تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] ولا ما صرّح فيه بجهل وقته كقوله : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧].

وليس من المتشابه ما دلّ على معنى يعارض الحمل عليه دليل آخر ، منفصل عنه ؛ لأنّ ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين ، أو ترجيح أحدهما على الآخر ، مثل قوله تعالى خطابا لإبليس : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) الآية في سورة الإسراء [٦٤] مع ما في الآيات المقتضية (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] إنه لا يحبّ الفساد.

وقد علمتم من هذا أنّ ملاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة : إمّا لضيقها عن المعاني ، وإمّا لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى ، وإمّا لتناسي بعض اللغة ، فيتبيّن لك أنّ الإحكام والتشابه : صفتان للألفاظ ، باعتبار فهم المعاني.

وإنّما أخبر عن ضمير آيات محكمات ، وهو ضمير جمع ، باسم مفرد ليس دالا على أجزاء وهو (أُمُ) لأنّ المراد أنّ صنف الآيات المحكمات يتنزّل من الكتاب منزلة أمّه أي أصله ومرجعه الذي يرجّع إليه في فهم الكتاب ومقاصده. والمعنى : هنّ كأمّ للكتاب. ويعلم منه أنّ كل آية من المحكمات أم للكتاب في ما تتضمّنه من المعنى. وهذا كقول النابغة يذكر بني أسد :

فهم درعي التي استلأمت فيها

أي مجموعهم كالدّرع لي ، ويعلم منه أنّ كلّ أحد من بني أسد بمنزلة حلقة من حلق الدرع. ومن هذا المعنى قوله تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٤].

والكلام على (أخر) تقدّم عند قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤].

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ).

تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق ؛ لأنّه لما قسّم الكتاب إلى محكم ومتشابه ، وكان ذلك التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني ، تشوّفت النفس إلى معرفة تلقّي الناس للمتشابه. أمّا المحكم فتلقّي الناس له على طريقة واحدة ، فلا حاجة إلى تفصيل فيه ، واقتصر في التفصيل على ذكر قسم من أقسامه : وهو حال الذين في قلوبهم زيغ كيف تلقّيهم للمتشابهات ؛ لأنّ بيان هذا هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام ، وهو كشف شبهة الذين غرّتهم المتشابهات ولم يهتدوا إلى حقّ تأويلها ، ويعرف حال قسيمهم وهم

٢١

الذين لا زيغ في قلوبهم بطريق المقابلة ثم سيصرّح بإجمال حال المهتدين في تلقّي ومتشبهات القرآن.

والقلوب محالّ الإدراك ، وهي العقول ، وتقدّم ذلك عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) في سورة البقرة [٢٨٣].

والزيغ : الميل والانحراف عن المقصود : (ما زاغَ الْبَصَرُ) [النجم : ١٧] ويقال : زاغت الشمس. فالزيغ أخصّ من الميل ؛ لأنّه ميل عن الصواب والمقصود.

والاتّباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة ، أي يعكفون على الخوض في المتشابه ، يحصونه ، شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعه.

وقد ذكر علة الاتّباع ، وهو طلب الفتنة ، وطلب أن يؤوّلوه ، وليس طلب تأويله في ذاته بمذمّة ، بدليل قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) كما سنبيّنه وإنّما محلّ الذم أنّهم يطلبون تأويلا ليسوا أهلا له فيؤوّلونه بما يوافق أهواءهم. وهذا ديدن الملاحدة وأهل الأهواء : الذين يتعمّدون حمل الناس على متابعتهم تكثيرا لسوادهم.

ولما وصف أصحاب هذا المقصد بالزيغ في قلوبهم ، علمنا أنّه ذمهم بذلك لهذا المقصد ، ولا شك أنّ كل اشتغال بالمتشابه إذا كان مفضيا إلى هذا المقصد يناله شيء من هذا الذم. فالذين اتّبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون ، والزنادقة ، والمشركون مثال تأويل المشركين : قصة العاصي بن وائل ـ من المشركين ـ إذ جاءه خباب بن الأرت ـ من المسلمين ـ يتقاضاه أجرا ، فقال العاصي ـ متهكّما به ـ «وإنّي لمبعوث بعد الموت ـ أي حسب اعتقادكم ـ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد» فالعاصي توهّم ، أو أراد الإيهام ، أنّ البعث بعد الموت رجوع إلى الدنيا ، أو أراد أن يوهم دهماء المشركين ذلك ليكون أدعى إلى تكذيب الخبر بالبعث ، بمشاهدة عدم رجوع أحد من الأموات ، ولذلك كانوا يقولون : (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الدخان : ٣٦].

ومثال تأويل الزنادقة : ما حكاه محمد بن علي بن رزام الطائي الكوفي قال : كنت بمكة حين كان الجنّابي ـ زعيم القرامطة ـ بمكة ، وهم يقتلون الحجاج ، ويقولون : أليس قد قال لكم محمد المكي «ومن دخله كان آمنا فأيّ أمن هنا؟» قال : فقلت له : هذا خرج في صورة الخبر ، والمراد به الأمر أي ومن دخله فأمّنوه ، كقوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٢٨]. والذين شابهوهم في ذلك كلّ قوم يجعلون البحث في المتشابه ديدنهم ،

٢٢

ويفضون بذلك إلى خلافات وتعصّبات. وكلّ من يتأوّل المتشابه على هواه ، بغير دليل على تأويله مستند إلى دليل واستعمال عربي.

وقد فهم أنّ المراد : التأويل بحسب الهوى ، أو التأويل الملقي في الفتنة ، بقرينة قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) الآية ، كما فهم من قوله : (فَيَتَّبِعُونَ) أنّهم يهتمّون بذلك ، ويستهترون به ، وهذا ملاك التفرقة بين حال من يتيع المتشابه للإيقاع في الشك والإلحاد ، وبين حال من يفسّر المتشابه ويؤوّله إذا دعاه داع إلى ذلك. وفي «البخاري» ـ عن سعيد بن جبير ـ أنّ رجلا قال لابن عباس : «إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ» قال : ما هو ـ قال : «فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون» ـ وقال ـ «وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» وقال : «ولا يكتمون الله حديثا» وقال : «قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين» قال ابن عباس : «فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ثم النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، فأما قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون : تعالوا نقل : «ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك لا يكتمون الله حديثا». وأخرج البخاري ، عن عائشة : قالت «تلا رسول الله هذه الآية إلى قوله : (أُولُوا الْأَلْبابِ) [البقرة : ٢٦٩] ـ قالت ـ قال رسول الله : فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم».

