تلك الواقعة المحكية بالآيات السابقة مظاهر كثيرة من لين النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمسلمين ، حيث استشارهم في الخروج ، وحيث لم يثرّبهم على ما صنعوا من مغادرة مراكزهم ، ولمّا كان عفو الله عنهم يعرف في معاملة الرّسول إيّاهم ، ألان الله لهم الرسول تحقيقا لرحمته وعفوه ، فكان المعنى : ولقد عفا الله عنهم برحمته فلان لهم الرسول بإذن الله وتكوينه إيّاه راحما ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧].

والباء للمصاحبة ، أي لنت مع رحمة الله : إذ كان لينه في ذلك كلّه لينا لا تفريط معه لشيء من مصالحهم ، ولا مجاراة لهم في التساهل في أمر الدّين ، فلذلك كان حقيقا باسم الرحمة.

وتقديم المجرور مفيد للحصر الإضافي ، أي : برحمة من الله لا بغير ذلك من أحوالهم ، وهذا القصر مفيد التعريض بأنّ أحوالهم كانت مستوجبة الغلظ عليهم ، ولكن الله ألان خلق رسوله رحمة بهم ، لحكمة علمها الله في سياسة هذه الأمّة.

وزيدت (ما) بعد باء الجرّ لتأكيد الجملة بما فيه من القصر ، فتعيّن بزيادتها كون التّقديم للحصر ، لا لمجرد الاهتمام ، ونبّه عليه في «الكشاف».

واللين هنا مجاز في سعة الخلق مع أمّة الدعوة والمسلمين ، وفي الصفح عن جفاء المشركين ، وإقالة العثرات. ودلّ فعل المضيّ في قوله : (لِنْتَ) على أنّ ذلك وصف تقرّر وعرف من خلقه ، وأنّ فطرته على ذلك برحمة من الله إذ خلقه كذلك و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ، فخلق الرسول مناسب لتحقيق حصول مراد الله تعالى من إرساله ، لأنّ الرسول يجيء بشريعة يبلّغها عن الله تعالى ، فالتبليغ متعيّن لا مصانعة فيه ، ولا يتأثّر بخلق الرسول ، وهو أيضا مأمور بسياسة أمّته بتلك الشريعة ، وتنفيذها فيهم ،

٢٦٥

وهذا عمل له ارتباط قوي بمناسبة خلق الرسول لطباع أمّته حتّى يلائم خلقه الوسائل المتوسّل بها لحمل أمّته على الشّريعة الناجحة في البلوغ بهم إلى مراد الله تعالى منهم.

أرسل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفطورا على الرحمة ، فكان لينه رحمة من الله بالأمّة في تنفيذ شريعته بدون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها ، فلذلك جعل لينه مصاحبا لرحمة من الله أودعها الله فيه ، إذ هو قد بعث للنّاس كافّة ، ولكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أول شيء لحكمة أرادها الله تعالى في أن يكون العرب هم مبلغي الشّريعة للعالم.

والعرب أمّة عرفت بالأنفة ، وإباء الضيم ، وسلامة الفطرة. وسرعة الفهم. وهم المتلقّون الأوّلون للدين فلم تكن تليق بهم الشّدة والغلظة ، ولكنّهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم ، ليتجنّبوا بذلك المكابرة الّتي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان إلى الحقّ. وورد أن صفح النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعفوه ورحمته كان سببا في دخول كثير في الإسلام ، كما ذكر بعض ذلك عياض في كتاب الشفاء.

فضمير (لَهُمْ) عائد على جميع الأمّة كما هو مقتضى مقام التّشريع وسياسة الأمّة ، وليس عائدا على المسلمين الّذين عصوا أمر الرسول يوم أحد ، لأنّه لا يناسب قوله بعده : (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) إذ لا يظنّ ذلك بالمسلمين ، ولأنّه لا يناسب قوله بعده : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) إذا كان المراد المشاورة للاستعانة بآرائهم ، بل المعنى : لو كنت فظّا لنفرك كثير ممّن استجاب لك فهلكوا ، أو يكون الضّمير عائدا على المنافقين المعبّر عنهم بقوله : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) [آل عمران : ١٥٤] فالمعنى : ولو كنت فظّا لأعلنوا الكفر وتفرّقوا عنك ، وليس المراد أنّك لنت لهم في وقعة أحد خاصّة ، لأنّ قوله بعده: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) إلخ ينافي ذلك المحمل.

والفظّ : السيئ الخلق ، الجافي الطبع.

والغليظ القلب : القاسية ، إذ الغلظة مجاز عن القسوة وقلّة التسامح ، كما كان اللين مجازا في عكس ذلك ، وقالت جواري الأنصار لعمر ـ حين انتهرهنّ ـ «أنت أفظّ وأغلظ من رسول الله» يردن أنت فظّ وغليظ دون رسول الله.

والانفضاض : التفرق. و (مِنْ حَوْلِكَ) أي من جهتك وإزائك ، يقال : حوله وحوليه وحواليه وحواله وحياله وبحياله. والضّمير للذين حول رسول الله ، أي الّذين دخلوا في الدّين لأنّهم لا يطيقون الشدّة ، والكلام تمثيل : شبّهت هيئة النفور منه وكراهية الدخول في

٢٦٦

دينه بالانفضاض من حوله أي الفرار عنه متفرّقين ، وهو يؤذّن بأنّهم حوله متّبعون له.

