تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

والخلق هنا مستعمل في حقيقته أي : أقدّر لكم من الطين كهيئة الطير ، وليس المراد به خلق الحيوان ، بدليل قوله فأنفخ فيه.

وتقدم الكلام على لفظ الطّير في قوله تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) في سورة البقرة [٣٦٠]. والكاف في قوله : (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) بمعنى مثل ، وهي صفة لموصوف محذوف دل عليه أخلق ، أي شيئا مقدّرا مثل هيئة الطير. وقرأ الجمهور «الطّير» وهو اسم يقع على الجمع غالبا وقد يقع على الواحد. وقرأه أبو جعفر «الطائر».

والضمير المجرور بفي من قوله : (فَأَنْفُخُ فِيهِ) عائد إلى ذلك الموصوف المحذوف الذي دلت عليه الكاف.

وقرأ نافع ـ وحده ـ فيكون طائرا بالإفراد وقرأ الباقون فيكون طيرا بصيغة اسم الجمع فقراءة نافع على مراعاة انفراد الضمير ، وقراءة الباقين على اعتبار المعنى. جعل لنفسه التقدير ، وأسند لله تكوين الحياة فيه.

والهيئة : الصورة والكيفية أي أصوّر من الطين صورة كصورة الطير. وقرأ الجميع كهيئة بتحتية ساكنة بعدها همزة مفتوحة.

وزاد قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) لإظهار العبودية ، ونفي توهم المشاركة في خلق الكائنات.

والأكمه : الأعمى ، أو الذي ولد أعمى.

والأبرص : المصاب بداء البرص وهو داء جلدي له مظاهر متنوّعة منها الخفيف ومنها القوي وأعراضه بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد فإن كانت غائرة في الجلد فهو البرص وإن كانت مساوية لسطح الجلد فهو البهق ثم تنتشر على الجلد فربما عمّت الجلد كله حتى يصير أبيض ، وربما بقيت متميزة عن لون الجلد.

وأسبابه مجهولة ، ويأتي بالوراثة ، وهو غير معد ، وشوهد أنّ الإصابة به تكثر في الذين يقللون من النظافة أو يسكنون الأماكن القذرة. والعرب والعبرانيون واليونان يطلقون البرص على مرض آخر هو من مبادئ الجذام فكانوا يتشاءمون بالبرص إذا بدت أعراضه على واحد منهم. فأما العرب فكان ملوكهم لا يكلمون الأبرص إلّا من وراء حجاب ، كما وقع في قصّة الحارث بن حلزة الشاعر مع الملك عمرو بن هند. وأما العبرانيون فهم أشدّ في ذلك. وقد اهتمت التوراة بأحكام الأبرص ، وأطالت في بيانها ، وكرّرته مرارا ، ويظهر منها أنه مرض ينزل في الهواء ويلتصق بجدران المنازل ، وقد وصفه الوحي لموسى ليعلّمه

١٠١

الكهنة من بني إسرائيل ويعلمهم طريقة علاجه ، ومن أحكامهم أنّ المصاب يعزل عن القوم ويجعل في محل خاص وأحكامه مفصّلة في سفر اللاويين. ولهذا كان إعجاز المسيح بإبراء الأبرص أهمّ المعجزات فائدة عندهم دينا ودنيا.

وقد ذكر فقهاء الإسلام البرص في عيوب الزوجين الموجبة للخيار وفصّلوا بين أنواعه التي توجب الخيار والتي لا توجبه ولم يضبطوا أوصافه واقتصروا على تحديد أجل برئه.

وإحياء الموتى معجزة للمسيح أيضا ، كنفخ الروح في الطير المصوّر من الطين ، فكان إذا أحيا ميتا كلّمه ثم رجع ميّتا ، وورد في الأناجيل أنّه أحيا بنتا كانت ماتت فأحياها عقب موتها. ووقع في إنجيل متّى في الإصحاح ١٧ أنّ عيسى صعد الجبل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا أخوه وأظهر لهم موسى وإيلياء يتكلمان معهم ، وكلّ ذلك بإذن الله له أن يفعل ذلك.

ومعنى قوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أنّه يخبرهم عن أحوالهم التي لا يطّلع عليها أحد فيخبرهم بما أكلوه في بيوتهم ، وما عندهم مدّخر فيها ، لتكون هاته المتعاطفات كلّها من قبيل المعجزات بقرينة قوله أنبّئكم لأنّ الإنباء يكون في الأمور الخفية.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) جعل هذه الأشياء كلّها آيات تدعو إلى الإيمان به ، أي إن كنتم تريدون الإيمان ، بخلاف ما إذا كان دأبكم المكابرة. والخطاب موجّه منه إلى بني إسرائيل فإنهم بادروا دعوته بالتكذيب والشتم.

وتعرّض القرآن لذكر هذه المعجزات تعريض بالنصارى الذين جعلوا منها دليلا على ألوهية عيسى ، بعلة أنّ هذه الأعمال لا تدخل تحت مقدرة البشر ، فمن قدر عليها فهو الإله ، وهذا دليل سفسطائي أشار الله إلى كشفه بقوله : (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) مرتين. وقد روى أهل السّير أنّ نصارى نجران استدلوا بهذه الأعمال لدى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٥٠ ، ٥١] (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))

١٠٢

عطف على «بآية» بناء على أنّ قوله : «بآية» ظرف مستقرّ في موضع الحال كما تقدم أو عطف على جملة (جِئْتُكُمْ) فيقدّر فعل جئتكم بعد واو العطف ، (وَمُصَدِّقاً) حال من ضمير المقدّر معه ، وليس عطفا على قوله : (وَرَسُولاً) [آل عمران : ٤٩] لأنّ رسولا من كلام الملائكة ، (وَمُصَدِّقاً) من كلام عيسى بدليل قوله : (لِما بَيْنَ يَدَيَ).

والمصدّق : المخبر بصدق غيره ، وأدخلت اللام على المفعول للتقوية ، للدلالة على تصديق مثبت محقّق ، أي مصدّقا تصديقا لا يشوبه شك ولا نسبة إلى خطأ. وجعل التصديق متعديا إلى التوراة توطئة لقوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ).

