تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

وعلى هذه الاعتبارات تجري الاعتبارات في قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) كما سيأتي.

إنّ الدعوة إلى الخير تتفاوت : فمنها ما هو بيّن يقوم به كلّ مسلم ، ومنها ما يحتاج إلى علم فيقوم به أهله ، وهذا هو المسمّى بفرض الكفاية ، يعني إذا قام به بعض النّاس كفى عن قيام الباقين ، وتتعيّن الطائفة الّتي تقوم بها بتوفّر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها. كالقوة على السلاح في الحرب ، وكالسباحة في إنقاذ الغريق ، والعلم بأمور الدّين في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وكذلك تعيّن العدد الّذي يكفي للقيام بذلك الفعل مثل كون الجيش نصف عدد جيش العدوّ ، ولمّا كان الأمر يستلزم متعلّقا فالمأمور في فرض الكفاية الفريق الّذين فيهم الشروط ، ومجموع أهل البلد ، أو القبيلة ، لتنفيذ ذلك ، فإذا قام به العدد الكافي ممّن فيهم الشروط سقط التكليف عن الباقين ، وإذا لم يقوموا به كان الإثم على البلد أو القبيلة ، لسكوت جميعهم ، ولتقاعس الصّالحين للقيام بذلك ، مع سكوتهم أيضا ثمّ إذا قام به البعض فإنّما يثاب البعض خاصّة.

ومعنى الدعاء إلى الخير الدعاء إلى الإسلام ، وبثّ دعوة النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنّ الخير اسم يجمع خصال الإسلام : ففي حديث حذيفة بن اليمان «قلت : يا رسول الله إنّا كنّا في جاهلية وشرّ فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شرّ» الحديث ، ولذلك يكون عطف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عليه من عطف الشيء على مغايره ، وهو أصل العطف. وقيل : أريد بالخير ما يشمل جميع الخيرات ، ومنها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، فيكون العطف من عطف الخاصّ على العامّ للاهتمام به.

وحذفت مفاعيل يدعون ويأمرون وينهون لقصد التّعميم أي يدعون كلّ أحد كما في قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : ٢٥].

والمعروف هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرضي به ، لأنّ الشيء إذا كان معروفا كان مألوفا مقبولا مرضيّا به ، وأريد به هنا ما يقبل عند أهل العقول ، وفي الشّرائع ، وهو الحقّ والصلاح ، لأنّ ذلك مقبول عند انتفاء العوارض.

والمنكر مجاز في المكروه ، والكره لازم للإنكار لأنّ النكر في أصل اللّسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة ، وأريد به هنا الباطل والفساد ، لأنّهما من المكروه في الجبلّة عند انتفاء العوارض.

١٨١

والتّعريف في (الخير ـ والمعروف ـ والمنكر) تعريف الاستغراق ، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة فيشبه الاستغراق العرفي.

ومن المفسّرين من عيّن جعل (من) في قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) للبيان ، وتأوّل الكلام بتقدير تقديم البيان على المبيّن فيصير المعنى : ولتكن أمّة هي أنتم أي ولتكونوا أمّة يدعون محاولة للتسوية بين مضمون هذه الآية ، ومضمون قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) [آل عمران : ١١٠] الآية. ومساواة معنيي الآيتين غير متعيّنة لجواز أن يكون المراد من خير أمّة هاته الأمّة ، الّتي قامت بالأمر بالمعروف ، على ما سنبيّنه هنالك.

والآية أوجبت أن تقوم طائفة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، ولا شكّ أن الأمر والنّهي من أقسام القول والكلام ، فالمكلّف به هو بيان المعروف ، والأمر به ، وبيان المنكر ، والنّهي عنه ، وأمّا امتثال المأمورين والمنهيين لذلك ، فموكول إليهم أو إلى ولاة الأمور الّذين يحملونهم على فعل ما أمروا به ، وأمّا ما وقع في الحديث : «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» فذلك مرتبة التغيير ، والتّغيير يكون باليد ، ويكون بالقلب ، أي تمنّى التّغيير ، وأمّا الأمر والنّهي فلا يكونان بهما.

والمعروف والمنكر إن كانا ضروريين كان لكلّ مسلم أن يأمر وينهى فيهما ، وإن كانا نظريّين ، فإنّما يقوم بالأمر والنّهي فيهما أهل العلم.

وللأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر شروط مبيّنة في الفقه والآداب الشرعية ، إلّا أنّي أنبّه إلى شرط ساء فهم بعض النّاس فيه وهو قول بعض الفقهاء : يشترط أن لا يجرّ النّهي إلى منكر أعظم. وهذا شرط قد خرم مزيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، واتّخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب. ولقد ساء فهمهم فيه إذا مراد مشترطه أن يتحقّق الآمر أنّ أمره يجرّ إلى منكر أعظم لا أن يخاف أو يتوهّم إذ الوجوب قطعي لا يعارضه إلّا ظنّ أقوى.

ولمّا كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض ، في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، لتوقّفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر ، ومراتب القدرة على التّغيير ، وإفهام النّاس ذلك ، رأى أئمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها ، وسمّوا تلك الولاية بالحسبة ، وقد أولى عمر بن الخطّاب في هاته الولاية أم الشفاء ،

١٨٢

وأشهر من وليها في الدولة العبّاسيّة ابن عائشة ، وكان رجلا صلبا في الحق ، وتسمّى هذه الولاية في المغرب ولاية السوق وقد وليها في قرطبة الإمام محمّد بن خالد بن مرتنيل القرطبي المعروف بالأشجّ من أصحاب ابن القاسم توفّي سنة ٢٢٠. وكانت في الدولة الحفصيّة ولاية الحسبة من الولايات النبيهة وربّما ضمّت إلى القضاء كما كان الحال في تونس بعد الدولة الحفصيّة.

وجملة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) معطوفة على صفات أمّة وهي الّتي تضمّنتها جمل (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) والتقدير : وهم مفلحون : لأن الفلاح لمّا كان مسبّبا على تلك الصفات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم ، ويجوز جعل جملة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حالا من أمّة ، والواو للحال.

والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك. وكان مقتضى الظاهر فصل هذه الجملة عمّا قبلها بدون عطف ، مثل فصل جملة (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] لكن هذه عطفت أو جاءت حالا لأن مضمونها جزاء عن الجمل الّتي قبلها ، فهي أجدر بأن تلحق بها.

ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم ، فهو إمّا قصر إضافي بالنّسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه وإمّا قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم ، وهو معنى قصد الدّلالة على معنى الكمال.

وقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) معطوف على قوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) وهو يرجع إلى قوله ـ قبل ـ : (وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران : ١٠٣] لما فيه من تمثيل حال التفرّق في أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أحوال اليهود. وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يفضي إلى التفرّق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشقّ الأمّة بذلك انشقاقا شديدا.

والمخاطب به يجري على الاحتمالين المذكورين في المخاطب بقوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) مع أنّه لا شكّ في أن حكم هذه الآية يعمّ سائر المسلمين : إمّا بطريق اللّفظ ، وإمّا بطريق لحن الخطاب ، لأن المنهي عنه هو الحالة الشبيهة بحال الّذين تفرّقوا واختلفوا.

وأريد بالّذين تفرّقوا واختلفوا الّذين اختلفوا في أصول الدّين ، من اليهود والنّصارى ، من بعد ما جاءهم من الدلائل المانعة من الاختلاف والافتراق. وقدّم الافتراق على

١٨٣

الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علّة التفرّق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارناتها ، وفي عكسه قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [البقرة:٢٨٢].

وفيه إشارة إلى أنّ الاختلاف المذموم والّذي يؤدّي إلى الافتراق ، وهو الاختلاف في أصول الدّيانة الّذي يفضي إلى تكفير بعض الأمّة بعضا ، أو تفسيقه ، دون الاختلاف في الفروع المبنيّة على اختلاف مصالح الأمّة في الأقطار والأعصار ، وهو المعبّر عنه بالاجتهاد. ونحن إذا تقصّينا تاريخ المذاهب الإسلاميّة لا نجد افتراقا نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول ، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشّريعة.

والبيّنات : الدلائل الّتي فيها عصمة من الوقوع في الاختلاف لو قيضت لها أفهام.

وقوله : (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) مقابل قوله في الفريق الآخر : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فالقول فيه كالقول في نظيره ، وهذا جزاء لهم على التفرّق والاختلاف وعلى تفريطهم في تجنّب أسبابه.

[١٠٦ ، ١٠٧] (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧))

يجوز أن يكون (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) منصوبا على الظرف ، متعلّقا بما في قوله (لَهُمْ عَذابٌ) من معنى كائن أو مستقرّ : أي يكون عذاب لهم يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه ، وهذا هو الجاري على أكثر الاستعمال في إضافة أسماء الزمان إلى الجمل. ويجوز أن يكون منصوبا على المفعول به لفعل اذكر محذوفا ، وتكون جملة (تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) صفة ل (يوم) على تقدير : تبيضّ فيه وجوه وتسودّ فيه وجوه.

وفي تعريف هذا اليوم بحصول بياض وجوه وسواد وجوه فيه ، تهويل لأمره ، وتشويق لما يرد بعده من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضّة ، والوجوه المسودّة : ترهيبا لفريق وترغيبا لفريق آخر. والأظهر أن علم السامعين بوقوع تبييض وجوه وتسويد وجوه في ذلك اليوم حاصل من قبل : في الآيات النازلة قبل هذه الآية ، مثل قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠] وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ* تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) [عبس : ٣٨ ـ ٤١].

١٨٤

والبياض والسواد بياض وسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة ، وهما بياض وسواد خاصّان لأن هذا م أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته.

وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) تفصيل للإجمال السابق ، سلك فيه طريق النّشر المعكوس ، وفيه إيجاز لأنّ أصل الكلام ، فأمّا الّذين اسودّت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخر : وأمّا الّذين ابيضّت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون.

قدّم عند وصف اليوم ذكر البياض ، الّذي هو شعار أهل النّعيم ، تشريفا لذلك اليوم بأنّه يوم ظهور رحمة الله ونعمته ، ولأنّ رحمة الله سبقت غضبه ، ولأنّ في ذكر سمة أهل النّعيم ، عقب وعيد بالعذاب ، حسرة عليهم ، إذ يعلم السّامع أنّ لهم عذابا عظيما في يوم فيه نعيم عظيم ، ثمّ قدّم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلا بمساءتهم.

وقوله (أَكَفَرْتُمْ) مقول قول محذوف يحذف مثله في الكلام لظهوره : لأنّ الاستفهام لا يصدر إلّا من مستفهم ، وذلك القول هو جواب أمّا ، ولذلك لم تدخل الفاء على (أَكَفَرْتُمْ) ليظهر أن ليس هو الجواب وأن الجواب حذف برمّته.

وقائل هذا القول مجهول ، إذ لم يتقدّم ما يدلّ عليه ، فيحتمل أنّ ذلك يقوله أهل المحشر لهم وهم الّذين عرفوهم في الدّنيا مؤمنين ، ثمّ رأوهم وعليهم سمة الكفر ، كما ورد في حديث الحوض «فليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ثمّ يختلجون دوني ، فأقول : أصيحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» والمستفهم سلفهم من قومهم أو رسولهم ، فالاستفهام على حقيقته مع كنايته عن معنى التعجّب.

ويحتمل أنّه يقوله تعالى لهم ، فالاستفهام مجاز عن الإنكار والتغليط. ثمّ إن كان المراد بالّذين اسودّت وجوههم أهل الكتاب ، فمعنى كفرهم بعد إيمانهم تغييرهم شريعة أنبيائهم وكتمانهم ما كتموه فيها ، أو كفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إيمانهم بموسى وعيسى ، كما تقدّم في قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) [آل عمران : ٩٠] وهذا هو المحمل البيّن ، وسياق الكلام ولفظه يقتضيه ، فإنّه مسوق لوعيد أولئك. ووقعت تأويلات من المسلمين وقعوا بها فيما حذّرهم منه القرآن ، فتفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات : الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» مثل أهل الردة الذين ماتوا على ذلك ، فمعنى الكفر بعد الإيمان حينئذ ظاهر ، وعلى هذا المعنى تأوّل الآية مالك بن أنس فيما روى عنه ابن القاسم وهو في ثالثة المسائل من سماعه من كتاب

