تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٦

فالجملة ، على هذا ، معترضة ، والواو اعتراضية ، ومثل هذه الحقائق تلقى في المقامات الّتي يقصد فيها مداواة النّفوس من عاهات ذميمة ، وإلّا فإنّ انتهاء الأجل منوط بعلم الله لا يعلم أحد وقته ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٣٤] ، والمؤمن مأمور بحفظ حياته ، إلّا في سبيل الله ، فتعيّن عليه في وقت الجهاد أن يرجع إلى الحقيقة وهي أنّ الموت بالأجل ، والمراد (بِإِذْنِ اللهِ) تقديره وقت الموت ، ووضعه العلامات الدالة على بلوغ ذلك الوقت المقدّر ، وهو ما عبّر عنه مرّة ب (كن) ، ومرة بقدر مقدور ، ومرّة بالقلم ، ومرّة بالكتاب.

والكتاب في قوله : (كِتاباً مُؤَجَّلاً) يجوز أن يكون اسما بمعنى الشيء المكتوب ، فيكون حالا من الإذن ، أو من الموت ، كقوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد : ٣٨] و «مؤجّلا» حالا ثانية ، ويجوز أن يكون (كِتاباً) مصدر كاتب المستعمل في كتب للمبالغة ، وقوله : (مُؤَجَّلاً) صفة له ، وهو بدل من فعله المحذوف ، والتّقدير : كتب كتابا مؤجّلا أي مؤقتا. وجعله صاحب «الكشاف» مصدرا مؤكّدا أي لمضمون جملة (وَما كانَ لِنَفْسٍ) الآية ، وهو يريد أنّه مع صفته وهي (مُؤَجَّلاً) يؤكّد معنى (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لأنّ قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) يفيد أنّ له وقتا قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا فهو كقوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤] بعد قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] الآية.

(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ).

عطف على الجملة المعترضة.

أي من يرد الدنيا دون الآخرة ، كالّذي يفضّل الحياة على الموت في سبيل الله أو كالّذين استعجلوا للغنيمة فتسبّبوا في الهزيمة ، وليس المراد أنّ من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يحرم من ثواب الآخرة وحظوظها ، فإنّ الأدلّة الشرعية دلّت على أنّ إرادة خير الدنيا مقصد شرعي حسن ، وهل جاءت الشريعة إلّا لإصلاح الدنيا والإعداد لحياة الآخرة الأبدية الكاملة ، قال الله تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٤٨] وقال تعالى : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) أي الغنيمة أو الشّهادة ، وغير هذا من الآيات والأحاديث كثير. وجملة (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) تذييل يعمّ الشاكرين ممّن يريد ثواب الدنيا ومن يريد ثواب الآخرة. ويعمّ الجزاء كلّ بحسبه ، أي يجزي الشاكرين جزاء الدنيا والآخرة أو جزاء الدنيا فقط.

٢٤١

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨))

عطف على قوله : (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ) [آل عمران : ١٤٤] الآية وما بينهما اعتراض ، وهو عطف العبرة على الموعظة فإنّ قوله : (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ) موعظة لمن يهمّ بالانقلاب ، وقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ) عبرة بما سلف من صبر أتباع الرسل والأنبياء عند إصابة أنبيائهم أو قتلهم ، في حرب أو غيره ، لمماثلة الحالين. فالكلام تعريض بتشبيه حال أصحاب أحد بحال أصحاب الأنبياء السالفين لأنّ محلّ المثل ليس هو خصوص الانهزام في الحرب بل ذلك هو الممثل. وأمّا التّشبيه فهو بصير الأتباع عند حلول المصائب أو موت المتبوع.

«وكأيّن» كلمة بمعنى التكثير ، قيل : هي بسيطة موضوعة للتكثير ، وقيل : هي مركّبة من كاف التّشبيه وأي الاستفهامية وهو قول الخليل وسيبويه ، وليست (أيّ) هذه استفهاما حقيقيّا ، ولكنّ المراد منها تذكير المستفهم بالتكثير ، فاستفهامها مجازي ، ونونها في الأصل تنوين ، فلمّا ركّبت وصارت كلمة واحدة جعل تنوينها نونا وبنيت. والأظهر أنّها بسيطة وفيها لغات أربع ، أشهرها في النثر كأيّن بوزن كعيّن (هكذا جرت عادة اللغويين والنحاة إذا وزنوا الكلمات المهموزة أن يعوّضوا عن حرف الهمزة بحرف العين لئلا تلتبس الهمزة بالألف أو الياء الّتي تكتب في صورة إحداهما) ، وأشهرها في الشعر كائن بوزن اسم فاعل كان ، وليست باسم فاعل خلافا للمبرّد ، بل هي مخفّف كأيّن.

ولهم في كيفية تخفيفها توجيهات أصلها قول الخليل لمّا كثر استعمالها تصرّف فيها العرب بالقلب والحذف في بعض الأحوال. قلت : وتفصيله يطول. وأنا أرى أنّهم لمّا راموا التّخفيف جعلوا الهمزة ألفا ، ثمّ التقى ساكنان على غير حدّه ، فحذفوا الياء الساكنة فبقيت الياء المكسورة فشابهت اسم فاعل (كان) فجعلوها همزة كالياء الّتي تقع بعد ألف زائدة ، وأكثر ما وقع في كلام العرب هو كاين لأنّها أخف في النظم وأسعد بأكثر الموازين في أوائل الأبيات وأواسطها بخلاف كائن ، قال الزجاج : اللغتان الجيّدتان كايّن وكائن. وحكى الشّيخ ابن عرفة في تفسيره عن شيخه ابن الحباب قال : أخبرنا شيخنا أحمد بن

٢٤٢

يوسف السلمي الكناني ، قال : قلت لشيخنا ابن عصفور : لم أكثرت في شرحك للإيضاح من الشواهد على كائن؟ فقال : لأنّي دخلت على السلطان الأمير المستنصر (يعني محمد المستنصر ابن أبي زكرياء الحفصي والظاهر أنّه حينئذ وليّ العهد) فوجدت ابن هشام (يعني محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي نزيل تونس ودفينها المتوفّى سنة ٦٤٦) فأخبرني أنّه سأله عمّا يحفظ من الشواهد على قراءة كايّن فلم يستحضر غير بيت الإيضاح :

وكائن بالأباطح من صديق

يراني لو أصبت هو المصابا

قال ابن عصفور : فلمّا سألني أنا قلت : أحفظ فيها خمسين بيتا فلمّا أنشدته نحو عشرة قال : حسبك ، وأعطاني خمسين دينارا ، فخرجت فوجدت ابن هشام جالسا بالباب فأعطيته نصفها.