ويقصد من قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) التعريض بنصارى نجران ، إذ ألزموا المسلمين بأنّ القرآن يشهد لكون الله ثالث ثلاثة بما يقع في القرآن من ضمير المتكلم ومعه غيره من نحو خلقنا وأمرنا وقضينا ، وزعموا أنّ ذلك الضمير له وعيسى ومريم ولا شك أنّ هذا ـ إن صح عنهم ـ هو تمويه ؛ إذ من المعروف أنّ في ذلك الضمير طريقتين مشهورتين إما إرادة التشريك أو إرادة التعظيم فما أرادوا من استدلالهم هذا إلا التمويه على عامة الناس.

(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

جملة حال أي وهم لا قبل لهم بتأويله ؛ إذ ليس تأويله لأمثالهم ، كما قيل في المثل : «ليس بعشّك فادرجي».

ومن هنا أمسك السلف عن تأويل المتشابهات ، غير الراجعة إلى التشريع ، فقال أبو

٢٣

بكر رضي‌الله‌عنه : «أيّ أرض تقلّني وأيّ سماء تظلّني إن قلت في كتاب الله بما لا أعلم». وجاء في زمن عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ رجل إلى المدينة من البصرة ، يقال له صبيغ بن شريك أو ابن عسل التميمي (١) فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن ، وعن أشياء فأحضره عمر ، وضربه ضربا موجعا ، وكرّر ذلك أياما ، فقال : «حسبك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنت أجد في رأسي» ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته. ومن السلف من تأوّل عند عروض الشبهة لبعض الناس ، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفا.

قال ابن العربي في «العواصم من القواصم» ـ «من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية». قلت : أمّا الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابها ، وتأوّلوه بحسب أهوائهم ، وأمّا الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه ، واعتقدوا سبب التشابه واقعا ، فالأوّلون دخلوا في قوله : (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) ، والأخيرون خرجوا من قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أو وما يعلم تأويله إلا الله ، فخالفوا الخلف والسلف. قال ابن العربي ـ «في العواصم» ـ «وأصل الظاهريين الخوارج الذين قالوا : لا حكم إلّا لله» يعني أنّهم أخذوا بظاهر قوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم.

والمراد بالراسخين في العلم : الذين تمكّنوا في علم الكتاب ، ومعرفة محامله ، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى ، بحيث لا تروج عليهم الشبه. والرسوخ في كلام العرب : الثبات والتمكن في المكان ، يقال : رسخت القدم ترسخ رسوخا إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل ، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلّله الشبه ، ولا تتطرقه الأخطاء غالبا ، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة. فالراسخون في العلم: الثابتون فيه العارفون بدقائقه ، فهم يحسنون مواقع التأويل ، ويعلمونه.

ولذا فقوله : (وَالرَّاسِخُونَ) معطوف على اسم الجلالة ، وفي هذا العطف تشريف عظيم : كقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ)[آل عمران : ١٨] وإلى هذا التفسير مال ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع بن سليمان ، والقاسم بن محمد ،

__________________

(١) صبيغ بصاد مهملة وباء موحدة وتحتية وغين معجمة بوزن أمير ـ وعسل ـ بعين مهملة مكسورة وسين مهملة ساكنة.

٢٤

والشافعية ، وابن فورك ، والشيخ أحمد القرطبي ، وابن عطية ، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر الله بعلمها. ويؤيّد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة. ووصفهم بالرسوخ ، فآذن بأنّ لهم مزية في فهم المتشابه : لأنّ المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام ، ففي أيّ شيء رسوخهم ، وحكى إمام الحرمين ، عن ابن عباس : أنّه قال في هاته الآية : «أنا ممّن يعلم تأويله».

وقيل : الوقف على قوله : (إِلَّا اللهُ) وإنّ جملة (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مستأنفة ، وهذا مروي عن جمهور السلف ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة ، وابن مسعود ، وأبي ، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية ، وقاله عروة بن الزبير ، والكسائي ، والأخفش والفرّاء ، والحنفية ، وإليه مال فخر الدين.

ويؤيّد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم ؛ فإنّه دليل بيّن على أنّ الحكم الذي أثبت لهذا الفريق ، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضلات ، وهو تأويل المتشابه ، على أنّ أصل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل ، فيكون الراسخون معطوفا على اسم الجلالة فيدخلون في أنّهم يعلمون تأويله. ولو كان الراسخون مبتدأ وجملة : «يقولون آمنّا به» خبرا ، لكان حاصل هذا الخبر ممّا يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم ، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة. قال ابن عطية : «تسميتهم راسخين تقتضي أنّهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أيّ شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلّا ما يعلمه الجميع وما الرسوخ إلّا المعرفة بتصاريف الكلام بقريحة معدة» وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعد وأن يكون ترجيحا لأحد التفسيرين ، وليس إبطالا لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله ، وما لا مطمع في تأويله.

وفي قوله : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) إشعار بأنّ الراسخين يعلمون تأويل المتشابه.

واحتجّ أصحاب الرأي الثاني ، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة : بأنّ الظاهر أن يكون جملة (والراسخون) مستأنفة لتكون معادلا لجملة : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) ، والتقدير : وأمّا الراسخون في العلم. وأجاب التفتازاني بأنّ المعادل لا يلزم أن يكون مذكورا ، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه. واحتجّوا أيضا بقوله تعالى : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) قال الفخر : لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة ؛ إذ

٢٥

الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة. وذكر الفخر حججا أخر غير مستقيمة.

