تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

في طائفة من أصحابه حتى أتى مدراس اليهود فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلخ. ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول فلذلك صار درس الكتاب مجازا في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) على (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ).

وفعله من باب نصر ، ومصدره في غالب معانيه الدرس ، ومصدر درس بمعنى قرأ يجيء على الأصل درسا ومنه سمي تعليم العلم درسا.

ويجيء على وزن الفعالة دراسة وهي زنة تدل على معالجة الفعل ، مثل الكتابة والقراءة ، إلحاقا لذلك بمصادر الصناعات كالتجارة والخياطة.

وفي قوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ) التفات من الغيبة إلى الخطاب.

وقرأ الجمهور «يأمركم» بالرفع على ابتداء الكلام ، وهذا الأصل فيما إذا أعيد حرف النفي ، فإنه لما وقع بعد فعل منفي ، ثم انتقض نفيه بلكن ، احتيج إلى إعادة حرف النفي ، والمعنى على هذه القراءة واضح : أي ما كان لبشر أن يقول للناس كونوا إلخ ولا هو يأمرهم أن يتخذوا الملائكة أربابا. وقرأه ابن عامر ، وحمزة ويعقوب ، وخلف : بالنصب عطفا على أن يقول ولا زائدة لتأكيد النفي الذي في قوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ) ، وليست معمولة لأن : لاقتضاء ذلك أن يصير المعنى : لا ينبغي لبشر أوتي الكتاب ألّا يأمركم أن تتخذوا ، والمقصود عكس هذا المعنى ، إذ المقصود أنه لا ينبغي له أن يأمر ، فلذلك اضطرّ في تخريج هذه القراءة إلى جعل لا زائدة لتأكيد النفي وليست لنفي جديد. وقرأه الدّوري عن أبي عمرو باختلاس الضمة إلى السكون.

ولعلّ المقصود من قوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) : أنهم لما بالغوا في تعظيم بعض الأنبياء والملائكة ، فصوّروا صور النبيئين ، مثل يحيى ومريم ، وعبدوهما ، وصوّروا صور الملائكة ، واقتران التصوير مع الغلوّ في تعظيم الصورة والتعبد عندها ضرب من الوثنية.

قال ابن عرفة : «إن قيل نفي الأمر أعم من النهي فهلا قيل وينهاكم. والجواب أنّ ذلك باعتبار دعواهم وتقوّلهم على الرسل». وأقول : لعلّ التعبير بلا يأمركم مشاكلة لقوله : (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ) لأنهم زعموا أنّ المسيح قال : إنه ابن الله فلما نفي أنه يقول ذلك نفي ما هو مثله وهو أن يأمرهم باتخاذ الملائكة أربابا ، أو لأنهم لما كانوا يدّعون التمسك بالدين كان سائر أحوالهم محمولة على أنهم تلقوها منه ، أو لأنّ المسيح لم ينههم عن

١٤١

ذلك في نفس الأمر ، إذ هذا مما لا يخطر بالبال أن تتلبس به أمة متدينة فاقتصر ، في الردّ على الأمة ، على أنّ أنبياءهم لم يأمروهم به ولذلك عقب بالاستفهام الإنكاري ، وبالظرف المفيد مزيد الإنكار على ارتكابهم هذه الحالة ، وهي قوله : (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

فهناك سببان لإنكار أن يكون ما هم عليه مرضيا أنبياءهم ؛ فإنه كفر ، وهم لا يرضون بالكفر. فما كان من حقّ من يتبعونهم التلبّس بالكفر بعد أن خرجوا منه.

والخطاب في قوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ) التفات من طريقة الغيبة في قوله : (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) فالمواجه بالخطاب هم الذين زعموا أنّ عيسى قال لهم : كونوا عبادا لي من دون الله.

فمعنى (أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يقتضي أنّهم كانوا مسلمين والخطاب للنصارى وليس دينهم يطلق عليه أنه إسلام. فقيل : أريد بالإسلام الإيمان أي غير مشركين بقرينة قوله (بِالْكُفْرِ).

وقيل الخطاب للمسلمين بناء على ظاهر قوله : (إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) لأنّ اليهود والنصارى لم يوصفوا بأنهم مسلمون في القرآن ، فهذا الذي جرّأ من قالوا : إنّ الآية نزلت لقول رجل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا نسجد لك» ، ولا أراه ـ لو كان صحيحا ـ أن تكون الآية قاصدة إياه ؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل : ثم يأمر الناس بالسجود إليه ، ولما عرّج على الأمر بأن يكونوا عبادا له من دون الله ولا بأن يتّخذوا الملائكة والنبيين أربابا.

[٨١ ، ٨٢] (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢))

عطف (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) على (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ) [آل عمران : ٨٠] أي ما أمركم الأنبياء بشيء مما تقوّلتم عليهم وقد أمروكم بغير ذلك فأضعتموه حين أخذ الله ميثاقهم ليبلّغوه إليكم ، فالمعطوف هو ظرف (إذ) وما تعلق به.

ويجوز أن يتعلق (إذ) بقوله : (أَأَقْرَرْتُمْ) مقدما عليه. ويصح أن تجعل (إذ) بمعنى

١٤٢

زمان غير ظرف والتقدير : واذكر إذ أخذ الله ميثاق النبيين ، فالمقصود الحكاية عن ذلك الزمان وما معه فيكون (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ) معطوفا بحذف العاطف. كما هو الشأن في جمل المحاورة وكذلك قوله : (قالُوا أَقْرَرْنا).

ويصح أن تكون جملة (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ) وما بعدها بيانا لجملة (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) باعتبار ما يقتضيه فعل أخذ الله ميثاق النبيين : من أنّ النبيين أعطوا ميثاقا لله فقال : أأقررتم قالوا : أقررنا إلخ. ويكون قوله : (لَما آتَيْتُكُمْ ـ إلى قوله ـ (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) هو صيغة الميثاق.