والتّفريع في قوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) على قوله : (لِنْتَ لَهُمْ) الآية ، لأنّ جميع الأفعال المأمور بها مناسب للين ، فأمّا العفو والاستغفار فأمرهما ظاهر ، وأمّا عطف (وَشاوِرْهُمْ) فلأنّ الخروج إلى أحد كان عن تشاور معهم وإشارتهم ، ويشمل هذا الضّمير جميع الّذين لان لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم أصحابه الّذين حوله سواء من صدر منهم أمر يوم أحد وغيرهم.

والمشاورة مصدر شاور ، والاسم الشّورى والمشورة ـ بفتح الميم وضم الشّين ـ أصلها مفعلة ـ بضمّ العين ، فوقع فيها نقل حركة الواو إلى الساكن ـ. قيل : المشاورة مشتقّة من شار الدابّة إذا اختبر جريها عند العرض على المشتري ، وفعل شار الدابّة مشتقّ من المشوار وهو المكان الّذي تركض فيه الدوابّ. وأصله معرّب (نشخوار) بالفارسية وهو ما تبقيه الدابّة من علفها. وقيل : مشتقّة من شار العسل أي جناه من الوقبة لأنّ بها يستخرج الحقّ والصّواب ، وإنّما تكون في الأمر المهمّ المشكل من شئون المرء في نفسه أو شئون القبيلة أو شئون الأمة.

و (أل) في الأمر للجنس ، والمراد بالأمر المهمّ الّذي يؤتمر له ، ومنه قولهم : أمر أمر ، وقال أبو سفيان لأصحابه ـ في حديث هرقل ـ : «لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنّه يخافه ملك بني الأصفر». وقيل : أريد بالأمر أمر الحرب فاللام للعهد.

وظاهر الأمر أنّ المراد المشاورة الحقيقية الّتي يقصد منها الاستعانة برأي المستشارين بدليل قوله عقبه : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فضمير الجميع في قوله : (وَشاوِرْهُمْ) عائد على المسلمين خاصة : أي شاور الّذين أسلموا من بين من لنت لهم ، أي لا يصدّك خطل رأيهم فيما بدا منهم يوم أحد عن أن تستعين برأيهم في مواقع أخرى ، فإنّما كان ما حصل فلتة منهم ، وعشرة قد أقلتهم منها.

ويحتمل أن يراد استشارة عبد الله بن أبي وأصحابه ، فالمراد الأخذ بظاهر أحوالهم وتأليفهم ، لعلّهم أن يخلصوا الإسلام أو لا يزيدوا نفاقا ، وقطعا لأعذارهم فيما يستقبل.

وقد دلّت الآية على أن الشّورى مأمور بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما عبّر عنه ب (الأمر) وهو مهمّات الأمّة ومصالحها في الحرب وغيره ، وذلك في غير أمر التّشريع لأنّ أمر التّشريع إن كان فيه وحي فلا محيد عنه ، وإن لم يكن فيه وحي وقلنا بجواز الاجتهاد للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٦٧

في التّشريع فلا تدخل فيه الشورى لأنّ شأن الاجتهاد أن يستند إلى الأدلّة لا للآراء ، والمجتهد لا يستشير غيره إلّا عند القضاء باجتهاده. كما فعل عمر وعثمان.

فتعيّن أنّ المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شئون الأمّة ومصالحها ، وقد أمر الله بها هنا ومدحها في ذكر الأنصار في قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الشورى : ٣٨] واشترطها في أمر العائلة فقال : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) [البقرة : ٢٣٣]. فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلّها : وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة أو البلد ، ومصالح الأمّة.

واختلف العلماء في مدلول قوله : (وَشاوِرْهُمْ) هل هو للوجوب أو للندب ، وهل هو خاصّ بالرسول ـ عليه الصلاة السّلام ـ ، أو عامّ له ولولاة أمور الأمّة كلّهم.

فذهب المالكية إلى الوجوب والعموم ، قال ابن خويزمنداد : واجب على الولاة المشاورة ، فيشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدّين ، ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب ، ويشاورون وجوه النّاس فيما يتعلّق بمصالحهم ويشاورون وجوه الكتّاب والعمّال والوزراء فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها. وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنّها سبب للصّواب فقال : والشورى مسبار العقل وسبب الصّواب. يشير إلى أنّنا مأمورون بتحرّي الصّواب في مصالح الأمّة ، وما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب. وقال ابن عطية : الشورى من قواعد الشّريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، وهذا ما لا اختلاف فيه. واعتراض عليه ابن عرفة قوله : فعزله واجب ولم يعترض كونها واجبة ، إلّا أنّ ابن عطية ذكر ذلك جازما به وابن عرفة اعترضه بالقياس على قول علماء الكلام بعدم عزل الأمير إذا ظهر فسقه ، يعني ولا يزيد ترك الشورى على كونه ترك واجب فهو فسق. وقلت : من حفظ حجّة على من لم يحفظ ، وإنّ القياس فيه فارق معتبر فإنّ الفسق مضرّته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض بمصالح المسلمين للخطر والفوات ، ومحمل الأمر عند المالكية للوجوب والأصل عندهم عدم الخصوصية في التّشريع إلّا لدليل.