وقرأ الجمهور (وَكَأَيِّنْ) بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء تحتية مشدّدة بعد الهمزة ، على وزن كلمة (كَصَيِّبٍ) وقرأه ابن كثير (كَأَيِّنْ) بألف بعد الكاف وهمزة مكسورة بعد الألف بوزن كاهن.

والتكثير المستفاد من (كَأَيِّنْ) واقع على تمييزها وهو لفظ (نبيء) فيحتمل أن يكون تكثيرا بمعنى مطلق العدد ، فلا يتجاوز جمع القلّة ، ويحتمل أن يكون تكثيرا في معنى جمع الكثرة ، فمنهم من علمناه ومنهم من لم نعلمه ، كما قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) ، ويحضرني أسماء ستة ممّن قتل من الأنبياء : أرمياء قتلته بنو إسرائيل ، وحزقيال قتلوه أيضا لأنّه وبّخهم على سوء أعمالهم ، وأشعياء قتله منسا بن حزقيال ملك إسرائيل لأنّه وبّخه ووعظه على سوء فعله فنشره بمنشار ، وزكرياء ، ويحيى ، قتلتهما بنو إسرائيل لإيمانهما بالمسيح ، وقتل أهل الرسّ من العرب نبيئهم حنظلة بن صفوان في مدّة عدنان ، والحواريّون اعتقدوا أنّ المسيح قتل ولم يهنوا في إقامة دينه بعده ، وليس مرادا هنا وإنّما العبرة بثبات أتباعه على دينه مع مفارقته لهم إذ العبرة في خلوّ الرسول وبقاء أتباعه ، سواء كان بقتل أو غيره. وليس في هؤلاء رسول إلّا حنظلة بن صفوان ، وليس فيهم أيضا من قتل في جهاد ، قال سعيد بن جبير : ما سمعنا بنبي قتل في القتال.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وأبو بكر عن عاصم : (قتل) بصيغة المبنى للمجهول ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف ، وأبو جعفر : (قاتل) بصيغة المفاعلة فعلى قراءة (قتل) ـ بالبناء للمجهول ـ فمرفوع الفعل هو ضمير نبيء ، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون مرفوع الفعلين ضمير نبيء فيكون قوله : (مَعَهُ رِبِّيُّونَ)

٢٤٣

جملة حاليّة من (نبيء) ويجوز أن يكون مرفوع الفعلين لفظ (ربّيّون) فيكون قوله (معه) حالا من (ربّيّون) مقدّما.

وجاءت هذه الآية على هذا النظم البديع الصالح لحمل الكلام على تثبيت المسلمين في حال الهزيمة وفي حال الإرجاف بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى الوجهين في موقع جملة (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) يختلف حسن الوقف على كلمة (قتل) أو على كلمة (كثير).

و (الرّبيّون) جمع ربيّ وهو المتّبع لشريعة الرّب مثل الربّاني ، والمراد بهم هنا أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء. ويجوز في رائه الفتح ، على القياس ، والكسر ، على أنّه من تغييرات النسب وهو الذي قرئ به في المتواتر.

ومحلّ العبرة هو ثبات الربّانيّين على الدّين مع موت أنبيائهم ودعاتهم.

وقوله : (كَثِيرٌ) صفة (رِبِّيُّونَ) وجيء به على صيغة الإفراد ، مع أنّ الموصوف جمع ، لأنّ لفظ كثير وقليل يعامل موصوفهما معاملة لفظ شيء أو عدد ، قال تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء : ١] وقال : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [البقرة : ١٠٩] وقال : (اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) [الأنفال : ٢٦] وقال : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) [الأنفال : ٤٣].

وقوله : (فَما وَهَنُوا) أي الربّيّون إذ من المعلوم أنّ الأنبياء لا يهنون فالقدوة المقصودة هنا ، هي الاقتداء بأتباع الأنبياء ، أي لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء ، أجدر بالعزم من أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجمع بين الوهن والضّعف ، وهما متقاربان تقاربا قريبا من الترادف ؛ فالوهن قلّة القدرة على العمل ، وعلى النّهوض في الأمر ، وفعله كوعد وورث وكرم. والضّعف ـ بضم الضّاد وفتحها ـ ضدّ القوّة في البدن ، وهما هنا مجازان ، فالأوّل أقرب إلى خور العزيمة ، ودبيب اليأس في النّفوس والفكر ، والثّاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة. وأمّا الاستكانة فهي الخضوع والمذلّة للعدوّ. ومن اللطائف ترتيبها في الذّكر على حسب ترتيبها في الحصول : فإنّه إذا خارت العزيمة فشلت الأعضاء ، وجاء الاستسلام ، فتبعته المذلّة والخضوع للعدوّ.

واعلموا أنّه إذا كان هذا شأن أتباع الأنبياء ، وكانت النّبوءة هديا وتعليما ، فلا بدع أن يكون هذا شأن أهل العلم ، وأتباع الحقّ ، أن لا يوهنهم ، ولا يضعفهم ، ولا

٢٤٤

يخضعهم ، مقاومة مقاوم ، ولا أذى حاسد ، أو جاهل ، وفي الحديث الصّحيح ، في «البخاري» : أن خبّابا قال للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد لقينا من المشركين شدّة ألا تدعو الله» فقعد وهو محمّر وجهه فقال : «لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه» الحديث.

وقوله تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) الآية عطف على (فَما وَهَنُوا) لأنّه لمّا وصفهم برباطة الجأش ، وثبات القلب ، وصفهم بعد ذلك بما يدلّ على الثبات من أقوال اللّسان الّتي تجري عليه عند الاضطراب والجزع ، أي أنّ ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردّد في صدق وعد الله ، ولا بدر منهم تذمّر ، بل علموا أنّ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه ، أو لعلّه كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه ، أو في الوفاء بأمانة التكليف ، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم ، ثمّ سألوه النصر وأسبابه ثانيا فقالوا : (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فلم يصدّهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النّصر ، وفي «الموطأ» ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل يقول : دعوت فلم يستجب لي» فقصر قولهم في تلك الحالة الّتي يندر فيها صدور مثل هذا القول ، على قولهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) إلى آخره ، فصيغة القصر في قوله : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) قصر إضافي لردّ اعتقاد من قد يتوهّم أنّهم قالوا أقوالا تنبئ عن الجزع ، أو الهلع ، أو الشكّ في النّصر ، أو الاستسلام للكفار. وفي هذا القصر تعريض بالّذين جزعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم : لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان.