ومعنى ما بين يديّ ما تقدم قبلي ، لأنّ المتقدّم السابق يمشي بين يدي الجائي فهو هنا تمثيل لحالة السبق ، وإن كان بينه وبين نزول التوراة أزمنة طويلة ، لأنّها لما اتّصل العمل بها إلى مجيئه ، فكأنها لم تسبقه بزمن طويل. ويستعمل بين يدي كذا في معنى المشاهد الحاضر ، كما تقدم في قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) في سورة البقرة.

وعطف قوله (وَلِأُحِلَ) على (رَسُولاً) وما بعده من الأحوال : لأنّ الحال تشبه العلة ؛ إذ هي قيد لعاملها ، فإذا كان التقييد على معنى التعليل شابه المفعول لأجله ، وشابه الجرور بلام التعليل ، فصح أن يعطف عليها مجرور بلام التعليل. ويجوز أن يكون عطفا على قوله : (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) فيتعلّق بفعل جئتكم. وعقب به قوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) تنبيها على أنّ النسخ لا ينافي التصديق ؛ لأنّ النسخ إعلام بتغيّر الحكم. وانحصرت شريعة عيسى في إحياء أحكام التوراة وما تركوه فيها وهو في هذا كغيره من أنبياء بني إسرائيل ، وفي تحليل بعض ما حرمه الله عليهم رعيا لحالهم في أزمنة مختلفة ، وبهذا كان رسولا. قيل أحلّ لهم الشحوم ، ولحوم الإبل ، وبعض السمك ، وبعض الطير : الذي كان محرّما من قبل ، وأحلّ لهم السبت ، ولم أقف على شيء من ذلك في الإنجيل. وظاهر هذا أنّه لم يحرّم عليهم ما حلّل لهم ، فما قيل : إنّه حرّم عليهم الطلاق فهو تقوّل عليه وإنّما حذّرهم منه وبيّن لهم سوء عواقبه ، وحرّم تزوج المرأة المطلّقة وينضم إلى ذلك ما لا تخلو منه دعوة : من تذكير ، ومواعظ ، وترغيبات.

(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

١٠٣

وقوله : (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) تأكيد لقوله الأول : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ٤٩]. وإنما عطف بالواو لأنه أريد أن يكون من جملة الأخبار المتقدّمة ويحصل التأكيد بمجرّد تقدم مضمونه ، فتكون لهذه الجملة اعتباران يجعلانها بمنزلة جملتين ، وليبنى عليه التفريع بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

وقرأ الجمهور قوله : (وَأَطِيعُونِ) بحذف ياء المتكلم في الوصل والوقف ، وقرأه يعقوب : بإثبات الياء فيهما.

وقوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) إنّ مكسورة الهمزة لا محالة ، وهي واقعة موقع التعليل للأمر بالتقوى والطاعة كشأنها إذا وقعت لمجرّد الاهتمام كقول بشار.

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير

إنّ ذاك النجاح في التبكير

ولذلك قال : (رَبِّي وَرَبُّكُمْ) فهو لكونه ربّهم حقيق بالتقوى ، ولكونه ربّ عيسى وأرسله تقتضي تقواه طاعة رسوله.

وقوله : فاعبدوه تفريع على الرّبوبية ، فقد جعل قوله إنّ الله ربي تعليلا ثم أصلا للتفريع.

وقوله : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الإشارة إلى ما قاله كلّه أي أنّه الحق الواضح فشبهه بصراط مستقيم لا يضلّ سالكه ولا يتحير.

[٥٢ ، ٥٣] (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣))

آذن شرط لما بجمل محذوفة ، تقديرها : فولد عيسى ، وكلم الناس في المهد بما أخبرت به الملائكة مريم ، وكلم الناس بالرسالة. وأراهم الآيات الموعود بها ، ودعاهم إلى التصديق به وطاعته ، فكفروا به ، فلما أحسّ منهم الكفر قال إلى آخره. أي أحسّ الكفر من جماعة من الذين خاطبهم بدعوته في قوله : (وَأَطِيعُونِ) [آل عمران : ٥٠] أي سمع تكذيبهم إياه وأخبر بتمالئهم عليه. «ومنهم» متعلق بأحسّ. وضمير منهم عائد إلى معلوم من المقام يفسره وصف الكفر.

وطلب النصر الإظهار الدعوة لله ، موقف من مواقف الرسل ، فقد أخبر الله عن نوح

١٠٤

«فدعا ربه أنّي مغلوب فانتصر» وقال موسى : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) [طه : ٢٩] وقد عرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه على قبائل العرب لينصروه حتى يبلغ دعوة ربّه.

وقوله : (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) لعله قاله في ملإ بني إسرائيل إبلاغا للدعوة ، وقطعا للمعذرة. والنصر يشمل إعلان الدين والدعوة إليه. ووصل وصف أنصاري بإلى إما على تضمين صفة أنصار معنى الضم أي من ضامون نصرهم إياي إلى نصر الله إياي ، الذي وعدني به ؛ إذ لا بدّ لحصول النصر من تحصيل سببه كما هي سنّة الله : قال تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] على نحو قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] أي ضامّينها فهو ظرف لغو ، وإما على جعله حالا من ياء المتكلم والمعنى في حال ذهابي إلى الله ، أي إلى تبليغ شريعته ، فيكون المجرور ظرفا مستقرا. وعلى كلا الوجهين فالكون الذي اقتضاه المجرور هو كون من أحوال عيسى عليه‌السلام ولذلك لم يأت الحواريون بمثله في قولهم نحن أنصار الله.

والحواريون : لقب لأصحاب عيسى ، عليه‌السلام : الذين آمنوا به ولازموه ، وهو اسم معرّب من النبطية ومفرده حواري قاله في الإتقان عن ابن حاتم عن الضحّاك ولكنه ادّعى أنّ معناه الغسال أي غسّال الثياب.

وفسّره علماء العربية بأنه من يكون من خاصّة من يضاف هو إليه ومن قرابته.

وغلب على أصحاب عيسى وفي الحديث قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل نبيّ حواريّ وحواريّ الزّبير بن العوام».