وعن الشافعي أنّ هذا الأمر للاستحباب ، ولتقتدي به الأمّة ، وهو عامّ للرسول وغيره ، تطييبا لنفوس أصحابه ورفعا لأقدارهم ، وروى مثله عن قتادة ، والرّبيع ، وابن إسحاق. وردّ هذا أبو بكر أحمد بن عليّ الرازي الحنفي المشهور بالجصّاص بقوله : لو كان معلوما عندهم أنّهم إذا استفرغوا جهدهم في استنباط الصّواب عمّا سئلوا عنه ، ثمّ لم

٢٦٨

يكن معمولا به ، لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم ، بل فيه إيحاشهم فالمشاورة لم تفد شيئا فهذا تأويل ساقط. وقال النووي ، في صدر كتاب الصلاة من «شرح مسلم» : الصحيح عندهم وجوبها وهو المختار. وقال الفخر : ظاهر الأمر أنّه للوجوب. ولم ينسب العلماء للحنفية قولا في هذا الأمر إلا أنّ الجصّاص قال في كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) : هذا يدلّ على جلالة وقع المشورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصّلاة ويدلّ على أنّنا مأمورون بها. ومجموع كلامي الجصّاص يدلّ أن مذهب أبي حنيفة وجوبها.

ومن السلف من ذهب إلى اختصاص الوجوب بالنّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله الحسن وسفيان ، قالا : وإنّما أمر بها ليقتدى به غيره وتشيع في أمّته وذلك فيما لا وحي فيه. وقد استشار النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه في الخروج لبدر ، وفي الخروج إلى أحد ، وفي شأن الأسرى يوم بدر ، واستشار عموم الجيش في ردّ سبي هوازن.

والظاهر أنّها لا تكون في الأحكام الشرعية لأنّ الأحكام إن كانت بوحي فظاهر ، وإن كانت اجتهادية ، بناء على جواز الاجتهاد للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأمور الشرعية ، فالاجتهاد إنّما يستند للأدلّة لا للآراء وإذا كان المجتهد من أمّته لا يستشير في اجتهاده ، فكيف تجب الاستشارة على النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنّه لو اجتهد وقلنا بجواز الخطإ عليه فإنّه لا يقرّ على خطإ باتّفاق العلماء. ولم يزل من سنّة خلفاء العدل استشارة أهل الرأي في مصالح المسلمين ، قال البخاري في كتاب الاعتصام من «صحيحه» : «وكانت الأئمة بعد النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم ، وكان القرّاء أصحاب مشورة عمر : كهولا كانوا أو شبّانا ، وكان وقّافا عند كتاب الله». وأخرج الخطيب عن عليّ قال : «قلت : يا رسول الله الأمر ينزل بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء ـ قال : اجمعوا له العابد من أمّتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد» واستشار أبو بكر في قتال أهل الردّة ، وتشاور الصّحابة في أمر الخليفة بعد وفاة النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ الأمر شورى بعده في ستّة عيّنهم ، وجعل مراقبة الشورى لخمسين من الأنصار ، وكان عمر يكتب لعمّاله يأمرهم بالتّشاور ، ويتمثّل لهم في كتابه بقول الشاعر (لم أقف على اسمه) :

خليليّ ليس الرأي في صدر واحد

أشيرا عليّ بالّذي تريان

هذا والشورى ممّا جبل لله عليه الإنسان في فطرته السليمة أي فطره على محبّة الصلاح وتطلّب النجاح في المساعي ، ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتّشاور في

٢٦٩

شأنه إذ قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، إذ قد غني الله عن إعانة المخلوقات في الرأي ولكنّه عرض على الملائكة مراده ليكون التّشاور سنّة في البشر ضرورة أنّه مقترن بتكوينه ، فإنّ مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه ، ولمّا كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين. ولم تزل الشورى في أطوار التاريخ رائجة في البشر فقد استشار فرعون في شأن موسى ـ عليه‌السلام ـ فيما حكى الله عنه بقوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) [الأعراف : ١١٠]. واستشارت بلقيس في شأن سليمان ـ عليه‌السلام ـ فيما حكى الله عنها بقوله : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) وإنّما يلهي النّاس عنها حبّ الاستبداد ، وكراهية سماع ما يخالف الهوى ، وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة ، ولذلك يهرع المستبدّ إلى الشورى عند المضائق. قال ابن عبد البرّ في بهجة المجالس : الشورى محمودة عند عامّة العلماء ولا أعلم أحدا رضي الاستبداد إلّا رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة ، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة ، وكلا الرجلين فاسق. ومثل أوّلهما قول عمر بن أبي ربيعة :

واستبدّت مرّة واحدة

إنّما العاجز من لا يستبدّ

ومثل ثانيهما قول سعد بن ناشب :

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه

ونكّب عن ذكر العواقب جانبا

ولم يستشر في أمره غير نفسه

ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا

ومن أحسن ما قيل في الشورى قول بشار بن برد :

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن

بحزم نصيح أو نصيحة حازم

ولا تحسب الشورى عليك غضاضة

مكان الخوافي قوّة للقوادم

وهي أبيات كثيرة مثبتة في كتب الأدب.

