تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

و (الْأَنْعامِ) زينة لأهل الوبر قال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦]. وفيها منافع عظيمة أشار إليها قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) الآيات في سورة النحل [٥] ، وقد لا تتعلّق شهوات أهل المدن بشدّة الإقبال على الأنعام لكنّهم يحبّون مشاهدها ، ويعنون بالارتياح إليها إجمالا.

(وَالْحَرْثِ) أصله مصدر حرث الأرض إذا شقّها بآلة ليزرع فيها أو يغرس ، وأطلق هذا المصدر على المحروث فصار يطلق على الجنّات والحوائط وحقول الزرع ، وتقدم عند قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) في سورة البقرة [٢٢٣] وعند قوله : (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) [البقرة : ٧١] فيها.

والإشارة بقوله : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) إلى جميع ما تقدم ذكره ، وأفرد كاف الخطاب لأنّ الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لغير معيّن ، على أنّ علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البعد ، والبعد هنا بعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة.

والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة.

ومعنى (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أنّ ثواب الله خير من ذلك. والمآب : المرجع ، وهو هنا مصدر ، مفعل من آب يئوب ، وأصله مأوب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ، وقلبت الواو ألفا ، والمراد به العاقبة في الدنيا والآخرة.

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))

استئناف بياني ، فإنّه نشأ عن قوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٤] المقتضي أنّ الكلام مسوق مساق الغضّ من هذه الشهوات. وافتتح الاستئناف بكلمة (قُلْ) للاهتمام بالمقول ، والمخاطب بقل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والاستفهام للعرض تشويقا من نفوس المخاطبين إلى تلقّي ما سيقصّ عليهم كقوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الصف : ١٠] الآية.

٤١

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمر ، وأبو جعفر ، ورويس عن يعقوب : أأنبئكم بتسهيل الهمزة الثانية واوا. وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وروح عن يعقوب ، وخلف : بتخفيف الهمزتين.

وجملة (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) مستأنفة وهي المنبّأ به. ويجوز أن يكون (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) متعلقا بقوله : «خير» و «جنّات» مبتدأ محذوف الخبر : أي لهم ، أو خبرا لمبتدإ محذوف. وقد ألغي ما يقابل شهوات الدنيا في ذكر نعيم الآخرة ؛ لأنّ لذة البنين ولذة المال هنالك مفقودة ، للاستغناء عنها ، وكذلك لذة الخيل والأنعام ؛ إذ لا دوابّ في الجنة ، فبقي ما يقابل النساء والحرث ، وهو الجنّات والأزواج ، لأنّ بهما تمام النعيم والتأنّس ، وزيد عليهما رضوان الله الذي حرمه من جعل حظّه لذّات الدنيا وأعرض عن الآخرة. ومعنى المطهّرة المنزّهة ممّا يعتري نساء البشر ممّا تشمئزّ منه النفوس ، فالطهارة هنا حسية لا معنوية.

وعطف (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ) على ما أعدّ للذين اتّقوا عند الله : لأنّ رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي ؛ لأنّ رضوان الله تقريب روحاني قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢].

وقرأ الجمهور : (رِضْوانٌ ـ بكسر الراء ـ وقرأه أبو بكر عن عاصم : بضم الراء وهما لغتان.

وأظهر اسم الجلالة في قوله : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) ، دون أن يقول ورضوان منه أي من ربّهم : لما في اسم الجلالة من الإيماء إلى عظمة ذلك الرضوان.

وجملة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) اعتراض لبيان الوعد أي أنّه عليم بالذين اتّقوا ومراتب تقواهم ، فهو يجازيهم ، ولتضمّن بصير معنى عليم عدي بالباء. وإظهار اسم الجلالة في قوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) لقصد استقلال الجملة لتكون كالمثل.

وقوله : (الَّذِينَ يَقُولُونَ) عطف بيان (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) وصفهم بالتقوى وبالتوجّه إلى الله تعالى بطلب المغفرة. ومعنى القول هنا الكلام المطابق للواقع في الخبر ، والجاري على فرط الرغبة في الدعاء ، في قولهم : (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) إلخ ، وإنّما يجري كذلك إذا سعى الداعي في وسائل الإجابة وترقّبها بأسبابها التي ترشد إليها التقوى ، فلا يجازى هذا الجزاء من قال ذلك بفمه ولم يعمل له.

٤٢

وقوله : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ) الآية صفات للذين اتّقوا ، أو صفات للذين يقولون ، والظاهر الأوّل. وذكر هنا أصول فضائل صفات المتديّنين : وهي الصبر الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي. والصدق الذي هو ملاك الاستقامة وبثّ الثقة بين أفراد الأمة. والقنوت ، وهو ملازمة العبادات في أوقاتها وإتقانها وهو عبادة نفسية جسدية. والإنفاق وهو أصل إقامة أود الأمة بكفاية حاج المحتاجين ، وهو قربة مالية والمال شقيق النفس. وزاد الاستغفار بالأسحار وهو الدعاء والصلاة المشتملة عليه في أواخر الليل ، والسحر سدس الليل الأخير ؛ لأنّ العبادة فيه أشدّ إخلاصا ، لما في ذلك الوقت من هدوء النفوس ، ولدلالته على اهتمام صاحبه بأمر آخرته ، فاختار له هؤلاء الصادقون آخر الليل لأنّه وقت صفاء السرائر ، والتجرّد عن الشواغل.

وعطف في قوله : (الصَّابِرِينَ) ، وما بعده : سواء كان قوله : (الصَّابِرِينَ) صفة ثانية ، بعد قوله : (الَّذِينَ يَقُولُونَ) ، أم كان ابتداء الصفات بعد البيان طريقة ثانية من طريقتي تعداد الصفات في الذكر في كلامهم ، فيكون ، بالعطف وبدونه ، مثل تعدّد الأخبار والأحوال ؛ إذ ليست حروف العطف بمقصورة على تشريك الذوات. وفي «الكشاف» ؛ أنّ في عطف الصفات نكتة زائدة على ذكرها بدون العطف وهي الإشارة إلى كمال الموصوف في كلّ صفة منها ، وأحال تفصيله على ما تقدم له في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [البقرة : ٤] مع أنّه لم يبيّن هنالك شيئا من هذا ، وسكت الكاتبون عن بيان ذلك هنا وهناك ، وكلامه يقتضي أنّ الأصل عنده في تعدّد الصفات والأخبار ترك العطف فلذلك يكون عطفها مؤذنا بمعنى خصوصي ، يقصده البليغ ، ولعل وجهه أنّ شأن حرف العطف أن يستغنى به عن تكرير العامل فيناسب المعمولات ، وليس كذلك الصفات ، فإذا عطفت فقد نزلت كل صفة منزلة ذات مستقلة ، وما ذلك إلّا لقوة الموصوف في تلك الصفة ، حتى كأنّ الواحد صار عددا ، كقولهم واحد كألف ، ولا أحسب لهذا الكلام تسليما. وقد تقدم عطف الصفات عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في سورة البقرة.

