تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

فَبِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٦٦] وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) [آل عمران : ١٥٦] الآية. وبيّن لهم أنّ قتلى المؤمنين الذين حزنوا لهم إنّما هم أحياء ، وأنّ المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم لا يضيع الله أجرهم ولا فضل ثباتهم ، وبيّن لهم أنّ سلامة الكفّار لا ينبغي أن تحزن المؤمنين ولا أن تسرّ الكافرين ، وأبطل في خلال ذلك مقال المنافقين بقوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤] وبقوله : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا) [آل عمران : ١٦٨] إلى قوله : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ١٦٨] ختم ذلك كلّه بما هو جامع للغرضين في قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنّ المصيبة والحزن إنّما نشئا على موت من استشهد من خيرة المؤمنين ، يعني أنّ الموت لمّا كان غاية كلّ حيّ فلو لم يموتوا اليوم لماتوا بعد ذلك فلا تأسفوا على موت قتلاكم في سبيل الله ، ولا يفتنكم المنافقون بذلك ، ويكون قوله بعده : (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قصر قلب لتنزيل المؤمنين فيما أصابهم من الحزن على قتلاهم وعلى هزيمتهم ، منزلة من لا يترقّب من عمله إلّا منافع الدنيا وهو النصر والغنيمة ، مع أنّ نهاية الأجر في نعيم الآخرة ، ولذلك قال : (تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) أي تكمل لكم ، وفيه تعريض ، بأنّهم قد حصلت لهم أجور عظيمة في الدنيا على تأييدهم للدين: منها النصر يوم بدر ، ومنها كفّ أيدي المشركين عنهم في أيام مقامهم بمكّة إلى أن تمكّنوا من الهجرة.

والذوق هنا أطلق على وجدان الموت ، تقدّم بيان استعماله عند قوله آنفا : (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران : ١٨١] وشاع إطلاقه على حصول الموت ، قال تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) [الدخان : ٥٦] ويقال ذاق طعم الموت.

والتوفية : إعطاء الشيء وافيا. ويطلقها الفقهاء على مطلق الإعطاء والتسليم ، والأجور جمع الأجر بمعنى الثواب ، ووجه جمعه مراعاة أنواع الأعمال. ويوم القيامة يوم الحشر سمّي بذلك لأنّه يقوم فيه الناس من خمود الموت إلى نهوض الحياة.

والفاء في قوله : (فَمَنْ زُحْزِحَ) للتفريع على (تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) ، ومعنى : (زُحْزِحَ) أبعد. وحقيقة فعل زحزح أنها جذب بسرعة ، وهو مضاعف زحّه عن المكان إذا جذبه بعجلة.

وإنّما جمع بين (زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) ، مع أنّ في الثاني غنية عن الأوّل ، للدلالة على أنّ دخول الجنة يشتمل على نعمتين عظيمتين : النجاة من النار ، ونعيم الجنّة.

٣٠١

ومعنى (فَقَدْ فازَ) نال مبتغاه من الخير لأنّ ترتّب الفوز على دخول الجنّة والزحزحة عن النار معلوم فلا فائدة في ذكر الشرط إلّا لهذا. والعرب تعتمد في هذا على القرائن ، فقد يكون الجواب عين الشرط لبيان التحقّق ، نحو قول القائل : من عرفني فقد عرفني ، وقد يكون عينه بزيادة قيد نحو قوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) وقد يكون على معنى بلوغ أقصى غايات نوع الجواب والشرط كما في هذه الآية وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) على أحد وجهين ، وقول العرب : «من أدرك مرعى الصّمّان فقد أدرك» وجميع ما قرّر في الجواب يأتي مثله في الصفة ونحوها كقوله : (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [القصص : ٦٣].

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))

استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحقّ وأنصار الرسل من البلوى ، وتنبيه لهم على أنّهم إن كانوا ممّن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحقّ ، وأكّد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء ، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة.

فأصل (لَتُبْلَوُنَ) لتبلووننّ فلمّا توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان : واو الرفع ونون التوكيد الشديدة ، فحذفت واو الرفع لأنّها ليست أصلا في الكلمة فصار لتبلونّ. وكذلك القول في تصريف قوله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَ) وفي توكيده.

والابتلاء : الاختبار ، ويراد به هنا لازمه وهو المصيبة ، لأنّ في المصائب اختبارا لمقدار الثبات. والابتلاء في الأموال هو نفقات الجهاد ، وتلاشي أموالهم التي تركوها بمكّة. والابتلاء في الأنفس هو القتل والجراح. وجمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب والمشركين في يوم أحد وبعده.

والأذى هو الضرّ بالقول كقوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) [آل عمران : ١١١] كما تقدّم آنفا ، ولذلك وصفه هنا بالكثير ، أي الخارج عن الحدّ الذي تحتمله النفوس غالبا ، وكلّ ذلك ممّا يفضي إلى الفشل ، فأمرهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر ، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده ، فأمّا الصبر على

٣٠٢

الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد ، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتى الحرب والسلم ، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف ، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أحد ، وهي بعد الأمر بالقتال. قاله القفّال.

وقوله : (فَإِنَّ ذلِكَ) الإشارة إلى ما تقدّم من الصبر والتقوى بتأويل : فإنّ المذكور.

و (عزم الأمور) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العزم ، ووصف الأمور وهو جمع بعزم وهو مفرد لأنّ أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة ، وهو هنا مصدر بمعنى المفعول ، أي من الأمور المعزوم عليها. والعزم إمضاء الرأي وعدم التردّد بعد تبيين السداد. قال تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [آل عمران : ١٥٩] والمراد هنا العزم في الخيرات ، قال تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] وقال : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥].