وقد أكثر المفسرون وأهل اللغة في احتمالات اشتقاقه واختلاف معناه وكلّ ذلك إلصاق بالكلمات التي فيها حروف الحاء والواو والراء لا يصحّ منه شيء.

والحواريون اثنا عشر رجلا وهم : سمعان بطرس ، وأخوه أندراوس ، ويوحنا بن زبدي ، وأخوه يعقوب ـ وهؤلاء كلّهم صيادو سمك ـ ومتّى العشّار وتوما وفيليبس ، وبرثولماوس ، ويعقوب بن حلفي ، ولباوس ، وسمعان القانوى ، ويهوذا الأسخريوطي.

وكان جواب الحواريين دالّا على أنهم علموا أنّ نصر عيسى ليس لذاته بل هو نصر لدين الله ، وليس في قولهم : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ما يفيد حصرا لأنّ الإضافة اللفظية لا تفيد تعريفا ، فلم يحصل تعريف الجزأين ، ولكنّ الحواريين بادروا إلى هذا الانتداب.

وقد آمن مع الحواريّين أفراد متفرّقون من اليهود ، مثل الذين شفى المسيح مرضاهم ،

١٠٥

وآمن به من النساء أمّه عليها‌السلام ، ومريم المجدلية ، وأم يوحنا ، وحماة سمعان ، ويوثا امرأة حوزي وكيل هيرودس ، وسوسة ، ونساء أخر ولكنّ النساء لا تطلب منهنّ نصره.

وقوله : (رَبَّنا آمَنَّا) من كلام الحواريين بقية قولهم ، وفرّعوا على ذلك الدعاء دعاء بأن يجعلهم الله مع الشاهدين أي مع الذين شهدوا لرسل الله بالتبليغ ، وبالصدق ، وهذا مؤذن بأنهم تلقوا من عيسى ـ فيما علّمهم إياه ـ فضائل من يشهد للرسل بالصدق.

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤))

عطف على جملة (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) فإنّه أحس منهم الكفر وأحس منهم بالغدر والمكر.

وضمير مكروا عائد إلى ما عاد إليه ضمير منهم وهم اليهود وقد بيّن ذلك قوله تعالى ، في سورة الصف [١٤] : (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ). والمكر فعل يقصد به ضر ضرّ أحد في هيئة تخفى عليه ، أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع ، والمراد هنا : تدبير اليهود لأخذ المسيح ، وسعيهم لدى ولاة الأمور ليمكّنوهم من قتله. ومكر الله بهم هو تمثيل لإخفاق الله تعالى مساعيهم في حال ظنهم أن قد نجحت مساعيهم ، وهو هنا مشاكلة. وجاز إطلاق المكر على فعل الله تعالى دون مشاكلة كما في قوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) [٩٩] في سورة الأعراف وبعض أساتذتنا يسمي مثل ذلك مشاكلة تقديرية.

ومعنى : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلانه إياهم.

ويجوز أن يكون معنى خير الماكرين : أنّ الإملاء والاستدراج ، الذي يقدّره للفجّار والجبابرة والمنافقين ، الشبيه بالمكر في أنّه حسن الظاهر سيّئ العاقبة ، هو خير محض لا يترتّب عليه إلّا الصلاح العام ، وإن كان يؤذي شخصا أو أشخاصا ، فهو من هذه الجهة مجرّد عما في المكر من القبح ، ولذلك كانت أفعاله تعالى منزّهة عن الوصف بالقبح أو الشناعة ، لأنها لا تقارنها الأحوال التي بها تقبح بعض أفعال العباد ؛ من دلالة على سفاهة رأي ، أو سوء طوية ، أو جبن ، أو ضعف ، أو طمع ، أو نحو ذلك. أي فإن كان في المكر قبح فمكر الله خير محض ، ولك على هذا الوجه أن تجعل «خير» بمعنى التفضيل وبدونه.

١٠٦

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧))

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦)).

استئناف ؛ و (إذ) ظرف غير متعلق بشيء ، أو متعلق بمحذوف ، أي اذكر إذ قال الله : كما تقدم في قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: ٣٠] وهذا حكاية لأمر رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه. وقدّم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناسا له ، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه. مع العلم بأنه يحب لقاء الله ، وتبشيرا له بأنّ الله مظهر دينه ؛ لأنّ غاية هم الرسول هو الهدى ، وإبلاغ الشريعة ، فلذلك قال له : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) والنداء فيه للاستئناس ، وفي الحديث أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقبض نبيء حتى يخيّر».

وقوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ظاهر معناه : إنّي مميتك ، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأنّ أصل فعل توفّى الشيء أنه قبضه تاما واستوفاه. فيقال : توفاه الله أي قدّر موته ، ويقال : توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته ، ويطلق التوفّي على النوم مجازا بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام : ٦٠] ـ وقوله ـ اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر : ٤٢]. أي وأما التي لم تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتا شبيها بالموت التام كقوله : (هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ـ ثم قال ـ حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) فالكل إماتة في التحقيق ، وإنما فصل بينهما العرف والاستعمال ، ولذلك فرّع بالبيان بقوله : «فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى» ، فالكلام منتظم غاية الانتظام ، وقد اشتبه نظمه على بعض

١٠٧

الأفهام. وأصرح من هذه الآية آية المائدة : «فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم» لأنه دل على أنه قد توفّى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض ، وحملها على النوم بالنسبة لعيسى لا معنى له ؛ لأنه إذا أراد رفعه لم يلزم أن ينام ؛ ولأنّ النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد ، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة ، ولذلك قال ابن عباس ، ووهب بن منبه : إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية «قال مالك : مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة» قال ابن رشد في «البيان والتحصيل» : «يحتمل أنّ قوله : مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز».