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

استئناف وتمهيد لقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] ذلك أنّ أساس الإسلام هو توحيد الله ، وإعلان هذا التوحيد ، وتخليصه من شوائب الإشراك ، وفيه تعريض بالمشركين وبالنصارى واليهود ، وإن تفاوتوا في مراتب الإشراك ، وفيه ضرب من ردّ العجز

٤٣

على الصدر : لأنّه يؤكد ما افتتحت به السورة من قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [آل عمران : ٢ ، ٣].

والشهادة حقيقتها خبر يصدّق به خبر مخبر وقد يكذّب به خبر آخر كما تقدم عند قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) في سورة البقرة [٢٨٢]. وإذ قد كان شأنه أن يكون للتصديق والتكذيب في الحقوق ، كان مظنّة اهتمام المخبر به والتثبّت فيه ، فلذلك أطلق مجازا على الخبر الذي لا ينبغي أن يشكّ فيه قال تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] وذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة التلازم ، فشهادة الله تحقيقه وحدانيته بالدلائل التي نصبها على ذلك ، وشهادة الملائكة تحقيقهم ذلك فيما بينهم ، وتبليغ بعضهم ذلك إلى الرسل ، وشهادة أولي العلم تحقيقهم ذلك بالحجج والأدلة.

فإطلاق الشهادة على هذه الأخبار مجاز بعلاقة اللزوم ، أو تشبيه الإخبار بالإخبار أو المخبر بالمخبر ، ولك أن تجعل «شهد» بمعنى بيّن وأقام الأدلة ، شبه إقامة الأدلة على وحدانيته : من إيجاد المخلوقات ونصب الأدلة العقلية ، بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف على طريق الاستعارة التبعية ، وبيّن ذلك الملائكة بما نزلوا به من الوحي على الرسل ، وما نطقوا به من محامد ، وبيّن ذلك أولو العلم بما أقاموا من الحجج على الملاحدة ، ولك أن تجعل شهادة الله بمعنى الدلالة ونصب الأدلة ، وشهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار أو بمعنيين : إقرار الملائكة ، واحتجاج أولي العلم ، ثم تبنيه على استعمال شهد في معان مجازية ، مثل : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ) [الأحزاب : ٥٦] ، أو على استعمال شهد في مجاز أعم ، وهو الإظهار ، حتى يكون نصب الأدلة والإقرار والاحتجاج من أفراد ذلك العام ، بناء على عموم المجاز.

وانتصب (قائِماً بِالْقِسْطِ) على الحال من الضمير في قوله : (إِلَّا هُوَ) أي شهد بوحدانيته وقيامه بالعدل ، ويجوز أن يكون حالا من اسم الجلالة من قوله : (شَهِدَ اللهُ) فيكون حالا مؤكدة لمضمون شهد ؛ لأنّ الشهادة هذه قيام بالقسط ، فالشاهد بها قائم بالقسط ، قال تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) [المائدة : ٨]. وزعم ابن هشام في الباب الرابع : أنّ كونه حالا مؤكدة وهم ، وعلّله بما هو وهم. وقد ذكر الشيخ محمد الرصاع جريان بحث في إعراب مثل هذه الحال من سورة الصف في درس شيخه محمد ابن عقاب.

٤٤

والقيام هنا بمعنى المواظبة كقوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] وقوله : (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥] وتقول : الأمير قائم بمصالح الأمة ، كما تقول : ساهر عليها ، ومنه «إقام الصلاة» وقول أيمن بن خريم الأنصاري :

أقامت غزالة سوق الضّراب

لأهل العراقين حولا قميطا

وهو في الجميع تمثيل.

والقسط : العدل وهو مختصر من القسطاس ـ بضم القاف ـ روى البخاري عن مجاهد أنّه قال : القسطاس : العدل بالرومية وهذه الكلمة ثابتة في اللغات الرومية وهي من اللاطينية ، ويطلق القسط والقسطاس على الميزان ، لأنّه آلة للعدل قال تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) [الإسراء : ٣٥] وقال : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧]. وقد أقام الله القسط في تكوين العوالم على نظمها ، وفي تقدير بقاء الأنواع ، وإيداع أسباب المدافعة في نفوس الموجودات ، وفيما شرع للبشر من الشرائع في الاعتقاد والعمل : لدفع ظلم بعضهم بعضا ، وظلمهم أنفسهم ، فهو القائم بالعدل سبحانه ، وعدل الناس مقتبس من محاكاة عدله.

وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تمجيد وتصديق ، نشأ عن شهادة الموجودات كلّها له بذلك فهو تلقين الإقرار له بذلك على نحو قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] أي اقتداء بالله وملائكته ، على أنّه يفيد مع ذلك تأكيد الجملة السابقة ، ويمهّد لوصفه تعالى بالعزيز الحكيم.

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩))

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ).

قرأ جمهور القرّاء (إِنَّ الدِّينَ ـ بكسر همزة إنّ ـ فهو استئناف ابتدائي لبيان فضيلة هذا الدين بأجمع عبارة وأوجزها.

وهذا شروع في أول غرض أنزلت فيه هذه السورة : غرض محاجّة نصارى نجران ، فهذا الاستئناف من مناسبات افتتاح السورة بذكر تنزيل القرآن والتوراة والإنجيل ، ثم بتخصيص القرآن بالذكر وتفضيله بأنّ هديه يفوق هدي ما قبله من الكتب ، إذ هو الفرقان ،

٤٥

فإنّ ذلك أسّ الدين القويم ، ولما كان الكلام المتقدم مشتملا على تعريض باليهود والنصارى الذين كذبوا بالقرآن ، وإبطال لقول وفد نجران لما طلب منهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الإسلام ـ «أسلمنا قبلك» فقال لهم : «كذبتم» روى الواحدي ، ومحمد بن إسحاق : أنّ وفد نجران لما دخلوا المسجد النبوي تكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله : «أسلما» قالا : «قد أسلمنا قبلك» قال : «كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب» ، ناسب أن ينوّه بعد ذلك بالإسلام الذي جاء به القرآن ، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ).