ووقع قوله : (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) دليلا على جواب الشرط ، والتقدير : وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧))

معطوف على قوله : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [آل عمران: ١٨٦] فإنّ تكذيب الرسول من أكبر الأذى للمسلمين وإنّ الطعن في كلامه وأحكام شريعته من ذلك كقولهم : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١]. والقول في معنى أخذ الله تقدّم في قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٣٤] ونحوه.

و (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هم اليهود ، وهذا الميثاق أخذ على سلفهم من عهد رسولهم وأنبيائهم ، وكان فيه ما يدلّ على عمومه لعلماء أمّتهم في سائر أجيالهم إلى أن يجيء رسول.

وجملة (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) بيان للميثاق ، فهي حكاية اليمين حين اقترحت عليهم ، ولذلك جاءت بصيغة خطابهم بالمحلوف عليه كما قرأ بذلك الجمهور ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : ليبيّننّه ـ بياء الغيبة ـ على طريقة الحكاية بالمعنى ، حيث

٣٠٣

كان المأخوذ عليهم هذا العهد غائبين في وقت الإخبار عنهم. وللعرب في مثل هذه الحكايات وجوه : باعتبار كلام الحاكي ، وكلام المحكي عنه ، فقد يكون فيه وجهان كالمحكي بالقول في نحو : أقسم زيد لا يفعل كذا ، وأقسم لا أفعل كذا ، وقد يكون فيه ثلاثة أوجه : كما في قوله تعالى : (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل : ٤٩] قرئ ـ بالنون والتاء الفوقية والياء التحتية ـ لنبيّتنّه لتبيّتنّه ليبيّتنّه ، إذا جعل تقاسموا فعلا ماضيا فإذا جعل أمرا جاز وجهان : في لنبيّتنّه النون والتاء الفوقية. والقول في تصريف وإعراب (لَتُبَيِّنُنَّهُ) كالقول في (لَتُبْلَوُنَ) المتقدّم قريبا.

وقد أخذ عليهم الميثاق بأمرين : هما بيان الكتاب أي عدم إجمال معانيه أو تحريف تأويله ، وعدم كتمانه أي إخفاء شيء منه. فقوله : (وَلا تَكْتُمُونَهُ) عطف على (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) ولم يقرن بنون التوكيد لأنّها لا تقارن الفعل المنفي لتنافي مقتضاهما.

وقوله : (فَنَبَذُوهُ) عطف بالفاء الدالّة على التعقيب للإشارة إلى مسارعتهم إلى ذلك ، والذين نبذوه هم علماء اليهود في عصورهم الأخيرة القريبة من عهد الرسالة المحمّدية ، فالتعقيب الذي بين أخذ الميثاق عليهم وبين نبذهم إيّاه منظور فيه إلى مبادرتهم بالنبذ عقب الوقت الذي تحقّق فيه أثر أخذ الميثاق ، وهو وقت تأهّل كلّ واحد من علمائهم لتبيين الكتاب وإعلانه فهو إذا أنس من نفسه المقدرة على فهم الكتاب والتصرّف في معانيه بادر باتّخاذ تلك المقدرة وسيلة لسوء التأويل والتحريف والكتمان. ويجوز أن تكون الفاء مستعملة في لازم التعقيب ، وهو شدّة المسارعة لذلك عند اقتضاء الحال إيّاه والاهتمام به وصرف الفكرة فيه. ويجوز أن يكون التعقيب بحسب الحوادث التي أساءوا فيها التأويل واشتروا بها الثمن القليل ، لأنّ الميثاق لمّا كان عامّا كانت كلّ جزئية مأخوذا عليها الميثاق ، فالجزئية التي لم يعملوا فيها بالميثاق يكون فيها تعقيب ميثاقها بالنبذ والاشتراء.

والنبذ : الطرح والإلقاء ، وهو هنا مستعار لعدم العمل بالعهد تشبيها للعهد بالشيء المنبوذ في عدم الانتفاع به.

ووراء الظّهور هنا تمثيل للإضاعة والإهمال ، لأنّ شأن الشيء المهتمّ به المتنافس فيه أن يجعل نصب العين ويحرس ويشاهد. قال تعالى : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨]. وشأن الشيء المرغوب عنه أن يستدبر ولا يلتفت إليه ، وفي هذا التمثيل ترشيح لاستعارة النبذ لإخلاف العهد.

والضميران : المنصوب والمجرور ، يجوز عودهما إلى الميثاق أي استخفّوا بعهد الله

٣٠٤

وعوّضوه بثمن قليل ، وذلك يتضمّن أنّهم أهملوا ما واثقوا عليه من تبيين الكتاب وعدم كتمانه ، ويجوز عودهما إلى الكتاب أي أهملوا الكتاب ولم يعتنوا به ، والمراد إهمال أحكامه وتعويض إقامتها بنفع قليل ، وذلك يدلّ على نوعي الإهمال ، وهما إهمال آياته وإهمال معانيه.

والاشتراء هنا مجاز في المبادلة والثمن القليل ، وهو ما يأخذونه من الرّشا والجوائز من أهل الأهواء والظلم من الرؤساء والعامّة على تأييد المظالم والمفاسد بالتأويلات الباطلة ، وتأويل كلّ حكم فيه ضرب على أيدي الجبابرة والظلمة بما يطلق أيديهم في ظلم الرعيّة من ضروب التأويلات الباطلة ، وتحذيرات الذين يصدعون بتغيير المنكر. وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب إلّا أنّ حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتّحاد جنس الحكم والعلّة فيه.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨))

تكملة لأحوال أهل الكتاب المتحدّث عنهم ببيان حالة خلقهم بعد أن بيّن اختلال أمانتهم في تبليغ الدين ، وهذا ضرب آخر جاء به فريق آخر من أهل الكتاب فلذلك عبّر عنهم بالموصول للتوصّل إلى ذكر صلته العجيبة من حال من يفعل الشرّ والخسّة ثم لا يقف عند حدّ الانكسار لما فعل أو تطلّب الستر على شنعته ، بل يرتقي فيترقّب ثناء الناس على سوء صنعه ، ويتطلّب المحمدة عليه. وقيل : نزلت في المنافقين ، والخطاب لكلّ من يصلح له الخطاب ، والموصول هنا بمعنى المعرّف بلام العهد لأنّ أريد به قوم معيّنون من اليهود أو المنافقين ، فمعنى (يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أنّهم يفرحون بما فعلوا ممّا تقدّم ذكره ، وهو نبذ الكتاب والاشتراء به ثمنا قليلا وإنّما فرحهم بما نالوا بفعلهم من نفع في الدنيا.