وقال الربيع : هي وفاة نوم رفعه الله في منامه ، وقال الحسن وجماعة : معناه إنّي قابضك من الأرض ، ومخلصك في السماء ، وقيل : متوفيك متقبل عملك. والذي دعاهم إلى تأويل معنى الوفاة ما ورد في الأحاديث الصحيحة : أنّ عيسى ينزل في آخر مدّة الدنيا ، فأفهم أنّ له حياة خاصة أخصّ من حياة أرواح بقية الأنبياء ، التي هي حياة أخصّ من حياة بقية الأرواح ؛ فإنّ حياة الأرواح متفاوتة كما دلّ عليه حديث «أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر» ورووا أنّ تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله ، فمنهم من تأوّل معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى ، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها ، وجعل حياته بحياة ثانية ، فقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاث ساعات ورفعه فيها ، ثم أحياه عنده في السماء. وقال بعضهم : توفّي سبع ساعات. وسكت ابن عباس ومالك عن تعيين كيفية ذلك ، ولقد وفّقا وسدّدا. ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء ، وأن يكون نزوله ـ إن حمل على ظاهره ـ بعثا له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية ، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ «يبعث الله عيسى فيقتل الدجال» رواه مسلم عن عبد الله بن عمر ، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة.

وقد قيل في تأويله : إنّ عطف (وَرافِعُكَ إِلَيَ) على التقديم والتأخير ؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إنّي رافعك إليّ ثم متوفيك بعد ذلك ، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أنّ في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داود : «ويمكث (أي عيسى) أربعين سنة ثم يتوفى فيصلّي عليه المسلمون» والوجه أن يحمل قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) على حقيقته ، وهو الظاهر ، وأن تؤوّل الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حيّ على معنى حياة كرامة عند الله ، كحياة الشهداء وأقوى ، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره

١٠٨

دون تأويل ، أنّ ذلك يقوم مقام البعض ، وأنّ قوله ـ في حديث أبي هريرة ـ ثم يتوفّى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنّه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى ، وهم جمع من الصحابة ، والروايات مختلفة وغير صريحة. ولم يتعرض القرآن في عدّ مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان.

والتطهير في قوله : (وَمُطَهِّرُكَ) مجازي بمعنى العصمة والتنزيه ؛ لأنّ طهارة عيسى هي هي ، ولكن لو سلط عليه أعداؤه لكان ذلك إهانة له.

وحذف متعلق «كفروا» لظهوره أي الذين كفروا بك وهم اليهود ، لأنّ اليهود ما كفروا بالله بل كفروا برسالة عيسى ، ولأنّ عيسى لم يبعث لغيرهم فتطهيره لا يظنّ أنّه تطهير من المشركين بقرينة السياق.

والفوقية في قوله : (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بمعنى الظهور والانتصار ، وهي فوقية دنيوية بدليل قوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ).

والمراد بالذين اتبعوه : الحواريون ومن اتبعه بعد ذلك ، إلى أن نسخت شريعته بمجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجملة (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) عطف على جملة (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إذ مضمون كلتا الجملتين من شأن جزاء الله متّبعي عيسى والكافرين به. وثم للتراخي الرتبي ؛ لأنّ الجزاء الحاصل عند مرجع الناس إلى الله يوم القيامة ، مع ما يقارنه من الحكم بين الفريقين فيما اختلفوا فيه ، أعظم درجة وأهم من جعل متبعي عيسى فوق الذين كفروا في الدنيا.

والظاهر أنّ هذه الجملة مما خاطب الله به عيسى ، وأنّ ضمير مرجعكم ، وما معه من ضمائر المخاطبين ، عائد إلى عيسى والذين اتبعوه والذين كفروا به.

ويجوز أن يكون خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، فتكون ثم للانتقال من غرض إلى غرض ، زيادة على التراخي الرتبي والتراخي الزمني.

والمرجع مصدر ميمي معناه الرجوع. وحقيقة الرجوع غير مستقيمة هنا فتعيّن أنّه رجوع مجازي ، فيجوز أن يكون المراد به البعث للحساب بعد الموت ، وإطلاقه على هذا المعنى كثير في القرآن بلفظه وبمرادفه نحو المصير ، ويجوز أن يكون مرادا به انتهاء إمهال الله إياهم في أجل أراده فينفذ فيهم مراده في الدنيا.

١٠٩

ويجوز الجمع بين المعنيين باستعمال اللفظ في مجازيه ، وهو المناسب لجمع العذابين في قوله : (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) وعلى الوجهين يجري تفسير حكم الله بينهم فيما هم فيه يختلفون. وقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ) إلى قوله (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) تفصيل لما أجمل في قوله (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). وقوله (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) المقصود من هذا الوعيد هو عذاب الآخرة لأنه وقع في حيز تفصيل الضمائر من قوله : (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وإنما يكون ذلك في الآخرة ، فذكر عذاب الدنيا هنا إدماج. فإن كان هذا مما خاطب الله به عيسى فهو مستعمل في صريح معناه ، وإن كان كلاما من الله في القرآن خوطب به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، صح أن يكون مرادا منه أيضا التعريض بالمشركين في ظلمهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مكابرة منهم وحسد. وتقدم تفسير إسناد المحبة إلى الله عند قوله : قل إن كنتم تحبون الله في هذه السورة.

وجملة (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) تذييل لجملة (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي ولا يجدون ناصرين ينصرونهم علينا في تعذيبهم الذي قدّره الله تعالى.

واعلم أنّ قوله فأعذّبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة قضية جزئية لا تقتضي استمرار العذابين :

فأما عذاب الدنيا فهو يجري على نظام أحوال الدنيا : من شدة وضعف وعدم استمرار ، فمعنى انتفاء الناصرين لهم منه انتفاء الناصرين في المدة التي قدّرها الله لتعذيبهم في الدنيا ، وهذا متفاوت ، وقد وجد اليهود ناصرين في بعض الأزمان مثل قصة استير في الماضي وقضية فلسطين في هذا العصر.

وأما عذاب الآخرة : فهو مطلق هنا ، ومقيد في آيات كثيرة بالتأييد ، كما قال : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة : ١٦٧].

وجملة (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) تذييل للتفصيل كله فهي تذييل ثان لجملة (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) بصريح معناها ، أي أعذّبهم لأنهم ظالمون والله لا يحبّ الظالمين وتذييل لجملة (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلى آخرها ، بكناية معناها ؛ لأنّ انتفاء محبة الله الظالمين يستلزم أنه يحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلذلك يعطيهم ثوابهم وافيا.