وقوله : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) العزم هو تصميم الرأي على الفعل وحذف متعلّق (عزمت) لأنّه دلّ عليه التفريع عن قوله : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ، فالتقدير : فإذا عزمت على الأمر. وقد ظهر من التفريع أنّ المراد : فإذا عزمت بعد الشورى أي تبيّن لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فعزمت على تنفيذه سواء كان على وفق بعض آراء أهل الشورى أم كان رأيا آخر لاح للرّسول سداده فقد يخرج من آراء أهل الشورى رأي ، وفي

٢٧٠

المثل : «ما بين الرأيين رأي».

وقوله : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) التوكّل حقيقته الاعتماد ، وهو هنا مجاز في الشروع في الفعل مع رجاء السداد فيه من الله ، وهو شأن أهل الإيمان ، فالتوكّل انفعال قلبي عقلي يتوجّه به الفاعل إلى الله راجيا الإعانة ومستعيذا من الخيبة والعوائق ، وربّما رافقه قول لساني وهو الدعاء بذلك. وبذلك يظهر أن قوله : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) دليل على جواب إذا ، وفرع عنه ، والتقدير : فإذا عزمت فبادر ولا تتأخّر وتوكّل على الله ، لأنّ للتأخّر آفات ، والتردّد يضيّع الأوقات ، ولو كان التّوكل هو جواب إذا لما كان للشورى فائدة لأنّ الشورى كما علمت لقصد استظهار أنفع الوسائل لحصول الفعل المرغوب على أحسن وجه وأقربه ، فإنّ القصد منها العمل بما يتّضح منها ، ولو كان المراد حصول التوكّل من أوّل خطور الخاطر ، لما كان للأمر بالشورى من فائدة. وهذه الآية أوضح آية في الإرشاد إلى معنى التّوكل الّذي حرف القاصرون ومن كان على شاكلتهم معناه ، فأفسدوا هذا الدين من مبناه.

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) لأنّ التوكّل علامة صدق الإيمان ، وفيه ملاحظة عظمة الله وقدرته ، واعتقاد الحاجة إليه ، وعدم الاستغناء عنه وهذا ، أدب عظيم مع الخالق يدلّ على محبّة العبد ربّه فلذلك أحبّه الله.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

استئناف نشأ عن قوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) [آل عمران : ١٥٧] أو عن قوله : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) [آل عمران : ١٥٦] الآية.

ولو حمل هذا الخبر على ظاهر الإخبار لكان إخبارا بأمر معلوم عند المخاطبين إذ هم مؤمنون ، ولا يجهل مؤمن أنّ الله إذا قدّر نصر أحد فلا رادّ لنصره ، وأنّه إذا قدّر خذله فلا ملجأ له من الهزيمة ، فإنّ مثل هذا المعنى محقّق في جانب الله لا يجهله معترف بإلهيته ، مؤمن بوحدانيته ، وهل بعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته ، فيتعيّن أن يكون هذا الخبر مرادا به غير ظاهر الإخبار ، وأحسن ما يحمل عليه أن يكون تقريرا لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة ، حتّى لا يحزنوا على ما فات لأنّ ردّ الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس ، وعزاء

٢٧١

على المصيبة ، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أنّ نصر الله قوما في بعض الأيّام ، وخذله إيّاهم في بعضها ، لا يكون إلّا لحكم وأسباب ، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر ، وتجنّب أسباب السخط الموجب للخذل كما أشار إليه قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] وقوله : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) [آل عمران : ١٥٣] وقوله الآتي : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا) [آل عمران : ١٦٥] وعليهم التطلّب للأسباب الّتي قدر لهم النّصر لأجلها في مثل يوم بدر ، وأضدادها الّتي كان بها الخذل في يوم أحد ، وفي التفكير في ذلك مجال واسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضارّ على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك ، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها ، وزجّ بها في مسارح العبر ، ومراكض العظات ، والسابقون الجياد ، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحضّ على تحصيل ذلك. وعلى هذا الوجه تظهر مناسبة موقع هذا الاستئناف عقب ما تقدّمه : لأنّه بعد أن خاطبهم بفنون الملام والمعذرة والتسلية من قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) [آل عمران : ١٣٧] إلى هنا ، جمع لهم كلّ ذلك في كلام جامع نافع في تلقّي الماضي ، وصالح للعمل به في المستقبل ، ويجوز أن يكون الإخبار مبنيّا على تنزيل العالم منزلة الجاهل ، حيث أظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأوّل في أمر الرسول لهم في الثبات ، ومن التلهّف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح ، ما جعل حالهم كحال من يجهل أنّ النصر والخذل بيد الله تعالى. فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر.

والنّصر : الإعانة على الخلاص من غلب العدوّ ومريد الإضرار.

والخذلان ضدّه : وهو إمساك الإعانة مع القدرة ، مأخوذ من خذلت الوحشية إذا تخلفت عن القطيع لأجل عجز ولدها عن المشي.