ومعنى : (يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) أنّهم يحبّون الثناء عليهم بأنّهم حفظة الشريعة وحرّاسها والعالمون بتأويلها ، وذلك خلاف الواقع. هذا ظاهر معنى الآية. وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس أنّهم أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحبّوا الحمد بأنّهم علماء بكتب الدين.

وفي «البخاري» ، عن أبي سعيد الخدري : أنّها نزلت في المنافقين ، كانوا يتخلّفون عن الغزو ويعتذرون بالمعاذير ، فيقبل منهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحبّون أن يحمدوا بأنّ لهم نية

٣٠٥

المجاهدين ، وليس الموصول بمعنى لام الاستغراق. وفي «البخاري» : أنّ مروان بن الحكم قال لبوّابه : «اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كلّ امرئ فرح بما أتى وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذّبا لنعذّبنّ أجمعون» قال ابن عباس : «وما لكم ولهذه إنّما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود ، فسألهم عن شيء فأخبروه بغيره فأروه أنّهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم» ـ ثم قرأ ابن عباس : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [آل عمران : ١٨٧] حتّى قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) [آل عمران : ١٨٨] الآية.

والمفازة : مكان الفوز. وهو المكان الذي من يحلّه يفوز بالسلامة من العدوّ سمّيت البيداء الواسعة مفازة لأنّ المنقطع فيها يفوز بنفسه من أعدائه وطلبة الوتر عنده وكانوا يتطلّبون الإقامة فيها. قال النابغة :

أو أضع البيت في صمّاء مظلمة

تقيّد العير لا يسري بها الساري

تدافع الناس عنّا حين نركبها

من المظالم تدعى أمّ صبّار

ولمّا كانت المفازة مجملة بالنسبة للفوز الحاصل فيها بيّن ذلك بقوله : (مِنَ الْعَذابِ). وحرف (من) معناه البدلية ، مثل قوله تعالى : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية : ٧] ، أو بمعنى (عن) بتضمين مفازة معنى منجاة.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمور ، وأبو جعفر : لا يحسبنّ الذين يفرحون ـ بالياء التحتية ـ على الغيبة ، وقرأه الباقون ـ بتاء الخطاب ـ.

وأمّا سين (تحسبن) فقرأها ـ بالكسر ـ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو جعفر ، ويعقوب. وقرأها ـ بالفتح ـ الباقون.

وقد جاء تركيب الآية على نظم بديع إذ حذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأوّل لدلالة ما يدلّ عليه وهو مفعول (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) ، والتقدير : لا يحسبنّ الذين يفرحون إلخ أنفسهم. وأعيد فعل الحسبان في قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) [آل عمران : ١٨٨] مسندا إلى المخاطب على طريقة الاعتراض بالفاء وأتي بعده بالمفعول الثاني : وهو (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] فتنازعه كلا الفعلين. وعلى قراءة الجمهور : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) [آل عمران : ١٨٨] ـ بتاء الخطاب ـ يكون خطابا لغير معيّن ليعمّ كلّ مخاطب ، ويكون قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) اعتراضا بالفاء أيضا والخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ما في حذف

٣٠٦

المفعول الثاني لفعل الحسبان الأول ، وهو محلّ الفائدة ، من تشويق السامع إلى سماع المنهي عن حسبانه. وقرأ الجمهور فلا تحسبنّهم : ـ بفتح الباء الموحدة ـ على أنّ الفعل لخطاب الواحد ؛ وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ـ بضم الباء الموحدة ـ على أنّه لخطاب الجمع ، وحيث إنّهما قرءا أوّله ـ بياء الغيبة ـ فضمّ الباء ـ يجعل فاعل (يحسبنّ) ومفعوله متّحدين أي لا يحسبون أنفسهم ، واتّحاد الفاعل والمفعول للفعل الواحد من خصائص أفعال الظنّ كما هنا وألحقت بها أفعال قليلة ، وهي : (وجد) و (عدم) و (فقد).

وأمّا سين «تحسبنّهم» فالقراءات مماثلة لما في سين يحسبن.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

تذييل بوعيد يدلّ على أنّ الله لا يخفى عليه ما يكتمون من خلائقهم.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))

هذا غرض أنف بالنسبة لما تتابع من أغراض السورة ، انتقل به من المقدّمات والمقصد والمتخلّلات بالمناسبات ، إلى غرض جديد هو الاعتبار بخلق العوالم وأعراضها والتنويه بالذين يعتبرون بما فيها من آيات.

ومثل هذا الانتقال يكون إيذانا بانتهاء الكلام على أغراض السورة ، على تفنّنها ، فقد كان التنقّل فيها من الغرض إلى مشاكله وقد وقع الانتقال الآن إلى غرض عامّ : وهو الاعتبار بخلق السماوات والأرض وحال المؤمنين في الاتّعاظ بذلك ، وهذا النحو في الانتقال يعرض للخطيب ونحوه من أغراضه عقب إيفائها حقّها إلى غرض آخر إيذانا بأنّه أشرف على الانتهاء ، وشأن القرآن أن يختم بالموعظة لأنّها أهمّ أغراض الرسالة ، كما وقع في ختام سورة البقرة.

وحرف (إنّ) للاهتمام بالخبر.