١١٠

ومعنى كونهم ظالمين أنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وظلم النصارى الله بأن نقصوه بإثبات ولد له وظلموا عيسى بأن نسبوه ابنا لله تعالى ، وظلمه اليهود بتكذيبهم إياه وأذاهم.

وعذاب الدنيا هو زوال الملك وضرب الذلة والمسكنة والجزية ، والتشريد في الأقطار ، وكونهم يعيشون تبعا للناس ، وعذاب الآخرة هو جهنم. ومعنى (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أنهم لا يجدون ناصرا يدفع عنهم ذلك وإن حاوله لم يظفر به وأسند فنوفيهم إلى نون العظمة تنبيها على عظمة مفعول هذا الفاعل ؛ إذ العظيم يعطى عظيما. والتقدير فيوفيهم أجورهم في الدنيا والآخرة بدليل مقابله في ضدّهم من قوله : (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) وتوفية الأجور في الدنيا تظهر في أمور كثيرة : منها رضا الله عنهم ، وبركاته معهم ، والحياة الطيبة ، وحسن الذكر. وجملة (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) تذييل ، وفيها اكتفاء : أي ويحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

وقرأ الجمهور : فنوفيهم ـ بالنون ـ وقرأه حفص عن عاصم ، ورويس عن يعقوب ، فيوفيهم بياء الغائب على الالتفات.

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))

تذييل : فإنّ الآيات والذكر أعمّ من الذي تلي هنا ، واسم الإشارة إلى الكلام السابق من قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) [آل عمران : ٤٥] وتذكير اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالكلام أو بالمذكور. وجملة نتلوه حال من اسم الإشارة على حدّ (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] وهو استعمال عربي فصيح وإن خالف في صحة مجيء الحال من اسم الإشارة بعض النحاة.

وقوله : (مِنَ الْآياتِ) خبر (ذلِكَ) أيّ إنّ تلاوة ذلك عليك من آيات صدقك في دعوى الرسالة ؛ فإنك لم تكن تعلم ذلك ، وهو ذكر وموعظة للناس ، وهذا أحسن من جعل نتلوه خبرا عن المبتدأ ، ومن وجوه أخرى. والحكيم بمعنى المحكم ، أو هو مجاز عقلي أي الحكيم عالمه أو تاليه.

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠))

استئناف بياني : بيّن به ما نشأ من الأوهام ، عند النصارى ، عن وصف عيسى بأنه

١١١

كلمة من الله ، فضلوا بتوهمهم أنه ليس خالص الناسوت. وهذا شروع في إبطال عقيدة النصارى من تأليه عيسى ، وردّ مطاعنهم في الإسلام وهو أقطع دليل بطريق الإلزام ؛ لأنهم قالوا بإلهية عيسى من أجل أنه خلق بكلمة من الله وليس له أب ، فقالوا : هو ابن الله ، فأراهم الله أنّ آدم أولى بأن يدّعى له ذلك ، فإذا لم يكن آدم إلها مع أنه خلق بدون أبوين فعيسى أولى بالمخلوقية من آدم.

ومحل التمثيل كون كليهما خلق من دون أب ، ويزيد آدم بكونه من دون أم أيضا ، فلذلك احتيج إلى ذكر وجه الشبه بقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) الآية أي خلقه دون أب ولا أم بل بكلمة كن ، مع بيان كونه أقوى في المشبه به على ما هو الغالب. وإنما قال عند الله أي نسبته إلى الله لا يزيد على آدم شيئا في كونه خلقا غير معتاد ، لكم لأنهم جعلوا خلقه العجيب موجبا للمسيح نسبة خاصة عند الله وهي البنوة. وقال ابن عطية : أراد بقوله : (عِنْدَ اللهِ) نفس الأمر والواقع.

والضمير في خلقه لآدم لا لعيسى ؛ إذ قد علم الكلّ أنّ عيسى لم يخلق من تراب ، فمحل التشبيه قوله : (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وجملة (خَلَقَهُ) وما عطف عليها مبيّنة لجملة كمثل آدم.

وثم للتراخي الرتبي فإنّ تكوينه بأمر (كُنْ) أرفع رتبة من خلقه من تراب ، وهو أسبق في الوجود والتّكوين المشار إليه بكن : هو تكوينه على الصفة المقصودة ، ولذلك لم يقل : كوّنه من تراب ولم يقل : قال له كن من تراب ثم أحياه ، بل قال خلقه ثم قال له كن. وقول كن تعبير عن تعلق القدرة بتكوينه حيا ذا روح ليعلم السامعون أنّ التكوين ليس بصنع يد ، ولا نحت بآلة ، ولكنه بإرادة وتعلق قدرة وتسخير الكائنات التي لها أثر في تكوين المراد ، حتى تلتئم وتندفع إلى إظهار المكوّن وكلّ ذلك عن توجه الإرادة بالتنجيز ، فبتلك الكلمة كان آدم أيضا كلمة من الله ولكنه لم يوصف بذلك لأنّه لم يقع احتياج إلى ذلك لفوات زمانه.

وإنما قال : (فَيَكُونُ) ولم يقل فكان لاستحضار صورة تكوّنه ، ولا يحمل المضارع في مثل هذا إلّا على هذا المعنى ، مثل قوله : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [فاطر : ٩] وحمله على غير هذا هنا لا وجه له.

وقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر مبتدأ محذوف : أي هذا الحق. ومن ربك حال من

١١٢

الحق. والخطاب في (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقصود التعريض بغيره ، والمعرّض بهم هنا هم النصارى الممترون الذين امتروا في الإلهية بسبب تحقق أن لا أب لعيسى.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١))

تفريع على قوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) لما فيه من إيماء إلى أنّ وفد نجران ممترون في هذا الذي بيّن الله لهم في هذه الآيات : أي فإن استمرّوا على محاجتهم إياك مكابرة في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة. ذلك أنّ تصميمهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محضة بعد ما جاءك من العلم وبينت لهم ، فلم يبق أوضح مما حاججتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة ، وقلة يقين ، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا.