ومعنى (إِنْ يَنْصُرْكُمُ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) إن يرد هذا لكم ، وإلّا لما استقام جواب الشرط الأوّل ، وهو (فَلا غالِبَ لَكُمْ) إذ لا فائدة في ترتيب عدم الغلب على حصول النصر بالفعل ، ولا سيما مع نفي الجنس في قوله : (فَلا غالِبَ لَكُمْ) ، لأنّه يصير من الإخبار بالمعلوم ، كما تقول : إن قمت فأنت لست بقاعد. وأمّا فعل الشرط الثّاني وهو : (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) فيقدّر كذلك حملا على نظيره ، وإن كان يستقيم المعنى بدون تأويل فيه. وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] الآية.

٢٧٢

وجعل الجواب بقوله : (فَلا غالِبَ لَكُمْ) دون أن يقول : لا تغلبوا ، للتنصيص على التّعميم في الجواب ، لأنّ عموم ترتّب الجزاء على الشرط أغلبي وقد يكون جزئيا أي لا تغلبوا من بعض المغالبين ، فأريد بإفادة التعميم دفع التّوهم.

والاستفهام في قوله : (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) إنكاري أي فلا ينصركم أحد غيره.

وكلمة (مِنْ بَعْدِهِ) هنا مستعملة في لازم معناها وهو المغايرة والمجاوزة : أي فمن الّذي ينصركم دونه أو غيره أي دون الله ، فالضّمير ضمير اسم الجلالة لا محالة ، واستعمال (بعد) في مثل هذا شائع في القرآن قال تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣] وأصل هذا الاستعمال أنه كالتمثيلية المكنية : بأن مثلت الحالة الحاصلة من تقدير الانكسار بحالة من أسلم الذي استنصر به وخذله فتركه وانصرف عنه لأن المقاتل معك إذا ولى عنك فقد خذلك فحذف ما يدل على الحالة المشبه بها ورمز إليه بلازمه وهو لفظ (مِنْ بَعْدِهِ).

وجملة (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) تذييل قصد به الأمر بالتّوكل المستند إلى ارتكاب أسباب نصر الله تعالى : من أسباب عادية وهي الاستعداد ، وأسباب نفسانية وهي تزكية النفس واتّباع رضى الله تعالى.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١))

الأظهر أنّه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض رعلى الغرض وموقعه عقب جملة : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) [آل عمران : ١٦٠]. الآية لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذل بيده ، وذلك يستلزم التّحريض على طلب مرضاته ليكون لطيفا بمن يرضونه. وإذ قد كانت هذه النّصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم ، نبّهوا إلى شيء يستخفّ به الجيش في الغزوات ، وهو الغلول ليعلموا أنّ ذلك لا يرضي الله تعالى فيحذروه ويكونوا ممّا هو أدعى لغضب الله أشدّ حذرا فهذه مناسبة التّحذير من الغلول ويعضّد ذلك أنّ سبب هزيمتهم يوم أحد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم. والغلول : تعجّل بأخذ شيء من غال الغنيمة.

ولا تجد غير هذا يصلح لأن يكون مناسبا لتعقيب آية النصر بآية الغلول ، فإنّ غزوة

٢٧٣

أحد الّتي أتت السورة على قصّتها لم يقع فيها غلول ولا كائن للمسلمين فيها غنيمة وما ذكره بعض المفسّرين من قضية غلول وقعت يوم بدر في قطيفة حمراء أو في سيف لا يستقيم هنا لبعد ما بين غزوة بدر وغزوة أحد فضلا على ما ذكره بعضهم من نزول هذه الآية في حرص الأعراب على قسمة الغنائم يوم حنين الواقع بعد غزوة أحد بخمس سنين.

وقرأ جمهور العشرة : يغلّ ـ بضمّ التحتية وفتح الغين ـ وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو وعاصم ـ بفتح التحتية وضمّ الغين ـ.

والفعل مشتقّ من الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة بدون إذن أمير الجيش ، والغلول مصدر غير قياسي ، ويطلق الغلول على الخيانة في المال مطلقا.

وصيغة (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) صيغة جحود تفيد مبالغة النّفي. وقد تقدّم القول فيها عند قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) [آل عمران : ٧٩] في هذه السورة فإذا استعملت في الإنشاء كما هنا أفادت المبالغة في النّهي. والمعنى على قراءة الجمهور نهي جيش النّبيء عن أن يغلو لأنّ الغلول في غنائم النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم غلول للنّبي ، إذ قسمة الغنائم إليه ، وأمّا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم فمعنى أن النّبيء لا يغلّ أنّه لا يقع الغلول في جيشه فإسناد الغلول إلى النّبيء مجاز عقلي لملابسة جيش النّبيء نبيئهم ولك أن تجعله على تقدير مضاف. والتقدير : ما كان لجيش نبيء أن يغلّ.

ولبعض المفسّرين من المتقدّمين ومن بعدهم تأويلات للمعنى على هذه القراءة فيها سماجة.

ومعنى و (مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أنّه يأتي به مشهّرا مفضوحا بالسرقة.