وهذا الميثاق أخذه الله على جميع الأنبياء ، يؤذنهم فيه بأنّ رسولا يجيء مصدّقا لما معهم ، ويأمرهم بالإيمان به وبنصره ، والمقصود من ذلك إعلام أممهم بذلك ليكون هذا الميثاق محفوظا لدى سائر الأجيال ، بدليل قوله : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) إلخ إذ لا يجوز على الأنبياء التولّي والفسق ولكنّ المقصود أممهم كقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). وبدليل قوله قال : (فَاشْهَدُوا) أي على أممكم. وإلى هذا يرجع ما ورد في القرآن من دعوة إبراهيم عليه‌السلام : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] ، وقد جاء في سفر التثنية قول موسى عليه‌السلام : «قال لي الربّ أقيم لهم نبيئا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكلّ ما أوصيه به». وإخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل ، ولو كان المراد نبيئا إسرائيليا لقال أقيم لهم نبيئا منهم على ما في ترجمة التوراة من غموض ولعلّ النص الأصلي أصرح من هذا المترجم.

والبشارات في كتب أنبياء بني إسرائيل وفي الأناجيل كثيرة ففي متى قول المسيح «وتقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين ولكنّ الذي يصبر ـ أي يبقى أخيرا ـ إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز (١) ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى» وفي إنجيل يوحنا قول المسيح «وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزّيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد ـ وأما المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلته لكم ـ ومتى جاء المعزّي روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي» إلى غير ذلك.

وفي أخذ العهد على الأنبياء زيادة تنويه برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا المعنى هو ظاهر

__________________

(١) وقعت كلمة يكرز في ترجمة إنجيل متّى ، ولعل معناها ويحسن تبليغ الدين.

١٤٣

الآية ، وبه فسر محققو المفسرين من السلف والخلف منهم علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وطاوس ، والسدي.

ومن العلماء من استبعد أن يكون أخذ العهد على الأنبياء حقيقة نظرا إلى قوله : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (توهموه متعينا لأن يكون المراد بمن تولّى من النبيين المخاطبين ، وستعلم أنه ليس كذلك) فتأوّلوا الآية بأنّ المراد أخذ العهد على أممهم ، وسلكوا مسالك مختلفة من التأويل فمنهم من جعل إضافة الميثاق للنبيين إضافة تشبه إضافة المصدر إلى فاعله أي أخذ الله على الأمم ميثاق أنبيائهم منهم. ومنهم من قدّر حذف المضاف أي أمم النبيئين أو أولاد النبيئين وإليه مال قول مجاهد والربيع ، واحتجوا بقراءة أبي ، وابن مسعود ، هذه الآية : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيناكم من كتاب ، ولم يقرأ ميثاق النبيئين ، وزاد مجاهد فقال : إن قراءة أبي هي القرآن ، وإنّ لفظ النبيئين غلط من الكتّاب ، وردّه ابن عطية وغيره بإجماع الصحابة والأمة على مصحف عثمان.

وقوله : لما آتيناكم قرأ الجمهور «لما» بفتح اللام وتخفيف الميم فاللام موطئة للقسم ، لأنّ أخذ الميثاق في معنى اليمين وما موصوله مبتدأ وآتيناكم صلته وحذف العائد المنصوب جرى على الغالب في مثله ومن كتاب بيان للموصول وصلته ، وعطف (ثُمَّ جاءَكُمْ) على آتيناكم أي الذي آتيناكموه وجاءكم بعده رسول. ولتؤمننّ اللام فيه لام جواب القسم والجواب سدّ مسد خبر المبتدأ كما هو المعروف وضمير به عائد على المذكور أي لتؤمننّ بما آتيناكم وبالرسول ، أو هو عائد على الرسول وحذف ما يعود على ما آتيناكم لظهوره.

وقرأه حمزة : بكسر لام لما فتكون اللام للتعليل متعلق بقوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) أي شكرا على ما آتيتكم وعلى أن بعثت إليكم رسولا مصدّقا لما كنتم عليه من الدين ولا يضرّ عمل ما بعد لام القسم فيما قبلها فأخذ الميثاق عليهم مطلقا ثم علّل جواب القسم بأنه من شكر نعمة الإيتاء والتصديق ، ولا يصح من جهة المعنى تعليق (لَما آتَيْتُكُمْ) بفعل القسم المحذوف ، لأنّ الشكر علة للجواب ، لا لأخذ العهد.

ولام (لَتُؤْمِنُنَ) لام جواب القسم ، على الوجه الأول ، وموطئة للقسم على الوجه الثاني.

١٤٤

وقرأ نافع ، وأبو جعفر : آتينكم ـ بنون العظمة ـ وقرأه الباقون (آتَيْتُكُمْ) بتاء المتكلم.

وجملة قال : (أَأَقْرَرْتُمْ) بدل اشتمال من جملة (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ).

والإقرار هنا مستعمل في معنى التحقيق بالوفاء مما أخذ من الميثاق.

والإصر : بكسر الهمزة ، العهد المؤكد الموثق واشتقاقه من الإصار بكسر الهمزة وهو ما يعقد ويسدّ به ، وقد تقدم الكلام على حقيقته ومجازه في قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) في سورة البقرة [٢٨٦].

وقوله : (فَاشْهَدُوا) إن كان شهادة على أنفسهم فهي بمعنى التوثق والتحقيق وكذلك قوله : (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) كقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] وإن كانت شهادة على أممهم بتبليغ ذلك الميثاق فالمعنى فاشهدوا على أممكم بذلك ، والله شاهد على الجميع كما شهد النبيئون على الأمم.

وقوله : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) أي من تولّى ممن شهدتم عليهم ، وهم الأمم ، ولذلك لم يقل فمن تولّى بعد ذلك منكم كما قال في الآية التي خوطب فيها بنو إسرائيل في سورة المائدة [١٢] : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

ووجه الحصر في قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أنه للمبالغة لأنّ فسقهم في هذه الحالة أشد فسق فجعل غيره من الفسق كالعدم.

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣))

تفريع عن التذكير بما كان عليه الأنبياء.

والاستفهام للتوبيخ والتحذير.

وقرأه الجمهور تبغون بتاء الخطاب فهو خطاب لأهل الكتاب جار على طريقة الخطاب في قوله آنفا : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ) [آل عمران : ٨٠] وقرأه أبو عمرو ، وحفص ، ويعقوب : بياء الغيبة فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إعراضا عن مخاطبتهم إلى مخاطبة المسلمين بالتعجيب من أهل الكتاب. وكله تفريع ذكر أحوال خلف أولئك الأمم كيف اتبعوا غير ما أخذ عليهم العهد به. والاستفهام حينئذ للتعجيب.