١٨٥

المرتدّين والمحاربين من العتبية قال : «ما آية في كتاب الله أشدّ على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية» يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه» قال مالك : إنّما هذه لأهل القبلة. يعني أنّها ليست للّذين تفرّقوا واختلفوا من الأمم قبلنا بدليل قوله (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) ورواه أبو غسّان مالك الهروي عن مالك عن ابن عمر ، وروي مثل هذا عن ابن عبّاس ، وعلى هذا الوجه فالمراد الّذين أحدثوا بعد إيمانهم كفرا بالردّة أو بشنيع الأقوال الّتي تفضي إلى الكفر ونقض الشّريعة ، مثل الغرابية من الشيعة الّذين قالوا بأنّ النبوءة لعلي ، ومثل غلاة الإسماعيلية أتباع حمزة بن عليّ ، وأتباع الحاكم العبيدي ، بخلاف من لم تبلغ به مقالته إلى الكفر تصريحا ولا لزوما بيّنا مثل الخوارج والقدرية كما هو مفصّل في كتب الفقه والكلام في حكم المتأوّلين ومن يؤول قولهم إلى لوازم سيّئة.

وذوق العذاب مجاز للإحساس وهو مجاز مشهور علاقته التقييد.

[١٠٨ ، ١٠٩] (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩))

تذييلات ، والإشارة في قوله (تِلْكَ) إلى طائفة من آيات القرآن السابقة من هذه السورة كما اقتضاه قوله (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ).

والتلاوة اسم لحكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظه وهي كالقراءة إلّا أن القراءة تختصّ بحكاية كلام مكتوب فيتّجه أن تكون الطائفة المقصودة بالإشارة هي الآيات المبدوءة بقوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] إلى هنا لأن ما قبله ختم بتذييل قريب من هذا التذييل ، وهو قوله : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ٥٨] فيكون كل تذييل مستقلا بطائفة الجمل الّتي وقع هو عقبها.

وخصّت هذه الطائفة من القرآن بالإشارة لما فيها من الدلائل المثبتة صحة عقيدة الإسلام ، والمبطلة لدعاوي الفرق الثلاث من اليهود والنّصارى والمشركين ، مثل قوله (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] وقوله (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) [المائدة : ٧٤] الآية. وقوله (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [آل عمران : ٦٦] الآية. وقوله (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [آل عمران : ٦٨] الآية. وقوله (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) [آل عمران : ٧٩] الآية. وقوله (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) [آل عمران : ٨١] الآية. وقوله (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) [آل عمران : ٩٣] وقوله (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ

١٨٦

لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) [آل عمران : ٩٦] ، وما تخلّل ذلك من أمثال ومواعظ وشواهد.

والباء في قوله (بِالْحَقِ) للملابسة ، وهي ملابسة الإخبار للمخبر عنه ، أي لما في نفس الأمر والواقع ، فهذه الآيات بيّنت عقائد أهل الكتاب وفصّلت أحوالهم في الدنيا والآخرة.

ومن الحقّ استحقاق كلا الفريقين لما عومل به عدلا من الله ، ولذا قال (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) أي لا يريد أن يظلم النّاس ولو شاء ذلك لفعله ، لكنّه وعد بأن لا يظلم أحدا فحقّ وعده ، وليس في الآية دليل للمعتزلة على استحالة إرادة الله تعالى الظلم إذ لا خلاف بيننا وبين المعتزلة في انتفاء وقوعه ، وإنّما الخلاف في جواز ذلك واستحالته.

وجيء بالمسند فعلا لإفادة تقوي الحكم ، وهو انتفاء إرادة ظلم العالمين عن الله تعالى ، وتنكير (ظلما) في سياق النّفي يدلّ على انتفاء جنس الظلم عن أن تتعلّق به إرادة الله ، فكلّ ما يعدّ ظلما في مجال العقول السليمة منتف أن يكون مراد الله تعالى.

وقوله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٢٨٤] عطف على التذييل : لأنّه إذا كان له ما في السموات وما في الأرض فهو يريد صلاح حالهم ، ولا حاجة له بإضرارهم إلا للجزاء على أفعالهم. فلا يريد ظلمهم ، وإليه ترجع الأشياء كلّها فلا يفوته ثواب محسن ولا جزاء مسيء.

وتكرير اسم الجلالة ثلاث مرات في الجمل الثلاث التي بعد الأولى بدون إضمار للقصد إلى أن تكون كلّ جملة مستقلّة الدلالة بنفسها ، غير متوقّفة على غيرها ، حتّى تصلح لأن يتمثّل بها ، وتستحضرها النّفوس وتحفظها الأسماع.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠))

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

يتنزّل هذا منزلة التّعليل لأمرهم بالدّعوة إلى الخير ، وما بعده فإن قوله (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) حال من ضمير كنتم ، فهو مؤذن بتعليل كونهم خير أمّة فيترتب عليه أنّ ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم ، إن لم يكن مفروضا من قبل ، وأن يؤكد عليهم

١٨٧

فرضه ، إن كان قد فرض عليهم من قبل.

والخطاب في قوله (كُنْتُمْ) إمّا لأصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقل ذلك عن عمر بن الخطاب ، وابن عبّاس. قال عمر : هذه لأوّلنا ولا تكون لآخرنا. وإضافة خير إلى أمّة من إضافة الصفة إلى الموصوف : أي كنتم أمّة خير أمّة أخرجت للنّاس ، فالمراد بالأمّة الجماعة ، وأهل العصر النبوي ، مثل القرن ، وهو إطلاق مشهور ومنه قوله تعالى : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥] أي بعد مدة طويلة كمدة عصر كامل. ولا شكّ أن الصحابة كانوا أفضل القرون التي ظهرت في العالم ، لأن رسولهم أفضل الرسل ، ولأن الهدى الذي كانوا عليه لا يماثله هدى أصحاب الرسل الذين مضوا ، فإن أخذت الأمة باعتبار الرسول فيها فالصحابة أفضل أمة من الأمم مع رسولها ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير القرون قرني». والفضل ثابت للجموع على المجموع ، وإن أخذت الأمة من عدا الرسول ، فكذلك الصحابة أفضل الأمم التي مضت بدون رسلها ، وهذا تفضيل للهدى الذي اهتدوا به ، وهو هدى رسولهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشريعته.