و (تَعالَوْا) اسم فعل لطلب القدوم ، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قصد العلوّ ، فكأنّهم أرادوا به في الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو ، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور ، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره وأما قول أبي فراس الحمداني :

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

فقد لحّنوه فيه.

ومعنى (تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره ، والمقصود هو قوله : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) إلى آخره.

و (ثم) هنا للتراخي الرتبي.

والابتهال مشتق من البهل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقا لأنّ الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول.

ومعنى (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ) فندع بإيقاع اللعنة على الكاذبين. وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاء لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يكفوا. روى المفسرون وأهل السيرة أنّ وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الملاعنة قال لهم العاقب : نلاعنه فو الله لئن كان نبيئا

١١٣

فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة كما سيأتي.

وهذه المباهلة لعلّها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لإقامة الحجة عليهم.

وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء : لأنه لمّا ظهرت مكابرتهم في الحق وحبّ الدنيا ، علم أنّ من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحبّ إليه من الحق كما قال شعيب «أرهطي أعزّ عليكم من الله» وأنه يخشى سوء العيش ، وفقدان الأهل ، ولا يخشى عذاب الآخرة.

والظاهر أنّ المراد بضمير المتكلم المشارك أنه عائد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن معه من المسلمين ، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللّائي كنّ معهم.

والنساء : الأزواج لا محالة ، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا ورد غير مضاف ، قال تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب : ٣٢] وقال : (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) وقال النابغة :

حذارا على أن لا تنال مقادتي

ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا

والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم ، وأما الأبناء فيحتمل أنّ المراد شبانهم ، ويحتمل أنه يشمل الصبيان ، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة.

والابتهال افتعال من البهل ، وهو اللعن ، يقال : بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بهلة وبهلة ـ بالضم والفتح ـ ثم استعمل الابتهال مجازا مشهورا في مطلق الدعاء قال الأعشى : لا تقعدنّ وقد؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

وهو المراد هنا بدليل أنّه فرّع عليه قوله : (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ).

وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلّا واثق بأنه على الحق. وهذه المباهلة لم تقع لأنّ نصارى نجران لم يستجيبوا إليها. وقد روى أبو نعيم في الدلائل أنّ النبي هيأ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ليصحبهم معه للمباهلة. ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين.

[٦٢ ، ٦٣] (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ

١١٤

الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))

جملة (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) وما عطف عليها بالواو اعتراض لبيان ما اقتضاه قوله : (الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٦١] لأنهم نفوا أن يكون عيسى عبد الله ، وزعموا أنه غلب فإثبات أنه عبد هو الحق.

واسم الإشارة راجع إلى ما ذكر من نفي الإلهية عن عيسى.

والضمير في قوله لهو القصص ضمير فصل ، ودخلت عليه لام الابتداء لزيادة التقوية التي أفادها ضمير الفصل ؛ لأنّ اللام وحدها مفيدة تقوية الخبر وضمير الفصل يفيد القصر أي هذا القصص لا ما تقصّه كتب النصارى وعقائدهم.

والقصص ـ بفتح القاف والصاد ـ اسم لما يقص ، يقال : قصّ الخبر قصّا إذا أخبر به ، والقصّ أخص من الإخبار ؛ فإنّ القص إخبار بخبر فيه طول وتفصيل وتسمى الحادثة التي من شأنها أن يخبر بها قصة ـ بكسر القاف ـ أي مقصوصة أي مما يقصها القصّاص ، ويقال للذي ينتصب لتحديث الناس بأخبار الماضين قصّاص ـ بفتح القاف ـ. فالقصص اسم لما يقص : قال تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وقيل : هو اسم مصدر وليس هو مصدرا ، ومن جرى على لسانه من أهل اللغة أنه مصدر فذلك تسامح من تسامح الأقدمين ، فالقصّ بالإدغام مصدر ، والقصص بالفكّ اسم للمصدر واسم للخبر المقصوص.

وقوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) تأكيد لحقيّة هذا القصص. ودخلت من الزائدة بعد حرف نفي تنصيصا على قصد النفي الجنس لتدل الجملة على التوحيد ، ونفي الشريك بالصراحة ، ودلالة المطابقة ، وأن ليس المراد نفي الوحدة عن غير الله ، فيوهم أنه قد يكون إلا هان أو أكثر في شقّ آخر ، وإن كان هذا يؤول إلى نفي الشريك لكن بدلالة الالتزام.

وقوله : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيه ما في قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) فأفاد تقوية الخبر عن الله تعالى بالعزّة والحكم ، والمقصود إبطال إلهية المسيح على حسب اعتقاد المخاطبين من النصارى ، فإنهم زعموا أنه قتله اليهود وذلك ذلّة وعجز لا يلتئمان مع الإلهية فكيف يكون إله وهو غير عزيز وهو محكوم عليه ، وهو أيضا إبطال لإلهيته على اعتقادنا ؛ لأنه كان محتاجا لإنقاذه من أيدي الظالمين.

وجملة (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) عطف على قوله : (فَقُلْ تَعالَوْا) [آل عمران :

١١٥

٦١] وهذا تسجيل عليهم إذ نكصوا عن المباهلة ، وقد علم بذلك أنهم قصدوا المكابرة ولم يتطلبوا الحق ، روي أنهم لما أبوا المباهلة قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن أبيتم فأسلموا» فأبوا فقال : «فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد» فأبوا فقال لهم : «فإني أنبذ إليكم على سواء» أي أترك لكم العهد الذي بيننا فقالوا : «ما لنا طاقة بحرب العرب ، ولكنا نصالحك على ألّا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردّنا عن ديننا (١) على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلة حمراء ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد» وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلا أمينا يحكم بينهم فقال : لأبعثنّ معكم أمينا حقّ أمين فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي‌الله‌عنه ، ولم أقف على ما دعاهم إلى طلب أمين ولا على مقدار المدة التي مكث فيها أبو عبيدة بينهم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤))

رجوع إلى المجادلة ، بعد انقطاعها بالدعاء إلى المباهلة ، بعث عليه الحرص على إيمانهم ، وإشارة إلى شيء من زيغ أهل الكتابين عن حقيقة إسلام الوجه لله كما تقدم بيانه. وقد جيء في هذه المجادلة بحجة لا يجدون عنها موئلا وهو دعوتهم إلى تخصيص الله بالعبادة ونبذ عقيدة إشراك غيره في الإلهية. فجملة (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) بمنزلة التأكيد لجملة (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا) [آل عمران : ٦١] لأنّ مدلول الأولى احتجاج عليهم بضعف ثقتهم بأحقّية اعتقادهم. ومدلول هذه احتجاج عليهم بصحة عقيدة الإسلام ، ولذلك لم تعطف هذه الجملة. والمراد بأهل الكتاب هنا النصارى : لأنهم هم الذين اتخذوا المخلوق ربّا وعبدوه مع الله.