واعلم أنّ جمل الكلام البليغ لا يخلو انتظامها عن المناسبة ، وإن كان بعضها استئنافا ، وإنّما لا تطلب المناسبة في المحادثات والاقتضابات.

وتوكيد الكلام بإن تحقيق لما تضمنه من حصر حقيقة الدين عند الله في الإسلام : أي الدين الكامل.

وقرأ الكسائي أن الدين ـ بفتح همزة أنّ ـ على أنّه بدل من (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] أي شهد الله بأنّ الدين عند الله الإسلام.

والدين : حقيقته في الأصل الجزاء ، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على : مجموع عقائد ، وأعمال يلقّنها رسول من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب. ثم أطلق على ما يشبه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتلتزمه طائفة من الناس. وسمّي الدين دينا لأنّه يترقب منه متّبعه الجزاء عاجلا أو آجلا ، فما من أهل دين إلّا وهم يترقّبون جزاء من رب ذلك الدين ، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاهم عنهم ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وقال أبو سفيان يوم أحد : اعل هبل. وقال يوم فتح مكة لما قال له العباس : أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله : «لقد علمت أن لو كان معه إله غيره لقد أغنى عنّي شيئا». وأهل الأديان الإلهيّة يترقّبون الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة ، فأول دين إلهي كان حقا وبه كان اهتداء الإنسان ، ثم طرأت الأديان المكذوبة ، وتشبّهت بالأديان الصحيحة ، قال الله تعالى ـ تعليما لرسوله ـ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] وقال : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) [يوسف : ٧٦].

وقد عرّف العلماء الدين الصحيح بأنّه «وضع إلهيّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير باطنا وظاهرا».

٤٦

والإسلام علم بالغلبة على مجموع الدّين الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما أطلق على ذلك الإيمان أيضا ، ولذلك لقب أتباع هذا الدين بالمسلمين وبالمؤمنين ، وهو الإطلاق المراد هنا ، وهو تسمية بمصدر أسلم إذا أذعن ولم يعاند إذعانا عن اعتراف بحق لا عن عجز ، وهذا اللقب أولى بالإطلاق على هذا الدين من لقب الإيمان ؛ لأنّ الإسلام هو المظهر البين لمتابعة الرسول فيما جاء به من الحق ، واطّراح كل حائل يحول دون ذلك ، بخلاف الإيمان فإنّه اعتقاد قلبي ، ولذلك قال الله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) [الحج : ٧٨] وقال : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران : ٢٠] ولأنّ الإسلام لا يكون إلّا عن اعتقاد لأنّ الفعل أثر الإدراك ، بخلاف العكس فقد يكون الاعتقاد مع المكابرة.

وربما أطلق الإسلام على خصوص الأعمال ؛ والإيمان على الاعتقاد ، وهو إطلاق مناسب لحالتي التفكيك بين الأمرين في الواقع ، كما في قوله تعالى ، خطابا لقوم أسلموا متردّدين ـ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: ١٤] ، أو التفكيك في تصوير الماهية عند التعليم لحقائق المعاني الشرعية أو اللغوية كما وقع في حديث جبريل : من ذكر معنى الإيمان ، والإسلام ، والإحسان.

والتعريف في الدين تعريف الجنس ؛ إذ لا يستقيم معنى العهد الخارجي هنا وتعريف الإسلام تعريف العلم بالغلبة : لأنّ الإسلام صار علما بالغلبة على الدين المحمّدي.

فقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) صيغة حصر ، وهي تقتضي في اللسان حصر المسند إليه ، وهو الدين ، في المسند ، وهو الإسلام ، على قاعدة الحصر بتعريف جزئي الجملة ، أي لا دين إلا الإسلام ، وقد أكّد هذا الانحصار بحرف التوكيد.

وقوله : (عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) وصف للدين ، والعندية عندية الاعتبار والاعتناء وليست عندية علم : فأفاد ، أنّ الدين الصحيح هو الإسلام ، فيكون قصرا للمسند ، إليه باعتبار قيد فيه ، لا في جميع اعتباراته : نظير قول الخنساء :

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا

فحصرت الحسن في بكائه بقاعدة أنّ المقصور هو الحسن لأنّه هو المعرف باللّام ، وهذا الحصر باعتبار التقييد بوقت حج البكاء على القتلى وهو قصر حسن بكائها على ذلك الوقت ، ليكون لبكائها على صخر مزية زائدة على بكاء القتلى المتعارف وإن أبى اعتبار القصر في البيت أصلا صاحب المطوّل.

٤٧

وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها فالحصر مؤول : إمّا باعتبار أنّ الدين الصحيح عند الله ، حين الإخبار ، وهو الإسلام ، لأنّ الخبر ينظر فيه إلى وقت الإخبار ؛ إذ الأخبار كلّها حقائق في الحال ، ولا شك أنّ وقت الإخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام ؛ إذ قد عرض لبقية الأديان الإلهية ، من خلط الفاسد بالصحيح ، ما أختل لأجله مجموع الدين ، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور ؛ إذ لا أكمل من هذا الدين ، وما تقدّمه من الأديان لم يكن بالغا غاية المراد من البشر في صلاح شئونهم ، بل كان كل دين مضى مقتصرا على مقدار الحاجة من أمة معيّنة في زمن معيّن ، وهذا المعنى أولي محملي الآية ، لأنّ مفاده أعم ، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام ـ تجاه بقية الأديان الإلهية ـ أتم.

ذلك أنّ مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل ، ليس مجرّد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوّق لدقائق تراكيبه ، بل مراد الله تعالى ممّا شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه ، ولما كان المراد من ذلك هو العمل ، جعل الله الشرائع مناسبة لقابليات المخاطبين بها ، وجارية على قدر قبول عقولهم ومقدرتهم ، ليتمكّنوا من العمل بها بدوام وانتظام ، فلذلك كان المقصود من التديّن أن يكون ذلك التعليم الديني دأبا وعادة لمنتحليه ، وحيث النفوس لا تستطيع الانصياع إلى ما لا يتّفق مع مدركاتها ، لا جرم تعيّن مراعاة حال المخاطبين في سائر الأديان. ليمكن للأمم العمل بتعاليم شرائعها بانتظام ومواظبة.