وإمّا أن يكون الخطاب بضمير (كُنْتُمْ) للمسلمين كلّهم في كلّ جيل ظهروا فيه ، ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمّة لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر ، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة ، فمن التغيير على الأهل والولد ، إلى التغيير على جميع أهل البلد ، أو لأن وجود طوائف القائمين بهذا الأمر في مجموع الأمّة أوجب فضيلة لجميع الأمّة ، لكون هذه الطوائف منها كما كانت القبيلة تفتخر بمحامد طوائفها ، وفي هذا ضمان من الله تعالى بأنّ ذلك لا ينقطع من المسلمين إن شاء الله تعالى.

وفعل (كان) يدل على وجود ما يسند إليه في زمن مضى ، دون دلالة على استمرار ، ولا على انقطاع ، قال تعالى (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦] أي وما زال ، فمعنى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) وجدتم على حالة الأخيرية على جميع الأمم ، أي حصلت لكم هذه الأخيرية بحصول أسبابها ووسائلها ، لأنّهم اتّصفوا بالإيمان ، والدّعوة للإسلام ، وإقامته على وجهه ، والذبّ عنه النقصان والإضاعة لتحقّق أنّهم لمّا جعل ذلك من واجبهم ، وقد قام كلّ بما استطاع ، فقد تحقّق منهم القيام به ، أو قد ظهر منهم العزم على امتثاله ، كلّما سنح سانح يقتضيه ، فقد تحقّق أنهم خير أمّة على الإجمال فأخبر عنهم بذلك. هذا إذا بنينا على كون الأمر في قوله آنفا (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

١٨٨

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١٠٤] وما بعده من النهي في قوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) [آل عمران : ١٠٥] الآية ، لم يكن حاصلا عندهم من قبل.

ويجوز أن يكون المعنى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) موصوفين بتلك الصّفات فيما مضى تفعلونها إمّا من تلقاء أنفسكم ، حرصا على إقامة الدّين واستحسانا وتوفيقا من الله في مصادفتكم لمرضاته ومراده ، وإمّا بوجوب سابق حاصل من آيات أخرى مثل قوله : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) [العصر : ٣] وحينئذ فلمّا أمرهم بذلك على سبيل الجزم ، أثنى عليهم بأنّهم لم يكونوا تاركيه من قبل ، وهذا إذا بنينا على أنّ الأمر في قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) [آل عمران : ١٠٤] تأكيدا لما كانوا يفعلونه ، وإعلام بأنّه واجب ، أو بتأكيد وجوبه على الوجوه التي قدّمتها عند قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ).

ومن الحيرة التجاء جمع من المفسرين إلى جعل الإخبار عن المخاطبين بكونهم فيما مضى من الزمان أمة بمعنى كونهم كذلك في علم الله تعالى وقدره أو ثبوت هذا الكون في اللوح المحفوظ أو جعل كان بمعنى صار.

والمراد بأمّة عموم الأمم كلّها على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس فتفيد الاستغراق.

وقوله (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الإخراج مجاز في الإيجاد والإظهار كقوله تعالى (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [طه : ٨٨] أي أظهر بصوغه عجلا جسدا.

والمعنى : كنتم خير الأمم التي وجدت في عالم الدنيا. وفاعل (أُخْرِجَتْ) معلوم وهو الله موجد الأمم ، والسائق إليها ما به تفاضلها. والمراد بالناس جميع البشر من أوّل الخليقة.

وجملة : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) حال في معنى التّعليل إذ مدلولها ليس من الكيفيات المحسوسة حتّى تحكى الخيرية في حال مقارنتها لها ، بل هي من الأعمال النّفسية الصالحة للتعليل لا للتوصيف ، ويجوز أن يكون استئنافا لبيان كونهم خير أمّة. والمعروف والمنكر تقدّم بيانهما قريبا.

وإنّما قدّم (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) على قوله (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) لأنهما الأهم في هذا المقام المسوق للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحاصلة من قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ

١٨٩

عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١٠٤] والاهتمام الذي هو سبب التقديم يختلف باختلاف مقامات الكلام ولا ينظر فيه إلى ما في نفس الأمر لأنّ إيمانهم ثابت محقّق من قبل.

وإنّما ذكر الإيمان بالله في عداد الأحوال التي استحقوا بها التفضيل على الأمم ، لأنّ لكلّ من تلك الأحوال الموجبة للأفضلية أثرا في التّفضيل على بعض الفرق ، فالإيمان قصد به التفضيل على المشركين الذين كانوا يفتخرون بأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته وقد ردّ الله ذلك صريحا في قوله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) [التوبة : ١٩] وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قصد به التفضيل على أهل الكتاب ، الذين أضاعوا ذلك بينهم ، وقد قال تعالى فيهم (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) [المائدة : ٧٩].

فإن قلت إذا كان وجه التفضيل على الأمم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، فقد شاركنا في هذه الفضيلة بعض الجماعات من صالحي الأمم الذين قبلنا ، لأنّهم آمنوا بالله على حسب شرائعهم ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، لتعذّر أن يترك الأمم بالمعروف لأنّ الغيرة على الدين أمر مرتكز في نفوس الصادقين من أتباعه. قلت : لم يثبت أن صالحي الأمم كانوا يلتزمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إمّا لأنه لم يكن واجبا عليهم ، أو لأنّهم كانوا يتوسّعون في حل التقية ، وهذا هارون في زمن موسى عبدت بنو إسرائيل العجل بمرأى منه ومسمع فلم يغيّر عليهم ، وقد حكى الله محاورة موسى معه بقوله (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي* قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [طه : ٩٢ ـ ٩٤] وأما قوله تعالى (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٣ ، ١١٤] الآية فتلك فئة قليلة من أهل الكتاب هم الذين دخلوا في الإسلام مثل عبد الله بن سلام ، وقد كانوا فئة قليلة بين قومهم فلم يكونوا جمهرة الأمّة.