٣٠٧

والمراد ب (خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هنا : إمّا آثار خلقها ، وهو النظام الذي جعل فيها ، وإمّا أن يراد بالخلق المخلوقات كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١]. وأولو الألباب أهل العقول الكاملة لأنّ لبّ الشيء هو خلاصته. وقد قدّمنا في سورة البقرة بيان ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من الآيات عند قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ) [البقرة : ١٦٤] إلخ.

و (يَذْكُرُونَ اللهَ) إمّا من الذّكر اللساني وإمّا من الذّكر القلبي وهو التفكّر ، وأراد بقوله : (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) عموم الأحوال كقولهم : ضربه الظهر والبطن ، وقولهم : اشتهر كذا عند أهل الشرق والغرب ، على أنّ هذه الأحوال هي متعارف أحوال البشر في السلامة ، أي أحوال الشغل والراحة وقصد النوم. وقيل : أراد أحوال المصلّين : من قادر ، وعاجز ، وشديد العجز. وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى.

وقوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عطف مرادف إن كان المراد بالذكر فيما سبق التفكّر ، وإعادته لأجل اختلاف المتفكّر فيه ، أو هو عطف مغاير إذا كان المراد من قوله : (يَذْكُرُونَ) ذكر اللسان. والتفكّر عبادة عظيمة. روى ابن القاسم عن مالك رحمه‌الله في جامع العتبية قال : قيل لأمّ الدرداء : ما كان شأن أبي الدرداء؟ قالت : كان أكثر شأنه التفكّر ، قيل له : أترى التفكّر عملا من الأعمال؟ قال : نعم ، هو اليقين.

والخلق بمعنى كيفية أثر الخلق ، أو المخلوقات التي في السماء والأرض ، فالإضافة إمّا على معنى اللام ، وإمّا على معنى (في).

وقوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) وما بعده جملة واقعة موقع الحال على تقدير قول : أي يتفكّرون قائلين : ربّنا إلخ لأنّ هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء.

فإن قلت : كيف تواطأ الجمع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكّر مع اختلاف تفكيرهم وتأثّرهم ومقاصدهم. قلت : يحتمل أنّهم تلقّوه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا يلازمونه عند التفكّر وعقبه ، ويحتمل أنّ الله ألهمهم إيّاه فصار هجيراهم مثل قوله تعالى : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا) [البقرة : ٢٨٥] الآيات. ويدلّ لذلك حديث ابن عباس في «الصحيح» قال : «بتّ عند خالتي ميمونة فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران» إلى آخر الحديث.

٣٠٨

ويجوز عندي أن يكون قوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) حكاية لتفكّرهم في نفوسهم ، فهو كلام النفس يشترك فيه جميع المتفكّرين لاستوائهم في صحّة التفكّر لأنّه تنقل من معنى إلى متفرّع عنه ، وقد استوى أولو الألباب المتحدّث عنهم هنا في إدراك هذه المعاني ، فأوّل التفكّر أنتج لهم أنّ المخلوقات لم تخلق باطلا ، ثم تفرّع عنه تنزيه الله وسؤاله أن يقيهم عذاب النار ، لأنّهم رأوا في المخلوقات طائعا وعاصيا ، فعلموا أنّ وراء هذا العالم ثوابا وعقابا ، فاستعاذوا أن يكونوا ممّن حقّت عليه كلمة العذاب. وتوسّلوا إلى ذلك بأنّهم بذلوا غاية مقدورهم في طلب النجاة إذ استجابوا لمنادي الإيمان وهو الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسألوا غفران الذنوب ، وتكفير السيئات ، والموت على البر إلى آخره ... فلا يكاد أحد من أولي الألباب يخلو من هذه التفكّرات وربّما زاد عليها ، ولمّا نزلت هذه الآية وشاعت بينهم ، اهتدى لهذا التفكير من لم يكن انتبه له من قبل فصار شائعا بين المسلمين بمعانيه وألفاظه.

ومعنى (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أي خلقا باطلا ، أو ما خلقت هذا في حال أنّه باطل ، فهي حال لازمة الذكر في النفي وإن كانت فضلة في الإثبات ، كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [الدخان : ٣٨] فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أنّ هذا الخلق باطل أو خلي عن الحكمة ، والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثيرا.

وجيء بفاء التعقيب في حكاية قولهم : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) لأنّه ترتّب على العلم بأنّ هذا الخلق حقّ ، ومن جملة الحقّ أن لا يستوي الصالح والطالح ، والمطيع والعاصي ، فعلموا أنّ لكلّ مستقرّا مناسبا فسألوا أن يكونوا من أهل الخير المجنّبين عذاب النار.

وقولهم : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) مسوق مساق التعليل لسؤال الوقاية من النار ، كما تؤذن به (إنّ) المستعملة لإرادة الاهتمام إذ لا مقام للتأكيد هنا. والخزي مصدر خزي يخزى بمعنى ذلّ وهان بمرأى من الناس ، وأخزاه أذلّه على رءوس الأشهاد ، ووجه تعليل طلب الوقاية من النار بأنّ دخولها خزي بعد الإشارة إلى موجب ذلك الطلب بقولهم : (عَذابَ النَّارِ) أنّ النار مع ما فيها من العذاب الأليم فيها قهر للمعذّب وإهانة علنية ، وذلك معنى مستقرّ في نفوس الناس ، ومنه قول إبراهيم عليه‌السلام : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [بالشعراء : ٨٧] وذلك لظهور وجه الربط بين الشرط والجزاء ، أي من يدخل النار فقد أخزيته. والخزي لا تطيقه الأنفس ، فلا حاجة إلى تأويل تأوّلوه على معنى فقد أخزيته

٣٠٩

خزيا عظيما. ونظّره صاحب «الكشاف» بقول رعاة العرب : «من أدرك مرعى الصّمّان فقد أدرك» أي فقد أدرك مرعى مخصبا لئلّا يكون معنى الجزاء ضروري الحصول من الشرط فلا تظهر فائدة للتعليق بالشرط ، لأنّه يخلي الكلام عن الفائدة حينئذ. وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ)[آل عمران : ١٨٥].