ولا يخفى أنّ أهل القول الأول لا يثبتون متشابها غير ما خفي المراد منه ، وأنّ خفاء المراد متفاوت ، وأنّ أهل القول الثاني يثبتون متشابها استأثر الله بعلمه ، وهو أيضا متفاوت ؛ لأنّ منه ما يقبل تأويلات قريبة ، وهو ممّا ينبغي ألّا يعدّ من المتشابه في اصطلاحهم ، لكنّ صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سهل تأويلها مثل (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] دلّ على أنّهم يسدّون باب التأويل في المتشابه ، قال الشيخ ابن عطية «إنّ تأويل ما يمكن تأويله لا يعلم تأويله ـ على الاستيفاء ـ إلّا الله تعالى فمن قال ، من العلماء الحذّاق : بأنّ الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه ، فإنّما أراد هذا النوع ، وخافوا أن يظنّ أحد أنّ الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال».

وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابها : من آيات القرآن ، ومن صحاح الأخبار ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فكان رأي فريق منهم الإيمان بها ، على إبهامها وإجمالها ، وتفويض العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى ، وهذه طريقة سلف علمائنا ، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلّمين ، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم ، ويعبّر عنها بطريقة السلف ، ويقولون : طريقة السلف أسلم ، أي أشدّ سلامة لهم من أن يتأوّلوا تأويلات لا يدرى مدى ما تفضي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتّسق مع ما شرعه للناس من الشرائع ، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم ، وانصرافهم عن التعمّق في طلب التأويل.

وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعان من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز ، واستعارة ، وتمثيل ، مع وجود الدّاعي إلى التأويل ، وهو تعطّش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلّة القرآن والسنة ، ويعبّر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف ، ويقولون : طريقة الخلف أعم ، أي أنسب بقواعد العلم وأقوى في تحصيل العلم القاطع لجدال الملحدين ، والمقنع لمن يتطلّبون الحقائق من المتعلّمين ، وقد يصفونها بأنّها أحكم أي أشدّ إحكاما ؛ لأنّها تقنع أصحاب الأغراض كلّهم. وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسّرين وعلماء الأصول ، ولم أقف على تعيين أوّل من صدرا

٢٦

عنه ، وقد تعرّض الشيخ ابن تيمية ـ في «العقيدة الحموية» ـ إلى ردّ هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل. والموصوف بأسلم وبأعلم الطريقة لا أهلها ؛ فإنّ أهل الطريقتين من أئمة العلم ، وممّن سلموا في دينهم من الفتن.

وليس في وصف هذه الطريقة ، بأنّها أعلم أو أحكم ، غضاضة من الطريقة الأولى ؛ لأنّ العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى ، فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي ، وهديهم النبوي ، وفيهم من لا يعير البحث عنها جانبا من همّته ، مثل سائر العامة. فلا جرم كان طيّ البحث عن تفصيلها أسلم للعموم ، وكان تفصيلها بعد ذلك أعلم لمن جاء بعدهم ، بحيث لو لم يؤوّلوها به لأوسعوا ، للمتطلعين إلى بيانها ، مجالا للشك أو الإلحاد ، أو ضيق الصدر في الاعتقاد.

واعلم أنّ التأويل منه ما هو واضح بيّن ، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يعادل حمل اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه. فهذا القسم من التأويل حقيق بألّا يسمّى تأويلا وليس أحد محمليه بأقوى من الآخر إلّا أنّ أحدهما أسبق في الوضع من الآخر ، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبق إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتض ترجيح ذلك المعنى ، فكم من إطلاق مجازي للفظ هو أسبق إلى الأفهام من إطلاقه الحقيقي. وليس قولهم في علم الأصول بأنّ الحقيقة أرجح من المجاز بمقبول على عمومه.

وتسمية هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية. وعدّه من المتشابه جمود.

ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكنّ القرائن أو الأدلة أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه فهذا حقيق بأن يعدّ من المتشابه.

ثم إنّ تأويل اللفظ في مثله قد يتيسّر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنّه المراد إذا جرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في قوله : (بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧] وقوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] فمن أخذوا من مثله أنّ لله أعينا لا يعرف كنهها ، أو له يدا ليست كأيدينا ، فقد زادوا في قوة الاشتباه.

ومنه ما يعتبر تأويله احتمالا وتجويزا بأن يكون الصرف عن الظاهر متعيّنا وأمّا حمله على ما أوّلوه به فعلى وجه الاحتمال والمثال ، وهذا مثل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة :

٢٧

٢١٠] فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يدعي أحد ، أن ما أوّله به هو المراد منه ولكنّه وجه تابع لإمكان التأويل ، وهذا النوع أشدّ مواقع التشابه والتأويل.

وقد استبان لك من هذه التأويلات : أنّ نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبّر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور.

وقوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) حال من (الراسخون) أي يعلمون تأويله في هذه الحالة والمعنى عليه : يحتمل أن يكون المراد من القول الكناية عن الاعتقاد ؛ لأنّ شأن المعتقد أن يقول معتقده ، أي يعلمون تأويله ولا يهجس في نفوسهم شك من جهة وقوع المتشابه حتى يقولوا : لما ذا لم يجىء الكلام كلّه واضحا ، ويتطرّقهم من ذلك إلى الرّيبة في كونه من عند الله ، فلذلك يقولون : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا). ويحتمل أنّ المراد يقولون لغيرهم : أي من لم يبلغ مرتبة الرسوخ من عامة المسلمين ، الذين لا قبل لهم بإدراك تأويله ، ليعلّموهم الوقوف عند حدود الإيمان ، وعدم التطلّع إلى ما ليس في الإمكان ، وهذا يقرب ممّا قاله أهل الأصول : إنّ المجتهد لا يلزمه بيان مدركه للعامي ، إذا سأله عن مأخذ الحكم ، إذا كان المدرك خفيا. وبهذا يحصل الجواب عن احتجاج الفخر بهذه الجملة لترجيح الوقف على اسم الجلالة.

وعلى قول المتقدّمين يكون قوله : (يَقُولُونَ) خبرا ، وقولهم : (آمَنَّا بِهِ) آمنّا بكونه من عند الله ، وإن لم نفهم معناه.