ومن اللّطائف ما في البيان والتبيين للجاحظ : أنّ مزيدا ـ رجلا من الأعراب ـ سرق نافجة مسك فقيل له : كيف تسرقها وقد قال الله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ)؟ فقال : إذن أحملها طيّبة الريح خفيفة المحمل. وهذا تلميح وتلقي المخاطب بغير ما يترقّب. وقريب منه ما حكي عن عبد الله بن مسعود والدرك على من حكاه قالوا : لمّا بعث إليه عثمان ليسلم مصحفه ليحرقه بعد أن اتّفق المسلمون على المصحف الّذي كتب في عهد أبي بكر قال ابن مسعود : إنّ الله قال : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ

٢٧٤

الْقِيامَةِ) وإنّي غالّ مصحفي فمن استطاع منكم أن يغلّ مصحفه فليفعل. ولا أثق بصحّة هذا الخبر لأنّ ابن مسعود يعلم أنّ هذا ليس من الغلول.

وقوله : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) تنبيه على العقوبة بعد التفضيح ، إذ قد علم أنّ الكلام السابق مسوق مساق النّهي ، وجيء ب (ثمّ) للدّلالة على طول مهلة التفضيح ، ومن جملة النّفوس الّتي توفّى ما كسبت نفس من يغلل ، فقد دخل في العموم.

وجملة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) حال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها وهي (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ).

والآية دلّت على تحريم الغلول وهو أخذ شيء من المغنم بغير إذن أمير الجيش ، وهو من الكبائر لأنّه مثل السرقة ، وأصحّ ما في الغلول حديث «الموطأ» : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رجع من خيبر قاصدا وادي القرى وكان له عبد أسود يدعى مدعما ، فبينما هو يحطّ رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ جاءه سهم عائر فقتله ، فقال النّاس : هنيئا له الجنّة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّا والّذي نفسي بيده إن الشّملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا».

ومن غلّ في المغنم يؤخذ منه ما غلّه ويؤدّب بالاجتهاد ، ولا قطع فيه باتّفاق ، هذا قول الجمهور ، وقال الأوزاعي ، وإسحاق ، وأحمد بن حنبل ، وجماعة : يحرق متاع الغالّ كلّه عدا سلاحه وسرجه ، ويردّ ما غلّه إلى بيت المال ، واستدلّوا بحديث رواه صالح بن محمد بن زائدة أبو واقد الليثي ، عن عمر بن الخطاب : أنّ النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه» وهو حديث ضعيف ، قال الترمذي سألت محمدا ـ يعني البخاري ـ عنه فقال : «إنّما رواه صالح بن محمد ، وهو منكر الحديث. على أنّه لو صحّ لوجب تأويله لأنّ قواعد الشّريعة تدلّ على وجوب تأويله فالأخذ به إغراق في التعلّق بالظواهر وليس من التفقّه في شيء.

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣))

تفريع على قوله : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فهو كالبيان لتوفية كلّ نفس بما كسبت.

٢٧٥

والاستفهام إنكار للمماثلة المستفادة من كاف التّشبيه فهو بمعنى لا يستوون. والاتّباع هنا بمعنى التطلّب : شبه حال المتوخي بأفعاله رضى الله بحال المتطلّب لطلبة فهو يتبعها حيث حلّ ليقتنصها ، وفي هذا التّشبيه حسن التنبيه على أنّ التحصيل على رضوان الله تعالى محتاج إلى فرط اهتمام ، وفي فعل (باء) من قوله : (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) تمثيل لحال صاحب المعاصي بالّذي خرج يطلب ما ينفعه فرجع بما يضرّه ، أو رجع بالخيبة كما تقدّم في معنى قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) في سورة البقرة [١٦]. وقد علم من هذه المقابلة حال أهل الطاعة وأهل المعصية ، أو أهل الإيمان وأهل الكفر.

وقوله : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) عاد الضّمير ل (فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) لأنّهم المقصود من الكلام ، ولقرينة قوله : (دَرَجاتٌ) لأن الدرجات منازل رفعة.

وقوله : (عِنْدَ اللهِ) تشريف لمنازلهم.

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))

استئناف لتذكير رجال يوم أحد وغيرهم من المؤمنين بنعمة الله عليهم. ومناسبة ذكره هنا أنّ فيه من التسلية على مصيبة الهزيمة حظّا عظيما ، إذ قد شاع تصبير المحزون وتعزيته بتذكيره ما هو فيه من النعم ، وله مزيد ارتباط بقوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] ، وكذلك جاءت آي هذا الغرض في قصة أحد ناشئا بعضها عن بعض ، متفنّنة في مواقعها بحسب ما سمحت به فرص الفراغ من غرض والشروع في غيره فما تجد طراد الكلام يغدو طلقا في حلبة الاستطراد إلا وتجد له رواحا إلى منبعثه.

والمنّ هنا : إسداء المنّة أي النّعمة ، وليس هو تعداد النعمة على المنعم عليه مثل الّذي في قوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) في سورة البقرة [٢٦٤] ، وإن كان ذكر هذا المنّ منّا بالمعنى الآخر. والكلّ محمود من الله تعالى لأنّ المنّ إنّما كان مذموما لما فيه من إبداء التطاول على المنعم عليه ، وطول الله ليس بمجحود.

والمراد بالمؤمنين هنا المؤمنون يومئذ وهم الّذين كانوا مع النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقرينة السياق وهو قوله : (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من أمّتهم العربية.

و (إذ) ظرف ل (منّ) لأنّ الإنعام بهذه النّعمة حصل أوقات البعث.