١٤٥

ودين الله هو الإسلام لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وإضافته إلى الله لتشريفه على غيره من الأديان ، أو لأنّ غيره يومئذ قد نسخ بما هو دين الله.

ومعنى تبغون وتطلبون يقال بغى الأمر يبغيه بغاء ـ بضم الباء وبالمد ، ويقصر ـ والبغية بضم الباء وكسرها وهاء في آخره قيل مصدر ، وقيل اسم ، ويقال ابتغى بمعنى بغى ، وهو موضوع للطلب ويتعدّى إلى مفعول واحد. وقياس مصدره البغي ، لكنه لم يسمع البغي إلّا في معنى الاعتداء والجور ، وذلك فعله قاصر ، ولعلهم أرادوا التفرقة بين الطلب وبين الاعتداء ، فأماتوا المصدر القياسي لبغى بمعنى طلب وخصّوه ببغى بمعنى اعتدى وظلم : قال تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الشورى : ٤٢] ويقال تبغّى بمعنى ابتغى.

وجملة (وَلَهُ أَسْلَمَ)» حال من اسم الجلالة وتقدم تفسير معنى الإسلام لله عند قوله تعالى : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [آل عمران : ٢٠].

ومعنى (طَوْعاً وَكَرْهاً) أنّ من العقلاء من أسلم عن اختيار لظهور الحق له ، ومنهم من أسلم بالجبلّة والفطرة كالملائكة ، أو الإسلام كرها هو الإسلام بعد الامتناع أي أكرهته الأدلة والآيات أو هو إسلام الكافرين عند الموت ورؤية سوء العاقبة ، أو هو الإكراه على الإسلام قبل نزول آية لا إكراه في الدين.

والكره ـ بفتح الكاف ـ هو الإكراه ، والكره ـ بضم الكاف ـ المكروه.

ومعنى وإليه ترجعون أنه يرجعكم إليه ففعل رجع المتعدّي أسند إلى المجهول. لظهور فاعله ، أي يرجعكم الله بعد الموت ، وعند القيامة ، ومناسبة ذكر هذا ، عقب التوبيخ والتحذير ، أنّ الربّ الذي لا مفر من حكمه لا يجوز للعاقل أن يعدل عن دين أمره به ، وحقه أن يسلم إليه نفسه مختارا قبل أن يسلمها اضطرارا.

وقد دل قوله : وإليه ترجعون على المراد من قوله : (وَكَرْهاً).

وقرأ الجمهور : وإليه ترجعون ـ بتاء الخطاب ـ ، وقرأه حفص بياء الغيبة.

(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ

١٤٦

وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤))

المخاطب بفعل قل هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليقول ذلك بمسمع من الناس : مسلمهم ، وكافرهم ، ولذلك جاء في هذه الآية قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي أنزل عليّ لتبليغكم فجعل إنزاله على الرسول والأمة لاشتراكهم في وجوب العمل بما أنزل ، وعدّى فعل (أنزل) هنا بحرف (على) باعتبار أنّ الإنزال يقتضي علوّا فوصول الشيء المنزل وصول استعلاء وعدّي في آية سورة البقرة بحرف (إلى) باعتبار أنّ الإنزال يتضمن الوصول وهو يتعدّى بحرف (إلى). والجملة اعتراض. واستئناف : لتلقين النبي عليه‌السلام والمسلمين كلاما جامعا لمعنى الإسلام ليدوموا عليه ، ويعلن به للأمم ، نشأ عن قوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) [آل عمران : ٨٣].

ومعنى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أننا لا نعادي الأنبياء ، ولا يحملنا حبّ نبيئنا على كراهتهم ، وهذا تعريض باليهود والنصارى ، وحذف المعطوف وتقديره لا نفرق بين أحد وآخر ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة. وهذه الآية شعار الإسلام وقد قال الله تعالى : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) [آل عمران : ١١٩].

وهنا انتهت المجادلة مع نصارى نجران.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥))

عطف على جملة (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) وما بينهما اعتراض ، كما علمت ، وهذا تأييس لأهل الكتاب من النجاة في الآخرة ، وردّ لقولهم : نحن على ملة إبراهيم ، فنحن ناجون على كلّ حال. والمعنى من يبتغ غير الإسلام بعد مجيء الإسلام. وقرأه الجميع بإظهار حرفي الغين من كلمة (مَنْ يَبْتَغِ) وكلمة (غَيْرَ) وروى السوسي عن أبي عمرو إدغام إحداهما في الأخرى وهو الإدغام الكبير.

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦))

استئناف ابتدائي يناسب ما سبقه من التنويه بشرف الإسلام.

(وكيف) استفهام إنكاري والمقصود إنكار أن تحصل لهم هداية خاصة وهي إما

١٤٧

الهداية الناشئة عن عناية الله بالعبد ولطفه به ، وإسنادها إلى الله ظاهر ؛ وإما الهداية الناشئة عن إعمال الأدلة والاستنتاج منها ، وإسنادها إلى الله لأنّه موجد الأسباب ومسبّباتها. ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملا في الاستبعاد ، فإنهم آمنوا وعلموا ما في كتب الله ، ثمّ كفروا بعد ذلك بأنبيائهم ، إذ عبد اليهود الأصنام غير مرة ، وعبد النصارى المسيح ، وقد شهدوا أنّ محمدا صادق لقيام دلائل الصدق ، ثم كابروا ، وشككوا الناس. وجاءتهم الآيات فلم يتعظوا ، فلا مطمع في هديهم بعد هذه الأحوال ، وإنما تسري الهداية لمن أنصف وتهيّأ لإدراك الآيات دون القوم الذين ظلموا أنفسهم. وقيل نزلت في اليهود خاصّة. وقيل نزلت في جماعة من العرب أسلموا ثم كفروا ولحقوا بقريش ثم ندموا فراسلوا قومهم من المسلمين يسألونهم هل من توبة فنزلت ، ومنهم الحارث بن سويد ، وأبو عامر الراهب ، وطعيمة بن أبيرق.