وقد شاع عند العلماء الاستدلال بهذه الآية على حجّية الإجماع وعصمته من الخطأ بناء على أن التعريف في المعروف والمنكر للاستغراق ، فإذا أجمعت الأمّة على حكم ، لم يجز أن يكون ما أجمعوا عليه منكرا ، وتعيّن أن يكون معروفا ، لأنّ الطائفة المأمورة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في ضمنهم ، ولا يجوز سكوتها منكر يقع ، ولا عن معروف يترك ، وهذا الاستدلال إن كان على حجية الإجماع بمعنى الشرع المتواتر المعلوم من

١٩٠

الدين بالضرورة فهو استدلال صحيح لأن المعروف والمنكر في هذا النوع بديهي ضروري ، وإن كان استدلالا على حجية الإجماعات المنعقدة عن اجتهاد ، وهو الذي يقصده المستدلون بالآية ، فاستدلالهم بها عليه سفسطائي لأنّ المنكر لا يعتبر منكرا إلّا بعد إثبات حكمه شرعا ، وطريق إثبات حكمه الإجماع ، فلو أجمعوا على منكر عند الله خطأ منهم لما كان منكرا حتّى ينهي عنه طائفة منهم لأنّ اجتهادهم هو غاية وسعهم.

(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ).

عطف على قوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) لأن ذلك التفضيل قد غمر أهل الكتاب من اليهود وغيرهم فنبّههم هذا العطف إلى إمكان تحصيلهم على هذا الفضل ، مع ما فيه من التعريض بهم بأنّهم متردّدون في اتباع الإسلام ، فقد كان مخيريق متردّدا زمانا ثمّ أسلم ، وكذلك وفد نجران تردّدوا في أمر الإسلام.

وأهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى ، لكن المقصود الأول هنا هم اليهود ، لأنّهم كانوا مختلطين بالمسلمين في المدينة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاهم إلى الإسلام ، وقصد بيت مدراسهم ، ولأنهم قد أسلم منهم نفر قليل وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم».

ولم يذكر متعلق (آمن) هنا لأنّ المراد لو اتّصفوا بالإيمان الذي هو لقب لدين الإسلام وهو الذي منه أطلقت صلة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة ، وهذا كقولهم أسلم ، وصبأ ، وأشرك ، وألحد ، دون ذكر متعلّقات لهاته الأفعال لأن المراد أنّه اتّصف بهذه الصّفات التي صارت أعلاما على أديان معروفة ، فالفعل نزّل منزلة اللازم ، وأظهر منه : تهوّد ، وتنصّر ، وتزندق ، وتحنّف ، والقرينة على هذا المعنى ظاهرة وهي جعل إيمان أهل الكتاب في شرط الامتناع ، مع أنّ إيمانهم بالله معروف لا ينكره أحد. ووقع في «الكشاف» أنّ المراد : لو آمنوا الإيمان الكامل ، وهو تكلّف ظاهر ، وليس المقام مقامه. وأجمل وجه كون الإيمان خيرا لهم لتذهب نفوسهم كلّ مذهب في الرجاء والإشفاق. ولمّا أخبر عن أهل الكتاب بامتناع الإيمان منهم بمقتضى جعل إيمانهم في حيز شرط (لو) الامتناعية ، تعيّن أن المراد من بقي بوصف أهل الكتاب ، وهو وصف لا يبقى وصفهم به بعد أن يتديّنوا بالإسلام ، وكان قد يتوهّم أن وصف أهل الكتاب يشمل من كان قبل ذلك منهم ولو دخل في الإسلام ، وجيء بالاحتراس بقوله : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) أي منهم من آمن بالنبيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصدق عليه لقب المؤمن ، مثل عبد الله بن

١٩١

سلام ، وكان اسمه حصينا وهو من بني قينقاع ، وأخيه ، وعصمته خالدة ، وسعية أو سنعة بن غريض بن عاديا التيماوي ، وهو ابن أخي السموأل بن عاديا ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن سعية القرظي ، وأسد بن عبيد القرظي ، ومخيريق من بني النضير أو من بني قينقاع ، ومثل أصمحة النّجاشي ، فإنّه آمن بقلبه وعوّض عن إظهاره إعمال الإسلام نصره للمسلمين ، وحمايته لهم ببلده ، حتّى ظهر دين الله ، فقبل الله منه ذلك ، ولذلك أخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه بأنّه كان مؤمنا وصلى عليه حين أوحي إليه بموته. ويحتمل أن يكون المعنى من أهل الكتاب فريق متّق في دينه ، فهو قريب من الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهؤلاء مثل من بقي متردّدا في الإيمان من دون أن يتعرّض لأذى المسلمين ، مثل النّصارى من نجران ونصارى الحبشة ، ومثل مخيريق اليهودي قبل أن يسلم ، على الخلاف في إسلامه ، فإنّه أوصى بماله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمراد بإيمانهم صدق الإيمان بالله وبدينهم. وفريق منهم فاسق عن دينه ، محرّف له ، مناو لأهل الخير ، كما قال تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) مثل الذين سمّوا الشاة لرسول الله يوم خيبر ، والذين حاولوا أن يرموا عليه صخرة.

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١))

استئناف نشأ عن قوله (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) [آل عمران : ١١٠] لأن الإخبار عن أكثرهم بأنّهم غير مؤمنين يؤذن بمعاداتهم للمؤمنين ، وذلك من شأنه أن يوقع في نفوس المسلمين خشية من بأسهم ، وهذا يختصّ باليهود ، فإنّهم كانوا منتشرين حيال المدينة في خيبر ، والنضير ، وقينقاع ، وقريظة ، وكانوا أهل مكر ، وقوة ، ومال ، عدّة ، والمسلمون يومئذ في قلّة فطمأن الله المسلمين بأنّهم لا يخشون بأس أهل الكتاب ، ولا يخشون ضرّهم ، لكن أذاهم.

أمّا النّصارى فلا ملابسة بينهم وبين المسلمين حتّى يخشوهم. والأذى هو الألم الخفيف وهو لا يبلغ حد الضرّ الّذي هو الألم ، وقد قيل : هو الضرّ بالقول ، فيكون كقول إسحاق بن خلف :

أخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ

وكنت أبقى عليها من أذى الكلم

ومعنى (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) يفرّون منهزمين.

١٩٢

وقوله (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) احتراس أي يولوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرّفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة ، أو متأمّلين في الأمر. وفي العدول عن جعله معطوفا على جملة الجواب إلى جعله معطوفا على جملتي الشرط وجزائه معا ، إشارة إلى أنّ هذا ديدنهم وهجيراهم. لو قاتلوكم ، وكذلك في قتالهم غيركم.

وثمّ لترتيب الإخبار دالّة على تراخي الرتبة. ومعنى تراخي الرتبة كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام. وهو غير التّراخي المجازي ، لأن التّراخي المجازي أن يشبّه ما ليس بمتأخّر عن المعطوف بالمتأخّر عنه.