وقد كانت أحوال الجماعات البشرية ، في أول عهود الحضارة ، حالات عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة ، ائتلفت رويدا رويدا على حسب دواعي الحاجات ، وما تلك الدواعي ، التي تسبّبت في ائتلاف تلك العوائد ، إلّا دواع غير منتشرة ؛ لأنّها تنحصر فيما يعود على الفرد بحفظ حياته ، ودفع الآلام عنه ، ثم بحفظ حياة من يرى له مزيد اتّصال به ، وتحسين حاله ، فبذلك ائتلف نظام الفرد ، ثم نظام العائلة ، ثم نظام العشيرة ، وهاته النظم المتقابسة هي نظم متساوية الأشكال ؛ إذ كلّها لا يعدو حفظ الحياة ، بالغذاء والدفاع عن النفس ، ودفع الآلام بالكساء والمسكن والزواج ، والانتصار للعائلة وللقبيلة ؛ لأنّ بها الاعتزاز ، ثم ما نشأ عن ذلك من تعاون الآحاد على ذلك ، بإعداد المعدّات : وهو التعاوض والتعامل ، فلم تكن فكرة الناس تعدو هذه الحالة ، وبذلك لم يكن لإحدى الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى ، فضلا عن التفكير في اقتباس إحداها مما

٤٨

يجري لدى غيرها ، وتلك حالة قناعة العيش ، وقصور الهمة ، وانعدام الدواعي فإذا حصلت الأسباب الآنفة عدّ الناس أنفسهم في منتهى السعادة.

وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقة التواصل ، وما يعرض في ذلك من الأخطار والمتاعب ، حائلا عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض وشعور بعضها بأخلاق بعض ، فصار الصارف عن التعاون في الحضارة الفكرية مجموع حائلين : عدم الداعي ، وانسداد وسائل الصدفة ، اللهم إلّا ما يعرض من وفادة وافد ، أو اختلاط في نجعة أو موسم ، على أنّ ذلك إن حصل فسرعان ما يطرأ عليه النسيان ، فيصبح في خبر كان.

فكيف يرجى من أقوام ، هذه حالهم ، أن يدعوهم الداعي إلى صلاح في أوسع من دوائر مدركاتهم ، ومتقارب تصوّر عقولهم ، أليسوا إذا جاءهم مصلح كذلك لبسوا له جلد النمر ، فأحسّ من سوء الطاعة حرق الجمر ، لذلك لم تتعلّق حكمة الله تعالى ، في قديم العصور ، بتشريع شريعة جامعة صالحة لجميع البشر ، بل كانت الشرائع تأتي إلى أقوام معيّنين ؛ وفي حديث مسلم ، في صفة عرض الأمم للحساب أنّ رسول الله قال : «فيجيء النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد» وفي رواية البخاري : «فجعل النبي والنّبيئان يمرّون معهم الرهط» الحديث. وبقي الحق في خلال ذلك مشاعا بين الأمم ، ففي كلّ أمة تجد سدادا وأفنا ، وبعض الحق لم يزل مخبوءا لم يسفر عنه البيان.

ثم أخذ البشر يتعارفون بسبب الفتوح والهجرة ، وتقاتلت الأمم المتقاربة المنازل ، فحصل للأمم حظ من الحضارة ، وتقاربت العوائد ، وتوسّعت معلوماتهم ، وحضارتهم ، فكانت من الشرائع الإلهية : شريعة إبراهيم عليه‌السلام ، ومن غيرها شريعة (حمورابي) في العراق ، وشريعة البراهمة ، وشريعة المصريين التي ذكرها الله تعالى في قوله : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) [يوسف : ٧٦].

ثم أعقبتها شريعة إلهية كبرى وهي شريعة موسى عليه‌السلام التي اختلط أهلها بأمم كثيرة في مسيرهم في التيه وما بعده ، وجاورتها أو أعقبتها شرائع مثل شريعة (زرادشت) في الفرس ، وشريعة (كنفشيوس) في الصين ، وشريعة (سولون) في اليونان.

وفي هذه العصور كلّها لم تكن إحدى الشرائع عامة الدعوة ، وهذه أكبر الشرائع وهي الموسوية لم تدع غير بين إسرائيل ولم تدع الأمم الأخرى التي مرّت عليها ، وامتزجت

٤٩

بها ، وصاهرتها ، وكذلك جاءت المسيحية مقصورة على دعوة بني إسرائيل حتى دعا الناس إليها القدّيس بولس بعد المسيح بنحو ثلاثين سنة.

إلى أن كان في القرن الرابع بعد المسيح حصول تقابس وتمازج بين أصناف البشر في الأخلاق والعوائد ، بسببين : اضطراري ، واختياري. أمّا الاضطراري فذلك أنّه قد ترامت الأمم بعضها على بعض ، واتّجه أهل الشرق إلى الغرب ، وأهل الغرب إلى الشرق ، بالفتوح العظيمة الواقعة بين الفرس والروم ، وهما يومئذ قطبا العالم ، بما يتبع كل واحدة من أمم تنتمي إلى سلطانها ، فكانت الحرب سجالا بين الفريقين ، وتوالت أزمانا طويلة.

وأمّا الاختياري فهو ما أبقاه ذلك التمازج من مشاهدة أخلاق وعوائد ، حسنت في أعين رائيها ، فاقتبسوها ، وأشياء قبحت في أعينهم ، فحذروها ، وفي كلتا الحالتين نشأت يقظة جديدة ، وتأسّست مدنيات متفنّنة ، وتهيّأت الأفكار إلى قبول التغييرات القوية ، فتهيّأت جميع الأمم إلى قبول التعاليم الغريبة عن عوائدها وأحوالها ، وتساوت الأمم وتقاربت في هذا المقدار ، وإن تفاوتت في الحضارة والعلوم تفاوتا ربما كان منه ما زاد بعضها تهيّئوا لقبول التعاليم الصحيحة ، وقهقر بعضا عن ذلك بما داخلها من الإعجاب بمبلغ علمها ، أو العكوف والإلف على حضارتها.