وقوله : (وَشَهِدُوا) عطف على (إِيمانِهِمْ) أي وشهادتهم ، لأنّ الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق يحسن عطفه على الفعل وعطف الفعل عليه.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩))

الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم عليهم. وتقدم معنى (لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ ـ إلى قوله ـ أَجْمَعِينَ) في سورة البقرة [١٦١]. وتقدم أيضا معنى (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) في سورة البقرة [١٦٠] ، ومعنى (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الكناية عن المغفرة لهم. قيل نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري من بني عمرو بن عوف الذي ارتدّ ولحق بقريش وقيل بنصارى الشام ، ثم كتب إلى قومه ليسألهم هل من توبة ، فسألوا رسول الله فنزلت هذه الآية فأسلم ورجع إلى المدينة وقوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) علة لكلام محذوف تقديره الله يغفر لهم لأنه غفور رحيم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠))

قال قتادة ، وعطاء ، والحسن : نزلت هذه الآية في اليهود ، وعليه فالموصول بمعنى لام العهد ، فاليهود بعد أن آمنوا بموسى كفروا بعيسى وازدادوا كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٤٨

وقيل أريد به اليهود والنصارى : فاليهود كما علمت ، والنصارى آمنوا بعيسى ثم كفروا فعبدوه وألهوه ثم ازدادوا كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتأويل (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) إما أنه كناية عن أنهم لا يتوبون فتقبل توبتهم كقوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) [البقرة : ٤٨] أي لا شفاعة لها فتقبل وهذا كقول امرئ القيس.

على لاحب لا يهتدى بمناره

أي لا منار له ، إذ قد علم من الأدلة أنّ التوبة مقبولة ودليله الحصر المقصود به المبالغة في قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ). وإمّا أنّ الله نهى نبيه عن الاغترار بما يظهرونه من الإسلام نفاقا ، فالمراد بعدم القبول عدم تصديقهم في إيمانهم ، وإما الإخبار بأنّ الكفر قد رسخ في قلوبهم فصار لهم سجية لا يحولون عنها ، فإذا أظهروا التوبة فهم كاذبون ، فيكون عدم القبول بمعنى عدم الاطمئنان لهم ، وأسرارهم موكولة إلى الله تعالى. وقد أسلم بعض اليهود قبل نزول الآية : مثل عبد الله بن سلام ، فلا إشكال فيه ، وأسلم بعضهم بعد نزول الآية.

وقيل المراد الذين ارتدّوا من المسلمين وماتوا على الكفر ، فالمراد بالازدياد الاستمرار وعدم الإقلاع. والقول في معنى لن تقبل توبتهم كما تقدم. وعليه يكون قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا) توكيدا لفظيا بالمرادف ، وليبنى عليه التفريع بقوله : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) وأياما كان فتأويل الآية متعين : لأنّ ظاهرها تعارضه الأدلة القاطعة على أنّ إسلام الكافر مقبول ، ولو تكرّر منه الكفر ، وأنّ توبة العصاة مقبولة ، ولو وقع نقضها على أصح الأقوال وسيجيء مثل هذه الآية في سورة النساء [١٣٧] وهو قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))

استئناف لبيان حال الكافرين الذين ماتوا على كفرهم ، نشأ عن حكم فريق من الكفار تكرّر منهم الكفر حتى رسخ فيهم وصار لهم ديدنا. وإن كان المراد في الآية السابقة من الذين ازدادوا كفرا الذين ماتوا على الكفر ، كانت هذه الآية كالتوكيد اللفظي للأولى

١٤٩

أعيدت ليبنى عليها قوله : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً). وأيا ما كان فالمراد بالموصول هنا العموم مثل المعرّف بلام الاستغراق.

والفاء في قوله : (فَلَنْ يُقْبَلَ) مؤذنة بمعاملة الموصول معاملة اسم الشرط ليدل على أنّ الصلة هي علة عدم قبول التوبة ، ولذلك لم يقترن خبر الموصول بالفاء في الجملة التي قبلها : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) [آل عمران : ٩٠] لأنّهم إذا فعلوا ذلك ولم يموتوا كافرين قبلت توبتهم ، بخلاف الذين يموتون على الكفر فسبب عدم قبول التوبة منهم مصرّح به ، وعليه فجملة فلن يقبل من أحدهم إلى آخرها في موضع خبر (إن) وجملة (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن الإخبار بأنه لن يقبل من أحدهم فدية ويجوز أن تكون جملة (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ) إلى آخرها معترضة بين اسم (إنّ) وخبرها مقترنة بالفاء كالتي في قوله تعالى : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) [الأنفال : ١٤] وتكون جملة (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) خبر (إنّ).

ومعنى (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) لن يقبل منهم بشيء يفتدون به في الآخرة لظهور أن ليس المراد نفي قبول الافتداء في الدنيا ؛ ضرورة أنهم وصفوا بأنهم ماتوا وهم كفار. والملء ـ بكسر الميم ـ ما يملأ وعاء ، وملء الأرض في كلامهم كناية عن الكثرة المتعذّرة ، لأنّ الأرض لا يملؤها شيء من الموجودات المقدّرة ، وهذا كقولهم عدد رمال الدهناء ، وعدد الحصى ، وميز هذا المقدار بذهبا لعزة الذهب وتنافس الناس في اقتنائه وقبول حاجة من بذله قال الحريري :

وقارنت نجح المساعي خطرته

وقوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) جملة في موقع الحال ، والواو واو الحال ، أي لا يقبل منهم ولو في حال فرض الافتداء به ، وحرف (لو) للشرط وحذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، ومثل هذا الاستعمال شائع في كلام العرب ، ولكثرته قال كثير من النحاة : إنّ لو وإن الشرطيتين في مثله مجرّدتان عن معنى الشرط لا يقصد بهما إلّا المبالغة ، ولقبوهما بالوصليتين : أي أنّهما لمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد. وتردّدوا أيضا في إعراب الجملة الواقعة هذا الموقع ، وفي الواو المقترنة بها ، والمحققون على أنّها واو الحال وإليه مال الزمخشري ، وابن جنّي ، والمرزوقي. ومن النحاة من جعل الواو عاطفة على شرط محذوف هو ضدّ الشرط المذكور : كقوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النساء : ١٣٥]. ومن النحاة من جعل الواو للاستئناف ، ذكره الرضي رادّا

١٥٠

عليه ، وليس حقيقا بالردّ : فإنّ للاستئناف البياني موقعا مع هذه الواو.