ولأجل هذا أعقبوه بما في الطباع التفادي به عن الخزي والمذلّة بالهرع إلى أحلافهم وأنصارهم ، فعلموا أن لا نصير في الآخرة للظالم فزادوا بذلك تأكيدا للحرص على الاستعاذة من عذاب النار إذ قالوا : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي لأهل النار من أنصار تدفع عنهم الخزي.

وقوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) أرادوا به النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمنادي ، الذي يرفع صوته بالكلام. والنداء : رفع الصوت بالكلام رفعا قويا لأجل الإسماع وهو مشتقّ من النداء ـ بكسر النون وبضمّها ـ وهو الصوت المرتفع. يقال : هو أندى صوتا أي أرفع ، فأصل النداء الجهر بالصوت والصياح به ، ومنه سمّي دعاء الشخص شخصا ليقبل إليه نداء ، لأنّ من شأنه أن يرفع الصوت به ؛ ولذلك جعلوا له حروفا ممدودة مثل (يا) و (آ) و (أيا) و (هيا). ومنه سمّي الأذان نداء ، وأطلق هنا على المبالغة في الإسماع والدعوة وإن لم يكن في ذلك رفع صوت ، ويطلق النداء على طلب الإقبال بالذات أو بالفهم بحروف معلومة كقوله تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [فصلت : ١٠٤ ، ١٠٥] ويجوز أن يكون هو المراد هنا لأنّ النبي يدعو الناس بنحو : يا أيّها الناس ويا بني فلان ويا أمّة محمد ونحو ذلك ، وسيأتي تفسير معاني النداء عند قوله تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) في سورة الأعراف [٤٣]. واللام لام العلّة ، أي لأجل الإيمان بالله.

و (أن) في (أَنْ آمِنُوا) تفسيرية لما في فعل (ينادي) من معنى القول دون حروفه.

وجاءوا بفاء التعقيب في (فآمنّا) : للدلالة على المبادرة والسبق إلى الإيمان ، وذلك دليل سلامة فطرتهم من الخطأ والمكابرة ، وقد توسّموا أن تكون مبادرتهم لإجابة دعوة الإسلام مشكورة عند الله تعالى ، فلذلك فرّعوا عليه قولهم : (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) لأنّهم لمّا بذلوا كلّ ما في وسعهم من اتّباع الدين كانوا حقيقين بترجّي المغفرة.

والغفر والتكفير متقاربان في المادة المشتقين منها إلّا أنّه شاع الغفر والغفران في العفو عن الذنب والتكفير في تعويض الذنب بعوض ، فكأنّ العوض كفّر الذنب أي ستره ، ومنه سمّيت كفّارة الإفطار في رمضان. وكفّارة الحنث في اليمين إلّا أنهم أرادوا بالذنوب

٣١٠

ما كان قاصرا على ذواتهم ، ولذلك طلبوا مغفرته ، وأرادوا من السيّئات ما كان فيه حقّ الناس ، فلذلك سألوا تكفيرها عنهم. وقيل هو مجرّد تأكيد ، وهو حسن ، وقيل أرادوا من الذنوب الكبائر ومن السيّئات الصغائر لأنّ اجتناب الكبائر يكفّر الصغائر ، بناء على أنّ الذنب أدلّ على الإثم من السيئة.

وسألوا الوفاة مع الأبرار ، أي أن يموتوا على حالة البرّ ، بأن يلازمهم البرّ إلى الممات وأن لا يرتدّوا على أدبارهم ، فإذا ماتوا كذلك ماتوا من جملة الأبرار. فالمعية هنا معية اعتبارية ، وهي المشاركة في الحالة الكاملة ، والمعية مع الأبرار أبلغ في الاتّصاف بالدلالة ، لأنّه برّ يرجى دوامه وتزايده لكون صاحبه ضمن جمع يزيدونه إقبالا على البرّ بلسان المقال ولسان الحال.

ولمّا سألوا أسباب المثوبة في الدنيا والآخرة ترقّوا في السؤال إلى طلب تحقيق المثوبة ، فقالوا : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ).

وتحتمل كلمة (على) أن تكون لتعدية فعل الوعد ، ومعناها التعليل فيكون الرسل هم الموعود عليهم ، ومعنى الوعد على الرسل أنّه وعد على تصديقهم فتعيّن تقدير مضاف ، وتحتمل أن تكون (على) ظرفا مستقرّا ، أي وعدا كائنا على رسلك أي ، منزلا عليهم ، ومتعلّق الجار في مثله كون غير عامّ بل هو كون خاصّ ، ولا ضير في ذلك إذا قامت القرينة ، ومعنى (على) حينئذ الاستعلاء المجازي ، أو تجعل (على) ظرفا مستقرّا حالا من (ما وَعَدْتَنا) أيضا ، بتقدير كون عامّ لكن مع تقدير مضاف إلى رسلك ، أي على ألسنة رسلك.

والموعود على ألسنة الرسل أو على التصديق بهم الأظهر أنّه ثواب الآخرة وثواب الدنيا : لقوله تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٤٨] وقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور :

٥٥] الآية ، وقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥]. والمراد بالرسل في قوله : (عَلى رُسُلِكَ) خصوص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطلق عليه وصف «رسل» تعظيما لقوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) [إبراهيم : ٤٧]. ومنه قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) [الفرقان : ٣٧].