فبلغ الأجل المراد والمعيّن لمجيء الشريعة الحق الخاتمة العامة.

فأظهر الله دين الإسلام في وقت مناسب لظهوره ، واختار أن يكون ظهوره بين ظهراني أمة لم تسبق لها سابقة سلطان ، ولا كانت ذات سيادة يومئذ على شيء من جهات الأرض ، ولكنّها أمة سلّمها الله من معظم رعونات الجماعات البشرية ، لتكون أقرب إلى قبول الحق ، وأظهر هذا الدين بواسطة رجل منها ، لم يكن من أهل العلم. ولا من أهل الدولة ، ولا من ذرية ملوك ، ولا اكتسب خبرة سابقة بهجرة أو مخالطة ، ليكون ظهور هذا تحت الصريح ، والعلم الصحيح ، من مثله آية على أنّ ذلك وحي من الله نفح به عباده.

ثم جعل أسس هذا الدين متباعدة عن ذميم العوائد في الأمم ، حتى الأمة التي ظهر بينها ، وموافقة للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها ، وكانت أصوله مبنية على الفطرة بمعنى ألّا تكون ناظرة إلّا إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم ، غير ما سور للعوائد ولا للمذاهب ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم : ٣٠] ، قال الشيخ أبو علي ابن سينا : «الفطرة أن يتوهّم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل ، لم يسمع

٥٠

رأيا ، ولم يعتقد مذهبا ، ولم يعاشر أمة ، لكنّه شاهد المحسوسات ، ثم يعرض على ذهنه الأشياء شيئا فشيئا فإن أمكنه الشك في شيء فالفطرة لا تشهد به ، وإن لم يمكنه الشك فيه فالفطرة توجبه ، وليس كلّ ما توجبه الفطرة بصادق ، بل الصادق منه ما تشهد به فطرة القوة التي تسمّى عقلا ، قبل أن يعترضه الوهم».

ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر ، وارتاضت نفوسهم بها ، إذا كانت تفيدهم كمالا ، ولا تفضي إلى فساد ، وذلك أصول قواعد حفظ النسب والعرض خاصة. فبهذا الأصل : أصل الفطرة كان الإسلام دينا صالحا لجميع الأمم في جميع الأعصر.

ثم ظهر هذا الأصل في تسعة مظاهر خادمة له ومهيّئة جميع الناس لقبوله.

المظهر الأول : إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقاد لا يشوبه تردّد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات ، ثم بكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم ، وعلى الاعتراف باتّصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع إليه اختياريا ، ثم لتصير تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلّق بها ثم بحمل جميع الناس على تطهير عقائدهم حتى يتّحد مبدأ التخلّق فيهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [آل عمران : ٦٤].

وكان إصلاح الاعتقاد أهمّ ما ابتدأ به الإسلام ، وأكثر ما تعرّض له ؛ وذلك لأنّ إصلاح الفكرة هو مبدأ كلّ إصلاح ؛ ولأنّه لا يرجى صح لقوم تلطّخت عقولهم بالعقائد الضالّة ، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة : خوفا من لا شيء ، وطمعا في غير شيء ، وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي ؛ لأنّ المرء إنسان بروحه لا بجسمه.

ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي : عزّة النفس ، وأصله الرأي ، وحرية العقل ، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل.

وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثارا لا يشبهه فيه دين آخر ؛ بل إنّك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة ، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلّا قليلا.

المظهر الثاني : جمعه بين إصلاح النفوس ، بالتزكية ، وبين إصلاح نظام الحياة ، بالتشريع ، في حين كان معظم الأديان لا يتطرّق إلى نظام الحياة بشيء ، وبعضها وإن تطرّق

٥١

إليه إلّا أنّه لم يوفه حقه ، بل كان معظم اهتمامها منصرفا إلى المواعظ والعبادات ، وقد قرن القرآن المصلحتين في غير ما آية قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧].

المظهر الثالث : اختصاصه بإقامة الحجة ، ومجادلة المخاطبين بصنوف المجادلات وتعليل أحكامه ، بالترغيب وبالترهيب ، وذلك رعي لمراتب نفوس المخاطبين ، فمنهم العالم الحكيم الذي لا يقتنع إلّا بالحجة والدليل ، ومنهم المكابر الذي لا يرعوي إلّا بالجدل والخطابة ، ومنهم المترهّب الذي اعتاد الرغبة فيما عند الله ، ومنهم المكابر المعاند ، الذي لا يقلعه عن شغبه إلّا القوارع والزواجر.

المظهر الرابع : أنّه جاء بعموم الدعوة لسائر البشر ، وهذا شيء لم يسبق في دين قبله قط ، وفي القرآن : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] ، وفي الحديث الصحيح : «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي ـ فذكر ـ وكان الرسول يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وقد ذكر الله تعالى الرسل كلّهم فذكر أنّه أرسلهم إلى أقوامهم.

والاختلاف في كون نوح رسولا إلى جميع أهل الأرض ، إنّما هو مبني : على أنّه بعد الطوفان انحصر أهل الأرض في أتباع نوح ، عند القائلين بعموم الطوفان سائر الأرض ، ألا ترى قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [الأعراف : ٥٩] وأيّاما كان احتمال كون سكّان الأرض في عصر نوح هم من ضمّهم وطن نوح ، فإن عموم دعوته حاصل غير مقصود.

المظهر الرابع : الدوام ولم يدّع رسول من الرسل أنّ شريعته دائمة ، بل ما من رسول ، ولا كتاب ، إلّا تجد فيه بشارة برسول يأتي من بعده.

المظهر الخامس : الإقلال من التفريع في الأحكام بل تأتي بأصولها ويترك التفريع لاستنباط المجتهدين وقد بيّن ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] لتكون الأحكام صالحة لكلّ زمان.

المظهر السادس : أنّ المقصود من وصايا الأديان إمكان العمل بها ، وفي أصول الأخلاق أنّ التربية الصحيحة هي التي تأتي إلى النفوس بالحيلولة بينها وبين خواطر الشرور ؛ لأنّ الشرور ، إذا تسرّبت إلى النفوس ، تعذّر أو عسر اقتلاعها منها ، وكانت

٥٢

الشرائع تحمل الناس على متابعة وصاياها بالمباشرة ، فجاء الإسلام يحمل الناس على الخير بطريقتين : طريقة مباشرة ، وطريقة سدّ الذرائع الموصلة إلى الفساد ، وغالب أحكام الإسلام من هذا القبيل وأحسبها أنّها من جملة ما أريد بالمشتبهات في حديث : «إن الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس».