وتعالوا هنا مستعملة في طلب الاجتماع على كلمة سواء وهو تمثيل : جعلت الكلمة المجتمع عليها بشبه المكان المراد الاجتماع عنده. وتقدم الكلام على (تعالوا) قريبا.

والكلمة هنا أطلقت على الكلام الوجيز كما في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠].

__________________

(١) أي بالإكراه.

١١٦

وسواء هنا اسم مصدر الاستواء ، قيل بمعنى العدل ، وقيل بمعنى قصد لا شطط فيها ، وهذان يكونان من قولهم : مكان سواء وسوى وسوى بمعنى متوسّط قال تعالى : (فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥]. وقال ابن عطية : بمعنى ما يستوي فيه جميع الناس ، فإنّ اتخاذ بعضهم بعضا أربابا ، لا يكون على استواء حال وهو قول حسن. وعلى كل معنى فالسواء غير مؤنث ، وصف به (كَلِمَةٍ) ، وهو لفظ مؤنث ، لأنّ الوصف بالمصدر واسم المصدر لا مطابقة فيه.

و (أَلَّا نَعْبُدَ) بدل من (كَلِمَةٍ) ، وقال جماعة : هو بدل من سواء ، وردّه ابن هشام ، في النوع الثاني من الجهة السادسة من جهات قواعد الإعراب من مغني اللبيب ، واعترضه الدماميني وغيره.

والحق أنه مردود من جهة مراعاة الاصطلاح لا من جهة المعنى ؛ لأنّ سواء وصف لكلمة وألّا نعبد لو جعل بدلا من سواء آل إلى كونه في قوة الوصف لكلمة ولا يحسن وصف كلمة به.

وضمير بيننا عائد على معلوم من المقام : وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، ولذلك جاء بعده : (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

ويستفاد من قوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) إلى آخره ، التعريض بالذين عبدوا المسيح كلّهم.

وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) جيء في هذا الشرط بحرف إن لأنّ التولّي بعد نهوض هذه الحجة وما قبلها من الأدلة غريب الوقوع ، فالمقام مشتمل على ما هو صالح لاقتلاع حصول هذا الشرط ، فصار فعل الشرط من شأنه أن يكون نادر الوقوع مفروضا ، وذلك من مواقع (إن) الشرطية فإن كان ذلك منهم فقد صاروا بحيث يؤيس من إسلامهم فأعرضوا عنهم ، وأمسكوا أنتم بإسلامكم ، وأشهدوهم أنكم على إسلامكم. ومعنى هذا الإشهاد التسجيل عليهم لئلّا يظهروا إعراض المسلمين عن الاسترسال في محاجتهم في صورة العجز والتسليم بأحقية ما عليه أهل الكتاب فهذا معنى الإشهاد عليهم بأنا مسلمون.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦))

١١٧

استئناف ابتدائي للانتقال من دعائهم لكلمة الحق الجامعة لحق الدين ، إلى الإنكار عليهم محاجتهم الباطلة للمسلمين في دين إبراهيم ، وزعم كلّ فريق منهم أنهم على دينه توصّلا إلى أنّ الذي خالف دينهم لا يكون على دين إبراهيم كما يدّعي النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمحاجة فرع عن المخالفة في الدعوى. وهذه المحاجة على طريق قياس المساواة في النفي ، أو في محاجتهم النبي في دعواه أنه على دين إبراهيم ، محاجة يقصدون منها إبطال مساواة دينه لدين إبراهيم ، بطريقة قياس المساواة في النفي أيضا.

فيجوز أن تكون هذه الجملة من مقول القول المأمور به الرسول في قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا) أي قل لهم : يا أهل الكتاب لم تحاجون. ويجوز أن يكون الاستئناف من كلام الله تعالى عقب أمره الرسول بأن يقول (تَعالَوْا) فيكون توجيه خطاب إلى أهل الكتاب مباشرة ، ويكون جعل الجملة الأولى من مقول الرسول دون هذه لأنّ الأولى من شئون الدعوة ، وهذه من طرق المحاجّة ، وإبطال قولهم ، وذلك في الدرجة الثانية من الدعوة. والكل في النسبة إلى الله سواء.

ومناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى هذا الكلام نشأت من قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤] لأنه قد شاع فيما نزل من القرآن في مكة ، وبعدها أنّ الإسلام الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجع إلى الحنيفية دين إبراهيم كما تقدم تقريره في سورة البقرة وكما في سورة النحل [] : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وسيجيء أنّ إبراهيم كان حنيفا مسلما ، وقد اشتهر هذا وأعلن بين المشركين في مكة ، وبني اليهود في المدينة ، وبين النصارى في وفد نجران ، وقد علم أنّ المشركين بمكة كانوا يدّعون أنهم ورثة شريعة إبراهيم وسدنة بيته ، وكان أهل الكتاب قد ادّعوا أنهم على دين إبراهيم ، ولم يتبين لي أكان ذلك منهم ادّعاء قديما أم كانوا قد تفطنوا إليه من دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستيقظوا لتقليده في ذلك ، أم كانوا قالوا ذلك على وجه الإفحام للرسول حين حاجهم بأنّ دينه هو الحق ، وأنّ الدين عند الله الإسلام فألجئوه إلى أحد أمرين : إما أن تكون الزيادة على دين إبراهيم غير مخرجة عن اتّباعه ، فهو مشترك الإلزام في دين اليهودية والنصرانية ، وإما أن تكون مخرجة عن دين إبراهيم فلا يكون الإسلام تابعا لدين إبراهيم.