هذا وإنّ مواقع هذه الواو تؤذن بأنّ الشرط الذي بعدها شرط مفروض هو غاية ما يتوقّع معه انتفاء الحكم الذي قبلها ، فيذكره المتكلم لقصد تحقق الحكم في سائر الأحوال كقول عمرو بن معد يكرب :

ليس الجمال بمئزر

فاعلم وإن ردّيت بردا

ولذلك جرت عادة النحاة أن يقدّروا قبلها شرطا هو نقيض الشرط الذي بعدها فيقولون في مثل قوله : وإن ردّيت بردا ـ إن لم تردّ بردا بل وإن ردّيت بردا ـ وكذا قول النابغة :

سأكعم كلبي أن يريبك نبحه

ولو كنت أرعى مسحلان فحامرا

ولأجل ذلك ، ورد إشكال على هذه الآية : لأنّ ما بعد (وَلَوِ) فيها هو عين ما قبلها ، إذ الافتداء هو عين بذل ملء الأرض ذهبا ، فلا يستقيم تقدير إن لم يفتد به بل ولو افتدى به ، ولذلك احتاج المفسرون إلى تأويلات في هذه الآية : فقال الزجّاج المعنى لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ينفقه في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة ، أي لا يفديهم شيء من العذاب ، وهذا الوجه بعيد ، إذ لا يقدر أنّ في الآخرة افتداء حتى يبالغ عليه ، وقال قوم : الواو زائدة ، وقال في «الكشاف» : هو محمول على المعنى كأنه قيل : فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى ملء الأرض ذهبا ، يريد أنّ كلمة بملء الأرض في قوة كلمة فدية واختصر بعد ذلك بالضمير ، قال ويجوز أن يقدر كلمة (مثل) قبل الضمير المجرور : أي ولو افتدى بمثله أي ولو زاد ضعفه كقوله : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) [الزمر : ٤٧].

وعندي أنّ موقع هذا الشرط في الآية جار على استعمال غفل أهل العربية عن ذكره وهو أن يقع الشرط استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ، محقّق أو مقدّر ، يتوهمه المتكلم من المخاطب فيريد تقريره ، فلا يقتضي أنّ شرطها هو غاية للحكم المذكور قبله ، بل قد يكون كذلك ، وقد يكون السؤال مجرّد استغراب من الحكم فيقع بإعادة ما تضمنه الحكم تثبيتا على المتكلم على حدّ قولهم : «أدر ما تقول» فيجيب المتكلم بإعادة السؤال تقريرا له وإيذانا بأنه تكلم عن بينة ، نعم إنّ الغالب أن يكون السؤال عن الغاية وذلك كقول رؤبة ، وهو من شواهد هذا :

١٥١

قالت بنات العمّ يا سلمى وإن

كان فقيرا معدما قالت وإن

وقد يحذف السؤال ويبقى الجواب كقول كعب بن زهير :

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم

أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل

وقد يذكر السؤال ولا يذكر الجواب كقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) [الزمر : ٤٣] فلو ذكر الجواب من قبل المشركين لأجابوا بتقرير ذلك.

فقوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) جواب سؤال متعجّب من الحكم وهو قوله : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ) فكأنه قال ولو افتدى به فأجيب بتقرير ذلك على حدّ بيت كعب. فمفاد هذا الشرط حينئذ مجرّد التأكيد.

ويجوز أن يكون الشرط عطفا على محذوف دلّ عليه افتدى : أي لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا يجعله رهينة. ولو بذله فدية ، لأنّ من عادة العرب أن المطلوب بحق قد يعطي فيه رهنا إلى أن يقع الصلح أو العفو ، وكذلك في الديون ، وكانوا إذا تعاهدوا على صلح أعطت القبائل رهائن منهم كما قال الحارث :

واذكروا حلف ذي المجاز وما قدّ

م فيه العهود والكفلاء

ووقع في حديث أبي رافع اليهودي أنّ محمد بن مسلمة قال لأبي رافع : «نرهنك السلاح واللأمة».

وجملة (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فذلكة للمراد من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) [آل عمران : ٩٠] الآيتين.

وقوله : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) تكميل لنفي أحوال الغناء عنهم وذلك أنّ المأخوذ بشيء قد يعطي فدية من مال ، وقد يكفله من يوثق بكفالتهم ، أو يشفع له من هو مسموع الكلمة ، وكلّ من الكفيل والشفيع ناصر.

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))

استئناف وقع معترضا بين جملة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) [آل عمران : ٩١] الآية ، وبين جملة (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [آل عمران : ٩٣].

١٥٢

وافتتاح الكلام ببيان بعض وسائل البرّ إيذان بأنّ شرائع الإسلام تدور على محور البرّ ، وأنّ البرّ معنى نفساني عظيم لا يخرم حقيقته إلّا ما يفضى إلى نقض أصل من أصول الاستقامة النّفسانيّة. فالمقصود من هذه الآية أمران : أوّلهما التّحريض على الإنفاق والتّنويه بأنّه من البرّ ، وثانيهما التنويه بالبرّ الّذي الإنفاق خصلة من خصاله.

ومناسبة موقع هذه الآية تلو سابقتها أنّ الآية السّابقة لمّا بينت أنّ الّذين كفروا لن يقبل من أحدهم أعظم ما ينفقه ، بيّنت هذه الآية ما ينفع أهل الإيمان من بذل المال ، وأنّه يبلغ بصاحبه إلى مرتبة البرّ ، فبين الطرفين مراتب كثيرة قد علمها الفطناء من هذه المقابلة. والخطاب للمؤمنين لأنّهم المقصود من كلّ خطاب لم يتقدّم قبله ما يعيّن المقصود منه.

والبرّ كمال الخير وشموله في نوعه : إذ الخير قد يعظم بالكيفية ، وبالكميّة ، وبهما معا ، فبذل النّفس في نصر الدّين يعظم بالكيفية في ملاقاة العدوّ الكثير بالعدد القليل ، وكذلك إنقاذ الغريق في حالة هول البحر ، ولا يتصوّر في مثل ذلك تعدّد ، وإطعام الجائع يعظم بالتعدّد ، والإنفاق يعظم بالأمرين جميعا ، والجزاء على فعل الخير إذا بلغ كمال الجزاء وشموله كان برّا أيضا.

وروى النّوّاس بن سمعان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «البرّ حسن الخلق والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس» رواه مسلم.

ومقابلة البرّ بالإثم تدلّ على أنّ البرّ ضدّ الإثم. وتقدّم عند قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [البقرة : ١٧٧].