فإن قلت : إذا كانوا عالمين بأنّ الله وعدهم ذلك وبأنّه لا يخلف الميعاد فما فائدة سؤالهم ذلك في دعائهم؟ قلت : له وجوه : أحدها : أنّهم سألوا ذلك ليكون حصوله أمارة

٣١١

على حصول قبول الأعمال التي وعد الله عليها بما سألوه فقد يظنّون أنفسهم آتين بما يبلّغهم تلك المرتبة ويخشون لعلّهم قد خلطوا أعمالهم الصالحة بما يبطلها ، ولعلّ هذا هو السبب في مجيء الواو في قولهم : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) دون الفاء إذ جعلوه دعوة مستقلّة لتتحقّق ويتحقّق سببها ، ولم يجعلوها نتيجة فعل مقطوع بحصوله. ويدلّ لصحّة هذا التأويل قوله بعد : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) [آل عمران : ١٩٥] مع أنّهم لم يطلبوا هنا عدم إضاعة أعمالهم.

الثاني : قال في «الكشّاف» : أرادوا طلب التوفيق إلى أسباب ما وعدهم الله على رسله. فالكلام مستعمل كناية عن سبب ذلك من التوفيق للأعمال الموعود عليها.

الثالث : قال فيه ما حاصله : أن يكون هذا من باب الأدب مع الله حتّى لا يظهروا بمظهر المستحقّ لتحصيل الموعود به تذلّلا ، أي كسؤال الرسل عليهم‌السلام المغفرة وقد علموا أنّ الله غفر لهم.

الرابع : أجاب القرافي في الفرق (٢٧٣) بأنّهم سألوا ذلك لأنّ حصوله مشروط بالوفاة على الإيمان ، وقد يؤيّد هذا بأنّهم قدّموا قبله قولهم : (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) لكن هذا الجواب يقتضي قصر الموعود به على ثواب الآخرة ، وأعادوا سؤال النجاة من خزي يوم القيامة لشدّته عليهم.

الخامس : أنّ الموعود الذي سألوه هو النصر على العدوّ خاصّة ، فالدعاء بقولهم : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) مقصود منه تعجيل ذلك لهم ، يعني أنّ الوعد كان لمجموع الأمّة ، فكلّ واحد إذا دعا بهذا فإنّما يعني أن يجعله الله ممّن يرى مصداق وعد الله تعالى خشية أن يفوتهم. وهذا كقول خبّاب بن الأرتّ : هاجرنا مع النبي نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها ، ومنّا من مات لم يأكل من أجره شيئا ، منهم مصعب بن عمير ، قتل يوم أحد ، فلم نجد له ما نكفّنه إلّا بردة» إلخ.

وقد ابتدءوا دعاءهم وخلّلوه بندائه تعالى : خمس مرات إظهار للحاجة إلى إقبال الله عليهم. وعن جعفر بن محمد رضي‌الله‌عنه «من حزبه أمر فقال : يا ربّ خمس مرات أنجاه الله ممّا يخاف وأعطاه ما أراد» ، واقرءوا : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) إلى قوله : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ).

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ

٣١٢

مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

دلّت الفاء على سرعة الإجابة بحصول المطلوب ، ودلّت على أنّ مناجاة العبد ربّه بقلبه ضرب من ضروب الدعاء قابل للإجابة.

و (استجاب) بمعنى أجاب عند جمهور أئمّة اللغة ، فالسين والتاء للتأكيد ، مثل : استوقد واستخلص. وعن الفرّاء ، وعليّ بن عيسى الربعي : أنّ استجاب أخصّ من أجاب لأنّ استجاب يقال لمن قبل ما دعي إليه ، وأجاب أعمّ ، فيقال لمن أجاب بالقبول وبالردّ. وقال الراغب : الاستجابة هي التحرّي للجواب والتهيّؤ له ، لكن عبّر به عن الإجابة لقلّة انفكاكها منها. ويقال : استجاب له واستجابه ، فعدّي في الآية باللام ، كما قالوا : حمد له وشكر له ، ويعدّي بنفسه أيضا مثلهما. قال كعب بن سعد الغنوي ، يرثي قريبا له :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وتعبيرهم في دعائهم بوصف (رَبَّنا) دون اسم الجلالة لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب ، ومحبّة الخير له ، ومن الاعتراف بأنّهم عبيده ولتتأتّى الإضافة المفيدة التشريف والقرب ، ولردّ حسن دعائهم بمثله بقولهم : «ربّنا ، ربّنا».

ومعنى نفي إضاعة عملهم نفي إلغاء الجزاء عنه : جعله كالضائع غير الحاصل في يد صاحبه.

فنفي إضاعة العمل وعد بالاعتداد بعملهم وحسبانه لهم ، فقد تضمّنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطمينا لقلوبهم من وجل عدم القبول ، وفي هذا دليل على أنّهم أرادوا من قولهم : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤] تحقيق قبول أعمالهم والاستعاذة من الحبط.

وقوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بيان لعامل ووجه الحاجة إلى هذا البيان هنا أنّ الأعمال التي أتوا بها أكبرها الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد ، ولمّا كان الجهاد أكثر تكرّرا خيف أن يتوهّم أنّ النساء لا حظّ لهنّ في تحقيق الوعد الذي وعد الله على ألسنة رسله ، فدفع هذا بأنّ للنساء حظّهنّ في ذلك فهنّ في الإيمان والهجرة يساوين الرجال ، وهنّ لهنّ حظّهنّ في ثواب الجهاد لأنّهن يقمن على المرضى ويداوين الكلمى ، ويسقين

٣١٣

الجيش ، وذلك عمل عظيم به استبقاء نفوس المسلمين ، فهو لا يقصر عن القتال الذي به إتلاف نفوس عدوّ المؤمنين.

وقوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (من) فيه اتّصالية أي بعض المستجاب لهم متّصل ببعض ، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى أنّ شأنهم واحد وأمرهم سواء. قال تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) [التوبة : ٦٧] إلخ ... وقولهم : هو منّي وأنا منه ، وفي عكسه يقولون كما قال النابغة :

فإنّي لست منك ولست منّي

وقد حملها جمهور المفسّرين على معنى أنّ نساءكم ورجالكم يجمعهم أصل واحد ، وعلى هذا فموقع هذه الجملة موقع التعليل للتعميم في قوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) أي لأنّ شأنكم واحد ، وكلّ قائم بما لو لم يقم به لضاعت مصلحة الآخر ، فلا جرم أن كانوا سواء في تحقيق وعد الله إيّاهم ، وإن اختلفت أعمالهم وهذا كقوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) [النساء : ٣٢].