وقدّم خبر (كان) على اسمها في قوله : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) لأنّه خبر عن مبتدأ محصور ، لأنّ المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) فالقصر حقيقي لأنّه قصر لقولهم الصّادر منهم ، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله ، فذلك القيد ملاحظ من المقام ، نظير القصر في قوله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [النور : ٥١] فهو قصر حقيقي مقيّد بزمان خاص ، تقييدا منطوقا به ، وهذا أحسن من توجيه تقديم الخبر في الآية بأنّ المصدر المنسبك المؤوّل أعرف من المصدر الصّريح لدلالة المؤوّل على النسبة وزمان الحدث ،

٢٤٥

بخلاف إضافة المصدر الصّريح ، وذلك جائز في باب (كان) في غير صيغ القصر ، وأمّا في الحصر فمتعيّن تقديم المحصور.

والمراد من الذنوب جميعها ، وعطف عليه بعض الذنوب وهو المعبّر عنه هنا بالإسراف في الأمر ، والإسراف هو الإفراط وتجاوز الحدّ ، فلعلّه أريد به الكبائر من الذنوب كما نقل عن ابن عبّاس وجماعة ، وعليه فالمراد بقوله : أمرنا ، أي ديننا وتكليفنا ، فيكون عطف خاص للاهتمام بطلب غفرانه ، وتمحّض المعطوف عليه حينئذ لبقية الذنوب وهي الصّغائر. ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسراف في الأمر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال ، والاستعداد له ، أو الحذر من العدوّ ، وهذا الظاهر من كلمة أمر ، بأن يكونوا شكّوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوّهم ناشئا عن سببين : باطن وظاهر ، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب ، والظاهر هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر ، وهذا أولى من الوجه الأول.

وقوله : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) إعلام بتعجيل إجابة دعوتهم لحصول خيري الدنيا والآخرة ، فثواب الدّنيا هو الفتح والغنيمة ، وثواب الآخرة هو ما كتب لهم حينئذ من حسن عاقبة الآخرة ، ولذلك وصفه بقوله : (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) لأنّه خير وأبقى. وتقدّم الكلام على الثّواب عند قوله تعالى ـ في سورة البقرة [١٠٣] ـ لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ).

وجملة (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) تذييل أي يحبّ كلّ محسن ، وموقع التذييل يدلّ على أنّ المتحدّث عنهم هم من الّذين أحسنوا ، فاللام للجنس المفيد معنى الاستغراق ، وهذه من أكبر الأدلّة على أنّ (أل) الجنسية إذا دخلت على جمع أبطلت منه معنى الجمعية ، وأنّ الاستغراق المفاد من (أل) إذا كان مدخولها مفردا وجملة سواء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠))

استئناف ابتدائي للانتقال من التّوبيخ واللوم والعتاب إلى التّحذير ، ليتوسّل منه إلى معاودة التسلية ، على ما حصل من الهزيمة ، وفي ضمن ذلك كلّه ، من الحقائق الحكمية والمواعظ الأخلاقية والعبر التّاريخية ، ما لا يحصيه مريد إحصائه.

والطاعة تطلق على امتثال أمر الآمر وهو معروف ، وعلى الدخول تحت حكم

٢٤٦

الغالب ، فيقال طاعت قبيلة كذا وطوّع الجيش بلاد كذا.

و (الَّذِينَ كَفَرُوا) شائع في اصطلاح القرآن أن يراد به المشركون ، واللفظ صالح بالوضع لكلّ كافر من مشرك وكتابي ، مظهر أو منافق.

والردّ على الأعقاب : الارتداد ، والانقلاب : الرجوع ، وقد تقدّم القول فيهما عند قوله : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤] فالظاهر أنّه أراد من هذا الكلام تحذير المؤمنين من أن يخامرهم خاطر الدخول في صلح المشركين وأمانهم ، لأنّ في ذلك إظهار الضّعف أمامهم ، والحاجة إليهم ، فإذا مالوا إليهم استدرجوهم رويدا رويدا ، بإظهار عدم كراهية دينهم المخالف لهم ، حتّى يردّوهم عن دينهم لأنّهم لن يرضوا عنهم حتّى يرجعوا إلى ملّتهم ، فالردّ على الأعقاب على هذا يحصل بالإخارة والمآل ، وقد وقعت هذه العبرة في طاعة مسلمي الأندلس لطاغية الجلالقة. وعلى هذا الوجه تكون الآية مشيرة إلى تسفيه رأي من قال : «لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان» كما يدلّ عليه قوله : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ).

ويحتمل أن يراد من الطاعة طاعة القول والإشارة ، أي الامتثال ، وذلك قول المنافقين لهم : لو كان محمد نبيئا ما قتل فارجعوا إلى إخوانكم وملّتكم. ومعنى الردّ على الأعقاب في هذا الوجه أنّه يحصل مباشرة في حال طاعتهم إيّاهم.

وقوله : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) إضراب لإبطال ما تضمّنه ما قبله ، فعلى الوجه الأول تظهر المناسبة غاية الظهور ، لأنّ الطاعة على ذلك الوجه هي من قبيل الموالاة والحلف فناسب إبطالها بالتّذكير بأنّ مولى المؤمنين هو الله تعالى ، ولهذا التّذكير موقع عظيم : وهو أن نقض الولاء والحلف أمر عظيم عند العرب ، فإنّ للولاء عندهم شأنا كشأن النسب ، وهذا معنى قرّره الإسلام في خطبة حجّة الوداع أو فتح مكة «من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين» فكيف إذا كان الولاء ولاء سيد الموالي كلّهم.

وعلى الوجه الثّاني في معنى (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) تكون المناسبة باعتبار ما في طاعة المنافقين من موالاتهم وترك ولاء الله تعالى.