وأحسب أنّ ادّعاءهم أنهم على ملة إبراهيم إنما انتحلوه لبثّ كل من الفريقين الدعوة إلى دينه بين العرب ، ولا سيما النصرانية ، فإنّ دعاتها كانوا يحاولون انتشارها بين العرب

١١٨

فلا يجدون شيئا يروج عندهم سوى أن يقولوا : إنها ملة إبراهيم ، ومن أجل ذلك اتّبعت في بعض قبائل العرب ، وهنالك أخبار في أسباب النزول تثير هذه الاحتمالات : فروى أنّ وفد نجران قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعاهم إلى اتباع دينه : «على أي دين أنت ـ قال : على ملة إبراهيم ـ قالوا : فقد زدت فيه ما لم يكن فيه» فعلى هذه الرواية يكون المخاطب بأهل الكتاب هنا خصوص النصارى كالخطاب الذي قبله وروى : أنه تنازعت اليهود ونصارى نجران بالمدينة ، عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأدّعي كل فريق أنه على دين إبراهيم دون الآخر ، فيكون الخطاب لأهل الكتاب كلهم ، من يهود ونصارى.

ولعل اختلاف المخاطبين هو الداعي لتكرير الخطاب.

وقوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) يكون على حسب الرواية الأولى منعا لقولهم : فقد زدت فيه ما ليس منه ، المقصود منه إبطال أن يكون الإسلام هو دين إبراهيم. وتفصيل هذا المنع : إنكم لا قبل لكم بمعرفة دين إبراهيم ، فمن أين لكم أنّ الإسلام زاد فيما جاء به على دين إبراهيم ، فإنكم لا مستند لكم في علمكم بأمور الدين إلّا التوراة والإنجيل ، وهما قد نزلا من بعد إبراهيم ، فمن أين يعلم ما كانت شريعة إبراهيم حتى يعلم المزيد عليها ، وذكر التوراة على هذا لأنها أصل الإنجيل. ويكون على حسب الرواية الثانية نفيا لدعوى كلّ فريق منهما أنه على دين إبراهيم ، بأنّ دين اليهود هو التوراة ، ودين النصارى هو الإنجيل ، وكلاهما نزل بعد إبراهيم ، فكيف يكون شريعة له. قال الفخر : يعني ولم يصرّح في أحد هذين الكتابين بأنه مطابق لشريعة إبراهيم ، فذكر التوراة والإنجيل على هذا نشر بعد اللف : لأنّ أهل الكتاب شمل الفريقين ، فذكر التوراة لإبطال قول اليهود ، وذكر الإنجيل لإبطال قول النصارى ، وذكر التوراة والإنجيل هنا لقصد جمع الفريقين في التخطئة ، وإن كان المقصود بادئ ذي بدء هم النصارى الذين مساق الكلام معهم.

والأظهر عندي في تأليف المحاجة ينتظم من مجموع قوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) وقوله : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فيبطل بذلك دعواهم أنهم على دين إبراهيم ، ودعواهم أنّ الإسلام ليس على دين إبراهيم ، ويثبت عليهم أنّ الإسلام على دين إبراهيم ، وذلك أنّ قوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) يدل على أنّ علمهم في الدين منحصر فيهما ، وهما نزلا بعد إبراهيم فلا جائز أن يكونا عين صحف إبراهيم.

١١٩

وقوله : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) يبطل قولهم : إنّ الإسلام زاد على دين إبراهيم ، ولا يدل على أنهم على دين إبراهيم ؛ لأنّ التوراة والإنجيل لم يرد فيهما التصريح بذلك ، وهذا هو الفارق بين انتساب الإسلام إلى إبراهيم وانتساب اليهودية والنصرانية إليه ، فلا يقولون وكيف يدّعى أنّ الإسلام دين إبراهيم مع أنّ القرآن أنزل من بعد إبراهيم كما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده.

وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ) يدل على أنّ الله أنبأ في القرآن بأنه أرسل محمدا بالإسلام دين إبراهيم وهو أعلم منكم بذلك ، ولم يسبق أن امتنّ عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل فأنتم لا تعلمون ذلك ، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تنتحلوا هذه المزية ، واستيقظتم لذلك حسدا على هذه النعمة ، فنهضت الحجة عليهم ، ولم يبق لهم معذرة في أن يقولوا : إنّ مجيء التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم مشترك الإلزام لنا ولكم ؛ فإنّ القرآن أنزل بعد إبراهيم ، ولو لا انتظام الدليل على الوجه الذي ذكرنا لكان مشترك الإلزام.

والاستفهام في قوله : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ) مقصود منه التنبيه على الغلط.

وقد أعرض في هذا الاحتجاج عليهم عن إبطال المنافاة بين الزيادة الواقعة في الدين الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الدين الذي جاء به إبراهيم ، وبين وصف الإسلام بأنّه ملّة إبراهيم : لأنّهم لم يكن لهم من صحة النظر ما يفرقون به بين زيادة الفروع ، واتحاد الأصول ، وأنّ مساواة الدينين منظور فيها إلى اتحاد أصولهما سنبينها عند تفسير قوله تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [آل عمران : ٢٠] وعند قوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) فاكتفي في المحاجّة بإبطال مستندهم في قولهم : «فقد زدت فيه ما ليس فيه على طريقة المنع ، ثم بقوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) [آل عمران : ٦٧] على طريقة الدعوى بناء على أنّ انقطاع المعترض كاف في اتجاه دعوى المستدل.

وقوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ) تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) في سورة البقرة [٨٥].

وقرأ الجمهور : ها أنتم بإثبات ألف ها وبتخفيف همزة أنتم ، وقرأه قالون ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بإثبات الألف وتسهيل همزة أنتم ، وقرأه ورش بحذف ألف ها وبتسهيل همزة أنتم وبإبدالها ألفا أيضا مع المد ، وقرأه قنبل بتخفيف الهمزة دون ألف.

١٢٠