والأظهر عندي أن ليس هذا تعليلا لمضمون قوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بل هو بيان للتساوي في الأخبار المتعلّقة بضمائر المخاطبين أي أنتم في عنايتي بأعمالكم سواء ، وهو قضاء لحقّ ما لهم من الأعمال الصالحة المتساوين فيها ، ليكون تمهيدا لبساط تمييز المهاجرين بفضل الهجرة الآتي في قوله : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) ، الآيات.

وقوله : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) تفريع عن قوله : (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ) وهو من ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام بذلك الخاصّ ، واشتمل على بيان ما تفاضلوا فيه من العمل ، وهو الهجرة التي فاز بها المهاجرون.

والمهاجرة : هي ترك الموطن بقصد استيطان غيره ، والمفاعلة فيها للتقوية كأنّه هجر قومه وهجروه لأنّهم لم يحرصوا على بقائه ، وهذا أصل المهاجرة أن تكون لمنافرة ونحوها ، وهي تصدق بهجرة الذين هاجروا إلى بلاد الحبشة وبهجرة الذين هاجروا إلى المدينة.

وعطف قوله : (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) على (هاجَرُوا) لتحقيق معنى المفاعلة في هاجر أي هاجروا مهاجرة لزّهم إليها قومهم ، سواء كان الإخراج بصريح القول أم بالإلجاء ، من جهة سوء المعاملة ، ولقد هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة لما

٣١٤

لاقوه من سوء معاملة المشركين ، ثم هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هجرته إلى المدينة والتحق به المسلمون كلّهم ، لما لاقوه من أذى المشركين. ولا يوجد ما يدلّ على أنّ المشركين أخرجوا المسلمين ، وكيف واختفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند خروجه إلى المدينة يدلّ على حرص المشركين على صدّه عن الخروج ، ويدلّ لذلك أيضا قول كعب :

في فتية من قريش قال قائلهم

ببطن مكّة لمّا أسلموا زولوا

أي قال قائل من المسلمين اخرجوا من مكّة ، وعليه فكلّ ما ورد ممّا فيه أنّهم أخرجوا من ديارهم بغير حقّ فتأويله أنه الإلجاء إلى الخروج ، ومنه قول ورقة ابن نوفل : «يا ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك» ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «أو مخرجيّ هم؟ فقال : ما جاء نبيء بمثل ما جئت به إلّا عودي». وقوله : (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي أصابهم الأذى وهو مكروه قليل من قول أو فعل. وفهم منه أنّ من أصابهم الضرّ أولى بالثواب وأوفى. وهذه حالة تصدق بالذين أوذوا قبل الهجرة وبعدها.

وقوله : (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) جمع بينهما للإشارة إلى أنّ للقسمين ثوابا. وقرأ الجمهور : وقاتلوا وقتلوا. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : وقتلوا وقاتلوا ـ عكس قراءة الجمهور ـ ومآل القراءتين واحد ، وهذه حالة تصدق على المهاجرين والأنصار من الذين جاهدوا فاستشهدوا أو بقوا. وقوله : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) إلخ مؤكّد بلام القسم. وتكفير السيّئات تقدّم آنفا.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨))

اعتراض في أثناء هذه الخاتمة ، نشأ عن قوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) [آل عمران : ١٩٥] باعتبار ما يتضمّنه عدم إضاعة العمل من الجزاء عليه جزاء كاملا في الدنيا والآخرة ، وما يستلزمه ذلك من حرمان الذين لم يستجيبوا لداعي الإيمان وهم المشركون ، وهم المراد بالذين كفروا كما هو مصطلح القرّاء.

والخطاب لغير معيّن ممّن يتوهّم أن يغرّه حسن حال المشركين في الدنيا.

والغرّ والغرور : الإطماع في أمر محبوب على نيّة عدم وقوعه ، أو إظهار الأمر المضرّ في صورة النافع ، وهو مشتقّ من الغرّة ـ بكسر الغين ـ وهي الغفلة ، ورجل غرّ ـ

٣١٥

بكسر الغين ـ إذا كان ينخدع لمن خادعه. وفي الحديث : «المؤمن غرّ كريم» أي يظنّ الخير بأهل الشرّ إذا أظهروا له الخير.

وهو هنا مستعار لظهور الشيء في مظهر محبوب ، وهو في العاقبة مكروه.

وأسند فعل الغرور إلى التقلّب لأنّ التقلّب سببه ، فهو مجاز عقليّ ، والمعنى لا ينبغي أن يغرّك. ونظيره : «لا يفتننّكم الشيطان». و (لا) ناهية لأنّ نون التوكيد لا تجيء مع النفي.

وقرأ الجمهور : لا يغرّنّك ـ بتشديد الراء وتشديد النون ـ وهي نون التوكيد الثقيلة ؛ وقرأها رويس عن يعقوب ـ بنون ساكنة ـ ، وهي نون التوكيد الخفيفة.

والتقلّب : تصرّف على حسب المشيئة في الحروب والتجارات والغرس ونحو ذلك ، قال تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) [غافر:٤].

والبلاد : الأرض. والمتاع : الشيء الذي يشتري للتمتّع به.

وجملة (مَتاعٌ قَلِيلٌ) إلى آخرها بيان لجملة (لا يَغُرَّنَّكَ). والمتاع : المنفعة العاجلة ، قال تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) [آل عمران : ١٨٥].

وجملة (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) إلى آخرها افتتحت بحرف الاستدراك لأنّ مضمونها ضدّ الكلام الذي قبلها لأنّ معنى (لا يَغُرَّنَّكَ) إلخ وصف ما هم فيه بأنّه متاع قليل ، أي غير دائم ، وأنّ المؤمنين المتّقين لهم منافع دائمة.