٢٧٦

ومعنى (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) المماثلة لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سببا لقوّة التواصل ، وهي هنا النسب ، واللغة ، والوطن. والعرب تقول : فلان من بني فلان من أنفسهم ، أي من صميمهم ليس انتسابه إليهم بولاء أو لصق ، وكأنّه هذا وجه إطلاق النفس عليه التي هي في معنى المماثلة ، فكونه من أهل نسبهم أي كونه عربيا يوجب أنسهم به والركون إليه وعدم الاستيحاش منه ، وكونه يتكلّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به ، وكونه جارا لهم وربيّا فيهم يعجّل لهم التصديق برسالته ، إذ يكونون قد خبروا أمره ، وعلموا فضله ، وشاهدوا استقامته ومعجزاته. وعن النقاش : قيل ليس في العرب قبيلة إلا ولها ولادة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا تغلب ، وبذلك فسّر : «قل لا أسألكم عليه أجرا إلّا المودّة في القربى».

وهذه المنّة خاصّة بالعرب ومزيّة لهم ، زيادة على المنّة ببعثة محمد على جميع البشر ، فالعرب وهم الذين تلقّوا الدعوة قبل الناس كلّهم ، لأنّ الله أراد ظهور الدين بينهم ليتلقّوه التلقّي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم وسرعة فهمهم لدقائق اللغة ، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر ، فيكونوا أعوانا على عموم الدعوة ، ولمن تخلّق بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزيّة وهو معظمها ، إذ لم يفته منها إلا النسب والموطن وما هما إلا مكمّلان لحسن التلقّي ، ولذلك كان المؤمنون مدّة حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العرب خاصّة بحيث إنّ تلقّيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقرّ الدين. وقد روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من دخل في الإسلام فهو من العرب».

وقوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي يقرأ عليهم القرآن ، وسمّيت جمل القرآن آيات لأنّ كلّ واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى ، كما تقدّم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، فكانوا صالحين لفهم ما يتلى عليهم من غير حاجة لترجمان.

والتزكية : التطهير ، أي يطهر النفوس بهدي الإسلام.

وتعليم الكتاب هو تبيين مقاصد القرآن وأمرهم بحفظ ألفاظه ، لتكون معانيه حاضرة عندهم.

والمراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام لأنّ ذلك كلّه مانع للأنفس من سوء الحال واختلال النظام ، وذلك من معنى الحكمة ، وتقدّم

٢٧٧

القول في ذلك عند قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦٩].

وعطف الحكمة على الكتاب عطف الأخصّ من وجه على الأعمّ من وجه ، فمن الحكمة ما هو في الكتاب نحو : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر : ٩] ومنها ما ليس في الكتاب مثل قوله عليه‌السلام : «لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين» وفي الكتاب ما هو علم وليس حكمة مثل فرض الصلاة والحجّ.

وجملة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حال ، وإن مخففة مهملة ، والجملة بعدها خبر عن ضمير الشأن محذوف ، والجملة خبره على رأي صاحب «الكشاف» ، وهو التحقيق إذ لا وجه لزوال عملها مع بقاء معناها ، ولا وجه للتفرقة بينها وبين المفتوحة إذا خففت فقد قدّروا لها اسما هو ضمير الشأن ، بل نجد المكسورة أولى ببقاء العمل عند التخفيف لأنها أمّ الباب فلا يزول عملها بسهولة ، وقال جمهور النحاة : يبطل عملها وتكون بعدها جملة ، وعلى هذا فالمراد بإهمالها أنّها لا تنصب مفردين بل تعمل في ضمير شأن وجملة إمّا اسمية ، أو فعلية فعلها من النواسخ غالبا.

ووصف الضلال بالمبين لأنّه لشدّته لا يلتبس على أحد بشائبة هدى ، أو شبهة ، فكان حاله مبيّنا كونه ضلالا كقوله : (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [النمل : ١٣].

والمراد به ضلال الشرك والجهالة والتقاتل وأحكام الجاهلية.

ويجوز أن يشمل قوله : (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) المؤمنين في كل العصور ويراد بكونه من أنفسهم أنّه من نوع البشر. ويراد بإسناد تعليم الكتاب والحكمة إليه ما يجمع بين الإسناد الحقيقي والمجازي ، لأنّ تعليم ذلك متلقّي منه مباشرة أو بالواسطة.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥))

عطف الاستفهام الإنكاري التعجيبي على ما تقدّم ، فإنّ قولهم : (أَنَّى هذا) ممّا ينكر ويتعجّب السامع من صدوره منهم بعد ما علموا ما أتوا من أسباب المصيبة ، إذ لا ينبغي أن يخفى على ذي فطنة ، وقد جاء موقع هذا الاستفهام بعد ما تكرّر : من تسجيل تبعة الهزيمة عليهم بما ارتكبوا من عصيان أمر الرسول ، ومن العجلة إلى الغنيمة ، وبعد أن أمرهم بالرضا بما وقع ، وذكّرهم النصر الواقع يوم بدر ، عطف على ذلك هنا إنكار

٢٧٨

تعجّبهم من إصابة الهزيمة إيّاهم.