وقوله : (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) يقوّي مناسبة الوجه الأول ويزيد إرادته ظهورا. و (خَيْرُ النَّاصِرِينَ) هو أفضل الموصوفين بالوصف ، فيما يراد منه ، وفي موقعه ، وفائدته ،

٢٤٧

فالنصر يقصد منه دفع الغلب عن المغلوب ، فمتى كان الدفع أقطع للغالب كان النصر أفضل ، ويقصد منه دفع الظلم فمتى كان النصر قاطعا لظلم الظالم كان موقعه أفضل ، وفائدته أكمل ، فالنصر لا يخلو من مدحة لأنّ فيه ظهور الشّجاعة وإباء الضيم والنجدة. قال ودّاك بن ثميل المازني :

إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم

لأية حرب أم بأي مكان

ولكنّه إذا كان تأييدا لظالم أو قاطع طريق ، كان فيه دخل ومذمّة ، فإذا كان إظهارا لحقّ المحقّ وإبطال الباطل ، استكمل المحمدة ، ولذلك فسّر النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصر الظالم بما يناسب خلق الإسلام لمّا قال : «انصر أخاك ظالما ومظلوما» فقال بعض القوم : هذا أنصره إذا كان مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ فقال : «أن تنصره على نفسه فتكفّه عن ظلمه».

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١))

رجوع إلى تسلية المؤمنين ، وتطمينهم ، ووعدهم بالنّصر على العدوّ. والإلقاء حقيقته رمي شيء على الأرض (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) [الشعراء : ٤٤] ، أو في الماء (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) [القصص : ٧] ويطلق على الإفضاء بالكلام (يُلْقُونَ السَّمْعَ) [الشعراء : ٢٢٣] وعلى حصول الشيء في النفس كأنّ ملقيا ألقاه أي من غير سبق تهيّؤ (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) [المائدة : ٦٤] وهو هنا مجاز في الجعل والتّكوين كقوله : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) [الأحزاب : ٢٦].

والرعب : الفزع من شدّة خوف ، وفيه لغتان الرعب ـ بسكون العين ـ والرعب ـ بضم العين ـ وقرأه الجمهور ـ بسكون العين ـ وقرأه ابن عامر، والكسائي ـ بضم العين ـ.

والباء في قوله : (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) للعوض وتسمّى باء المقابلة مثل قولهم : هذه بتلك ، وقوله تعالى : (جَزاءً بِما كَسَبا) [المائدة : ٣٨] ، وهذا جزاء دنيوي رتّبه الله تعالى على الإشراك به ، ومن حكمته تعالى أن رتّب على الأمور الخبيثة آثارا خبيثة ، فإنّ الشرك لمّا كان اعتقاد تأثير من لا تأثير له ، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل ، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرب النّفس متحيّرا في العاقبة في تغلّب بعض الآلهة على بعض ، فيكون لكلّ قوم صنم هم أخصّ به ، وهم في تلك الحالة يعتقدون أنّ

٢٤٨

لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة. فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة. كما لا يزال أتباعهم كذلك ، والّذين حالهم كما وصفنا لا يستقرّ لهم قرار في الثّقة بالنّصر في حروبهم ، إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها ، وعليه فقوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) صلة أجريت على المشرك به ليس القصد بها تعريف الشركاء ، ولكن قصد بها الإيماء إلى أنّه من أسباب إلقاء الرعب في قلوبهم ، إذ هم على غير يقين فيما أشركوا واعتقدوا ، فقلوبهم وجلة متزلزلة ، إذ قد علم كلّ أحد أن الشركاء يستحيل أن ينزل بهم سلطان. فإن قلت : ما ذكرته يقتضي أنّ الشرك سبب في إلقاء الرعب في قلوب أهله ، فيتعيّن أن يكون الرعب نازلا في قلوبهم من قبل هذه الوقعة ، والله يقول (سَنُلْقِي)» أي في المستقبل ، قلت : هو كذلك إلّا أنّ هذه الصّفات تستكنّ في النفوس حتّى يدعو داعي ظهورها ، فالرعب والشجاعة صفتان لا تظهران إلا عند القتال ، وتقويان وتضعفان ، فالشجاع تزيد شجاعته بتكرّر الانتصار ، وقد ينزوي قليلا إذا انهزم ثمّ تعود له صفته سرعى. كما وصفه عمرو بن الإطنابة في قوله :

وقولي كلّما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

وقول الحصين بن الحمام :

تأخّرت أستبقي الحياة فلم أجد

لنفسي حياة مثل أن أتقدّما

وكذلك الرعب والجبن قد يضعف عند حصول بارقة انتصار ، فالمشركون لما انهزموا بادئ الأمر يوم أحد ، فلّت عزيمتهم ، ثمّ لمّا ابتلى الله المؤمنين بالهزيمة راجعهم شيء من الشجاعة والازدهاء ، ولكنّهم بعد انصرافهم عاودتهم صفاتهم ، (وتأبى الطباع على الناقل). فقوله : (سَنُلْقِي) أي إلقاء إعادة الصفة إلى النّفوس ، ولك أن تجعل السين فيه لمجرّد التّأكيد أي ألقينا ونلقي ، ويندفع الإشكال.

وكثير من المفسّرين ذكروا أنّ هذا الرعب كانت له مظاهر : منها أنّ المشركين لمّا انتصروا على المسلمين كان في مكنتهم أن يوغلوا في استيصالهم إلّا أنّ الرعب صدّهم عن ذلك ، لأنّهم خافوا أن تعود عليهم الهزيمة ، وتدور عليهم الدائرة ، ومنها أنّهم لمّا انصرفوا قاصدين الرجوع إلى مكّة عنّ لهم في الطريق ندم ، وقالوا : لو رجعنا فاقتفينا آثار محمد وأصحابه ، فإنّا قتلناهم ولم يبق إلّا الفلّ والطّريد ، فلنرجع إليهم حتّى نستأصلهم ، وبلغ ذلك النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم فندب المسلمين إلى لقائهم ، فانتدبوا ، وكانوا في غاية الضعف ومثقّلين بالجراحة ، حتّى قيل : إنّ الواحد منهم كان يحمل الآخر ثمّ ينزل المحمول فيحمل الّذي

٢٤٩

كان حامله ، فقيّض الله معبد بن أبي معبد الخزاعي وهو كافر فجاء إلى رسول الله فقال : «إنّ خزاعة قد ساءها ما أصابك ولوددنا أنّك لم ترزأ في أصحابك» ثمّ لحق معبد بقريش فأدركهم بالرّوحاء قد أجمعوا الرجعة إلى قتال المسلمين فقال له أبو سفيان : ما وراءك يا معبد ، قال : محمد وأصحابه قد خرجوا يطلبونكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرّقون عليكم ، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه ، فقال : ويلك ، ما تقول؟! قال : ما أرى أنّك ترتحل حتّى ترى نواصي الخيل ولقد حملني ما رأيت منه على أن قلت فيه :

كادت تهدّ من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

تردي بأسد كرام لا تنابلة

عند اللّقاء ولا ميل معازيل

فظلت أعدو وأظنّ الأرض مائلة

لمّا سموا برئيس غير مخذول

فوقع الرّعب في قلوب المشركين وقال صفوان بن أميّة : لا ترجعوا فإنّي أرى أنّه سيكون للقوم قتال غير الّذي كان.

وقوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي ما لا سلطان له. والسلطان : الحجّة والبرهان لأنّه يتسلّط على النّفس ، ونفي تنزيله وأريد نفي وجوده ، لأنّه لو كان لنزل أي لأوحى الله به إلى النّاس ، لأنّ الله لم يكتم النّاس الإرشاد إلى ما يجب عليهم من اعتقاد على ألسنة الرسل ، فالتنزيل إمّا بمعنى الوحي ، وإمّا بمعنى نصب الأدلّة عليهم كقولهم : «نزلت الحكمة على ألسنة العرب وعقول الفرس وأيدي الصّين» ولمّا كان الحقّ لا يعدو هذين الحالين : لأنّه إمّا أن يعلم بالوحي ، أو بالأمارات ، كان نفي تنزيل السلطان على الإشراك كناية عن نفي السلطان نفسه ، كقول الشاعر الّذي لا يعرف اسمه :

لا تفزع الأرنب أهوالها

ولا ترى الضبّ بها ينجحر

وقوله : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) ذكر عقابهم في الآخرة. والمأوى مفعل من أوى إلى كذا إذا ذهب إليه ، والمثوى مفعل من ثوى إذا أقام ؛ فالنّار مصيرهم ومقرّهم والمراد المشركون.

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢))

٢٥٠

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ) عطف على قوله : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) [آل عمران : ١٥١] وهذا عود إلى التّسلية على ما أصابهم ، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين ، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين : تطمينا لهم بذكر نظيره ومماثله السابق ، فإنّ لذلك موقعا عظيما في الكلام على حدّ قولهم (التّاريخ يعيد نفسه) وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تبعة الهزيمة عليهم ، وأنّ الله لم يخلفهم وعده ، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩].

وصدق الوعد : تحقيقه والوفاء به ، لأنّ معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع ، وقد عدّي صدق هنا إلى مفعولين ، وحقّه أن لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد. قال الزمخشري في قوله تعالى ـ في سورة الأحزاب [٢٣] ـ : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ـ يقال : صدقني أخوك وكذبني إذا قال لك الصدق والكذب ، وأمّا المثل (صدقني سنّ بكره) فمعناه صدقني في سنّ بكره بطرح الجارّ وإيصال الفعل. فنصب (وَعْدَهُ) هنا على الحذف والإيصال ، وأصل الكلام صدقكم في وعده ، أو على تضمين صدق معنى أعطى.

والوعد هنا وعد النصر الواقع بمثل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] أو بخبر خاصّ في يوم أحد.

وإذن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب.

و (إذ) في قوله : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) نصب على الظرفية لقوله : (صَدَقَكُمُ) أي : صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسّونهم بإذنه فإنّ ذلك الحسّ تحقيق لوعد الله إيّاهم بالنّصر ، و (إذ) فيه للمضيّ ، وأتى بعدها بالمضارع لإفادة التجدّد أي لحكاية تجدّد الحسّ في الماضي.

والحسّ ـ بفتح الحاء ـ القتل أطلقه أكثر اللغويين ، وقيّده في «الكشاف» بالقتل الذريع ، وهو أصوب.

وقوله : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) (حتّى) حرف انتهاء وغاية ، يفيد أنّ مضمون الجملة الّتي بعدها غاية لمضمون الجملة الّتي قبلها ، فالمعنى : إذ تقتلونهم بتيسير الله ، واستمرّ قتلكم إيّاهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم.

و (حتّى) هنا جارّة و (إذا) مجرور بها.

٢٥١

و (إذا) اسم زمان ، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقا كما هنا ، ولعلّ نكتة ذلك أنّه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعا لقوله : (تَحُسُّونَهُمْ).

و (إذا) هنا مجرّدة عن معنى الشرط لأنّها إذا صارت للمضيّ انسلخت عن الصلاحية للشرطية ، إذ الشرط لا يكون ماضيا إلّا بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلّف تقديره : انقسمتم ، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلا عليه وهو قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) إلى آخرها.

والفشل : الوهن والإعياء ، والتنازع : التخالف ، والمراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول ، وقد رتّبت الأفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول ، إذ كان الفشل ، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة ، قد حصل أولا فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة ، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الّذي أمرهم الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بملازمته وعدم الانصراف منه ، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه.

والتعريف في قوله : (فِي الْأَمْرِ) عوض عن المضاف إليه أي في أمركم أي شأنكم.

ومعنى (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) أراد به النّصر إذ كانت الريح أوّل يوم أحد للمسلمين ، فهزموا المشركين ، وولوا الأدبار ، حتّى شوهدت نساؤهم مشمّرات عن سوقهنّ في أعلى الجبل هاربات من الأسر ، وفيهنّ هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان ، فلمّا رأى الرماة الّذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين ، الغنيمة ، التحقوا بالغزاة ، فرأى خالد بن الوليد ، وهو قائد خيل المشركين يومئذ ، غرّة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا ، فذلك قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) فيكون المجرور متعلّقا بفشلهم. والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم.

والأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبّون هو الغنيمة فإنّ المال محبوب ، فيكون المجرور يتنازعه كلّ من (فشلتم ، وتنازعتم ، وعصيتم) ، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها ، إلى الموصول تنبيها على أنّهم عجّلوا في طلب المال المحبوب ، والكلام على هذا تمهيد لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعصيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبّر عنه ب (إحدى الحسنيين) ولم يكن ذلك عن جبن ، ولا عن ضعف إيمان ، أو قصد

٢٥٢

خذلان المسلمين ، وكلّه تمهيد لما يأتي من قوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ).

وقوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) تفصيل لتنازعتم ، وتبيين ل (عصيتم) ، وتخصيص له بأنّ العاصين بعض المخاطبين المتنازعين ، إذ الّذين أرادوا الآخرة ليسوا بعاصين ، ولذلك أخّرت هاته الجملة إلى بعد الفعلين ، وكان مقتضى الظاهر أن يعقب بها قوله : (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) وفي هذا الموضع للجملة ما أغنى عن ذكر ثلاث جمل وهذا من أبدع وجوه الإعجاز ، والقرينة واضحة.

والمراد بقوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) إرادة نعمة الدنيا وخيرها ، وهي الغنيمة ، لأنّ من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل ، وليس هو مفرّطا في الآخرة مطلقا ، ولا حاسبا تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتا عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل ، فليس في هذا الكلام ما يدلّ على أنّ الفريق الّذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدّوا عن الإيمان حينئذ ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال ، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بدالّ على استخفاف بالآخرة ، وإنكار لها ، كما هو بيّن ، ولا حاجة إلى تقدير : منكم من يريد الدنيا ، فقط. وإنّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصيانا ، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف ، إذ كانوا قالوا : إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين ، فلمّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتّى تفوتنا الغنائم ، فكانوا متأوّلين ، فإنّما سمّيت هنا عصيانا لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد ، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل ، أو لأنّ التأويل كان بعيدا فلم يعذروا فيه ، أو لأنّه كان تأويلا لإرضاء حبّ المال ، فلم يكن مكافئا لدليل وجوب طاعة الرّسول.

وإنّما قال : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره ، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء ، ليظهر للرسول وللنّاس من ثبت على الإيمان من غيره ، ولأنّ في الابتلاء أسرارا عظيمة في المحاسبة بين العبد وربّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه.

وعقب هذا الملام بقوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) تسكينا لخواطرهم ، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين ، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] ، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو ، وفيه أيضا دلالة على صدق إيمانهم إذ

٢٥٣

عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفا من غضب الله تعالى.

وفي تذييله بقوله : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) تأكيد ما اقتضاه قوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) والظاهر أنّه عفو لأجل التأويل ، فلا يحتاج إلى التّوبة ، ويجوز أن يكون عفوا بعد ما ظهر منهم من الندم والتّوبة ، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان.

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣))

(إِذْ تُصْعِدُونَ) متعلّق بقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) [آل عمران : ١٥٢] أي دفعكم عن المشركين حين أنتم مصعدون.

والإصعاد : الذهاب في الأرض لأنّ الأرض تسمّى صعيدا ، قال جعفر بن علبة :

هواي مع الركب اليمانين مصعد

والإصعاد أيضا السّير في الوادي ، قال قتادة والربيع : أصعدوا يوم أحد في الوادي. والمعنى : تفرّون مصعدين ، كأنّه قيل : تذهبون في الأرض أي فرارا ، ف إذ) ظرف للزمان الّذي عقب صرف الله إيّاهم وكان من آثاره.

(وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) أي في هذه الحالة. واللّيّ مجاز بمعنى الرّحمة والرفق مثل العطف في حقيقته ومجازه ، فالمعنى ولا يلوي أحد عن أحد فأوجز بالحذف ، والمراد على أحد منكم ، يعني : فررتم لا يرحم أحد أحدا ولا يرفق به ، وهذا تمثيل للجدّ في الهروب حتّى إنّ الواحد ليدوس الآخر لو تعرّض في طريقه.

وجملة (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) حال ، والأخرى آخر الجيش أي من ورائكم. ودعاء الرسول دعاؤه إيّاهم للثبات والرجوع عن الهزيمة ، وهذا هو دعاء الرسول النّاس بقوله : «إليّ عباد الله من يكر فله الجنّة».

وقوله : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا) إن كان ضمير (فَأَثابَكُمْ) ضمير اسم الجلالة ، وهو الأظهر والموافق لقوله بعده : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِ) [آل عمران : ١٥٤] فهو عطف على (صَرَفَكُمْ) [آل عمران : ١٥٢] أي ترتّب على الصرف إثابتكم. وأصل الإثابة إعطاء الثّواب

٢٥٤

وهو شيء يكون جزاء على عطاء أو فعل. والغمّ ليس بخير ، فيكون أثابكم إمّا استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم :

قريناكم فعجّلنا قراكم

قبيل الصبح مرادة طحونا

أي جازاكم الله على ذلك الإصعاد المقارن للصرف أن أثابكم غمّا أي قلقا لكم في نفوسكم ، والمراد أن عاقبكم بغمّ كقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] وفي هذا الوجه بعد : لأنّ المقام مقام ملام لا توبيخ ، ومقام لا تنديم. وإمّا مشاكلة تقديرية لأنّهم لما خرجوا للحرب خرجوا طالبين الثّواب ، فسلكوا مسالك باءوا معها بعقاب فيكون كقول الفرزدق :

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا (١)

وقول الآخر :

قلت : اطبخوا لي جبّة قميصا.

ونكتة هذه المشاكلة أن يتوصّل بها إلى الكلام على ما نشأ عن هذا الغمّ من عبرة ، ومن توجّه عناية الله تعالى إليهم بعده.

والباء في قوله : (بِغَمٍ) للمصاحبة أي غمّا مع غمّ ، وهو جملة الغموم الّتي دخلت عليهم من خيبة الأمل في النّصر بعد ظهور بوارقه ، ومن الانهزام ، ومن قتل من قتل ، وجرح من جرح ، ويجوز كون الباء للعوض ، أي : جازاكم الله غمّا في نفوسكم عوضا عن الغمّ الّذي نسبتم فيه للرسول وإن كان الضّمير في قوله : (فَأَثابَكُمْ) عائدا إلى الرسول في قوله : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) ، وفيه بعد ، فالإثابة مجاز في مقابلة فعل الجميل بمثله أي جازاكم بغمّ. والباء في قوله : (بِغَمٍ) باء العوض. والغمّ الأوّل غمّ نفس الرسول ، والغمّ الثّاني غمّ المسلمين ، والمعنى أنّ الرسول اغتمّ وحزن لما أصابكم ، كما اغتممتم لما شاع من قتله فكان غمّه لأجلكم جزاء على غمّكم لأجله.

وقوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) تعليل أوّل ل (أثابكم) أي ألهاكم بذلك الغمّ لئلّا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ، وما أصابكم من القتل والجراح ، فهو أنساهم بمصيبة صغيرة مصيبة كبيرة ، وقيل : (لا) زائدة والمعنى : لتحزنوا ، فيكون زيادة في التوبيخ

__________________

(١) محدرجة بحاء مهملة وبجيم بعد الراء أي مفتولة : وهو صفة لموصوف محذوف أراد أسواطا.

٢٥٥

والتنديم إن كان قوله : (فَأَثابَكُمْ) تهكّما أو المعنى فأثابكم الرسول غمّا لكيلا تحزنوا على ما فاتكم : أي سكت عن تثريبكم ، ولم يظهر لكم إلّا الاغتمام لأجلكم ، لكيلا يذكّركم بالتثريب حزنا على ما فاتكم ، فأعرض عن ذكره جبرا لخواطركم. وقيل : المعنى أصابكم بالغمّ الّذي نشأ عن الهزيمة لتعتادوا نزول المصائب ، فيذهب عنكم الهلع والجزع عند النوائب.

وفي الجمع بين (ما فاتَكُمْ) و (ما أَصابَكُمْ) طباق يؤذن بطباق آخر مقدّر ، لأنّ ما فات هو النافع وما أصاب هو من الضّار.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤))

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ).

الضمير في قوله : (ثُمَّ أَنْزَلَ) ضمير اسم الجلالة ، وهو يرجّح كون الضمير (فَأَثابَكُمْ) مثله لئلا يكون هذا رجوعا إلى سياق الضمائر المتقدّمة من قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) والمعنى ثمّ أغشاكم بالنعاس بعد الهزيمة. وسمّي الإغشاء إنزالا لأنّه لمّا كان نعاسا مقدّرا من الله لحكمة خاصّة ، كان كالنازل من العوالم المشرّفة كما يقال : نزلت السكينة.

والأمنة ـ بفتح الميم ـ الأمن ، والنعاس : النوم الخفيف أو أوّل النّوم ، وهو يزيل التعب ولا يغيّب صاحبه ، فلذلك كان أمنة إذ لو ناموا نوما ثقيلا لأخذوا ، قال أبو طلحة الأنصاري ، والزبير ، وأنس بن مالك : غشينا نعاس حتّى أنّ السيف ليسقط من يد أحدنا.

وقد استجدّوا بذلك نشاطهم ، ونسوا حزنهم ، لأنّ الحزن تبتدئ خفّته بعد أوّل نومة تعفيه ، كما هو مشاهد في أحزان الموت وغيرها. و (نعاسا) بدل على (أمنة) بدل مطابق.

وكان مقتضى الظاهر أن يقدّم النعاس ويؤخّر أمنة : لأنّ أمنة بمنزلة الصفة أو المفعول لأجله فحقّه التقديم على المفعول كما جاء في آية الأنفال [١١] : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً

٢٥٦

مِنْهُ) ولكنّه قدّم الأمنة هنا تشريفا لشأنها لأنّها جعلت كالمنزل من الله لنصرهم ، فهو كالسكينة ، فناسب أن يجعل هو مفعول أنزل ، ويجعل النعاس بدلا منه.

وقرأ الجمهور : يغشى ـ بالتحتية ـ على أنّ الضّمير عائد إلى نعاس ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بالفوقية ـ بإعادة الضّمير إلى أمنة ، ولذلك وصفها بقوله : (مِنْكُمْ).

(وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا).

لمّا ذكر حال طائفة المؤمنين ، تخلّص منه لذكر حال طائفة المنافقين ، كما علم من المقابلة ، ومن قوله : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) ، ومن ترك وصفها بمنكم كما وصف الأولى.

(وَطائِفَةٌ) مبتدأ وصف بجملة (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ). وخبره جملة (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) والجملة من قوله : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) إلى قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) اعتراض بين جملة (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) الآية. وجملة (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) [آل عمران : ١٥٥] الآية.

ومعنى (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي حدّثتهم أنفسهم بما يدخل عليهم الهمّ وذلك بعدم رضاهم بقدر الله ، وبشدّة تلهفهم على ما أصابهم وتحسّرهم على ما فاتهم ممّا يظنّونه منجيا لهم لو عملوه : أي من الندم على ما فات ، وإذ كانوا كذلك كانت نفوسهم في اضطراب وتحرّق يمنعهم من الاطمئنان ومن المنام ، وهذا كقوله الآتي : (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٥٦]. وقيل معنى (أَهَمَّتْهُمْ) أدخلت عليهم الهمّ بالكفر والارتداد ، وكان رأس هذه الطائفة معتّب بن قشير.

وجملة (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) إمّا استئناف بياني نشأ عن قوله : (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) وإمّا حال من (طائفة). ومعنى (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) أنّهم ذهبت بهم هواجسهم إلى أن ظنوا بالله ظنونا باطلة من أوهام الجاهلية. وفي هذا تعريض بأنّهم لم يزالوا على جاهليتهم لم يخلصوا الدين لله ، وقد بيّن بعض ما لهم الظنّ بقوله : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) وهل للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي ، بقرينة زيادة (من) قبل النكرة ، وهي من خصائص النفي ، وهو تبرئة لأنفسهم من أن يكونوا سببا في مقابلة

٢٥٧

العدوّ. حتّى نشأ عنه ما نشأ ، وتعريض بأنّ الخروج للقتال يوم أحد خطأ وغرور ، ويظنّون أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس برسول إذ لو كان لكان مؤيّدا بالنصر.

والقول في (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) بدل اشتمال من جملة (يَظُنُّونَ) لأنّ ظنّ الجاهلية يشتمل على معنى هذا القول.

ومعنى (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي من شأن الخروج إلى القتال ، أو من أمر تدبير النّاس شيء ، أي رأي ما قتلنا هاهنا ، أي ما قتل قومنا. وليس المراد انتفاء القتل مع الخروج إلى القتال في أحد ، بل المراد انتفاء الخروج إلى أحد الّذي كان سببا في قتل من قتل ، كما تدلّ عليه قرينة الإشارة بقوله : (هاهنا) ، فالكلام كناية. وهذا القول قاله عبد الله بن أبي ابن سلول لمّا أخبروه بمن استشهد من الخزرج يومئذ ، وهذا تنصّل من أسباب الحرب وتعريض بالنّبيء ومن أشار بالخروج من المؤمنين الّذين رغبوا في إحدى الحسنيين.