المظهر السابع : الرأفة بالناس حتى في حملهم على مصالحهم بالاقتصار في التشريع على موضع المصلحة ، مع تطلب إبراز ذلك التشريع في صورة ليّنة ، وفي القرآن (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] وفي الحديث : «بعثت بالحنيفية السّمحة ـ ولن يشادّ هذا الدين أحد إلّا غلبه» وكانت الشرائع السابقة تحمل على المتابعة بالشدّة ، فلذلك لم تكن صالحة للبقاء ؛ لأنّها روعي فيها حال قساوة أمم في عصور خاصة ، ولم تكن بالتي يناسبها ما قدّر مصير البشر إليه من رقّة الطباع وارتقاء الأفهام.

المظهر الثامن : امتزاج الشريعة بالسلطان في الإسلام ، وذلك من خصائصه ؛ إذ لا معنى للتشريع إلّا تأسيس قانون للأمة ، وما قيمة قانون لا تحميه القوة والحكومة. وبامتزاج الحكومة مع الشريعة أمكن تعميم الشريعة ، واتّحاد الأمة في العمل والنظام.

المظهر التاسع : صراحة أصول الدين ، بحيث يتكرّر في القرآن ما تستقرى منه قواطع الشريعة ، حتى تكون الشريعة معصومة من التأويلات الباطلة ، والتحريفات التي طرأت على أهل الكتب السابقة ، ويزداد هذا بيانا عند تفسير قوله تعالى : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران : ٢٠].

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

عطف (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) على قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقّيهم لدين الإسلام ، ومن سوء فهمهم في دينهم.

وجيء في هذا الإخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال ؛ إذ قد جيء بصيغة الحصر : لبيان سبب اختلافهم ، وكأنّ اختلافهم أمر معلوم للسامع. وهذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخبارا يتضمّن بيان سببه ، وإبطال ما يتراءى من الأسباب غير ذلك ، مع إظهار المقابلة بين حال الدّين الذي هم عليه يومئذ من الاختلاف ، وبين سلامة الإسلام من ذلك.

٥٣

وذلك أنّ قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) قد آذن بأنّ غيره من الأديان لم يبلغ مرتبة الكمال والصلاحية للعموم ، والدوام ، قبل التغيير ، بله ما طرأ عليها من التغيير ، وسوء التأويل ، إلى يوم مجيء الإسلام ، ليعلم السامعون أنّ ما عليه أهل الكتاب لم يصل إلى أكمل مراد الله من الخلق على أنّه وقع فيه التغيير والاختلاف ، وأن سبب ذلك الاختلاف هو البغي بعد ما جاءهم العلم ، مع التنبيه على أنّ سبب بطلان ما هم عليه يومئذ هو اختلافهم وتغييرهم ، ومن جملة ما بدّلوه الآيات الدالة على بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفيه تنبيه على أنّ الإسلام بعيد عن مثل ما وقعوا فيه من التحريف ، كما تقدّم في المظهر التاسع ، ومن ثم ذمّ علماؤنا التأويلات البعيدة ، والتي لم يدع إليها داع صريح.

وقد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معان : منها التحذير من الاختلاف في الدين ، أي في أصوله ، ووجوب تطلّب المعاني التي لا تناقض مقصد الدين ، عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف.

ومنها التنبيه على أنّ اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحق ، فهو تعريض بأنّهم أساءوا فهم الدين.

ومنها الإشارة إلى أنّ الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان : أحدهما اختلاف كل أمة مع الأخرى في صحة دينها كما قال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) [البقرة : ١١٣] ، وثانيهما اختلاف كل أمة منهما فيما بينها وافتراقها فرقا متباينة المنازع. كما جاء في الحديث : «اختلفت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة» يحذّر المسلمين ممّا صنعوا.

ومنها أنّ اختلافهم ناشئ عن بغي بعضهم على بعض.

ومنها أنّهم أجمعوا على مخالفة الإسلام والإعراض عنه بغيا منهم وحسدا ، مع ظهور أحقّيته عند علمائهم وأحبارهم كما قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [البقرة : ١٤٦ ، ١٤٧] ، وقال تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) [البقرة : ١٠٩] أي أعرضوا عن الإسلام ، وصمّموا على البقاء على دينهم ، وودّوا لو يردّونكم إلى الشرك أو إلى متابعة دينهم حسدا على ما جاءكم من الهدى بعد أن تبيّن لهم أنّه الحق.

٥٤

ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني ، حذف متعلّق الاختلاف في قوله : (اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ليشمل كلّ اختلاف منهم : من مخالفة بعضهم بعضا في الدين الواحد ، ومخالفة أهل كلّ دين لأهل الدين الآخر ، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحّة الدين.

وحذف متعلّق العلم في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) لذلك.

وجعل «بغيا» عقب قوله : «من بعد ما جاءهم العلم» ليتنازعه كلّ من فعل (اختلف) ومن لفظ (العلم).

وأخّر بينهم عن جميع ما يصلح للتعليق به : ليتنازعه كلّ من فعل (اختلف) وفعل (جاءهم) ولفظ (العلم) ولفظ (بغيا).

وبذلك تعلم أنّ معنى هذه الآية أوسع معاني من معاني قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) في سورة البقرة [٢١٣] وقوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) في سورة البيّنة [٤] كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين.

فاختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم : أي اختلاف أهل كل ملّة في أمور دينها ، وهذا هو الذي تشعر بها صيغة اختلف كاختلاف اليهود بعد موسى غير مرة ، واختلافهم بعد سليمان إلى مملكتين : مملكة إسرائيل ، ومملكة يهوذا ، وكيف صار لكلّ مملكة من المملكتين تديّن يخالف تديّن الأخرى ، وكذلك اختلاف النصارى في شأن المسيح ، وفي رسوم الدين ، ويكون قوله : «بينهم» حالا لبغيا : أي بغيا متفشّيا بينهم ، بأن بغى كلّ فريق على الآخر.