وهذا كلّه وعيد لهم بأنهم سيقاتلون المسلمين ، وأنّهم ينهزمون ، وإغراء للمسلمين بقتالهم.

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ).

يعود ضمير (عليهم) إلى (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) [آل عمران : ١١٠] وهو خاص باليهود لا محالة ، وهو كالبيان لقوله (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ).

والجملة بيانيّة لذكر حال شديد من شقائهم في الدنيا.

ومعنى ضرب الذلّة اتّصالها بهم وإحاطتها ، ففيه استعارة مكنية وتبعية شبّهت الذلّة ، وهي أمر معقول ، بقية أو خيمة شملتهم وشبّه اتّصالها وثباتها بضرب القبة وشدّ أطنابها ، وقد تقدّم نظيره في البقرة.

و (ثُقِفُوا) في الأصل أخذوا في الحرب (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) [الأنفال : ٥٧] وهذه المادة تدلّ على تمكّن من أخذ الشيء ، وتصرّف فيه بشدّة ، ومنها سمي الأسر ثقافا ، والثقاف آلة كالكلّوب تكسر به أنابيب قنا الرّماح. قال النابغة :

عضّ الثّقاف على صمّ الأنابيب

والمعنى هنا : أينما عثر عليهم ، أو أينما وجدوا ، أي هم لا يوجدون إلا محكومين ،

١٩٣

شبّه حال ملاقاتهم في غير الحرب بحال أخذ الأسير لشدّة ذلّهم.

وقوله (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) الحبل مستعار للعهد ، وتقدّم ما يتعلق بذلك عند قوله تعالى (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) في سورة البقرة [٢٥٦] وعهد الله ذمّته ، وعهد النّاس حلفهم ، ونصرهم ، والاستثناء من عموم الأحوال وهي أحوال دلّت عليها الباء التي للمصاحبة. والتّقدير : ضربت عليهم الذلّة متلبّسين بكلّ حال إلّا متلبّسين بعهد من الله وعهد من النّاس ، فالتّقدير : فذهبوا بذلّة إلّا بحبل من الله.

والمعنى لا يسلمون من الذلّة إلّا إذا تلبّسوا بعهد من الله ، أي ذمّة الإسلام ، أو إذا استنصروا بقبائل أولى بأس شديد ، وأمّا هم في أنفسهم فلا نصر لهم. وهذا من دلائل النّبوّة فإنّ اليهود كانوا أعزّة بيشرب وخيبر والنضير وقريظة ، فأصبحوا أذلّة ، وعمّتهم المذلّة في سائر أقطار الدنيا.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجعوا وهو مجاز لمعنى صاروا إذ لا رجوع هنا.

والمسكنة الفقر الشّديد مشتقة من اسم المسكين وهو الفقير ، ولعلّ اشتقاقه من السكون وهو سكون خيالي أطلق على قلّة الحيلة في العيش. والمراد بضرب المسكنة عليهم تقديرها لهم وهذا إخبار بمغيّب لأن اليهود المخبر عنهم قد أصابهم الفقر حين أخذت منازلهم في خيبر والنّضير وقينقاع وقريظة ، ثمّ بإجلائهم بعد ذلك في زمن عمر.

(مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

الإشارة إلى ضرب الذلّة المأخوذ من (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ). ومعنى (يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ) تقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) [آل عمران : ٢١] أوائل هذه السورة.

وقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) يحتمل أن يكون إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حقّ ، فالباء سبب السبب ، ويحتمل أن يكون إشارة ثانية إلى ضرب الذلّة والمسكنة فيكون سببا ثانيا. (وما) مصدرية أي بسبب عصيانهم واعتدائهم ، وهذا نشر على ترتيب اللفّ فكفرهم بالآيات سببه العصيان ، وقتلهم الأنبياء سببه الاعتداء.

[١١٣ ، ١١٤] (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ

١٩٤

اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤))

استئناف قصد به إنصاف طائفة من أهل الكتاب ، بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمّهم ، تأكيدا لما أفاده قوله (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ)[آل عمران : ١١٠] فالضمير في قوله (لَيْسُوا) لأهل الكتاب المتحدّث عنهم آنفا ، وهم اليهود ، وهذه الجملة تتنزّل من التي بعدها منزلة التمهيد.

و (سواء) اسم بمعنى المماثل وأصله مصدر مشتق من التسوية.

وجملة (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) إلخ ... مبيّنة لإبهام (لَيْسُوا سَواءً) والإظهار في مقام الإضمار للاهتمام بهؤلاء الأمة ، فالأمّة هنا بمعنى الفريق.

وإطلاق أهل الكتاب عليهم مجاز باعتبار ما كان كقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٢] لأنهم صاروا من المسلمين.

وعدل عن أن يقال : منهم أمّة قائمة إلى قوله من أهل الكتاب : ليكون ذا الثناء شاملا لصالحي اليهود ، وصالحي النّصارى ، فلا يختصّ بصالحي اليهود ، فإن صالحي اليهود قبل بعثة عيسى كانوا متمسّكين بدينهم ، مستقيمين عليه ، ومنهم الّذين آمنوا بعيسى واتّبعوه ، وكذلك صالحو النّصارى قبل بعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا مستقيمين على شريعة عيسى وكثير منهم أهل تهجّد في الأديرة والصّوامع وقد صاروا مسلمين بعد البعثة المحمدية.

والأمّة : الطائفة والجماعة.

ومعنى قائمة أنه تمثيل للعمل بدينها على الوجه الحقّ ، كما يقال : سوق قائمة وشريعة قائمة.

والآناء أصله أأناء بهمزتين بوزن أفعال ، وهو جمع إنى ـ بكسر الهمزة وفتح النّون مقصورا ـ ويقال أنى ـ بفتح الهمزة ـ قال تعالى : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ)[الأحزاب : ٥٣] أي منتظرين وقته.

وجملة (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) حال ، أيّ يتهجّدون في اللّيل بتلاوة كتابهم ، فقيّدت تلاوتهم الكتاب بحالة سجودهم. وهذا الأسلوب أبلغ وأبين من أن يقال : يتهجّدون لأنّه يدلّ على صورة فعلهم.