(ولمّا) اسم زمان مضمّن معنى الشرط فيدلّ على وجود جوابه لوجود شرطه ، وهو ملازم الإضافة إلى جملة شرطه ، فالمعنى : قلتم لمّا أصابتكم مصيبة : أنّى هذا ،.

وجملة (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) صفة «لمصيبة» ، ومعنى أصبتم غلبتم العدوّ ونلتم منه مثلي ما أصابكم به ، يقال : أصاب إذا غلب ، وأصيب إذا غلب ، قال قطريّ بن الفجاءة:

ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب

جذع البصيرة قارح الإقدام

والمراد بمثليها المساويان في الجنس أو القيمة باعتبار جهة المماثلة أي : أنّكم قد نلتم مثلي ما أصابكم ، والمماثلة هنا مماثلة في القدر والقيمة ، لا في الجنس ، فإنّ رزايا الحرب أجناس : قتل ، وأسر ، وغنيمة ، وأسلاب ، فالمسلمون أصابهم يوم أحد القتل : إذا قتل منهم سبعون ، وكانوا قد قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين ، فهذا أحد المثلين ، ثم إنّهم أصابوا من المشركين أسرى يوم بدر فذلك مثل آخر في المقدار إذ الأسير كالقتيل ، أو أريد أنّهم يوم أحد أصابوا قتلى إلّا أنّ عددهم أقلّ فهو مثل في الجنس لا في المقدار والقيمة.

و (أنّى) استفهام بمعنى من أين قصدوا به التعجّب والإنكار ، وجملة (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) جواب (لمّا) ، والاستفهام بأنّى هنا مستعمل في التعجّب.

ثم ذيّل الإنكار والتعجّب بقوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إنّ الله قدير على نصركم وعلى خذلانكم ، فلمّا عصيتم وجررتم لأنفسكم الغضب قدّر الله لكم الخذلان.

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

عطف على قوله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) [آل عمران : ١٦٥] وهو كلام وارد على معنى التسليم أي : هبوا أنّ هذه مصيبة ، ولم يكن عنها عوض ، فهي بقدر الله ، فالواجب

٢٧٩

التسليم ، ثم رجع إلى ذكر بعض ما في ذلك من الحكمة.

وقوله : (وَما أَصابَكُمْ) أراد به عين المراد بقوله : (أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) وهي مصيبة الهزيمة. وإنّما أعيد ما أصابكم ليعيّن اليوم بأنّه يوم التقى الجمعان. وما موصولة مضمّنة معنى الشرط كأنّه قيل : وأمّا ما أصابكم ، لأنّ قوله : (وَما أَصابَكُمْ) معناه بيان سببه وحكمته ، فلذلك قرن الخبر بالفاء. و (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) هو يوم أحد. وإنّما لم يقل وهي بإذن الله لأنّ المقصود إعلان ذكر المصيبة وأنّها بإذن الله إذ المقام مقام إظهار الحقيقة ، وأمّا التعبير بلفظ (ما أَصابَكُمْ) دون أن يعاد لفظ المصيبة فتفنّن ، أو قصد الإطناب.

والإذن هنا مستعمل في غير معناه إذ لا معنى لتوجّه الإذن إلى المصيبة فهو مجاز في تخلية الله تعالى بين أسباب المصيبة وبين المصابين ، وعدم تدارك ذلك باللطف. ووجه الشبه أنّ الإذن تخلية بين المأذون ومطلوبه ومراده ، ذلك أنّ الله تعالى رتّب الأسباب والمسبّبات في هذا العالم على نظام ، فإذا جاءت المسبّبات من قبل أسبابها فلا عجب ، والمسلمون أقلّ من المشركين عددا وعددا فانتصار المسلمين يوم بدر كرامة لهم ، وانهزامهم يوم أحد عادة وليس بإهانة. فهذا المراد بالإذن.

وقوله : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على (فَبِإِذْنِ اللهِ) عطف العلّة على السبب. والعلم هنا كناية عن الظهور والتقرّر في الخارج كقول إياس بن قبيصة الطائي :

وأقبلت والخطّيّ يخطر بيننا

لأعلم من جبانها من شجاعها

أراد لتظهر شجاعتي وجبن الآخرين. وقد تقدّم نظيره قريبا.

و (الَّذِينَ نافَقُوا) هم عبد الله بن أبيّ ومن انخزل معه يوم أحد ، وهم الذين قيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قاله لهم عبد الله بن عمر بن حرام الأنصاري ، والد جابر بن عبد الله ، فإنّه لمّا رأى انخزالهم قال لهم : اتّقوا الله ولا تتركوا نبيئكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. والمراد بالدفع حراسة الجيش وهو الرباط أي : ادفعوا عنّا من يريدنا من العدوّ فلمّا قال عبد الله بن عمر بن حرام ذلك أجابه عبد الله بن أبي وأصحابه بقولهم : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم ، أي لم نعلم أنّه قتال ، قيل : أرادوا أنّ هذا ليس بقتال بل إلقاء باليد إلى التّهلكة ، وقيل : أرادوا أنّ قريشا لا ينوون القتال ، وهذا لا يصحّ إلّا لو كان قولهم هذا حاصلا قبل انخزالهم ، وعلى هذين فالعلم بمعنى التحقّق

٢٨٠