وقد جعل الإنفاق من نفس المال المحبّ غاية لانتفاء نوال البرّ ، ومقتضى الغاية أنّ نوال البرّ لا يحصل بدونها ، وهو مشعر بأنّ قبل الإنفاق مسافات معنوية في الطريق الموصلة إلى البرّ ، وتلك هي خصال البرّ كلّها بقيت غير مسلوكة ، وأنّ البرّ لا يحصل إلّا بنهايتها وهو الإنفاق من المحبوب ، فظهر ل (حتّى) هنا موقع من البلاغة لا يخلفها فيه غيرها : لأنّه لو قيل إلّا أن تنفقوا ممّا تحبّون ، لتوهّم السامع أنّ الإنفاق من المحبّ وحده يوجب نوال البرّ ، وفاتت الدلالة على المسافات والدرجات الّتي أشعرت بها (حتّى) الغائية.

و (تنالوا) مشتقّ من النوال وهو التّحصيل على الشيء المعطي.

والتّعريف في البرّ تعريف الجنس : لأنّ هذا الجنس مركّب من أفعال كثيرة منها

١٥٣

الإنفاق المخصوص ، فبدونه لا تتحقّق هذه الحقيقة.

والإنفاق : إعطاء المال والقوت والكسوة.

وما صدق (ما) في قوله : (مِمَّا تُحِبُّونَ) المال : أي المال النّفيس العزيز على النّفس ، وسوّغ هذا الإبهام هنا وجود تنفقوا إذ الإنفاق لا يطلق على غير بذل المال ف (من) للتبعيض لا غير ، ومن جوّز أن تكون (من) للتبيين فقد سها لأنّ التبيينية لا بدّ أن تسبق بلفظ مبهم.

والمال المحبوب يختلف باختلاف أحوال المتصدّقين ، ورغباتهم ، وسعة ثرواتهم ، والإنفاق منه أي التّصدق دليل على سخاء لوجه الله تعالى ، وفي ذلك تزكية للنّفس من بقية ما فيها من الشحّ ، قال تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر : ٩] وفي ذلك صلاح عظيم للأمّة إذ تجود أغنياؤها على فقرائها بما تطمح إليه نفوسهم من نفائس الأموال فتشتدّ بذلك أواصر الأخوّة ، ويهنأ عيش الجميع.

روى مالك في «الموطأ» ، عن أنس بن مالك ، قال : كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا ، وكان أحبّ أمواله بئر حاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب ، فلما نزل قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) جاء أبو طلحة ، فقال : «يا رسول الله إنّ الله قال : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، وإنّ أحبّ أموالي بئر حاء وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبخ (١) ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ، فقال : أفعل يا رسول الله. فجعلها لحسّان بن ثابت ، وأبيّ بن كعب.

وقد بيّن الله خصال البرّ في قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) في سورة البقرة [١٧٧].

__________________

(١) في رواية يحيى بن يحيى عن مالك فبخ بفاء قبل الباء الموحدة ووقع في رواية عبد الله بن يوسف عن مالك في «صحيح البخاري» بخ بدون الفاء.

١٥٤

فالبرّ هو الوفاء بما جاء به الإسلام ممّا يعرض للمرء في أفعاله ، وقد جمع الله بينه وبين التّقوى في قوله : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [المائدة : ٢] فقابل البرّ بالإثم كما في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث النّواس بن سمعان المتقدّم آنفا.

وقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) تذييل قصد به تعميم أنواع الإنفاق ، وتبيين أنّ الله لا يخفى عليه شيء من مقاصد المنفقين ، وقد يكون الشيء القليل نفيسا بحسب حال صاحبه كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) [التوبة : ٧٩].

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) مراد به صريحه أي يطّلع على مقدار وقعه ممّا رغّب فيه ، ومراد به الكناية عن الجزاء عليه.

[٩٣ ـ ٩٥] (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))

هذا يرتبط بالآي السّابقة في قوله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) [آل عمران : ٦٧] وما بينهما اعتراضات وانتقالات في فنون الخطاب.

وهذه حجّة جزئية بعد الحجج الأصليّة على أنّ دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء ، فإنّ الحنيفية لم يكن ما حرّم من الطّعام بنصّ التّوراة محرّما فيها ، ولذلك كان بنو إسرائيل قبل التّوراة على شريعة إبراهيم ، فلم يكن محرّما عليهم ما حرّم من الطعام إلّا طعاما حرّمه يعقوب على نفسه. والحجّة ظاهرة ويدلّ لهذا الارتباط قوله في آخرها : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [آل عمران : ٩٥].

ويحتمل أنّ اليهود ـ مع ذلك ـ طعنوا في الإسلام ، وأنّه لم يكن على شريعة إبراهيم ، إذ أباح للمسلمين أكل المحرّمات على اليهود ، جهلا منهم بتاريخ تشريعهم ، أو تضليلا من أحبارهم لعامّتهم ، تنفيرا عن الإسلام ، لأن الأمم في سذاجتهم إنّما يتعلّقون بالمألوفات ، فيعدّونها كالحقائق ، ويقيمونها ميزانا للقبول والنّقد ، فبيّن لهم أنّ هذا ممّا لا يلتفت إليه عند النّظر في بقيّة الأديان ، وحسبكم أنّ دينا عظيما وهو دين إبراهيم ، وزمرة من الأنبياء من بنيه وحفدته ، لم يكونوا يحرّمون ذلك.

١٥٥

وتعريف (الطّعام) تعريف الجنس ، و (كلّ) للتنصيص على العموم.

وقد استدلّ القرآن عليهم بهذا الحكم لأنّه أصرح ما في التّوراة دلالة على وقوع النسخ فإنّ التوراة ذكرت في سفر التكوين ما يدلّ على أنّ يعقوب حرّم على نفسه أكل عرق النّسا الّذي على الفخذ ، وقد قيل : إنّه حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها ، فقيل : إنّ ذلك على وجه النذر ، وقيل : إنّ الأطبّاء نهوه عن أكل ما فيه عرق النّسا لأنّه كان مبتلى بوجع نساه ، وفي الحديث أنّ يعقوب كان في البدو فلم تستقم عافيته بأكل اللّحم الّذي فيه النّسا. وما حرّمه يعقوب على نفسه من الطعام : ظاهر الآية أنّه لم يكن ذلك بوحي من الله إليه ، بل من تلقاء نفسه ، فبعضه أراد به تقربا إلى الله بحرمان نفسه من بعض الطيّبات المشتهاة ، وهذا من جهاد النّفس ، وهو من مقامات الزّاهدين ، وكان تحريم ذلك على نفسه بالنذر أو بالعزم. وليس في ذلك دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء في التشريع لأنّ هذا من تصرّفه في نفسه فيما أبيح له ، ولم يدع إليه غيره ، ولعلّ أبناء يعقوب تأسّوا بأبيهم فيما حرّمه على نفسه فاستمرّ ذلك فيهم.