وقوله : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) أي كل من المحكم والمتشابه. وهو على الوجهين بيان لمعنى قولهم : (آمَنَّا بِهِ) ، فلذلك قطعت الجملة. أي كلّ من المحكم والمتشابه ، منزل من الله.

وزيدت كلمة (عند) للدلالة على أنّ من هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي ، أي هو منزل من وحي الله تعالى وكلامه ، وليس كقوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ١٩٧].

وجملة (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) تذييل ، ليس من كلام الراسخين ، مسوق مساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم.

والألباب : العقول. وتقدّم عند قوله تعالى : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) في سورة البقرة [١٩٧].

٢٨

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

دعاء علّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تعليما للأمة : لأنّ الموقع المحكي موقع عبرة ومثار لهواجس الخوف من سوء المصير إلى حال الذين في قلوبهم زيغ فما هم إلّا من عقلاء البشر ، لا تفاوت بينهم وبين الرّاسخين في الإنسانية ، ولا في سلامة العقول والمشاعر ، فما كان ضلالهم إلّا عن حرمانهم التوفيق ، واللطف ، ووسائل الاهتداء.

وقد علم من تعقيب قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) [آل عمران : ٧] الآيات بقوله : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أنّ من جملة ما قصد بوصف الكتاب بأنّ منه محكما ومنه متشابها ، إيقاظ الأمة إلى ذلك لتكون على بصيرة في تدبّر كتابها : تحذيرا لها من الوقوع في الضلال ، الذي أوقع الأمم في كثير منه وجود المتشابهات في كتبها ، وتحذيرا للمسلمين من اتّباع البوارق الباطلة مثل ما وقع فيه بعض العرب من الردّة والعصيان ، بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لتوهّم أنّ التديّن بالدين إنّما كان لأجل وجود الرسول بينهم ، ولذلك كان أبو بكر يدعو بهذه الآية في صلاته مدة ارتداد من ارتد من العرب ، ففي «الموطأ» ، عن الصّنابحي : أنّه قال : «قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب فقام في الثالثة فدنوت منه حتى إنّ ثيابي لتكاد تمسّ ثيابه فسمعته يقرأ بأمّ القرآن وهذه الآية: (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) الآية.

فزيغ القلب يتسبّب عن عوارض تعرض للعقل : من خلل في ذاته ، أو دواع من الخلطة أو الشهوة ، أو ضعف الإرادة ، تحول بالنفس عن الفضائل المتحلّية بها إلى رذائل كانت تهجس بالنفس فتذودها النفس عنها بما استقرّ في النفس من تعاليم الخير المسمّاة بالهدى ، ولا يدري المؤمن ، ولا العاقل ، ولا الحكيم ، ولا المهذّب : أيّة ساعة تحلّ فيها به أسباب الشقاء ، وكذلك لا يدري الشقي ، ولا المنهمك ، الأفن : أيّة ساعة تحفّ فيها به أسباب الإقلاع عمّا هو متلبّس به من تغيّر خلق ، أو خلق ، أو تبدل خليط ، قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) [الأنعام : ١١٠] ولذا كان دأب القرآن قرن الثناء بالتحذير ، والبشارة بالإنذار.

وقوله : (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) تحقيق للدعوة على سبيل التلطّف ؛ إذ أسندوا الهدي إلى الله تعالى ، فكان ذلك كرما منه ، ولا يرجع الكريم في عطيته ، وقد استعاذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من

٢٩

السلب بعد العطاء.

وإذ اسم للزمن الماضي متصرّف ، وهي هنا متصرّفة تصرّفا قليلا ؛ لأنّها لمّا أضيف إليها الظرف ، كانت في معنى الظروف ، ولما كانت غير منصوبة كانت فيها شائبة تصرّف ، كما هي في يومئذ وحينئذ ، أي بعد زمن هدايتك إيانا.

وقوله : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) طلبوا أثر الدوام على الهدى وهو الرحمة ، في الدنيا والآخرة ، ومنع دواعي الزيغ والشر. وجعلت الرحمة من عند الله لأنّ تيسير أسبابها ، وتكوين مهيّئاتها ، بتقدير الله ؛ إذ لو شاء لكان الإنسان معرّضا لنزول المصائب والشرور في كلّ لمحة ؛ فإنّه محفوف بموجودات كثيرة ، حيّة وغير حيّة ، هو تلقاءها في غاية الضعف ، لو لا لطف الله به بإيقاظ عقله لاتّقاء الحوادث ، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة ، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه ، وبجعل تلك القوى الغالبة له قوى عمياء لا تهتدي سبيلا إلى قصده ، ولا تصادفه إلّا على سبيل الندور ولهذا قال تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) [الشورى : ١٩] ومن أجلى مظاهر اللطف أحوال الاضطرار والالتجاء وقد كنت قلت كلمة «اللّطف عند الاضطرار».

والقصر في قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) للمبالغة ، لأجل كمال الصفة فيه تعالى ؛ لأنّ هبات الناس بالنسبة لما أفاض الله من الخيرات شيء لا يعبأ به. وفي هذه الجملة تأكيد بإنّ ، وبالجملة الاسمية ، وبطريق القصر.

وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) استحضروا عند طلب الرحمة أحوج ما يكونون إليها ، وهو يوم تكون الرحمة سببا للفوز الأبدي ، فأعقبوا بذكر هذا اليوم دعاءهم على سبيل الإيجاز ، كأنّهم قالوا : وهب لنا من لدنك رحمة ، وخاصّة يوم تجمّع الناس كقول إبراهيم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٤١] على ما في تذكّر يوم الجمع من المناسبة بعد ذكر أحوال الغواة والمهتدين ، والعلماء الراسخين.

ومعنى (لا رَيْبَ فِيهِ) لا ريب فيه جديرا بالوقوع ، فالمراد نفي الريب في وقوعه. ونفوه على طريقه نفي الجنس لعدم الاعتداد بارتياب المرتابين ، هذا إذا جعلت (فيه) خبرا ، ولك أن تجعله صفة لريب وتجعل الخبر محذوفا على طريقة لا النافية للجنس ، فيكون التقدير : عندنا ، أو لنا.