وقرأ الجمهور : لكن ـ بتخفيف النون ساكنة مخفّفة من الثقيلة ـ وهي مهملة ، وقرأه أبو جعفر ـ بتشديد النون مفتوحة ـ وهي عاملة عمل إنّ.

والنزل ـ بضم النون والزاي وبضمّها مع سكون الزاي ـ ما يعدّ للنزيل والضيف من الكرامة والقرى ، قال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت : ٣١ ، ٣٢].

و (الأبرار) جمع البرّ وهو الموصوف بالمبرّة والبرّ ، وهو حسن العمل ضدّ الفجور.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ

٣١٦

خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩))

عطف على جملة (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) [آل عمران : ١٩٨] استكمالا لذكر الفرق في تلقّي الإسلام : فهؤلاء فريق الذين آمنوا من أهل الكتاب ولم يظهروا إيمانهم لخوف قومهم مثل النجاشي أصحمة ، وأثنى الله عليهم بأنّهم لا يحرّفون الدين ، والآية مؤذنة بأنّهم لم يكونوا معروفين بذلك لأنّهم لو عرفوا بالإيمان لما كان من فائدة في وصفهم بأنّهم من أهل الكتاب ، وهذا الصنف بعكس حال المنافين. وأكّد الخبر بأنّ وبلام الابتداء للردّ على المنافقين الذين قالوا لرسول الله لمّا صلّى على النجاشي : انظروا إليه يصلّي على نصراني ليس على دينه ولم يره قط. على ما روي عن ابن عباس وبعض أصحابه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية. ولعلّ وفاة النجاشي حصلت قبل غزوة أحد.

وقيل : أريد بهم هنا من أظهر إيمانه وتصديقه من اليهود مثل عبد الله بن سلام ومخيريق ، وكذا من آمن من نصارى نجران أي الذين أسلموا ورسول الله بمكّة إن صحّ خبر إسلامهم.

وجيء باسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) للتنبيه على أنّ المشار إليهم به أحرياء بما سيرد من الإخبار عنهم لأجل ما تقدّم اسم الإشارة.

وأشار بقوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) إلى أنّه يبادر لهم بأجرهم في الدنيا ويجعله لهم يوم القيامة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدّد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدوّ كيلا يثبّطهم ما حصل من الهزيمة ، فأمرهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال ، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر ، وهذا أشدّ الصبر ثباتا في النفس وأقربه إلى التزلزل ، ذلك أنّ الصبر في وجه صابر آخر شديد على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة قرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه ، ثم إنّ هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتّى يملّ قرنه فإنّه لا يجتني من صبره شيئا ، لأنّ نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبرا ، كما قال زفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام :

٣١٧

سقيناهم كأسا سقونا بمثلها

ولكنّهم كانوا على الموت أصبرا

فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب كما قال شاعر العرب الذي لم يعرف اسمه :

لا أنت معتاد في الهيجا مصابرة

يصلى بها كلّ من عاداك نيرانا

وقوله : (وَرابِطُوا) أمر لهم بالمرابطة ، وهي مفاعلة من الرّبط ، وهو ربط الخيل للحراسة في غير الجهاد خشية أن يفجأهم العدوّ ، أمر الله به المسلمين ليكونوا دائما على حذر من عدوّهم تنبيها لهم على ما يكيد به المشركون من مفاجأتهم على غرّة بعد وقعة أحد كما قدّمناه آنفا ، وقد وقع ذلك منهم في وقعة الأحزاب فلمّا أمرهم الله بالجهاد أمرهم بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظا من عدوّهم. وفي كتاب الجهاد من «البخاري» : باب فضل رباط يوم في سبيل الله وقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) إلخ. وكانت المرابطة معروفة في الجاهلية وهي ربط الفرس للحراسة في الثغور أي الجهات التي يستطيع العدوّ الوصول منها إلى الحيّ مثل الشعاب بين الجبال. وما رأيت من وصف ذلك مثل لبيد في معلّقته إذ قال :

ولقد حميت الحيّ تحمل شكّتي

فرط وشاحي إذ غدوت لجامها

فعلوت مرتقبا على ذي هبوة

حرج إلى إعلامهن قتامها

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

فذكر أنّه حرس الحيّ على مكان مرتقب ، أي عال بربط فرسه في الثغر. وكان المسلمون يرابطون في ثغور بلاد فارس والشام والأندلس في البرّ ، ثم لمّا اتّسع سلطان الإسلام وامتلكوا البحار صار الرباط في ثغور البخار وهي الشطوط التي يخشى نزول العدوّ منها : مثل رباط المنستير بتونس بإفريقية ، ورباط سلا بالمغرب ، وربط تونس ومحارسها : مثل محرس علي بن سالم قرب صفاقس. فأمر الله بالرباط كما أمر بالجهاد بهذا المعنى وقد خفي على بعض المفسّرين فقال بعضهم : أراد بقوله : (وَرابِطُوا) إعداد الخيل مربوطة للجهاد ، قال : ولم يكن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو في الثغور. وقال بعضهم : أراد بقوله : (وَرابِطُوا) انتظار الصلاة بعد الفراغ من التي قبلها ، لما روى مالك في «الموطأ» ، عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وقال : «فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط». ونسب هذا لأبي سلمة بن عبد الرحمن. قال ابن عطية : والحقّ أن معنى هذا الحديث على التشبيه ، كقوله : «ليس الشديد بالصرعة» وقوله : «ليس المسكين بهذا الطّواف الذي تردّه اللقمة واللقمتان» ، أي وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رجعنا من

٣١٨

الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

وأعقب هذا الأمر بالأمر بالتقوى لأنّها جماع الخيرات وبها يرجى الفلاح.

٣١٩
٣٢٠