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) تصريح بمحلّ الحجّة من الردّ إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى ، وقال العصام : يتعلّق قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) بقوله : (حِلًّا) لئلّا يلزم خلوّه عن الفائدة ، وهو غير مجد لأنّه لمّا تأخّر عن الاستثناء من قوله (حِلًّا) وتبيّن من الاستثناء أنّ الكلام على زمن يعقوب ، صار ذكر القيد لغوا لو لا تنزيلهم منزلة الجاهل ، وقصد إعلان التّسجيل بخطئهم والتعريض بغباوتهم.

وقوله : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في زعمكم أنّ الأمر ليس كما قلناه أو إن كنتم صادقين في جميع ما تقدّم : من قولكم إنّ إبراهيم كان على دين اليهودية ، وهو أمر للتعجيز ، إذ قد علم أنّهم لا يأتون بها إذا استدلّوا على الصّدق.

والفاء في قوله : (فَأْتُوا) فاء التفريع.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة التفريع الّذي قبله عليه. والتّقدير : إن كنتم صادقين فأتوا بالتّوراة.

وقوله : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) نهاية لتسجيل كذبهم أي من استمرّ على الكذب على الله ، أي فمن افترى منكم بعد أن جعلنا

١٥٦

التّوراة فيصلا بيننا ، إذ لم يبق لهم ما يستطيعون أن يدّعوه شبهة لهم في الاختلاق ، وجعل الافتراء على الله لتعلّقه بدين الله. والفاء للتفريع على الأمر.

والافتراء : الكذب ، وهو مرادف الاختلاق. والافتراء مأخوذ من الفري ، وهو قطع الجلد قطعا ليصلح به مثل أن يحذى النعل ويصنع النطع أو القربة. وافترى افتعال من فرى لعلّه لإفادة المبالغة في الفري ، يقال : افترى الجلد كأنّه اشتدّ في تقطيعه أو قطعه تقطيع إفساد ، وهو أكثر إطلاق افترى. فأطلقوا على الإخبار عن شيء بأنّه وقع ولم يقع اسم الافتراء بمعنى الكذب ، كأنّ أصله كناية عن الكذب وتلميح ، وشاع ذلك حتّى صار مرادفا للكذب ، ونظيره إطلاق اسم الاختلاق على الكذب ، فالافتراء مرادف للكذب ، وإردافه بقوله هنا : «الكذب» تأكيد للافتراء ، وتكرّرت نظائر هذا الإرداف في آيات كثيرة.

فانتصب «الكذب» على المفعول المطلق الموكّد لفعله. واللام في الكذب لتعريف الجنس فهو كقوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٨].

والكذب : الخبر المخالف لما هو حاصل في نفس الأمر من غير نظر إلى كون الخبر موافقا لاعتقاد المخبر أو هو على خلاف ما يعتقده ، ولكنّه إذا اجتمع في الخبر المخالفة للواقع والمخالفة لاعتقاد المخبر كان ذلك مذموما ومسبّة ؛ وإن كان معتقدا وقوعه لشبهة أو سوء تأمّل فهو مذموم ولكنّه لا يحقّر المخبر به ، والأكثر في كلام العرب أن يعنى بالكذب ما هو مذموم.

ثمّ أعلن أن المتعيّن في جانبه الصّدق هو خبر الله تعالى للجزم بأنهم لا يأتون بالتوراة ، وهذا كقوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة : ٩٥] وبعد أن فرغ من إعلان كذبهم بالحجّة القاطعة قال : (قُلْ صَدَقَ اللهُ) وهو تعريض بكذبهم لأنّ صدق أحد الخبرين المتنافيين يستلزم كذب الآخر ، فهو مستعمل في معناه الأصلي والكنائي.

والتّفريع في قوله : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) تفريع على (صَدَقَ اللهُ) لأنّ اتّباع الصادق فيما أمر به منجاة من الخطر.

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

١٥٧

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً).

هذا الكلام واقع موقع التّعليل للأمر في قوله : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [آل عمران : ٩٥] لأنّ هذا البيت المنوّه بشأنه كان مقاما لإبراهيم ففضائل هذا البيت تحقّق فضيلة شرع بانيه في متعارف النّاس ، فهذا الاستدلال خطابي ، وهو أيضا إخبار بفضيلة الكعبة ، وحرمتها ـ فيما مضى من الزّمان ـ.

وقد آذن بكون الكلام تعليلا موقع (إنّ) في أوّله فإنّ التأكيد بإنّ هنا لمجرّد الاهتمام وليس لردّ إنكار منكر ، أو شكّ شاكّ.

ومن خصائص (إنّ) إذا وردت في الكلام لمجرّد الاهتمام ، أن تغني غناء فاء التفريع وتفيد التّعليل والربط ، كما في دلائل الإعجاز.

ولما في هذه من إفادة الربط استغني عن العطف لكون (إنّ) مؤذنة بالربط. وبيان وجه التعليل أن هذا البيت لمّا كان أوّل بيت وضع للهدى وإعلان توحيد الله ليكون علما مشهودا بالحسّ على معنى الوحدانية ونفي الإشراك ، فقد كان جامعا لدلائل الحنيفية ، فإذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممرّ العصور ، دون غيره من الهياكل الدينية الّتي نشأت بعده ، وهو مائل ، كان ذلك دلالة إلهية على أنّه بمحلّ العناية من الله تعالى ، فدلّ على أنّ الدّين الّذي قارن إقامته هو الدّين المراد لله ، وهذا يؤول إلى معنى قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩].

وهذا التّعليل خطابي جار على طريقة اللّزوم العرفي.

وقال الواحدي ، عن مجاهد : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنّه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدّسة وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله هذه الآية.