٣٠

وجملة (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) تعليل لنفي الريب أي لأنّ الله وعد بجمع الناس له ، فلا يخلف ذلك ، والمعنى : إنّ الله لا يخلف خبره ، والميعاد هنا اسم مكان.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١))

استئناف كلام ناشئ عن حكاية ما دعا به المؤمنون : من دوام الهداية ، وسؤال الرحمة ، وانتظار الفوز يوم القيامة ، بذكر حال الكافرين في ذلك اليوم ، على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة. وتعقيب دعاء المؤمنين ، بذكر حال المشركين ، إيماء إلى أنّ دعوتهم استجيبت. والمراد بالذين كفروا : المشركون ، وهذا وصف غالب عليهم في اصطلاح القرآن وقيل : الذين كفروا بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أريد هنا قريظة والنضير وأهل نجران ؛ ويرجّح هذا بأنّهم ذكّروا بحال فرعون دون حال عاد وثمود فإنّ اليهود والنصارى أعلق بأخبار فرعون. كما أنّ العرب أعلق بأخبار عاد وثمود ، وأنّ الردّ على النصارى من أهمّ أغراض هذه السورة. ويجوز أن يكون المراد جميع الكافرين : من المشركين ، وأهل الكتابين ، ويكون التذكير بفرعون لأنّ وعيد اليهود في هذه الآية أهم.

ومعنى «تغني» تجزي وتكفي وتدفع ، وهو فعل قاصر يتعدّى إلى المفعول بعن نحو : «ما أغني ماليه».

ولدلالة هذا الفعل على الإجزاء والدفع ، كان مؤذنا بأنّ هنالك شيئا يدفع ضرّه ، وتكفى كلفته ، فلذلك قد يذكرون مع هذا الفعل متعلّقا ثانيا ويعدّون الفعل إليه بحرف (من) كما في هذه الآية. فتكون (من) للبدل والعوض على ما ذهب إليه في «الكشاف» ، وجعل ابن عطية (من) للابتداء.

وقوله : (مِنَ اللهِ) أي من أمر يضاف إلى الله ؛ لأنّ تعليق هذا الفعل ، تعليقا ثانيا ، باسم ذات لا يقصد منه إلّا أخصّ حال اشتهرت به ، أو في الغرض المسوق له الكلام فيقدّر معنى اسم مضاف إلى اسم الجلالة. والتقدير هنا من رحمة الله ، أو من طاعته ، إذا كانت (من) للبدل وكذا قدّره في «الكشاف» ، ونظّره بقوله تعالى : (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [النجم : ٢٨]. وعلى جعل (من) للابتداء كما قال ابن عطية تقدّر من غضب الله ، أو من عذابه ، أي غناء مبتدئا من ذلك : على حدّ قولهم : نجّاه من كذا أي فصله منه ، ولا

٣١

يلزم أن تكون (من) مع هذا الفعل ، إذا عدّي بعن ، مماثلة لمن الواقعة بعد هذا الفعل الذي يعدّ بعن ، لإمكان اختلاف معنى التعلّق باختلاف مساق الكلام. والغالب أن يأتوا بعد فعل أغنى بلفظ (شيء) مع ذكر المتعلّقين كما في الآية ، وبدون ذكر متعلّقين ، كما في قول أبي سفيان ، يوم أسلم : «لقد علمت أن لو كان معه إله غيره لقد أغنى عنّي شيئا».

وانتصب قوله : (شَيْئاً) على النيابة عن المفعول المطلق أي شيئا من الغناء. وتنكيره للتحقير أي غناء ضعيفا ، بله الغناء المهم ، ولا يجوز أن يكون مفعولا به لعدم استقامة معنى الفعل في التعدي.

وقد ظهر بهذا كيفية تصرّف هذا الفعل التصرّف العجيب في كلامهم ، وانفتح لك ما انغلق من عبارة الكشّاف ، وما دونها ، في معنى هذا التركيب.

وقد مرّ الكلام على وقوع لفظ شيء عند قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) [البقرة : ١٥٥]. وإنّما خصّ الأموال والأولاد من بين أعلاق الذين كفروا ؛ لأنّ الغناء يكون بالفداء بالمال ، كدفع الديات والغرامات ، ويكون بالنصر والقتال ، وأولى من يدافع عن الرجل ، من عشيرته ، أبناؤه ، وعن القبيلة أبناؤها. قال قيس بن الخطيم :

ثأرت عديّا والخطيم ولم أضع

ولاية أشياخ جعلت إزاءها

والأموال المكاسب التي تقتات وتدّخر ويتعاوض بها ، وهي جمع مال ، وغلب اسم المال في كلام جلّ العرب على الإبل قال زهير :

صحيحات مال طالعات بمخرم

وغلب في كلام أهل الزرع والحرث على الجنّات والحوائط وفي الحديث «كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا وكان أحبّ أمواله إليه بئر حاء ، ويطلق المال غالبا على الدراهم والدنانير كما في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس «أين المال الذي عند أم الفضل».

والظاهر أنّ هذا وعيد بعذاب الدنيا ؛ لأنّه شبّه بأنّه (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ـ إلى قوله ـ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) وشأن المشبّه به أن يكون معلوما ؛ ولأنّه عطف عليه عذاب الآخرة في قوله : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ).

وجيء بالإشارة في قوله : (وَأُولئِكَ) لاستحضارهم كأنّهم بحيث يشار إليهم ، وللتنبيه على أنّهم أحرياء بما سيأتي من الخبر وهو قوله : (هُمْ وَقُودُ النَّارِ). وعطفت هذه الجملة ، ولم تفصل ، لأنّ المراد من التي قبلها لا وعيد في الدنيا وهذه في وعيد الآخرة

٣٢

بقرينة قوله ، في الآية التي بعد هذه : (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران : ١٢]. والوقود بفتح الواو ما يوقد به كالوضوء ، وقد تقدّم نظيره في قوله : (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) في سورة البقرة.

وقوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) موقع كاف التشبيه موقع خبر لمبتدإ محذوف يدل عليه المشبّه به ، والتقدير : دأبهم في ذلك كدأب آل فرعون ، أي عادتهم وشأنهم كشأن آل فرعون.