ويشمل أيضا الاختلاف بينهم في أمر الإسلام ؛ إذ قال قائل منهم : هو حق ، وقال فريق : هو مرسل إلى الأميّين ، وكفر فريق ، ونافق فريق. وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، ويكون قوله : (بَيْنَهُمْ) على هذا وصفا لبغيا : أي بغيا واقعا بينهم.

ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤهم ، لأنّ كلمة جاء مؤذنه بعلم متلقّى من الله تعالى ، يعني أنّ العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدّهم عن الاختلاف في المراد ، إلّا أنّهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى.

٥٥

وانتصب (بَغْياً) على أنّه مفعول لأجله ، وعامل المفعول لأجله : هو الفعل الذي تفرّغ للعمل فيما بعد حرف الاستثناء ، فالاستثناء كان من أزمان وعلل محذوفة والتقدير : ما اختلفوا إلّا في زمن بعد ما جاءهم العلم وما كان إلّا بغيا بينهم. ولك أن تجعل بغيا منصوبا على الحال من الذين أوتوا الكتاب ، وهو ـ وإن كان العامل فيه فعلا منفيا في اللفظ ـ إلّا أن الاستثناء المفرّغ جعله في قوة المثبت ، فجاء الحال منه عقب ذلك ، أي حال كون المختلفين باغين ، فالمصدر مؤوّل بالمشتق. ويجوز أن تجعله مفعولا لأجله من (اختلف) باعتبار كونه صار مثبتا كما قرّرنا.

وقد لمّحت الآية إلى أنّ هذا الاختلاف ، والبغي كفر ، لأنّه أفضى بهم إلى نقض قواعد أديانهم ، وإلى نكران دين الإسلام ، ولذلك ذيّله بقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) إلخ.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) تعريض بالتهديد ، لأنّ سريع الحساب إنّما يبتدئ بحساب من يكفر بآياته ، والحساب هنا كناية عن الجزاء كقوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء : ١١٣].

وفي ذكر هذه الأحوال الذميمة من أحوال أهل الكتاب تحذير للمسلمين أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك ، والمسلمون وإن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلّا اختلافا علميا فرعيا ، ولم يختلفوا اختلافا ينقض أصول دينهم بل غاية الكلّ الوصول إلى الحق من الدين ، وخدمة مقاصد الشريعة ، فبنو إسرائيل عبدوا العجل والرسول بين ظهرانيهم ، وعبدوا آلهة الأمم غير مرة ، والنصارى عبدوا مريم والمسيح ، ونقضوا أصول التوحيد ، وادّعوا حلول الخالق في المخلوق. فأما المسلمون لما قال أحد أهل التصوّف منهم كلاما يوهم الحلول حكم علماؤهم بقتله.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))

تفريع على قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [آل عمران : ١٩] الآية فإنّ الإسلام دين قد أنكروه ، واختلافهم في أديانهم يفضي بهم إلى محاجّة الرسول في تبرير ما هم عليه من الدين ، وأنّهم ليسوا على أقلّ مما جاء به دين الإسلام.

٥٦

والمحاجة مفاعلة ولم يجىء فعلها إلّا بصيغة المفاعلة. ومعنى المحاجّة المخاصمة ، وأكثر استعمال فعل حاجّ في معنى المخاصمة بالباطل : كما في قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) [الأنعام : ٨٠] وتقدم عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) في سورة البقرة [٢٥٨].

فالمعنى : فإن خاصموك خاصم مكابرة فقل أسلمت وجهي لله.

وضمير الجمع في قوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) عائد إلى غير مذكور في الكلام ، بل معلوم من المقام ، وهو مقام نزول السورة ، أعني قضية وفد نجران ؛ فإنّهم الذين اهتمّوا بالمحاجّة حينئذ. فأما المشركون فقد تباعد ما بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة ، فانقطعت محاجّتهم ، وأما اليهود فقد تظاهروا بمسالمة المسلمين في المدينة.

وقد لقّن الله رسوله أن يجيب مجادلتهم بقوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) والوجه أطلق على النفس كما في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي ذاته.

وللمفسّرين في المراد من هذا القول طرائق ثلاث : إحداها أنّه متاركة وإعراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بيانا ، أي أنّي أتيت بمنتهى المقدور من الحجّة فلم تقتنعوا ، فإذ لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية ، فليست محاجّتكم إياي إلّا مكابرة وإنكارا للبديهيات والضروريات ، ومباهته ، فالأجدر أن أكفّ عن الازدياد. قال الفخر : فإن المحقّ إذا ابتلي بالمبطل اللّجوج يقول : أمّا أنا فمنقاد إلى الحق. وإلى هذا التفسير مال القرطبي.

وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) وقوله : (أَأَسْلَمْتُمْ) دون أن يقال : فأعرض عنهم وقل سلام ، ضربا من الإدماج ؛ إذ أدمج في قطع المجادلة إعادة الدعوة إلى الإسلام ، بإظهار الفرق بين الدينين.

والقصد من ذلك الحرص على اهتدائهم ، والإعذار إليهم ، وعلى هذا الوجه فإنّ قوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) خارج عن الحاجة ، وإنّما هو تكرّر للدعوة ، أي اترك محاجّتهم ولا تترك دعوتهم.

وليس المراد بالحجاج الذي حاجّهم به خصوص ما تقدم في الآيات السابقة ، وإنّما المراد ما دار بين الرسول وبين وفد نجران من الحجاج الذي علموه فمنه ما أشير إليه في الآيات السابقة ، ومنه ما طوي ذكره.

٥٧

الطريقة الثانية أنّ قوله : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) تلخيص للحجة ، واستدراج لتسليمهم إياها ، وفي تقريره وجوه ما لها إلى أنّ هذا استدلال على كون الإسلام حقا ، وأحسنها ما قال أبو مسلم الأصفهاني : إنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا متّفقين على أحقّية دين إبراهيم عليه‌السلام إلّا زيادات زادتها شرائعهم ، فكما أمر الله رسوله أن يتّبع ملة إبراهيم في قوله : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] أمره هنا أن يجادل الناس بمثل قوله إبراهيم : فإبراهيم قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩] ومحمد عليه الصلاة والسلام قال : «أسلمت وجهي لله» أي فقد قلت ما قاله الله ، وأنتم معترفون بحقيقة ذلك ، فكيف تنكرون أنّي على الحق ، قال : وهذا من باب التمسّك بالإلزامات وداخل تحت قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥].