و (أَوَّلَ) اسم للسابق في فعل ما فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدّث عنه.

والبيت بناء يأوي واحدا أو جماعة ، فيكون بيت سكنى ، وبيت صلاة ، وبيت ندوة ، ويكون مبنيا من حجر أو من أثواب نسيج شعر أو صوف ، ويكون من أدم فيسمّى قبّة قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) [النحل : ٨١].

١٥٨

ومعنى (وُضِعَ) أسّس وأثبت ، ومنه سمّي المكان موضعا. وأصل الوضع أنّه الحطّ ضدّ الرفع ، ولمّا كان الشيء المرفوع بعيدا عن التناول ، كان الموضوع هو قريب التناول ، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول ، والتّهيئة للانتفاع.

و (النّاس) تقدّم في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) في سورة البقرة [٨].

وبكة اسم مكّة. وهو لغة ـ بإبدال الميم باء ـ في كلمات كثيرة عدّت من المترادف : مثل لازب في لازم ، وأربد وأرمد أي في لون الرماد ، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك : أنّ بكة بالباء اسم موضع البيت ، وأنّ مكّة بالميم اسم بقية الموضع ، فتكون باء الجرّ ـ هنا ـ لظرفية مكان البيت خاصّة. لا لسائر البلد الّذي فيه البيت ، والظاهر عندي أنّ بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علما على المكان الّذي عيّنه لسكنى ولده بنيّة أن يكون بلدا ، فيكون أصله من اللغة الكلدانية ، لغة إبراهيم ، ألا ترى أنّهم سمّوا مدينة (بعلبك) أي بلد بعل وهو معبود الكلدانيين ، ومن إعجاز القرآن اختيار هذا اللّفظ عند ذكر كونه أوّل بيت ، فلاحظ أيضا الاسم الأوّل ، ويؤيّد ذلك قوله : (رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) [النمل : ٩١] وقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥]. وقد قيل : إنّ بكّة مشتقّ من البكّ وهو الازدحام ، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم.

وعدل عن تعريف البيت باسمه العلم بالغلبة ، وهو الكعبة ، إلى تعريفه بالموصولية بأنّه (الّذي ببكة) : لأنّ هذه الصّلة صارت أشهر في تعيّنه عند السامعين ، إذ ليس في مكّة يومئذ بيت للعبادة غيره ، بخلاف اسم الكعبة : فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الّذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقّبوه الكعبة اليمانية.

والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها. وظاهر الآية أنّ الكعبة أوّل البيوت المبنيّة في الأرض ، فتمسّك بهذا الظّاهر مجاهد ، وقتادة ، والسّدي ، وجماعة ، فقالوا : هي أوّل بناء ، وقالوا : إنّها كانت مبنيّة من عهد آدم ـ عليه‌السلام ـ ثمّ درست ، فجددها إبراهيم ، قال ابن عطية : ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها ، وقد زعموا أنّها كانت تسمّى الضراح ـ بوزن غراب ـ ولكنّ المحقّقين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر ، وتأوّلوا الآية. قال عليّ ـ رضي‌الله‌عنه ـ : «كان قبل البيت بيوت كثيرة» ولا شكّ أنّ الكعبة بناها إبراهيم وقد تعدّد في القرآن ذكر ذلك ، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها ، وإذا كان

١٥٩

كذلك فلا يجوز أن يكون أوّل بناء وقع في الأرض كان في عهد إبراهيم ، لأنّ قبل إبراهيم أمما وعصورا كان فيها البناء ، وأشهر ذلك برج بابل ، بني إثر الطوفان ، وما بناه المصريّون قبل عهد إبراهيم ، وما بناه الكلدان في بدل إبراهيم قبل رحلته إلى مصر ، ومن ذلك بيت أصنامهم ، وذلك قبل أن تصير إليه هاجر الّتي أهداها له ملك مصر ، وقد حكى القرآن عنهم (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) [الصافات : ٩٧] فتعيّن تأويل الآية بوجه ظاهر ، وقد سلك العلماء مسالك فيه : وهي راجعة إلى تأويل الأوّل ، أو تأويل البيت ، أو تأويل فعل وضع ، أو تأويل النّاس ، أو تأويل نظم الآية ، والّذي أراه في التأويل أنّ القرآن كتاب دين وهدى ، فليس غرض الكلام فيه ضبط أوائل التّاريخ ، ولكن أوائل أسباب الهدى ، فالأوّلية في الآية على بابها ، والبيت كذلك ، والمعنى أنّه أوّل بيت عبادة حقّة وضع لإعلان التّوحيد ، بقرينة المقام ، وبقرينة قوله : (وُضِعَ لِلنَّاسِ) المقتضى أنّه من وضع واضع لمصلحة النّاس ، لأنّه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه النّاس ، وبقرينة مجيء الحالين بعد ؛ وهما قوله : (مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ). وهذا تأويل في معنى بيت ، وإذا كان أوّل بيت عبادة حقّ ، كان أوّل معهد للهدى ، فكان كلّ هدى مقتسبا منه فلا محيص لكلّ قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله ، وذلك يوجب اتّباع الملّة المبنيّة على أسس ملّة بانيه ، وهذا المفاد من تفريع قوله : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [البقرة : ٩٥]. وتأوّل الآية عليّ بن أبي طالب ، فروى عنه أنّ رجلا سأله : أهو أوّل بيت؟ قال : «لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنّه أوّل بيت وضع للنّاس مباركا وهدى» فجعل مباركا وهدى حالين من الضمير في (وُضِعَ) لا من اسم الموصول ، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلّا على معنى أنّه أوّل بيت من بيوت الهدى كما قلنا ، وليس مراده أنّ قوله : (وُضِعَ) هو الخبر لتعيّن أن الخبر هو قوله : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) بدليل دخول اللّام عليه.

وعن مجاهد قالت اليهود : بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنّها مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون : الكعبة ، فأنزل الله هذه الآية ، وهذا تأويل (أَوَّلَ) بأنّه الأوّل من شيئين لا من جنس البيوت كلّها.

وقيل : أراد بالأول الأشرف مجازا.

وعندي أنّه يجوز أن يكون المراد من النّاس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنّصارى والمسلمين ، وكلّهم يعترف بأصالة دين إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، فأوّل معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنّه أفضل ممّا سواه من بيوت عبادتهم.

١٦٠