١٩٥

ومعنى (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يسارعون إليها أي يرغبون في الاستكثار منها. والمسارعة مستعارة للاستكثار من الفعل ، والمبادرة إليه ، تشبيها للاستكثار والاعتناء بالسير السريع لبلوغ المطلوب. وفي للظرفية المجازية ، وهي تخييلية تؤذن بتشبيه الخيرات بطريق يسير فيه السائرون ، ولهؤلاء مزيّة السرعة في قطعه. ولك أن تجعل مجموع المركّب من قوله (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) تمثيلا لحال مبادرتهم وحرصهم على فعل الخيرات بحال السائر الراغب في البلوغ إلى قصده يسرع في سيره. وسيأتي نظيره عند قوله تعالى (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) في سورة العقود [١٧٦].

والإشارة بأولئك إلى الأمّة القائمة الموصوفة بتلك الأوصاف. وموقع اسم الإشارة التنبيه على أنّهم استحقوا الوصف المذكور بعد اسم الإشارة بسبب ما سبق اسم الإشارة من الأوصاف.

(وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥))

تذييل للجمل المفتتحة بقوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) [آل عمران : ١١٣] إلى قوله (مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران : ١١٤] وقرأ الجمهور : تفعلوا ـ بالفوقية ـ فهو وعد للحاضرين ، ويعلم منه أنّ الصّالحين السّابقين مثلهم ، بقرينة مقام الامتنان ، ووقوعه عقب ذكرهم ، فكأنّه قيل : وما تفعلوا من خير ويفعلوا. ويجوز أن يكون التفاتا لخطاب أهل الكتاب. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف ـ بياء الغيبة ـ عائدا إلى أمّة قائمة.

والكفر : ضد الشكر أي هو إنكار وصول النّعمة الواصلة. قال عنترة :

نبئت عمرا غير شاكر نعمتي

والكفر مخبثة لنفس المنعم

وقال تعالى (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) وأصل الشكر والكفر أيتعديا إلى واحد ، ويكون مفعولهما النّعمة كما في البيت. وقد يجعل مفعولهما المنعم على التوسّع في حذف حرف الجرّ ، لأن الأصل شكرت له وكفرت له. قال النابغة :

شكرت لك النعمي

وقد جمع بين الاستعمالين قوله تعالى (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)[البقرة : ١٥٢] وقد عدّي تكفرون هنا إلى مفعولين : أحدهما نائب الفاعل ، لأن الفعل ضمّن معنى الحرمان. والضّمير المنصوب عائد إلى خير بتأويل خير بجزاء فعل الخير على طريقة الاستخدام وأطلق الكفر هنا على ترك جزاء فعل الخير ، تشبيها لفعل الخير بالنّعمة. كأنّ

١٩٦

فاعل الخير أنعم على الله تعالى بنعمته مثل قوله (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [التغابن : ١٧] فحذف المشبّه ورمز إليه بما ه من لوازم العرفية. وهو الكفر ، على أنّ في القرينة استعارة مصرّحة مثل (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) [البقرة : ٢٧]. وقد امتنّ الله علينا إذ جعل طاعتنا إيّاه كنعمة عليه تعالى ، وجعل ثوابها شكرا ، وترك ثوابها كفرا فنفاه. وسمّى نفسه الشكور.

وقد عدّي الكفر أن هنا إلى النعمة على أصل تعديته.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦))

استئناف ابتدائي للانتقال إلى ذكر وعيد المشركين بمناسبة ذكر وعد الذين آمنوا من أهل الكتاب.

وإنّما عطف الأولاد هنا لأن الغناء في متعارف النّاس يكون بالمال والولد ، فالمال يدفع به المرء عن نفسه في فداء أو نحوه ، والولد يدافعون عن أبيهم بالنصر ، وقد تقدّم القول في مثله في طالعة هذه السورة.

وكرّر حرف النّفي مع المعطوف في قوله (وَلا أَوْلادُهُمْ) لتأكيد عدم غناء أولادهم عنهم لدفع توهّم ما هو متعارف من أن الأولاد لا يقعدون عن الذبّ عن آبائهم.

ويتعلق (مِنَ اللهِ) بفعل (لَنْ تُغْنِيَ) على معنى (من) الابتدائية أي غناء يصدر من جانب الله بالعفو عن كفرهم.

وانتصب (شيئا) على المفعول المطلق لفعل (لَنْ تُغْنِيَ) أي شيئا من غناء. وتنكير شيئا للتقليل.

وجملة (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) عطف على جملة (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ). وجيء بالجملة معطوفة ، على خلاف الغالب في أمثالها أن يكون بدون عطف ، لقصد أن تكون الجملة منصبّا عليها التّأكيد بحرف (إنّ) فيكمل لها من أدلّة تحقيق مضمونها خمسة أدلة هي : التّكيد ب (إِنَ) ، وموقع اسم الإشارة ، والإخبار عنهم بأنّهم أصحاب النّار ، وضمير الفصل ، ووصف خالدون.

(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ

١٩٧

قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧))

استئناف بياني لأن قوله : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ ...) إلخ يثير سؤال سائل عن إنفاقهم الأموال في الخير من إغاثة الملهوف وإعطاء الديات في الصلح عن القتلى.

ضرب لأعمالهم المتعلّقة بالأموال مثلا ، فشبّه هيئة إنفاقهم المعجب ظاهرها ، المخيّب آخرها ، حين يحبطها الكفر ، بهيئة زرع أصابته ريح باردة فأهلكته ، تشبيه المعقول بالمحسوس. ولمّا كان التّشبيه تمثيليا لم يتوخ فيه موالاة ما شبّه به إنفاقهم لأداة التّمثيل ، فقيل : كمثل ريح ، ولم يقل : كمثل حرث قوم.

والكلام على الريح تقدّم عند قوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) في سورة البقرة [١٦٤].

والصّر : البرد الشّديد المميت لكلّ زرع أو ورق يهبّ عليه فيتركه كالمحترق ، ولم يعرف في كلام العرب إطلاق الصرّ على الرّيح الشّديد البرد وإنّما الصرّ اسم البرد. وأمّا الصرصر فهو الريح الشديدة وقد تكون باردة. ومعنى الآية غني عن التأويل ، وجوز في «الكشاف» أن يكون الصرّ هنا اسما للريح الباردة وجعله مرادف الصرصر. وقد أقره الكاتبون عليه ولم يذكر هذا الإطلاق في الأساس ولا ذكره الراغب.