والدأب : أصله الكدح في العمل وتكريره ، وكأنّ أصل فعله متعدّ ، ولذلك جاء مصدره على فعل ، ثم أطلق على العادة لأنّها تأتي من كثرة العمل ، فصار حقيقة شائعة قال النابغة :

كدأبك في قوم أراك اصطنعتهم

أي عادتك ، ثم استعمل بمعنى الشّأن كقول امرئ القيس :

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وهو المراد هنا ، في قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) ، والمعنى : شأنهم في ذلك كشأن آل فرعون ؛ إذ ليس في ذلك عادة متكرّرة ، وقد ضرب الله لهم هذا المثل عبرة وموعظة ؛ لأنّهم إذا استقروا الأمم التي أصابها العذاب ، وجدوا جميعهم قد تماثلوا في الكفر : بالله ، وبرسله ، وبآياته ، وكفى بهذا الاستقراء موعظة لأمثال مشركي العرب ، وقد تعيّن أن يكون المشبّه به هو وعيد الاستئصال والعذاب في الدنيا ؛ إذ الأصل أنّ حال المشبّه ، أظهر من حال المشبّه به عند السامع.

وعليه فالأخذ في قوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) هو أخذ الانتقام في الدنيا كقوله : (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنعام : ٤٤ ، ٤٥].

وأريد بآل فرعون فرعون وآله ؛ لأنّ الآل يطلق على أشدّ الناس اختصاصا بالمضاف إليه ، والاختصاص هنا اختصاص في المتابعة والتواطؤ على الكفر ، كقوله : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] فلذكر الآل هنا من الخصوصية ما ليس لذكر القوم ؛ إذ قوم الرجل قد يخالفون ، فلا يدل الحكم المتعلّق بهم على أنّه مساو لهم في الحكم ، قال تعالى : (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) [هود : ٦٠] في كثير من الآيات نظائرها ، وقال : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ) [الشعراء : ١٠ ، ١١].

٣٣

وقوله : «كذبوا» بيان لدأبهم ، استئناف بياني. وتخصيص آل فرعون بالذكر ـ من بين بقية الأمم ـ لأنّ هلكهم معلوم عند أهل الكتاب ، بخلاف هلك عاد وثمود فهو عند العرب أشهر ؛ ولأنّ تحدّي موسى إياهم كان بآيات عظيمة فما أغنتهم شيئا تجاه ضلالهم ؛ ولأنّهم كانوا أقرب الأمم عهدا بزمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كقول شعيب : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩] وكقول الله تعالى للمشركين : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) [الحجر : ٧٦] وقوله : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) [الحجر : ٧٩] وقوله : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨].

[١٢ ، ١٣] (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

استئناف ابتدائي ، للانتقال من النذارة إلى التهديد ، ومن ضرب المثل لهم بأحوال سلفهم في الكفر ، إلى ضرب المثل لهم بسابق أحوالهم المؤذنة بأنّ أمرهم صائر إلى زوال ، وأنّ أمر الإسلام ستندكّ له صمّ الجبال. وجيء في هذا التهديد بأطنب عبارة وأبلغها ؛ لأنّ المقام مقام إطناب لمزيد الموعظة ، والتذكير بوصف يوم كان عليهم ، يعلمونه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٣٩] يحتمل أنّ المراد بهم المذكورون في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) [آل عمران : ١١٦] فيجيء فيه ما تقدّم والعدول عن ضمير (هم) إلى الاسم الظاهر لاستقلال هذه النذارة.

والظاهر أنّ المراد بهم المشركون خاصّة ، ولذلك أعيد الاسم الظاهر ، ولم يؤت بالضمير بقرينة قوله بعده : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) إلى قوله (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) وذلك ممّا شاهده المشركون يوم بدر.

وقد قيل : أريد بالذين كفروا خصوص اليهود ، وذكروا لذلك سببا رواه الواحدي ، في أسباب النزول : أنّ يهود يثرب كانوا عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مدّة فلمّا أصاب المسلمين يوم أحد ما أصابهم من النكبة. نقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أبي سفيان بمكة وقالوا لهم : لتكوننّ كلمتنا واحدة ، فلمّا رجعوا إلى المدينة أنزلت هذه الآية.

٣٤

وروى محمد بن إسحاق : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما غلب قريشا ببدر ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود وقال لهم : «يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش وأسلموا فقد عرفتم ، أنّي نبيء مرسل» فقالوا : «يا محمد لا يغرنّك أنّك لقيت قوما أغمارا لا معرفة لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة أما والله لو قاتلناك لعرفت أنّا نحن الناس» فأنزل الله هذه الآية. وعلى هاتين الروايتين فالغلب الذي أنذروا به هو فتح قريظة والنضير وخيبر ، وأيضا فالتهديد والوعيد شامل للفريقين في جميع الأحوال.

وعطف (بِئْسَ الْمِهادُ) على (سَتُغْلَبُونَ) عطف الإنشاء على الخبر.

وقرأ الجمهور (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ـ كلتيهما بتاء الخطاب ـ وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف : بياء الغيبة ، وهما وجهان فيما يحكى بالقول لمخاطب ، والخطاب أكثر : كقوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : ١١٧] ولم يقل ربّك وربّهم.

والخطاب في قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) خطاب للذين كفروا ، كما هو الظاهر ؛ لأنّ المقام للمحاجّة ، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة. فيكون من جملة المقول ، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين ، فيكون استئنافا ناشئا عن قوله ستغلبون ؛ إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين ، أو اليهود ، أو كليهما ، يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر.

والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر.

والالتقاء : اللقاء ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة ، واللقاء مصادفة الشخص شخصا في مكان واحد ، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) [الأنفال : ١٥] وسيأتي. والالتقاء يطلق كذلك كقول أنيف بن زبّان :

فلمّا التقينا بيّن السيف بيننا

لسائلة عنّا حفيّ سؤالها

وهذه الآية تحتمل المعنيين.