الطريقة الثالثة ما قاله الفخر وحاصله مع بيانه أن يكون هذا مرتبط بقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] أي فإن حاجّوك في أنّ الدين عند الله الإسلام ، فقل : إنّي بالإسلام أسلمت وجهي لله فلا ألتفت إلى عبادة غيره مثلكم ، فديني الذي أرسلت به هو الدين عند الله (أي هو الدين الحقّ وما أنتم عليه ليس دينا عند الله).

وعلى الطريقتين الأوليين في كلام المفسّرين جعلوا قوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) خارجا عن الحجة ؛ إذ لا علاقة بينه وبين كون الإسلام هو ملّة إبراهيم ، ويكون مرادا منه الدعوة إلى الإسلام مرة أخرى بطريقة الاستفهام المستعمل في التحضيض كقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] أي قل لأولئك : أتسلمون.

وعندي أنّ التعليق بالشرط لما اقتضى أنّه للمستقبل فالمراد بفعل : «حاجّوك» الاستمرار على المحاجّة : أي فإن استمرّ وفد نجران على محاجّتهم فقل لهم قولا فصلا جامعا للفرق بين دينك الذي أرسلت به وبين ما هم متديّنون به. فمعنى (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أخلصت عبوديتي له لا أوجّه وجهي إلى غيره ، فالمراد أنّ هذا كنه دين الإسلام ، وتبيّن أنّه الدين الخالص ، وأنّهم لا يلفون تديّنهم على هذا الوصف.

وقوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) معطوف على جملة الشرط المفرّعة على ما قبلها ، فيدخل المعطوف في التفريع ، فيكون تقدير النظم : ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب فقل للذين كفروا بآيات الله الذين أوتوا الكتاب والأميّين : أأسلمتم ، أي فكرّر دعوتهم إلى الإسلام.

والاستفهام مستعمل في الاستبطاء والتحضيض كما في قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ

٥٨

مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١]. وجيء بصيغة الماضي في قوله : (أَأَسْلَمْتُمْ) دون أن يقول أتسلمون على خلاف مقتضى الظاهر ، للتنبيه على أنّه يرجو تحقق إسلامهم ، حتى يكون كالحاصل في الماضي.

اعلم أنّ قوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبّروا مطاويها فيهتدي الضالون ، ويزداد المسلمون يقينا بدينهم ؛ إذ قد علمنا أنّ مجيء قوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) عقب قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وقوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) وتعقيبه بقوله : (أَأَسْلَمْتُمْ) أنّ المقصود منه بيان جامع معاني الإسلام حتى تسهل المجادلة ، وتختصر المقاولة ، ويسهل عرض المتشككين أنفسهم على هذه الحقيقة ، ليعلموا ما هم عليه من الديانة. وبيّنت هذه الكلمة أنّ هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه ؛ فإنّ اسمه الإسلام ، وهو مفيد معنى معروفا في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم ، وقد حذف مفعوله ونزّل الفعل منزلة الفعل اللّازم فعلم أنّ المفعول حذف لدلالة معنى الفاعل عليه ، فكأنّه يقول : أسلمتني أي أسلمت نفسي ، فبين هنا هذا المفعول المحذوف من اسم الإسلام لئلا يقع فيه التباس أو تأويل لما لا يطابق المراد ، فعبّر عنه بقوله : (وجهي) أي نفسي : لظهور ألّا يحسن محمل الوجه هنا على الجزء المعروف من الجسد ، ولا يفيد حمله عليه ما هو المقصود ، بل المعنى البيّن هو أن يراد بالوجه كامل الذات ، كقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].

وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكا له ، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله ، وتحت هذا معان جمّة هي جماع الإسلام : نحصرها في عشرة :

المعنى الأول : تمام العبودية لله تعالى ، وذلك بألّا يعبد غير الله ، وهذا إبطال للشرك لأنّ المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه لله بل أسلم بعضها.

المعنى الثاني : إخلاص العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى ، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يقدّم مرضاة غير الله تعالى على مرضاة الله.

الثالث : إخلاص القول لله تعالى فلا يقول ما لا يرضى به الله ، ولا يصدر عنه قول إلّا فيما أذن الله فيه أن يقال ، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، على حسب المقدرة والعلم ، والتّصدي للحجة لتأييد مراد الله تعالى ، وهي صفة امتاز بها الإسلام ، ويندفع بهذا المعنى النفاق ، والملق ، قال تعالى في ذكر رسوله :

٥٩

(وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [يس : ٨٦].

الرابع : أن يكون ساعيا لتعرّف مراد الله تعالى من الناس ، ليجري أعماله على وفقه ، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنّهم مرسلون من الله ، وتلقّيها بالتأمّل في وجود صدقها ، والتمييز بينها وبين الدعاوي الباطلة ، بدون تحفّز للتكذيب ، ولا مكابرة في تلقّي الدعوة ، ولا إعراض عنها بداعي الهوى وهو الإفحام ، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة.

الخامس : امتثال ما أمر الله به ، واجتناب ما نهى عنه ، على لسان الرسل الصادقين ، والمحافظة على اتّباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف ، وأن يذود عنه من يريد تغييره.

السادس : ألّا يجعل لنفسه حكما مع الله فيما حكم به ، فلا يتصدّى للتحكّم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذ البعض. كما حكى الله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [النور : ٤٨ ، ٤٩] ، وقد وصف الله المسلمين بقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب : ٣٦] ، فقد أعرض الكفّار عن الإيمان بالبعث ؛ لأنّهم لم يشاهدوا ميّتا بعث.

السابع : أن يكون متطلّبا لمراد الله ممّا أشكل عليه فيه ، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله : بتطلّبه من إلحاقه بنظائره التامة التنظير بما علم أنّه مراد الله ، كما قال الله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقّه في الدين والاجتهاد ، تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦].

الثامن : الإعراض عن الهوى المذموم في الدين ، وعن القول فيه بغير سلطان : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص : ٥٠].

التاسع : أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضا ، وجماعاتها ، ومعاملتها الأمم كذلك ، جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات.

العاشر : التصديق بما غيّب عنّا ، مما أنبأنا الله به : من صفاته ، ومن القضاء والقدر ، وأنّ الله هو المتصرّف المطلق.

وقوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) إبطال لكونهم حاصلين على

٦٠