وفي قوله (فِيها صِرٌّ) إفادة شدّة برد هذه الريح ، حتّى كأنّ جنس الصر مظروف فيها ، وهي تحمله إلى الحرث.

والحرث هنا مصدر بمعنى المفعول : أي محروث قوم أي أرضا محروثة والمراد أصابت زرع حرث. وتقدّم الكلام على معاني الحرث عند قوله تعالى (وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) [آل عمران : ١٤] في أول السورة.

وقوله (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إدماج في خلال التمثيل يكسب التمثيل تفظيعا وتشويها وليس جزءا من الهيئة المشبّه بها. وقد يذكر البلغاء مع المشبّه به صفات لا يقصدون منها غير التحسين أو التقبيح كقول كعب بن زهير :

شجّت بذي شبم من ماء محنية

صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

تنفي الرّياح القذى عنه وأفرطه

من صوب سارية بيض يعاليل

فأجرى على الماء الذي هو جزء المشبّه به صفات لا أثر لها في التشبيه.

١٩٨

والسامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدّة ، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة ، وجيء بقوله (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) غير معطوف على ما قبله لأنّه كالبيان لقوله (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ).

وقوله (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الضمائر فيه عائدة على الذين كفروا. والمعنى أنّ الله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم بل هم تسبّبوا في ذلك ، إذ لم يؤمنوا لأن الإيمان جعله الله شرطا في قبول الأعمال ، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم لم يكن عقابه بعد ذلك ظلما لهم ، وفيه إيذان بأنّ الله لا يخالف وعده من نفي الظلم عن نفسه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨))

الآن إذ كشف الله دخائل من حول المسلمين من أهل الكتاب ، أتمّ كشف ، جاء موقع التحذير من فريق منهم ، والتحذير من الاغترار بهم ، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة ، وهؤلاء هم المنافقون ، للإخبار عنهم بقوله : (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) [آل عمران : ١١٩] إلخ ... وأكثرهم من اليهود ، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج. وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والإقناعات. وحقّه الاستئناف الابتدائي كما هنا.

والبطانة ـ بكسر الباء ـ في الأصل داخل الثّوب ، وجمعها بطائن ، وفي القرآن (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤] وظاهر الثوب يسمّى الظهارة ـ بكسر الظاء ـ. والبطانة أيضا الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر ، ويسمّى الشعار ، وما فوقه الدثار ، وفي الحديث : «الأنصار شعار والنّاس دثار» ثمّ أطلقت الثّياب في شدة القرب من صاحبها.

ومعنى اتخاذهم بطانة أنهم كانوا يحالفونهم ويؤدّونهم من قبل الإسلام فلمّا أسلم من أسلم من الأنصار بقيت المودة بينهم وبين من كانوا أحلافهم من اليهود ، ثمّ كان من اليهود من أظهروا الإسلام ، ومنهم من بقي على دينه.

وقوله : (مِنْ دُونِكُمْ) يجوز أن تكون (من) فيه زائدة و (دون) اسم مكان بمعنى حولكم ، وهو الاحتمال الأظهر كقوله تعالى في نظيره (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا

١٩٩

رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) [التوبة : ١٦] ويجوز أن تكون (من) للتبعيض و (دون) بمعنى غير كقوله تعالى (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الفتح : ٢٧] من غير أهل ملّتكم ، وقد علم السامعون أنّ المنهي عن اتّخاذهم بطانة هم الذين كانوا يموّهون على المؤمنين بأنّهم منهم ، ودخائلهم تقتضي التّحذير من استبطانهم.

وجملة : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) صفة لبطانة على الوجه الأول ، وهذا الوصف ليس من الأوصاف الظاهرة التي تفيد تخصيص النكرة عمّا شاركها ، لكنّه يظهر بظهور آثاره للمتوسّمين. فنهى الله المسلمين عن اتّخاذ بطانة هذا شأنها وسمتها ، ووكلهم إلى توسّم الأحوال والأعمال ، ويكون قوله (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) وقوله (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ) جملتين في محلّ الوصف أيضا على طريقة ترك عطف الصفات ، ويومئ إلى ذلك قوله : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي : قد بيّنا لكم علامات عداوتهم بتلك الصفات إن كنتم تعقلون فتتوسّمون تلك الصّفات ، كما قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) وعلى الاحتمال الثاني يجعل (مِنْ دُونِكُمْ) وصفا ، وتكون الجمل بعده مستأنفات واقعة موقع التعليل للنّهي عن اتّخاذ بطانة من غير أهل ملّتنا ، وهذ الخلال ثابتة لهم فهي صالحة للتوصيف ، ولتعليل النّهي ، ذلك لأنّ العداوة النّاشئة عن اختلاف الدين عداوة متأصّلة لا سيما عداوة قوم يرون هذا الدّين قد أبطل دينهم ، وأزال حظوظهم. كما سنبينه.

ومعنى (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) لا يقصّرون في حبالكم ، والألو التقصير والترك ، وفعله ألا يألو ، وقد يتوسّعون في هذا الفعل فيعدّى إلى مفعولين ، لأنّهم ضمّنوه معنى المنع فيما يرغب فيه المفعول ، فقالوا لا آلوك جهدا ، كما قالوا لا أدّخرك نصحا ، فالظاهر أنّه شاع ذلك الاستعمال حتّى صار التضمين منسيا ، فلذلك تعدّى إلى ما يدلّ على الشرّ كما يعدّى إلى ما يدلّ على الخير ، فقال هنا : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي لا يقصّرون في خبالكم ، وليس المراد لا يمنعونكم ، لأن الخبال لا يرغب فيه ولا يسأل.

ويحتمل أنّه استعمل في هذه الآية على سبيل التهكّم بالبطانة ، لأنّ شأن البطانة أن يسعوا إلى ما فيه خير من استبطنهم ، فلمّا كان هؤلاء بضدّ ذلك عبّر عن سعيهم بالضرّ ، بالفعل الذي من شأنه أن يستعمل في السعي بالخير.

والخبال اختلال الأمر وفساده ، ومنه سمّي فساد العقل خبالا ، وفساد الأعضاء.

وقوله (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) الود : المحبّة ، والعنت : التعب الشّديد ، أي رغبوا فيما يعنتكم و (ما) هنا مصدرية ، غير زمانية ، ففعل (عَنِتُّمْ) لمّا صار بمعنى المصدر زالت

٢٠٠