وإنّما كان هذا الظنّ غير الحقّ لأنّه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل ، فإنّ لله أمرا وهديا وله قدر وتيسير ، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدّين وهو في ذلك معصوم ، وليس معصوما من جريان الأسباب الدنيوية عليه ، ومن أن يكون الحرب بينه وبين عدوّه سجالا ، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله : كيف كان قتالكم له؟ فقال أبو سفيان : ينال منّا وننال منه ، فقال هرقل : وكذلك الإيمان حتّى يتمّ. فظنّهم ذلك ليس بحقّ.

وقد بيّن الله تعالى أنّه ظنّ الجاهلية الّذين لم يعرفوا الإيمان أصلا فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية ، والجاهلية صفة جرت على موصوف محذوف يقدّر بالفئة أو الجماعة ، وربما أريد به حالة الجاهلية في قولهم أهل الجاهلية ، وقوله تعالى : (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) ، والظاهر أنّه نسبة إلى الجاهل أي الّذي لا يعلم الدين والتّوحيد ، فإنّ العرب أطلقت الجهل على ما قابل الحلم ، قال ابن الرومي :

بجهل كجهل السيف والسيف منتضى

وحلم كحلم السيف والسيف مغمد

٢٥٨

وأطلقت الجهل على عدم العلم قال السموأل.

فليس سواء عالم وجهول

وقال النابغة :

وليس جاهل شيء مثل من علما

وأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن ، وصف به أهل الشرك تنفيرا من الجهل ، وترغيبا في العلم ، ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذمّ في نحو قوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠](وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) [الأحزاب : ٣٣](إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) [الفتح : ٢٦]. وقال ابن عبّاس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأسا دهاقا ، وفي حديث حكيم بن حزام : أنّه سأل النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء كان يتحنّث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم. وقالوا : شعر الجاهلية ، وأيّام الجاهلية. ولم يسمع ذلك كلّه إلّا بعد نزول القرآن وفي كلام المسلمين.

وقوله : (غَيْرَ الْحَقِ) منتصب على أنّه مفعول (يَظُنُّونَ) كأنّه قيل الباطل. وانتصب قوله : (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) على المصدر المبيّن للنوع إذ كلّ أحد يعرف عقائد الجاهلية إن كان متلبّسا بها أو تاركا بها.

وجملة (يُخْفُونَ) حال من الضّمير في (يَقُولُونَ) أي يقولون ذلك في حال نيّتهم غير ظاهره ، ف (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) إعلان بنفاقهم ، وأنّ قولهم : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) وقولهم : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) هو وإن كان ظاهره صورة العتاب عن ترك مشورتهم فنيّتهم منه تخطئة النّبيء في خروجه بالمسلمين إلى أحد ، وأنّهم أسدّ رأيا منه.

وجملة (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) بدل اشتمال من جملة (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) إذ كانوا قد قالوا ذلك فيما بينهم ولم يظهروه ، أو هي بيان لجملة (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) إذا أظهروا قولهم للمسلمين ، فترجع الجملة إلى معنى بدل الاشتمال من جملة (يَظُنُّونَ) لأنها لما بينت جملة هي بدل فهي أيضا كالتي بينتها ، وهذا أظهر لأجل قوله بعده : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) فإنّه يقتضي أنّ تلك القالة فشت وبلغت الرسول ، ولا يحسن كون جملة (يَقُولُونَ لَوْ كانَ) إلى آخره مستأنفة خلافا لما في «الكشاف».

٢٥٩

وهذه المقالة صدرت من معتّب بن قشير قال الزبير بن العوّام : غشيني النّعاس فسمعت معتّب بن قشير يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. فحكى القرآن مقالته كما قالها ، وأسندت إلى جميعهم لأنّهم سمعوها ورضوا بها.

وجملة (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ردّ عليهم هذا العذر الباطل أي أنّ الله ورسوله غير محتاجين إلى أمركم. والجملة معترضة. وقرأ الجمهور : كلّه ـ بالنصب ـ تأكيدا لاسم إنّ ، وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب ـ بالرفع ـ على نيّة الابتداء. والجملة خبر إنّ.

(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ).

لقن الله رسوله الجواب عن قولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. والجواب إبطال لقولهم ، وتعليم للمؤمنين لدفع ما عسى أن يقع في نفوسهم من الريب ، إذا سمعوا كلام المنافقين ، أو هو جواب للمنافقين ويحصل به علم للمؤمنين. وفصلت الجملة جريا على حكاية المقاولة كما قرّرنا غير مرّة. وهذا الجواب جار على الحقيقة وهي جريان الأشياء على قدر من الله والتسليم لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول ، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتض ترك الأسباب ، لأنّ قدر الله تعالى وقضاءه غير معلومين لنا إلّا بعد الوقوع ، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفا عن مصادفة قدر الله لمأمولنا ، فإن استفرغنا جهودنا وحرمنا المأمول ، علمنا أنّ قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا. فأمّا ترك الأسباب فليس من شأننا ، وهو مخالف لما أراد الله منّا ، وإعراض عمّا أقامنا الله فيه في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القدر. والمعنى : لو لم تكونوا هاهنا وكنتم في بيوتكم لخرج الّذين كتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقتلوا في مضاجعهم الّتي اضطجعوا فيها يوم أحد أي مصارعهم فالمراد بقوله : (كُتِبَ) قدّر ، ومعنى (لَبَرَزَ) خرج إلى البراز وهو الأرض.

وقرأ الجمهور باء (بيوتكم) ـ بالكسر ـ. وقرأه أبو عمرو ، وورش عن نافع ، وحفص ، وأبو جعفر ـ بالضم ـ.

والمضاجع جمع مضجع ـ بفتح الميم وفتح الجيم ـ وهو محلّ الضجوع ، والضجوع : وضع الجنب بالأرض للراحة والنّوم ، وفعله من باب منع ومصدره القياسي الضجع ، وأمّا الضجوع فغير قياسي ، ثمّ غلب إطلاق المضجع على مكان النّوم قال تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [السجدة : ١٦] وفي حديث أمّ زرع : «مضجعه كمسلّ شطبة». فحقيقة الضجوع هو وضع الجنب للنّوم والراحة وأطلق هنا على مصارع القتلى على سبيل

٢٦٠