وقوله : (فِئَةٌ تُقاتِلُ) تفصيل للفئتين ، وهو مرفوع على أنّه صدر جملة للاستئناف في التفصيل والتقسيم ، الوارد بعد الإجمال والجمع.

والفئة : الجماعة من الناس ؛ وقد تقدّم الكلام عليها في قوله تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ

٣٥

قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) في سورة البقرة [٢٤٩].

والخطاب في : (يَرَوْنَهُمْ) كالخطاب في قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ).

والرؤية هنا بصرية لقوله : (رَأْيَ الْعَيْنِ). والظاهر أنّ الكفار رأوا المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم ، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا. فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحقّقوا بعد الهزيمة أنّهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشدّ حسرة لهم ، وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال [٤٤] بقوله : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) فإنّ تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم ، حتى يستخفّ المشركون بالمسلمين ، فلا يأخذوا أهبتهم للقائهم ، فلمّا لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة ، وتحققوا قلّة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلّة وإرادة الكثرة سببي نصر للمسلمين بعجيب صنع الله تعالى. وجوّز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين ، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم ، فقلّلهم الله في أعين أنّهم ثلاثة أضعافهم لخافوا الهزيمة ، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال [٤٤] : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) ويكون ضمير الغيبة في قوله : (مقليهم) راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات ، وأصله ترونهم مثليكم على أنّه من المقول.

وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب : ترونهم ـ بتاء الخطاب ـ وقرأه الباقون بياء الغيبة : على أنّه حال من و (أُخْرى كافِرَةٌ) ، أو من (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي مثلي عدد المرئيين. إن كان الراءون هم المشركين ، أو مثلي عدد الرائين ، إن كان الراءون هم المسلمين ؛ لأنّ كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر. وكلّ فئة علمت رؤيتها وتحدّيت بهاته الآية. وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التعبير بفئتكم وفئتهم إلى قوله : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) ، لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين ، فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع ، بطريقة التوجيه.

و «رأي العين» مصدر مبيّن لنوع الرؤية : إذ كان «فعل رأى» يحتمل البصر والقلب ، وإضافته إلى العين دليل على أنّه يستعمل مصدرا لرأى القلبية ، كيف والرأي اسم للعقل ، وتشاركها فيها رأي البصرية ، بخلاف الرؤية فخاصّة بالبصرية.

وجملة (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) تذييل ؛ لأنّ تلك الرؤية كيفما فسّرت تأييد للمسلمين ، قال تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ

٣٦

لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤].

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤))

(زُيِّنَ).

استئناف نشأ عن قوله : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) [آل عمران : ١٠] إذ كانت إضافة أموال وأولاد إلى ضمير «هم» دالة على أنّها معلومة للمسلمين. قصد منه عظة المسلمين ألّا يغترّوا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا ، وتلهيهم عن التهمّم بما به الفوز في الآخرة ؛ فإنّ التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات. وقد صدّر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس ، حتى يكونوا على أشدّ الحذر منها ؛ لأنّ ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس.

والتزيين تصيير الشيء زينا أي حسنا ، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين ، وإزالة ما يعتريه من القبح أو التشويه ، ولذلك سمّي الحلاق مزيّنا.

وقال امرؤ القيس :

الحرب أول ما تكون فتيّة

تسعى بزينتها لكلّ جهول

فالزينة هي ما تكون في الشيء من المحاسن : التي ترغّب الناظرين في اقتنائه ، قال تعالى : (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٢٨]. وكلمة زين قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنها وخفّتها قال عمر بن أبي ربيعة :

أزمعت خلّتي مع الفجر بينا

جلّل الله ذلك الوجه زينا

وفي حديث «سنن أبي داود» : أنّ أبا برزة الأسلميّ دخل على عبيد الله بن زياد ـ وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض ـ فلمّا دخل أبو برزة قال عبيد الله لجلسائه : إنّ محمّديّكم هذا الدحداح. قال أبو برزة : «ما كنت أحسب أنّي أبقى في قوم يعيّرونني بصحبة محمد». فقال عبيد الله : «إنّ صحبة محمد لك زين غير شين».

والشهوات جمع شهوة ، وأصل الشهوة مصدر شهي كرضي ، والشهوة بزنة المرّة ، وأكثر استعمال مصدر شهي أن يكون بزنة المرة. وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء

٣٧

المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف. وتعليق التزيين بالحبّ جرى على خلاف مقتضى الظاهر ؛ لأنّ المزيّن للناس هو الشهوات ، أي المشتهيات نفسها ، لا حبّها ، فإذا زينت لهم أحبّوها ؛ فإنّ الحبّ ينشأ عن الاستحسان ، وليس الحبّ بمزيّن ، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبّوها ، وقد سكت المفسّرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق.

والوجه عندي إمّا أن يجعل (حُبُّ الشَّهَواتِ) مصدرا نائبا عن مفعول مطلق ، مبيّنا لنوع التزيين : أي زيّن لهم تزيين حب ، وهو أشدّ التزيين ، وجعل المفعول المطلق نائبا عن الفاعل ، وأصل الكلام : زيّن للناس الشهوات حبّا ، فحوّل وأضيف إلى النائب عن الفاعل ، وجعل نائبا عن الفاعل ، كما جعل مفعولا في قوله تعالى : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) [ص : ٣٢]. وإما أن يجعل حبّ مصدرا بمعنى المفعول ، أي محبوب الشهوات أي الشهوات المحبوبة. وإمّا أن يجعل زين كناية مرادا به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزيّن من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار ، فعبّر عن ذلك بالتزيين ، أي تحسين ما ليس بخالص الحسن فإنّ مشتهيات الناس تشتمل على أمور ملائمة مقبولة ، وقد تكون في كثير منها مضارّ ، أشدّها أنّها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزيّن تغطّى نقائصه بالمزيّنات ، وبذلك لم يبق في تعليق زيّن بحب إشكال.

وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين ، لأنّ ما يدل على الغرائز والسجايا ، لما جهل فاعله في متعارف العموم ، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول : كقولهم عني بكذا ، واضطرّ إلى كذا ، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين ، وهو الإغضاء عمّا في المزيّن من المساوي ؛ لأنّ الفاعل لم يبق مقصودا بحال ، والمزيّن في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحبّ الشهوات ، وذلك أمر جبليّ جعله الله في نظام الخلقة قال تعالى : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس : ٧٢].

ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلّة ، كان فاعله على الحقيقة هو خالق هذه الجبلّات ، فالمزيّن هو الله بخلقه لا بدعوته ، وروى مثل هذا عن عمر بن الخطاب ، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة. كان المزيّن هو ميل النفس إلى المشتهى ، أو ترغيب الداعين إلى تناول الشهوات : من الخلّان والقرناء ، وعن الحسن : المزيّن هو الشيطان ، وكأنّه ذهب إلى أنّ التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد ،

٣٨

وقصره على هذا ـ وهو بعيد ـ لأنّ تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة ، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلّا إذا جعلها وسائل للحرام ، وفي الحديث : «قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر فقال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالح الأعمال على المشتهيات المخلوطة أنواعها بحلال منها وحرام ، والمعرّضة للزوال ، فإنّ الكمال بتزكية النفس لتبلغ الدرجات القدسية ، وتنال النعيم الأبدي العظيم ؛ كما أشار إليه قوله : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).

وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدهما ، بيان بأصول الشهوات البشرية : التي تجمع مشتهيات كثيرة ، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار ، فالميل إلى النساء مركوز في الطبع ، وضعه الله تعالى لحكمة بقاء النوع بداعي طلب التناسل ؛ إذ المرأة هي موضع التناسل ، فجعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلّف ربّما تعقبه سآمة ، وفي الحديث : «ما تركت بعدي فتنة أشدّ على الرجال من فتنة النساء» ولم يذكر الرجال لأنّ ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع ، وإنّما تحصل المحبّة منهن للرجال بالإلف والإحسان.

ومحبّة الأبناء ـ أيضا ـ في الطبع : إذ جعل الله في الوالدين ، من الرجال والنساء ، شعورا وجدانيا يشعر بأنّ الولد قطعة منهما ، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل ، وببقائه بقاء النوع ، فهذا بقاء النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه ، وفي الولد أيضا حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع ؛ لأنّ الإنسان يعرض له الضعف ، بعد القوة ، فيكون ولده دافعا عنه عداء من يعتدي عليه ، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه ، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه.

والذهب والفضة شهوتان بحسن منظرهما وما يتّخذ منهما من حلي للرجال والنساء ، والنقدان منهما : الدنانير والدراهم ، شهوة لما أودع الله في النفوس منذ العصور المتوغّلة في القدم من حبّ النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها.

(وَالْقَناطِيرِ) جمع قنطار وهو ما يزن مائة رطل ، وأصله معرّب قيل عن الرومية اللاتينية الشرقية ، كما نقله النقّاش عن الكلبي ، وهو الصحيح ؛ فإن أصله في اللّاتينية «كينتال» وهو مائة رطل. وقال ابن سيده : هو معرّب عن السريانية. فما في «الكشاف» في

٣٩

سورة النساء أنّ القنطار مأخوذ من قنطرت الشيء إذا رفعته ، تكلّف. وقد كان القنطار عند العرب ، وزنا ومقدارا ، من الثروة ، يبلغه بعض المثرين : وهو أن يبلغ ماله مائة رطل فضة ، ويقولون : قنطر الرجل إذا بلغ ماله قنطارا وهو اثنا عشر ألف دينار أي ما يساوي قنطارا من الفضة ، وقد يقال : هو مقدار مائة ألف دينار من الذهب.

و (الْمُقَنْطَرَةِ) أريد بها هنا المضاعفة المتكاثرة ، لأنّ اشتقاق الوصف من اسم الشيء الموصوف ، إذا اشتهر صاحب الاسم بصفة ، يؤذن ذلك الاشتقاق بمبالغة في الحاصل به كقولهم : ليل أليل ، وظل ظليل ، وداهية دهياء ، وشعر شاعر ، وإبل مؤبّلة ، وآلاف مؤلّفة.

(وَالْخَيْلِ) محبوبة مرغوبة ، في العصور الماضية وفيما بعدها ، لم ينسها ما تفنّن فيه البشر من صنوف المراكب برّا وبحرا وجوّا ، فالأمم المتحضّرة اليوم مع ما لديهم من القطارات التي تجري بالبخار وبالكهرباء على السكك الحديدية ، ومن سفائن البحر العظيمة التي تسيّرها آلات البخار ، ومن السيّارات الصغيرة المسيّرة باللوالب تحرّكها حرارة النفط المصفّى ، ومن الطيّارات في الهواء ممّا لم يبلغ إليه البشر في عصر مضى ، كلّ ذلك لم يغن الناس عن ركوب ظهور الخيل ، وجرّ العربات بمطهّمات الأفراس ، والعناية بالمسابقة بين الأفراس.

وذكر الخيل لتواطؤ نفوس أهل البذخ على محبّة ركوبها ، قال امرؤ القيس :

كأنّي لم أركب جوادا للذّة

و (الْمُسَوَّمَةِ) الأظهر فيه ما قيل : إنّه الراعية ، فو مشتق من السّوم وهو الرعي ، يقال : أسام الماشية إذا رعى بها في المرعى ، فتكون مادة فعّل للتكثير أي التي تترك في المراعي مددا طويلة وإنّما يكون ذلك لسعة أصحابها وكثرة مراعيهم ، فتكون خيلهم مكرمة في المروج والرياض وفي الحديث في ذكر الخيل «فأطال لها في مرج أو روضة».

وقيل : المسوّمة من السّومة ـ بضم السين ـ وهي السّمة أي العلامة من صوف أو نحوه ، وإنّما يجعلون لها ذلك تنويها بكرمها وحسن بلائها في الحرب ، قال العتّابي :

ولو لا هنّ قد سوّمت مهري

وفي الرحمن للضعفاء كاف

يريد جعلت له سومة أفراس الجهاد أي علامتها وقد تقدم اشتقاق السمة والسومة عند قوله تعالى : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) في سورة البقرة [٢٧٣].

٤٠